الفصل السابع
اعتادت مرغريت أن ترى ألبير من وقتٍ لآخر، ويكون موضوع الحديث معه إﻳﭭﻮن، وبما أنه كان منكسر القلب ملازم الوحدة والوحشة، وتخفف أحزانه بعذوبة كلامها وحسن مسايرتها. وأما ألبير فكان أطوع لها من بنانها، لا يخالفها بشيء وينتظر أوامرها انتظار هلال العيد، وجُلُّ القصد من معاملته هذه صيدُها بحبائله واستجلابها إليه ثانية. وفي مساء إحدى ليالي ديسمبر الباردة، قال لها وهما يتجاذبان أطراف الحديث، بعد أن سعلت سعالًا شديدًا: لا أريد أن تأتي إلى هنا فيما بعد؛ فإن البرد قارس لا يُحتمل! فقالت باضطراب: وكيف نلتقي؟
فرمقها بنظرة معنوية لو حدثتْ في الأيام الأولى لألقت بنفسها بين ذراعيه، وكانت تنتظر الجواب من فِيه، فخاب أملها!
ثم قال لها برزانة: هل لكِ بي من ثقة؟ فلم تقدر أن تجيبه، ولكنها أشارت برأسها: نعم.
– إن صورة إﻳﭭﻮن عندي، فيمكنك أن تأتي وتنظريها متى سنحت لكِ الفرصة.
فأطرقتْ طويلًا وأحاطتْ بها الهواجس والأفكار المزعجة إحاطة السوار بالمعصم، ثم تأملت في أنه كيف يحسُن أن تدخل ثانية تحت سقف بيت ألبير ولو دقائق يسيرة؟
وعندما تيقنت ذلك وتصورت ابنتها في ذلك البيت، اقْشَعَرَّ بدنُها وشعرت بأن الأرض ترتَجُّ تحت قدميها، وظهر لها أن الأشجار تجري، وجميع النباتات تدور، وكأنما الكون قد انقلب ومناظر الطبيعة تغيَّرت أمام ناظريها، وبينما هي كذلك قالت على غير انتباه: نعم، سأذهب وأرى إﻳﭭﻮن!
غير أنها بعد أن لفظت ذلك، كنت تراها غارقة في بحر من الأفكار والهواجس المؤلِمة، وكانت كأمواج البحر يُلاطِمُ بعضها بعضًا، وعيناها تمثلان أمامها صورة ذلك الوجه المحبوب الذي كان لها في الماضي، وهو ليس لها الآن. ثم إنها ذكرت أنها أقسمت وابنُها على ذراعيها على أن لا تعود إلى التفكير في ألبير، ومع ذلك حَنِثَتْ بيمينها.
فيا تُرَى ألم تكن تحب مكسيم؟ نعم، كانت تحبه حبًّا شديدًا، وقد كان يسهل عليها تضحية حياتها من أجله، ولكن من جهة أخرى كانت تظن أن ألبير هو أكثر ضرورة لحياة قلبها من مكسيم ولدها. والحالة هذه إن كانت لا تخاف الموت حبًّا بمكسيم، فإنها من جهة ثانية لا تطيق الحياة وهي بعيدة عن ألبير.
فمَن يا تُرَى في هذه الحياة الدنيا يُشْفِقُ على هذه النفس المسكينة ويساعدها كي تنتصر على حبها، وتتخلص من هواجسها المضنية التي تحاربها ليلًا ونهارًا!! مَن هو الذي ينجيها من شعورها، ويُبعِد عنها آلامها التي تعذبها كثيرًا! مَن ذا يَضمِد كلوم قلبها بتلك المراهم الشافية!
فتبًّا لكِ أيتها الدنيا الخادعة، وتعسًا لكَ أيها الدهر الخَئُون بأهله!
بكت مرغريت بكاءً مرًّا، وتنفست الصعداء مرارًا، وألبير يطيب نفسها.
ولعمري إنه الأَوْلَى بالتعزية والأجدر بالشفقة والمرحمة؛ لأنه كان بحالة يُرثى لها لا تنفع فيها تعزية، فحَرِيٌّ به أن يبكي وينوح على حياته التي كانت مُفعَمة من الصفاء والهناء، فأضحت مقرونة بتراكُم الحزن والعناء!