الفصل الرابع
وعندما وصلا إلى سانت أوغستان قالت له: أشكركَ يا روجر شكرًا جزيلًا.
– بإذن الله سأشاهدكِ مساءً في أتم صحة وأنعم بال.
قال هذا وذهب في طريق آخر لعيادة مرضاه، وكان النهار صحوًا مع أن السحب تحجب السماء، وبينما كانت مرغريت سائرة تذكَّرت عندما سمعت الساعة تضرب أنها عاهدت ألبير بالمقابلة في مثل هذا الوقت بالحديقة المعلومة، فوقفت تناجي نفسها وقد حارت في أمرها ولم تَدْرِ ما تعمل، على أنها كانت متيقنة نيل عزاء عظيم بقُربه لا سبيل للحصول عليه بسواه؛ لأن الحديث بينهما سيكون في إﻳﭭﻮن. ثم قالت في نفسها: لا مانع يصدني عن الذهاب إليه؛ فهو وحيد في هذه الدنيا لا أنيس له ولا تعزية، فلا يمكنُنِي أن أخلف وعدي، بل لا بد من الذهاب إليه الآن على جناح السرعة، قالت هذا وسارت ووِجْهتها موعد اللقاء، ولمَّا بلغت باب الحديقة رجعت القهقرى كأنَّها ندِمت على مجيئها، ولمْ تزل على هذه الحال مترددة، تُقدِّم رِجْلًا وتؤخِّر أخرى، إلى أن عزمت أخيرًا على الدخول، فتوغلت بين تلك الأشجار الملتفة بقدم ثابتة وعزم أكيد، حتى انتهت إلى الموضع المقصود، فوجدته جالسًا ينتظرها على أَحَرِّ من نار الغضا، وعندما لاحت له خَفَّ لملاقاتها، ثم صافحها وقبَّل شعر رأسها، فاضطربت وتملَّصت من يده، فاعتذر وقال: لا بأس، سامحيني يا مرغريت؛ فإني تعيس!
– يظهر لي ذلك.
ثم ضغط على يدها بعد أن سكت طويلًا وقال: إني تعِب في هذه الحياة الدنيا، فلا يمكنني قَطُّ احتمال هذه المعيشة. نعم، لن تكوني قرينة لي فيما بعدُ فإن سعادتي قد انتهت كما يظهر لي، ومالت شمس الهناء والصفاء إلى المغيب، وأضحت التعاسة أليفي، والشقاء سميري، والعذاب المبرِّح ألزم إليَّ من ظلي، وذلك من يوم انفصالك عني، فمن كانت حالته هذه فموته خير له؟ نعم يا مرغريت، إنك ستكونين نظيري في التعاسة جزاء عملك هذا، ومَنْ يَعِشْ يَرَ.
– أنا لا أكون كذلك لأني لا أستحق.
– كنتِ معي أسعد حظًّا ولا يمكنكِ إنكار هذا؛ لأنك قد أقررتِ بما أقول مرارًا عديدة، ولا يقوم الإنكار بعد الإقرار.
نعم، قد قضينا معًا أيامًا ما كان أحلاها وأشهاها، ولم يبقَ سوى أن نتمناها!
– أنا لا أنكر ذلك، إنما كنتُ أرى أني سعيدة وأنت تحبني.
– أنا وحَقِّكِ قد أحببتكِ دائمًا، ولم أفتر عن حبك قطُّ من عهد معرفتي بكِ، فكوني إذًا على ثقة من هذا؛ لأن صاحب البيت أدرى بالذي فيه.
– لو كنتَ تحبني لما مالت نفسك إلى ارتكاب الخيانة ومخالفة شروط المحَبَّة.
– رأيتكِ أليفة الأحزان والأشجان على فَقْدِ إﻳﭭﻮن، تنوحين وتعولين آناء الليل وأطراف النهار، وهذا مخالف لطبيعة الرجل على خط مستقيم، وقد سئمتْ نفسي طول البكاء والأنين؛ فجرى ما جرى على غير إرادة تامة مني.
وفي غضون ذلك كانت مرغريت صامتة تفكِّر بمعاملة روجر لها، وكيف أنه وقف حياته وأوقاته وأثمن ما بين يديه لأجل مرضاتها وسعادتها، مع أن ألبير هذا قد ذاقت في أيامه كئوس العذاب أشكالًا وألوانًا، ويصعب عليها أن تنسى كل ذلك، ثم رفعت رأسها وقالت: قد أتممتُ وعدي اليوم وأتيت إلى هنا؛ لأني أقسمت بابنتي إﻳﭭﻮن، لكني لن أعود بالمستقبل إلى ذلك، وهأنذا أستودعك الله. قالت هذا وهمَّتْ بالانصراف.
– أعيريني أيضا نظرة واحدة، أمَّا آخر كلامي معك فهو أني كما قلت لك: إذا شئتِ أن تريني، فأنا في كل مساء هنا، وإذا أردتِ يومًا ما أن تري رسم إﻳﭭﻮن …
– رسم إﻳﭭﻮن؟!
– نعم.
– وأين هذا الرسم؟
– عندي، وأما مكان سكناي فهو بيت والدتي القديم، حيث لا يأتي إليَّ أحد، فتعالَيْ يا مرغريت هلُمِّي وانظري صورة ابنتك إﻳﭭﻮن، والآن أستودعك الله.
ثم ذهب لا يلوي على شيء، أما مرغريت فهَمَّتْ أن تتبعه، لكن قواها لم تطاوعها، وجلست على مقعد هناك وأجهشت بالبكاء لائمة نفسها على قساوتها في معاملة ألبير بالماضي إلى هذه الدرجة، وكيف أنها طلبت الطلاق واتخذت روجر قريبًا لها فيما بعدُ، كل ذلك كان يجول بفكرها، ولو لم تكن مرتبطة بسنة الزواج ثانية، لعادتْ إلى ألبير لتقضي معه باقي حياتها.