الفصل الثامن والعشرون
ولمَّا وصلت إلى الشارع تنفستِ الصعداء؛ إذ خال لها أنه سقط عن منكبيها حِمْل أثقل من الجبال الرواسي، ثم أخذت تفكِّر في نتيجة هذه المقابلة العقيمة من كل فائدة، وكيف أن مرغريت رفضت الذهاب إلى ألبير مع أنه هو هو زوجها الحقيقي، أمَّا روجر فإنه زوج مجازي لا أكثر. أحبت ألبير بالماضي ولا يزال يعبدها حتى الآن وهي منفصلة عنه، وها هو طريح الفراش، أرسل يتوسل إليها مستحلفًا إياها باسم ابنتها بأن تمنَّ عليه بزيارة في مرضه هذا، فأبَتْ بدلًا من أن تُسرِع إليه وتعتني به وتطيِّب قلبه! لعمري إن العقول لعلى تبايُن عظيم في هذه الدنيا.
ثم بعد إمعان النظر وتردُّد الفكر في هذا الاستقبال الذي هو في غاية الفتور، أدركت مدام فارز حق الإدراك أن ذلك ناتج عن غيرة عرت مرغريت، ولا بأس، فإنها معذورة بهذا المعنى لا بغيره.
إن مدام فارز كانت قد اضطرب بالها منذ اجتمعت بألبير أول مرة في العهد الأخير، ولم تكن من قبلُ إلا قريرة العين ناعمة البال، وبعد تلك المقابلة مال فؤادها إلى ذلك الذي تدمي حالتُه القلوب، أما في المواجهة الأخيرة فكادت تبكي الدَّمَ لا الدمع على حالته التي تَرِقُّ لها القلوب الصخرية، ثم عزمت أن تبذل ما في وسعها لتخفيف آلامه وتسكين أحزانه.
عندما وصلت إلى بيتها استقبلتها ابنتها بثغر باسم وهي تطوِّق عنقها بيديها، لاثمة بتواتر وجنتيها، والأم تلتذ بهذه القبلات البَنَوِيَّة الحارة، مصغية بحنُوٍّ إلى دقات قلب ابنتها. قالت أودت: إنى أستنشق بثيابك رائحة شيء ينعش القلب ويحييه.
– نعم، وقد نشقت منه رائحة ذلك العليل الصديق.
– وماذا حصل له؟
– عُسْر تنفُّس.
– وهل من خطر على حياته؟
– لا أظن. نعم إنه ضعيف القلب، ولكن ذلك لا يميت حالًا.
فأطرقت أودت برهة، ثم نظرت في وجه أمها، فرأته شاحب اللون.
– هل تشعرين بتعب يا أمي؟
– أحس ببعض التعب يا ابنتي.
– أرى وجهكِ ممتقعًا ولا قدرة لكِ على الوقوف، فما هذا الضعف؟ إنك تعتنين بالآخرين ولا تلاحظين صحتك.
قالت هذا وأجلستها على مقعد، واضعةً لها وسادة تحت رأسها، وجعلت تُنشقها الروائح والمنعشات إلى أن شعرت براحة عظيمة، فنهضت وقالت: أريد ان أغيِّر ملابسي؛ لأننا نتناول العشاء عند مدام بلواي هذا المساء.
– أنا لا أعرف ذلك يا أماه.
– اذهبي إذن والبسي وتهيَّئِي، واجتهدي لأن تكوني جميلة تستلفتين الأنظار.
– وهل تُسَرِّين إذا كنتُ موضوعًا لاستلفات الأنظار؟
– لا شك في هذا.
– ستكونين مسرورة، لكن أناشدكِ بحياتكِ أن تقولي لي الصحيح عن حاله الأكيد، وهل هو في خطر؟
– ما من خطر عليه، لكن مرضه في فكره، وتعلمين أن صحته نحيفة جدًّا.