الفصل الحادي والعشرون
في ذات يوم من أيام شهر مارس البهيجة، والساعة الرابعة بعد الظهر، كانت مدام فارز تجامِل زائريها وبينهم شقيقتان آنستان تسمَّى الكبيرة منهما ماسكا، والصغيرة فدورا، ولم تكونا جميلتي المنظر بل قبيحتي الشكل، تجلل ملابسهما «التخاريم» والشرائط الكثيرة، ولا تحلمان إلا بالزواج؛ إذ كل واحدة منهما تتجاوز الثلاثين سنًّا. ومدام فارز تدعوهما غالبًا لزيارتها وتستقبلهما بلطفها المعتاد، وخصوصًا بما أن ماسكا كانت ذات صوت رخيم يخلب الألباب ويأخذ بها كل مأخذ، وأودت كانت تقول لها كل مرة: لو كان صوتي نظير صوتكِ لكنتُ الأولى بين الممثِّلات في الأوبرا.
وبينما كان موضوع الحديث الأصوات الجميلة أخذت مدام فارز تطنب في مدح صوت الآنسة ماسكا، وحذا حذوها مصدِّقًا هذا كاميل بليه، فأبرقتْ أسِرَّة وجه ماسكا الذابل، وعرضت على الحاضرين أن تغني على مسامعهم بعض الألحان، فأجابوها بالقبول بكل مسرَّة وارتياح، وحينئذٍ جلست أودت حذاء البيانو، وعزفت أولًا بقوة شديدة حتى دوت القاعة، ثم خفَّفت العزف شيئًا فشيئًا إلى أن ظهر صوت ماسكا الفتَّان المطرِب، وهكذا فإنه لم يزل يرتفع ويحوم ويدور في فضاء تلك القاعة حتى سكر السامعون من سماعه ومالت أعناقهم. على أن الذي كان يزيده بهاءً هو أنها كانت تلفظ بتأنٍّ الكلمات الغرامية والعبارات التي تدل على الحزن في ذلك اللحن الذي بدأت به، وكل ذلك كان يجري في قلوب السامعين كقوة مغنطيسية أو سوائل كهربائية فتُشنِّجها.
فأسند كاميل رأسه على يده، وتراءى له كأنه غاب عن عالم الوجود وانتهى إلى جنة النعيم، حيث يسمع أصوات الملائكة التي بلا شك تُشبِه هذا الصوت الرائع. أما مدام فارز فإنها أدارت رأسها إلى الوراء وأخذت تسيل دموعها بكثرة، وكاد قلبها يتفتَّت لعِظَم وقع هذا الصوت وتأثير تلك المعاني فيه.
وبينما هم كذلك إذ قرع جرس الدخول، فنظرت ماسكا إلى الباب وهي وجلة، فلمْ تَرَ أحدًا، وما انتهت من ترنيم ذلك اللحن الساحر إلا احتضنتها مدام فارز، وأشارت إلى أودت بأن تحضِر وشاحًا صغيرًا من الصوف الناعم لتلف به عنقها، فامتثلت لأمر والدتها، وما كادت تصل إلى جهة الباب حتى رجعت القهقرى وهي تقول: يوجد زائر بقرب الباب. فنظرت مدام فارز إلى ناحية المدخل وإذا بالسيدة مرغريت مدام روجر، فنهضت وأسرعت إليها ضامَّة يديها بين كفيها وهي تقول: أهلًا وسهلًا ومرحبًا بكِ أيتها الصديقة العزيزة.
– اعذريني يا لويزة؛ لأني كنتُ قرعت الجرس ولم أدخل لئلَّا أقطع هذا الصوت الجميل. ثم جلست بالقرب من مدام فارز بعد أن سلَّمت عليها أودت، ثم قالت صاحبة المنزل: بالحقيقة يا مرغريت إن زيارتك هذه لقد سرتني جدًّا!
– لله ما أطيب قلبك يا مدام فارز! حقًّا إني لا أستحق صداقتك هذه بعد أن جافيتُكِ كل هذه المدة، وقد أخبرتني والدتي أنك التقيتِ بها بأثناء غيابي فسألتِها عني وكل أمارات المودة على مُحَيَّاك، وهأنذا أتيت أشكركِ (وبغضون ذلك كان قلب مدام فارز ينبض بسرعة؛ لأنها كانت تخشى دخول ألبير في تلك الساعة).
