الفصل الثاني والعشرون
قالت أودت لأمها لمَّا خلا بهما المكان: كيف تصنعين بعد الآن باستقبال مدام روجر؟
– الخواجة ألبير لا يزورنا في الأيام الرسمية، ومرغريت كانت صديقتي الحميمة، فليس بوسعي إلا أن أستقبلها نظير الماضي.
– نعم، لكن يستحيل علينا استقبال الطرفين، وهذا غير ممكن!
– لا أظن أن مرغريت تتكدر إذا علمت بأني أستقبل زوجها الأول؛ لأنها كانت تحبه كثيرًا.
– كانت تحبه أولًا في الماضي، وهي الآن زوجة رجل آخر.
– لا أعلم كيف العمل، ولكن على أي الأحوال إنها لا تعود إلى هنا قبل أن نزورها، وستفتكر في هذا الأمر. إنما الخواجة دسباس والد مدام فارز استصوب رأي أودت مشيرًا إلى ابنته بأن تخبر الطرفين بالواقع، فانتفضت أودت قائلة: ليس من الإنسانية واللياقة أن تخبر ألبير؛ إذ لا صديق له سوانا، ولا تعزية له إلا بزيارتنا، مع أن مدام روجر هي في غنًى عنَّا، والشاهد على هذا أنها لا تزورنا إلا في النادر. فقال دسباس: إن الحق معكِ يا أودت، وهذا عين الصواب.
– أمي ليس عندها جراءة.
– نعم، ولكن لا أقدر أن أَمَسَّ إحساسات أحد، ويخال لي أن مرغريت ليست راضية عن حالتها.
– كيفما كانت حالتها، إن الذنب لا يقع إلا عليها، ومن جهة الزيارة ليس لها إلا أن تلوم نفسها؛ لأنها هي البادئة بها.
كان دسباس يستقبل زائريه في منزله يوم الأحد، فحينئذٍ تذهب ابنته وأودت لتناول الطعام معه، ثم تهتمان بمجاملة ضيوفه وإكرامه. وفي الأحد التابع لزيارة مدام روجر كان دسباس يلعب مع أودت بالشطرنج، وفي الساعة الرابعة بعد الظهر دخل الدكتور توري، فهتف دسباس: أهلًا وسهلًا بطبيبنا النطاسي العظيم!
فأجابه مازحًا: اجلس من غير قيام؛ فإني لست غريبًا هنا.
– دعنا نلعب وحدنا ونتحدث مع مدام فارز.
فقالت له: هيا بنا إلى الصالون الصغير؛ لأننا لا نقدر أن نتكلم هنا إلا بصوت منخفض. ثم ذهبا إليه وجعلت تنظر إلى الصور المعلَّقة على الحائط وقالت: هل رأيتَ الصور الجديدة التي اشتراها أبي يا حضرة الدكتور؟
– لم أَرَهَا بعدُ.
– ها هي تعالَ وانظرها. فجعل ينظر الواحدة بعد الأخرى إلى أن قالت: تعجبني هذه البنية الصغيرة، وأما رؤية تلك فتحزنني.
– ولماذا تحزنكِ يا سيدة؟
– يظهر أنها تندب حبيبها، فأنا أتاثر من النظر إلى هذه الابنة المسكينة على رغم استخفافي بدموع المحبِّين.
– نعم، واعتقادك بسُنَّة الود غريب حسبما يبدو لي، دعيني أولًا أن أهنئكِ بصداقتكِ لرجل وامرأة مطلَّقين، وهل يعرف ألبير أنك تستقبلين زوجته؟
– لا توجد أسرار بهذه الزيارة، وما من سبب يدعوني لإخفاء ذلك.
– رأيك في محله.
إن توري كان يُشْتَمُّ من رائحة كلامه علاماتُ الغيرة ظانًّا بأنها تُسَرُّ بذلك؛ إذ تتخذه شاهد حب وميل إليها، ولم يعلم أن مداخلته في ما لا يعنيه جعلته ثقيلًا غير محتمل، بما أن صداقة مدام فارز له كانت ساذجة مجرَّدة عن كل غاية، وعندما سمعت كلامه هذا غشَّى الاصفرار وجهها، واستشاطت غيظًا وكدرًا وقالت له: أرجو منك أن لا تتداخل في أموري لأنها لا تعنيك.
– حسنًا تقولين يا سيدتي، إنما تعنين أن صداقتي تثقل عليكِ.
– لا أريد أن يتعرض أحد لأمر سيرتي وسلوكي، فإني مُطلَقَة الحرية في سائر شئوني. نعم، إني أزور وأستقبل وأود من أشاء. قالت هذا ودخلت غرفة اللاعبين دون أن تعبأ به، وجلست إزاء والدها وابنتها، وبعد برهة وجيزة نهضت أودت مسرورة وهي تقول: غلبت جدي، فأنا غالبة وهو مغلوب. قال: إنها ابنة تخيف. ثم سأل أمها عن توري، فأجابت: في القاعة ينظر إلى الصور. فتبعه إلى حيث هو، ثم اقتربت أودت من والدتها ولثمتها، فشعرت بارتعاش يديها.
– ماذا جرى يا والدتي؟ أرى يدك كقطعة ثلج!
– لم يحدث شيء. هل تحبينني يا أودت؟
– وأعبدك عبادة، أخبريني ماذا جرى؟ ثم دخل دسباس وقال: ماذا حدث؟ وأين ذهب توري؟ يظهر لي أنه قد انسلَّ (على الموضة الإنكليزية) ولم يزد على هذا شيئًا، إذ لحظ اضطراب ابنته، ففهم أنه جرى لها ما يكدرها من جهة توري.