الفصل التاسع
عندما شفيت مرغريت، شرعت أمها تؤنِّبُهَا على قلة مداراتها لصحتها وعدم الاعتناء بها، وكانت تكرر ذلك كثيرًا على مسامعها، ومرغريت لا تصغي إليها شيئًا. وفي بعض الأحيان كان روجر داخلًا فسمع زوجته تقول: كفاني كفاني ما سمعتُ منكِ.
فبادرتها أمها بالدفاع عن نفسها مؤكِّدة لها أنها لا تقصد سوى خيرها؛ لأن الحب الوالدي يدفعها إلى ذلك حبًّا براحتها، إلخ. لكن روجر غيَّر موضوع الحديث وقال: دعينا من هذا الجدال يا عمتي؛ فإن مرغريت لم تزل ضعيفة. قال هذا ودَنَا منها مستعلمًا عن أحوال صحتها، فلم تقابله بوجه باشٍّ، ومع ذلك جلس بالقرب منها معتنيًا بأمرها غاية الاعتناء، وبعد أن جس نبضها قال مسرورًا: لقد تعافيتِ وعادت صحتك إلى حالها الأولى، فالحمد لله على السلامة. فقالت أمها هامسة: قد حصل لها ضعفٌ آخَر. فقال: إن كان ذلك صحيحًا فهو من آثار الزكام. ثم قالت الأم لروجر: بما أنك هنا، يمكنني أن أذهب لأغذي مكسيم.
– عودي إلى هنا يا والدتي.
– سأرجع بعد بضع دقائق.
– ويلاه إلى متى يجب أن أُحبَس هنا، فقد ضاق صدري يا روجر.
– إن خروجك يا مرغريت يتعلق بجودة أحوال الجو لا بإرادتي كما لا يخفى عليك، وهل تعلمين بماذا أفكر؟
– لا أعلم، قل لي إذا شئت.
– مرادي أن أمضي بك إلى جهة الجنوب.
– وماذا يا تُرَى أفعل في جهة الجنوب! لا لا، بل أُفضِّل البقاء معك هنا. إن مرغريت لم تتملق بقولها هذا؛ إذ إنها كانت تعلم حق العلم أن روجر هو سندها الوحيد.
– كوني على ثقة بأني ذاهب معكِ.
– ولمَنْ تترك المرضى الذين تعالجهم؟
– إني أوصي بهم أحد أصحابي الأطباء.
– لا، بل أُفضِّل البقاء في العاصمة باريس.
– عليكِ أن تطيعيني يا مرغريت، بما أني أنا الآمر وصاحب البيت!
قال هذا باسمًا، فصمتت وحدَّقتْ به طويلًا.
– والحالة هذه ينبغي أن تغادري العاصمة.
– إن كان ذلك كذلك، فأنا مريضة جدًّا والسفر يتعبني.
– أما الآن فإنك تعافيت ولستِ مريضة، ولكن من الممكن أن تداهمك علةٌ ما، وذلك مما يكدر صفاء عيشي يا عزيزتي، فأريد إذًا أن أتِّخِذَ كل الاحتياطات الواقية، فكوني على ثقة من ذلك إذًا.
– إني لا أشك في حبك لي يا روجر، ولكن لِمَ تكلمني بهذا اللحن والنغمة الجديدة؟
– إن حياة الزوجين يجب أن تكون مُرْضِية وسعيدة، ذات صفاء وهناء لا يكدرها أقل شيء البتة، ولعمري إن ذلك لا يتم إلا بمبادلة تمام الثقة بينهما، وينبغي على كل منهما من باب الوجوب أن يفتح قلبه لرفيق حياته هذا، ويطلعه على ما يُسِرُّه ضميره في السراء والضراء، كاشفًا له أعماق قلبه، ولو شعر على نوع ما بألم من هذا الإقرار.
عندما سمعتْ هذا الكلام حدَّثتْها نفسها من أنه عارف بوجود ألبير في العاصمة؛ ولهذا قالت: حتى الآن لم أفهم شيئًا، فما معنى هذه الألغاز يا تُرَى!
– لقد تعذبتِ أيتها العزيزة في ما مضى، وقد آليت على نفسي أن أبذل مجهودي في أن أنسيك ذلك، وقد يعسر لسوء الحظ محو ذكر الأيام الماضية المحزِنة في هذه الحياة الدنيا، ثم إني لمتأكد أنك تنقبضين — ولو قليلًا — متى علمتِ بوجود ألبير في العاصمة، بل أنا قد رأيته رأي العين، وبما أني شريككِ في آلامكِ يجب أتجنب كل ما يسبب لنا انفعالًا.
وعند سمعها ذلك امتقع لون وجهها، واصفرَّت شفتاها، وشعرت بضيق في صدرها بعد أن دمعت عيناها، فدنا منها روجر وأخذ يديها الباردتين بين كفيه.