– نعم أرى من الواجب عليَّ أن أسال عنك يا عزيزتي مرغريت! وكيف حالكِ الآن؟
– الحمد لله صحتي عادت إلى ما كانت عليه قبلًا، وسَفَرُنا كان جيدًا للغاية.
– وكيف مكسيم نجلك المحبوب؟
– هو في صحة تامة الحمد لله، إني مسرورة جدًّا برؤية ابنتكِ أودت، وأراها تغيَّرت جدًّا عن السنة الماضية. أَلَا تزالون ترغبون في الموسيقى كالأول؟
– أنا أعبد الموسيقى التي برعتْ فيها أودت براعة تامة، فهي تعزف بإتقان لا مزيد عليه، لكنها لا ترتِّل لسوء الحظ.
– ومن هي ذات الصوت الجميل التي كانت ترتِّل عند دخولي؟
– هي آنسة روسية، وأما التي تُرَى جالسة بقربها هي أختها، فهل تريدين أن أُعرِّفها بكِ؟
– لا بأس من ذلك، بل أقبل هذا بغاية المسرة. وبعد التعارف شرعت مرغريت تقصُّ عليهم ما شاهدت في سفرها، وفي أثناء ذلك دخل الدكتور توري وحيَّا مدام فارز، فسلَّمت عليه وعرَّفته بمرغريت وعرَّفتْها به.
فابتسم توري وانحنى احترامًا لها وجلس يحادثها، بينما نهضت مدام فارز لوداع تينك الآنستين، وطال كلام الوداع عند الباب — كما هي عادة النساء في كل أين وآن — ثم قال توري بحلاوةٍ هذا مقدارها كأن بينه وبين مرغريت معرفة قديمة: إني أعرف زوجك حق المعرفة أيتها السيدة الفاضلة، وإني أعتبره اعتبارًا عظيمًا.
– إني أسر بكلامكَ غاية المسرة يا حضرة الدكتور.
– إن مهنتنا صعبة وتتطلب وقتًا طويلًا، وأنا أشفق على كل طبيب عنده امرأة جميلة؛ ولذا ترينني أعزب. بعد هذا شرع يقص عليها بعض حكايات لها علاقة بحداثة روجر زوجها عندما كان تلميذه، ويمدح ذكاءه وأمانته، ويطنب في وصف أخلاقه، حتى إن مرغريت سُرَّتْ سرورًا لا مزيد عليه وشعرت من جديد بميلٍ إلى روجر، ولم يكن يخطر على بالها من قبلُ أن تفتخر بزوجها.
وقالت في نفسها: إن منزلته كبرى بين قومه ومعارفه، والجميع يحبونه ويحترمونه، فلماذا لا أحبه؟
ثم في لمحة بصر خال لها أن ألبير ذُكِر فيما بين الواقفين بقرب الباب، واعتقدت بأنهم يذكرون ماضيها؛ فاصفرَّ وجهها، وامتقع لونها، وقد لحظ الدكتور توري هذا التأثير، ثم عادت مدام فارز وبرفقتها سيدتان أخريان فاستغنمت مرغريت هذه الفرصة ونهضت مستأذِنة بالذهاب، فحاولت مدام فارز أن تُجلِسها، فادَّعت أن والدتها تنتظرها لتذهبا إلى مكان آخر.
– كدرتِني يا مرغريت، عِديني بأن زيارتك تكون أطول بالمرة الآتية.
– نعم أعدكِ وأنتظركِ مع أودت.
– لا شك بهذا، نوبي عني بتقبيل خدَّيْ مكسيم مرارًا.
وعندما مدت مرغريت يدها لتوري ضغط عليها قائلًا: أرجوكِ أن تُبلِّغي حضرة الدكتور بأن معلِّمه لا ينساه، وأني أهنئه بزوجته الجميلة، وأعتبر ذاتي سعيدًا أيتها السيدة لتَشَرُّفي بمعرفة حضرتك.
خرجت من البيت وهي تفتكر في ألبير رغمًا عنها، وكادت تندم على هذه الزيارة.