الفصل الثامن
في ذلك المساء أُصِيبت مرغريت بحمى شديدة وعُسْر تنفُّس كادا يذهبان بحياتها، ولم تعلم والدتها بذلك إلا في صباح الغد، فأسرعت هذه إلى حجرة ابنتها لتتفقَّدها وتعتني بتمريضها. وبعد أن عاهدت على نفسها أن تحمل أعباء ذلك، أظهرت لصهرها كدرها العظيم وقالت على مسمع منها: إنها لعنيدة جدًّا؛ هي تعرف حق المعرفة أنها ضعيفة وصحتها منحرفة، وأن مزاجها اللطيف لا يحتمل شدة البرد والحر، ومع هذا وذاك فلا تبالي، بل تخرج من المأوى زمن وقوع الثلوج والأمطار.
فقال روجر يعذرها: إن الزكام في هذا الفصل يحدث على رغم التحفُّظات والاحتياطات؛ لأن حال الجو رديئة تصب الزكام وباقي العلل صبًّا.
– إني لا أعتقد صحة القول، فعليك أن تأمرها بأن لا تخرج في مثل هذه الأوقات، كما أن عليها الامتثال لأمرك. إنها توالي الخروج منذ أسبوع كامل!
– الآن يجب أن نهتم بمعالجتها وتمريضها، لا لومها وتعنيفها. ثم دخلا معًا حجرة المريضة التي لم تبتسم لهما ولم تُعِرْهُمَا جانب الالتفات، مع أنه خاطبها قليلًا، فلم تُجِبْه متظاهرة بأنها نائمة، فلم يبطئ أن خرج لعيادة مرضاه بعد أن أوصى أمها بالتعليمات الضرورية. أما هذه فسألته بعد أن رافقته إلى الباب: لا تكترثُ بنا، كأننا مسسنا إحساساتها بأمر ما!
– لا بأس بذلك، فإن هذا من آثار الحمى، وأنا سأعود بعد قليل.
إن الدكتور روجر لم يضطرب من مرض زوجته؛ لأنها لم تزل في عنفوان صَبائِها، وهو — هو نفسه — يعالجها، ومع ذلك كان يشعر بغُصَّةٍ في صدره؛ فقد شعر بعدم اكتراث مرغريت به بعد كل ما أبداه لها من علامات الحب والاحترام، كما أنه لسلامة قلبه نسب هذا الفتور إلى شدة الحمى، مع أنه كان يشعر أثناء ذلك بغمٍّ داخلي ضاغط على قلبه وسائر أحشائه، وكان يخشى أن ترغب عنه وتَقْرَع سن الندم على قبولها إياه بَعْلًا. ولو لم تحرضه وتُرَغِّبْه أمها لَمَا أقدَمَ على طلب يدها؛ فإنه — مع فرط حبه لها — لم تكن مخلصة له حبها كل الإخلاص، وعندما كان يجالسها يشعر بنوع من الانقباض، كان فؤاده يتلهَّب حنينًا إليها، لكنه لم يجسُر قط أن يُظهِر لها جميع عواطفه، وكثيرًا ما كاد يترجم عن إحساسات قلبه وما يكنه فؤاده من الولوع والوَلَه بها، لكنه يلجم لسانه عن التفوُّه ولو بكلمة واحدة أمامها. نعم، إن كل ما يفعله المحب لسعادة وهناء زوجته فعله روجر، بل زاد عليه أضعافًا، ومع ذلك لم يتمكَّن من التوصُّل إلى امتلاك قلبها.
نعم، طالما خطر على باله ألبير زوجها الأول، وكان يشعر بقرب وقوع الخطر، وسأل نفسه يومًا عمَّا إذا تلاقيا اتفاقًا، ماذا يصنعان؟ هل يحوِّل الواحد منهما وجهه عن الآخر غير مكترِث بملاقاته، ولا ذاكر تلك الأيام التي تقضَّت؟
إن روجر — مع ما هو عليه من حدة الذكاء والفطنة — لم يقدر أن يجيب على هذا السؤال، لكنه من هذا وغيره عَلِم بأن سعادته إنْ هي إلا وقتية سريعة الزوال، وأن بيته مبني على الرمل.
وإذ كان الدكتور روجر من ذوي الرزانة والعقل الراجح، رام أن يشغل أفكاره بغير ذلك، فذهب إلى عيادة مرضاه، وكان يصغي إلى وصف أعراض العلة من فم المريض بكل تَأَنٍّ وانتباه أكثر من العادة، قاصدًا بذلك ملاشاة همومه وإبعاد غمومه باشتغاله بأمراض غيره، وكان في الساعة المعينة يرجع إلى مسكنه ماشيًا بدلًا من أن يركب حسب عادته؛ وذلك ليسرح نظره ببعض المناظر التي يصادفها في طريقه. وفي أحد الأيام رأى وهو سائر أمامه مَرْكَبة تجري بألبير، وكان وقوع نظر الواحد منهما على الآخر كوميض البرق، فتوقدت في قلب كل منهما نار محرقة دونها جمر الغضا. وإنْ هي إلا لحظة حتى قال روجر في نفسه: سأبذل نفسي في سبيل حفظها لي حتى آخِر نسمة من الحياة.
أما ألبير وقد التهبت نار الغَيْرة في فؤاده، أقسم في نفسه قائلًا: والله لأسترجعَنَّها، ولو كلَّفني ذلك فقدان حياتي.