الفصل التاسع والعشرون
بعد أن خرجت مدام فارز من عند مرغريت بنصف ساعة تقريبًا رجع الدكتور روجر إلى بيته، وأخذ زوجته ليذهب بها إلى فرساي حيث يتناولان العشاء؛ تلبيةً لدعوة والديه، لكنه بُهِتَ إذ رآها جالسة ولم تزل بثوبها الاعتيادي كأنها لا علم لها بأمر السفر. فقال لها: كاد الوقت يفوتنا يا مرغريت، تحضَّري بالسرعة قبل أن يسبقنا القطار.
– أنا لا أرغب في الذهاب إلى فرساي اليوم.
– ولماذا؟ هل تشعرين بألم؟
– لا أحس بشيء، لكن لا أريد أن أذهب.
– يلزم أن تتشجعي، وإذا ما ذهبنا فإننا نسبب الكدر للذين كلَّفونا بالحضور.
– اكتب لهم بأنه حصل لي صداع منعني عن الذهاب، وأني أعدهم بالزيارة في يوم آخَر.
– أنتِ لا تريدين أن تذهبي وأنا كذلك، فلا بد لي إذن من أن أخبرهم بالتلفون بأن لا ينتظرونا.
– يمكنكَ أن تذهب إذ لا مانع يمنعكَ، ومن جهتي فإني أرغب في الاختلاء بنفسي بعض الأحيان!
– هأنذا ذاهب، وأتأمل أن أراكِ بأحسن حالة عند رجوعي.
– إن شاء الله.
– وها أنا مرسِل لكِ والدتَك.
– لا حول ولا … قلت لكِ إني أحب الاختلاء، فدَعْني الآن وشأني وامضِ أنتَ والسلام.
ذهب روجر إلى حجرة ابنه مكسيم وحمله بين ذراعيه وهو يلثمه، وأتى به إلى أمه ووضعه على ركبتيها قائلًا: إني أترك الواحد بحراسة الآخَر، والله يحرس الاثنين معًا. وخرج.
إن مرغريت عندما قالت: لن أذهب إلى عند ألبير ما حييتُ، ولا علاقة له معي … إلخ. لم تكُنْ تفتكر في ما تقول، لكن عندما اختلت بنفسها بعد أن نام ابنها، شعرت بنار شوق تحثها إلى الاجتماع بمَن كانت تميل إليه، ثم نهضت من غير رَوِيَّةٍ والتفَّتْ برداء أسود، وغطت رأسها «بشال» مخرم كانت تخصِّصه للذهاب إلى المَرْسح، وتناولت قفازَيْها ومفاتيحها وكيس دراهم صغيرًا، وخرجت من حجرتها، إذ كان السكوت سائدًا والظلام مرخيًا سدوله، وإن هي إلا لمحة عين حتى صارت عند الباب الخارجي حيث استقر عزمها على الذهاب إلى عند ألبير بدون إبطاء. فاستوقفت مَرْكَبة رأتها هنالك وسارت بها، وكانت الساعة التاسعة من الليل، ولما وصلت قرعت الباب ودخلت تقول للخادم: إن الخواجة ألبير ينتظرني.
– يا سيدتي إن الخواجة مريض جدًّا، فأرجوكِ أن تخبريني عن اسمك.
– أنا زوجته. فانحنى الخادم احترامًا لها ومضى، وما لبث أن عاد مشيرًا إليها بالدخول إلى غرفة سيده، فدخلت وصافحته وهي تُحدق فيه، ولم تمضِ بضع دقائق حتى أُغمِي عليه لعِظَم الانفعال، فألقى رأسه على وسادته وجعل يلهث بشدة، فارتعشت مرغريت وهمَّت باستدعاء الخادم لمساعدتها، ولم يكن إلا القليل حتى فتح عينيه ناظرًا إلى مُحَيَّاها المبلَّل بالدموع وقال: إني أراني الآن أسعد رجل في هذه الدنيا. وبأثناء ذلك أخذت زجاجة «كولونيا» وبدأت تفرك بمائها صدغَيْ العليل ويديه، فانتعش وابتسم وأبرق وجهه، ثم رفع نظره إليها ثانية قائلًا بحلاوة لا توصف: مرغريت!
– لا تتكلمْ أكثر، أنا هنا.
نعم، إن المحبين لا يحتاجون إلى كثرة الكلام (وقد تنطق العينان والفم ساكت) ثم ضغط على يدها هنيهة، وشرع يعرب عن حبه لها ويشكرها على إسراعها بالمجيء إليه، وبأثناء ذلك يقول: يا زوجتي. وهي تشعر بأن صوته هذا يخرق في أعماق قلبها، ثم تنظر إليه وقلبها يرقص فرحًا لأنها اجتمعت بزوجها الحقيقي بعد الانفصال عنه مدة ليست يسيرة، فمَثَلُها مَثَلُ العليل الذي يَجِدُ الصحة بعد المرض المزمِن، أو الأعمى الذي يرى النور بعد الظلمة. وكانت عيناها تجولان في جدران الغرفة حيث الرسوم معلَّقة، فرأت رسمه ورسم إﻳﭭﻮن ورسمها مستندة على ذراعه؛ فحينئذٍ ترَقْرَقَ الدمع من عينيها ثم أجهش الاثنان بالبكاء. أخيرًا نشفت بمنديلها عينيه، ووضعت يدها على جبهته ونظرت في مقلتيه باسمة وقالت: لا تبكِ سأرجع. وبعد نصف ساعة من وصولها نهضت تريد الرجوع، ففهم ذلك ولم يعارضها، أما هي فسألته: ومَن يبقى عندكَ؟
– أبقى وحدي، وإذا احتجتُ إلى شيء أدعو الخادم الذي ينام في الغرفة الثانية. فأطرقت برهة وهي تفكر في أنه هل يوافق أن تبقى أو لا، فرأت الأوفق أن تذهب لتنظر ابنها النائم. وكان ألبير يحدق فيها قارئًا في ملامح وجهها ما يدور في خلدها، ولولا القليل لصرخ بأعلى صوته من شدة الألم وهو يريد أن يرجوَها لتبقى عنده ولا تتركه وحده، لكنه تجلَّد وسألها بهدوء: وهل تعودين؟ ومتى؟
– نعم، أرجع بأسرع وقت إن قدرتُ، أما الآن فلا بد من ذهابي كي لا أشغل بال مَن في البيت بأمر غيابي على حين غفلة، وربما أعود غدًا صباحًا. فأجابها بلهجة مؤلمة: لا تذهبي، بل ابقي هنا. فلم تجبه سوى بكلمة واحدة وهي: ولدي. فهز رأسه خاضعًا إذ رأى أنه لا بد من رجوعها، ثم أمسك يدها اليسرى ناظرًا إلى الإصبع الذي كان به خاتَمَا اتحادها الأول والثاني. فأشار إلى خاتم اتحاده بها وقال لها بصوت منخفض: أشكرك. فخنقتها الدموع لكنها تجلدت وقالت: كُنْ هادئًا مطمئنًّا يا ألبير، وسأعود إليكَ غدًا إن شاء الله، وأبقى هنا حتى تتعافى بأقرب وقت، وهأنذا أستودعك الله. وخرجتْ.