الفصل الثاني والثلاثون
حدث بعد أن خرج روجر أن نهضت مرغريت وهي تقصد الذهاب إلى ألبير بعزم ثابت أكيد؛ إذ لم يكن أن يشغلها عنه أعظم شاغل في هذه الحياة، كما أنه لم يبقَ أن يهمها عذاب روجر وقلقه واضطرابه؛ لأن قلبها قسا عليه حتى أضحى صخريًّا صلدًا. كيف لا، وقد كان اقترنَ بها طلبًا لسعادته لا لسعادتها وراحتها؛ إذ لو كان حبُّه مجرَّدًا عن الميل الذاتي لكان طيَّب خاطرها وساعدها على احتمال المصائب، دافعًا عنها جيوش الهموم من غير أن يقترِن بها على هذه الصورة؛ لأنه ابن عمها، فهو — والحالة هذه — ملتزم بتفريج كروبها وتعزيتها في أحزانها، لا أن يطلب زواجها به كما جرى حال كونها مقترنة برجل حيٍّ.
وبناء على ذلك ذهبت إلى غرفة ابنها وقبَّلتْه قبلات حارة في سريره، بعد أن أفهمت المرضع بعض أشياء، ثم خرجت إلى حيث مسكن ألبير لا تلوي على شيء؛ فهو ينتظرها ولكن بلا صبر، وقبل أن تدخل غرفة العليل فهمت من الخادم أن الطبيب عنده، ففتحت الباب توًّا ودخلت بدون استئذان، وعندما رآها الطبيب نهض عن كرسيه منذهلًا لدخول امرأة على هذه الصورة من غير تنبيه، ثم دنت من العليل ناظرة في وجهه وقتًا غير يسير، والتفتت إلى الطبيب بعد ذلك قائلة: هل عرفتني يا دكتور؟ ففهم مَن هي من مجرد سؤالها هذا؛ لذلك وقف وانحنى ثم جلس، وظلت واقفة بقرب رأس ألبير ماسكة يده سائلة الطبيب: كيف تراه؟
– أراه تَعِبًا يحتاج إلى ممرِّض يعتني به الاعتناء التام.
– أنا أهتم بكل ما يلزم.
– يظهر أنه حصل له حركة في هذه الليلة، مع أن الانفعال والتأثر مُضِرَّانِ به جدًّا. ثم نهض فرافقته إلى الباب الخارجي، وقبل أن يخرج سألته: كيف تراه؟ قل لي الحقيقة يا حضرة الطبيب.
– إن الحقيقة هي هذه: لا أمل بنجاته.
– هل يطول مرضه هذا؟
– لا أعلم بالتمام، من الممكن أن يموت في هذا اليوم أو أن يبقى حيًّا مدة ٤ أو ٥ أيام لا غير.
– يموت اليوم ألبير! وا مصيبتاه!
– اعذريني يا سيدتي، أنتِ سألتني عن الحقيقة.
– أشكرك يا حضرة الطبيب، وهل يتألم كثيرًا؟
– لا أعلم، سأعود في المساء. وخرج، فوقفتْ قليلًا أمام باب الغرفة لتُخفِي جزعها واضطرابها، ثم دخلت باسمة وخلعت عنها رداءها ودنت من السرير. نعم، إن هذا العليل المحبوب قد تغيَّر تغيُّرًا كليًّا منذ بضع ساعات؛ فاصفرَّ وجهه، وامتقع لونه، وخفَّ نظره، فرفع بصره إليها وقال بصوت ضعيف جدًّا تكاد تخنقه العَبَرات: لا تتركيني.
– أقسم لكَ بأني باقية عندك حتى تشفى. ثم حوَّل النظر إلى رسم إﻳﭭﻮن وقال بصوت فهمته بعد صعوبة كلية: لأجلها ابقي عندي.
– أنا لا أدعك وحدكَ منذ الآن وصاعدًا؛ لأجلكَ ولأجل حبكَ، لا لأجلها.
– فإذًا لأجل الحب لا تتركيني أموت وحدي.
– بعد عمر طويل.
ثم صمتا وقتًا طويلًا كان فيه ألبير ضاغطًا على يدها وهي تحملق به. إذا ما رحل عني فإنه يأخذ معه قلبي وشيئًا من حياتي، بل يا ليتني أرحل معه ونتحد سوية في الأبدية بعد أن افتَرَقْنا في هذه الحياة، ولِمَ لا أُدْفَن بقرب جثته يا تُرَى؟ وهل من سرور بعده في هذه الحياة الدنيا؟ لا لعمري، لله ما أعذب الموت متحدين! نعم، وقد تجاذبنا الحديث مرارًا بهذا الموضوع قبل الانفصال، وهو أن نموت في ساعة واحدة، إن حياتي بعده مُرَّة للغاية، ولا بد من موتي في الغد، وما هو الفرق بين اليوم والغد؟ الفرق هو أن موتي معه اليوم أعذب من موتي في الغد، فيا ليتني أموت معه اليوم لتطير روحي مع روح مَن أحب؛ حيث تتماسان في الفضاء وتجتمعان من غير انفصال إلى الأبد.
فتح ألبير المنازع عينيه ناظرًا إليها، فخال لها أن ذلك البصر الذي أضحى بعيدًا يشير إليها لتأتي إليه، فابتسمت ونظرت في وجهه بحرقةٍ هذا مقدارها، مريدة أن تطبع صورته في ذهنها، وتنقش أسِرَّة وجهه على صفحات قلبها، تصورت أنه وحيدٌ فريدٌ في هذا الكون، بل إنه هو هو العالم بأَسْرِه، فإذا مات ماذا يبقى يا تُرَى؟
وإذ كانت سابحة في فضاء هذه التصورات حصل لألبير اضطراب عظيم وعُسْر تنفُّس، فظنت أن ساعته الرهيبة قد دنت، فتقطَّع قلبها هلعًا وحزنًا، ونهضت مذعورة وهي ترتجف، فدخل الخادم وجعل ينشق المنازع المنعِشات النافعة راشًّا على وجهه الماء البارد، إلى أن انتعش نوعًا وخفَّ ذلك البُحْران وعاد إلى سكونه الأول وهو خمود طويل، سكوت هائل لاقتراب ساعة الموت. فظنتْ أنه نائم وتنحَّت جانبًا وسألت الخادم: كيف قضى ليلته الماضية؟
– كتب عدة تحارير ثم أُغْمِي عليه من شدة التعب. ثم سألها باحترام: متى تريدين أن تفطري يا سيدتي؟
– ومَن له قابلية في هذه الحالة؟!
إنما سؤال الخادم هذا فكَّرها أن زوجها ينتظرها بدون شك، كما أنه لا يعلم أين هي؛ لأجل هذا كتبتْ تلك الكلمات الوجيزة وأشارت إلى الخادم أن يرسِل ذلك إلى أمها في الحال. وبما أن مرغريت أرادت أن تحفظ قواها إلى النهاية، أمرت الخادم بأن يهيئ لها شيئًا من الطعام؛ لأنه يلذ لها أن تتناوله تحت سقف بيته في آخِر ساعة من ساعات حياته.