الفصل الثالث والعشرون
إن الدكتور توري ثاني يوم اجتماعه بمدام روجر ذهب إلى بيتها، وسلَّم الخادم بطاقة لها، فاستغنمت والدتها هذه الفرصة لإعداد مأدبة بليلة سرور وحظ في بيت ابنتها، وأفهمتها أن تحث زوجها لأن يكون توري من المدعُوِّينَ، فراق هذا الفكر في عيني روجر؛ مريدًا أن يشكره على مدحه إياه أمام زوجته، لكنه لم يفطن بمَن يدعوهم معه، فقالت مدام موستل: يمكنك أن تدعو أليس وزوجها وصديقنا القديم — لبران هاليه — الذي صادفته بطريقي في الأسبوع الماضي، وقد سألني عنكما باهتمام، والدكتور توري، ويمكنك أن تجد مدعوًّا آخَر من أعز أصحابك، ونحن ثلاثة، ولا ينقص سوى تعيين اليوم ومرغريت تكتب بطاقة تدعو بها توري، فماذا تقولون؟
فصادق روجر ومرغريت على هذا الرأي، ثم اخْتَلَتْ مدام موستل بابنتها وقالت كظافرة: هل نظرتِ ما أطيب قلب زوجك؟ سري وابتهجي بعيشتك يا بنيتي، وانزعي عن وجهك هذه الهيئة المحزنة، وماذا ينقصك يا تُرَى؟
فتنهدت مرغريت قائلة: لا ينقصني شيء.
ثم وصلت أليس وزوجها من فرساي قبل باقي المدعوين، وتركت زوجها في منزل أخيها، وذهبت تقضي بعض الشئون في المدينة. أما زوجها القبطان (تورسي) فكان خفيف الروح، حلو الحديث، بهي الطلعة، يُعجَب كثيرًا بمرغريت، كما أنها كانت هي أيضًا ترتاح إلى مُجالَسته ومحادثته، وكانت في ذلك اليوم متبرِّجة ومزدانة بأحسن زينة، لابسة ثوبًا رماديًّا جميلًا للغاية، وشعرها الذهبي يلمع فوق وجهها المنير الناصع البياض الممزوج باللون الوردي، فتأملها القبطان تورسي طويلًا ثم قال لها: يخال لي اليوم أنك مرغريت الأولى، نعم من حين دخولكِ بيت روجر هذا تهملين نفسك، ولا تعتنين بملابسك كالأول.
خال لها أن القبطان عرف فكرها وما يختلج في أعماق صدرها، وأنها لم تتبرج إلا لأنها افتكرت بألبير؛ ولهذا احمَرَّ وجهها ثم أجابت: لا تذكرِ الماضي يا هنري.
– ولماذا يا مرغريت؟ أنا متأكد كل التأكيد أنكِ لم تُذنبي في الماضي، ولا محل للانتقاد عليك بالحاضر. وكانت حينئذٍ زوجته داخلة بالباب فسألته: ماذا كنتَ تقول؟
– كنت أردِّد على مسامع السيدة مرغريت آيات حبي لها، معربًا لها عن عواطفي. وأنتِ تعلمين عِظَم مودتي لها.
– إن قولكَ هذا ينافي العقل والصواب على خط الاستقامة.
إن الدكتور توري قد أظهر من الهشاشة والبشاشة واللطف والدعة ما لم يكن يعهد فيه من قبلُ روجرُ، وكثيرًا ما بالغ في الإطراء على صفات روجر وحسن أخلاقه، والخلاصة أنه كان موضوع كلامه، حتى إن مدام تورسي نظرت إلى أخيها نظرة المتعجب. وبعد تناول الطعام اتخذ مدام موستل موضوع اهتمامه واعتنائِه، فنهضَ وجلس بالقرب منها وهو يمدح ويثني على ذوق أو لطف ابنتها، وذكاء وأمانة زوجها، مؤكدًا لها أنه سينجح نجاحًا عظيمًا ويشتهر اسمه بين قومه، فأجابته: إن ابنتي مرغريت قد سُرَّتْ سرورًا لا مزيد عليه بمعرفة حضرتك، وأنا أتأمل أنها تذهب من وقت إلى آخَر إلى مدام فارز صديقتها. فلله دَرُّ هذه السيدة، ما ألطفها وألذ عشرتها!
فصمت توري وأظهر ارتباكًا متلعثمًا، أو كان لا يدري بماذا يجيب، ولكي يُخفِي ارتباكه هذا مكَّن نظارتيه تحت عينيه، فلاحظت ذلك مدام موستل.
– وهل حضرتك تزور مدام فارز يا دكتور؟
– كنت أزورها في الماضي، لكني أرى من الآن وصاعدًا أن لا حاجة لها إلى أصدقائها القدماء.
– هل تسمح لي أن أسألك ما سبب ذلك؟
– السبب في غاية السذاجة، وهذا أمر لا يهمني، كما أنه لا يهمكِ.
– وما هو؟ ولِمَ لا تصرِّح بكلامك؟
– هو صهرُك القديم، ولا أذكر اسمه خوفًا من أن يردِّده الصدى، نعم هو يتردد دائمًا إلى بيتها وهي تستقبله بكل حرية، ولا تُخفي هذا على أحد.
– وهل تظن أن صداقة …
– نعم، صداقتهما تنتهي بالزواج، وعندي شواهد تثبت هذا الظن، لكن هذا لا يهمكِ، وكل منهما طليق الحرية.
– هذا صحيح ولا جدال فيه.
– لكن يُخشَى من زيارات مدام روجر وتردُّدها إلى هناك؛ فأنا أخبرتك بهذا الخطر الممكن وقوعه مراعاة لحقوق الصداقة، فهل أنا مخطئ في ذلك؟
– كلا، فإني أضحيت في غاية الامتنان لشعائر حبكَ ومن أعظم الشاكرات.