– لا يحق لي أن أتكدر من دموعكِ هذه عند ذكر ذلك الرجل المعروفة صفاته حق المعرفة، وأنتِ أعلم بها مني، أمَّا رجوعك إلى الوراء فهو من رابع المستحيلات. نعم، لقد أصبحتِ لي وخاصتي، ونحن الاثنان لسنا سوى واحد، وما ألبير إلا خيال نظرتِه في ماضي حياتك. كما أنك لا تستطيعين أن تنسبي إليَّ القساوة والظلم وسوء المعاملة بهذا القول. فوحقِّك إن ذلك لا يصدر إلا عن حب مفرط لا نهاية له، بلى وتربةِ إﻳﭭﻮن!! فإذا لا سمح الله اقتضى يومًا ما أن أعمل لكِ عملية جراحية تقتضي استعمال آلات الجراحة لأجل تمزيق لحماتك فلا تحسبين ذلك قساوة مني، بل تعرفين حق المعرفة بأني أتوجع في الوقت عينه. وفي غضون ذلك كانت دموعها تسيل من تحت جفنيها المغمضين.
– إني طبيب كما تعرفين، وصناعتي قائمة في أن أُوجِع لكي أشفي، لكني لا أرتضي بمعالجة جسم أزمنت علته إن لم تكن للعليل الثقة التامة بي. وعليه فإن كان ذلك كذلك، يجب أن تخبريني بأوجاعك وتُطلعيني على سائر آلامك لأداويها؛ فإني أبذل حياتي دونك إذا اقتضى الأمر، لِمَ تبكين هذا البكاء أمامي؟ إن مهجتي تذوب حنانًا عليكِ عندما أرى دموعكِ.
إن مخاطبة مرغريت بهذه اللهجة التي ملأها الحب وسائر أنواع الملاطفة والمجاملة، عطَّف قلبها إليه وأثَّر فيها تأثيرًا شديدًا، فحاولت أن تقول باسمة: وماذا عليَّ أن أقول؟
– ربما ترغبين في الماضي ورجوع القديم إلى قدمه، فأنا أشير عليكِ بأن تُميتي هذا الفكر ولا تدعي للتذكُّر به سبيلًا. نعم، أنا لا أستأهلكِ؛ فإنك لَأَسمى مني وهذا لا يختلف فيه اثنان، وعندما تزوجتكِ عهدتُ على نفسي واجبات لن أُهملها أبدًا، نعم سأدافع عنكِ حتى آخِر نسمة من حياتي، انظري إليَّ واجعليني دائمًا نصب عينيكِ، ولا تأملي العَوْدَ إلى الماضي (هنا شعر بارتعاش يدها التي بين كفيه) قد قَبِلْتِني يا مرغريت بتمام إرادتك، وكنت أحبكِ كما أني كنت أظنكِ تعيسة.
– نعم، كنت تعيسة.
– فَلْندعْ الماضي نسيًا منسيًّا، إن إﻳﭭﻮن تُوُفِّيَتْ فاعتبري أن ألبير مات أيضًا، فتصوري أنك لن تجدي له أثرًا ولا عينًا!
فأَنَّتْ أنينًا يلين له الصخر الأصَمُّ لدى ذكر ذلك.
– واعلمي أن لكِ زوجًا حنونًا للغاية قد وقف حياته على رضاك، وهو لا يحلم بسوى سعادتك ورفاهتك، ونظرك أعظم برهان على ذلك؛ لأنك ترين رأي العين ما أفعله استجلابًا لرضاكِ. إن لكِ ولدًا تتسلَّيْنَ به، فهل نُشتِّت شملنا بيدنا من أجل مَنْ مات؟
فهَمَّتْ أن تقول بأعلى صوتها: لا لم يمُتْ، الميت لا يتألَّمُ وألبير يتألَّمُ! فأدرك روجر فكرها لذلك، قال: لسنا بمسئولين أن نُشْفِقَ على مَن أساء إلينا وهدم أركان سعادته بيده؛ فانعطافُنا عليه والحالة هذه يقع في غير محله. لمْ أَرَ ألبير سوى لمحة بصر، لكني متأكد أنه قد تغيَّر كثيرًا وأصبح شاحب اللون ممتقعَه.
فانتفض بدن مرغريت وقاطعته بقولها: نعم، وقد رأيته. فمسك روجر نفسَه وملك عواطفه وقال: حقًّا إنك لمسكينة أنتِ، ولِمَ لَمْ تخبريني بذلك؟
– وكيف أخبركَ؟!
– لأنه ما من ذنب لكِ إذا وجدتِه في طريقكِ كما وجدتُه أنا مثلًا. نعم، أنا أعلم وأنتِ كذلك والناس أجمع يعلمون أن هذا الرجل هو سبب تعاستنا ومجلبة لتكدير صفاء عيشنا.
قالت: أنا محتاجة إلى الهواء. وزفرتْ زفرة شديدة ثم ألقت رأسها إلى الهواء مُغْمًى عليها؛ فخف روجر يرش وجهها بالماء البارد مع تنشيقها المنعِشات، وعندما فتحت أعينها أخذها إلى مكتبه لأنه أدفأ، ووعدها بأن يسافرا معًا بأقرب وقت.