الفصل الخامس
إن مرغريت لم تفتكر منذ ذلك اليوم بألبير إلا نادرًا، وقليلًا ما كان يخطر في بالها، وكانت تستخدم كل الوسائط لتسلوَه ولا تبالي به، وقد أخذتْ تزداد اهتمامًا وتعتني بنوع خاص بإرضاء زوجها الذي لم يألُ جهدًا في تكثير الأسباب لإسعادها في شئون هذه الحياة، وكانت تقضي أكثر أوقاتها في ملاعبة طفلها وملاحظة أمور بيتها.
وفي صباح أحد الأيام من شهر نوفمبر خرجت المرضع مع مكسيم حسب العادة للتَّنَزُّهِ، لكنها لم ترجع في الوقت المعين لرجوعها، بل تأخرت نصف ساعة تقريبًا، فقلقت مرغريت من هذا التأخُّر، واضطرب بلبالها، وأخذت تحسب ألف حساب، فقصد روجر أن يذهب بنفسه للبحث عنهما لأجل تسكين روعها؛ لأنها كانت منحرفة الصحة منذ أيام، وهي تتأثر من أقل انزعاج. وبينما هما يتجاذبان أطراف الحديث بهذا الموضوع، إذا بالمرضع حاملة مكسيم على ذراعيها وهي تلهثُ تعبًا؛ لأنها كانت تمشي بسرعة، فقالت لها مرغريت: قد قلتُ لكِ غير مرة أن لا تتأخري في الرجوع عن الوقت المعين لكِ، ومع ذلك فقد تأخرتِ اليوم نصف ساعة فاشتغل بالنا، فما سبب تأخُّرك هذا؟
– نسيت ساعتي هنا يا سيدتي، فأرجو منك المعذرة هذه المرة، وفضلًا عن ذلك أني صادفت رجلًا في الطريق استوقفني بسبب ملاعبته مكسيم، وقد ظهر لي أنه يحب الأطفال كثيرًا.
– ومن هو هذا الرجل؟ وتبادر إلى ذهن مرغريت في الحال أنه هو ألبير، فاكفهرَّ وجهها. فقال لها روجر: لا تعكِّري صفاء مزاجك يا عزيزتي. ثم قال للمرضع: وأنتِ مَن صادفكِ بالطريق؟
– لقيت رجلًا لابسًا ثياب حداد، وهو كثيرًا ما يلاعب الأولاد الصغار ويلاطفهم، وقد سألني بنوع خصوصي عن عُمر مكسيم وأحواله، وأظن أنه فاقد ابنًا له!
– مهما كانت حالته فلا يلزم أن تكلِّمي أحدًا بالطريق من الآن فصاعدًا، لا سيما الذين لا تعرفينهم.
– أنا لا أكلم أحدًا حتى الذي أعرفه، ولكن هذا الرجل هو الذي استوقفني وتكلَّم معي، وبدأ يلاعب الطفل مُظهِرًا له سائر أنواع الملاطفة، فأراني والحالة هذه لم أقترفْ إثمًا ولم أَجْنِ ذنبًا. ثم خرجت مقطِّبة الوجه.
– لا أهمية لتأخرها هذا يا عزيزتي مرغريت، وكثيرًا ما يحدث ذلك في كل زمان ومكان، ولا بد من أن يكون كلامها صحيحًا، وأن ذلك الرجل توفي له حديثًا ولد من عمر مكسيم.
– أفهم كل هذا، ولكن قصدي أن لا تكلِّم أحدًا بالمستقبل؛ لأن الآداب توجب على الإنسان — ولا سيما المرأة — أن تكون في غاية الاحتشام كما لا يخفى عليكَ.
– لا فُضَّ فوكِ ونِعْمَ الرأي رأيك. ها إني أراك قد تعافيتِ من الزكام وملكتِ تمام الصحة التي هي أغلى من كنوز الأرض عندي، فإذا كان الجو نهار غَدٍ صافيًا، فلا بد من الخروج للتنزُّه. وفي أثناء ذلك دخل الخادم وبيده رسالة برقية باسم روجر يطلب بها مرسلها من الدكتور روجر الاهتمام ببعض الشئون، فخرج على الفور، وعلى أثر ذلك دخلت المرضع إلى قاعة الطعام وهي لم تزل مقطِّبة الوجه متمتمة، فأجلست الطفل بالقرب من أمه وأحضرت له الطعام قائلة في نفسها: يظهر أنه لا ثقة لهم بي، فأي شيء ارتكبتُ من سوء الأدب يا تُرَى؟
– صادفتُ رجلًا بالطريق، فسألني باهتمام عن عمر الولد، وبما أن الآداب تقضي عليَّ بمجاوبته جاوبته، ولا أراني مخطئة في ذلك.
– ما مضى قد مضى، دعينا من هذه القصة. الآن اذهبي لإتمام شغلكِ كما كنتُ أفهمتكِ.
وكانت يد مرغريت تنتفض انتفاض العصفور بلَّلَه المطر عندما كانت تلقم الصغير؛ لأنها فهمت من كلام المرضع ووصفها بأن الرجل هو ألبير بعينه، فغلت مراجل الشوق والهُيام في قلبها، وتساقطت دموعها الغزيرة، وحنَّتْ إلى ألبير حنين الظمآن إلى الماء والعليل إلى الشفاء، ثم ضمَّتْ ولدها إلى صدرها وانهالت عليه باللَّثْمِ والتقبيل أكثر من عادتها.