حياة قلقة
العصر كله متميز بموجةٍ غَمرتْه بالقلق، لا يقتصر فيه القلق على ذلك الحد الذي لا حياة لإنسان بدونه، بل جاوزه حتى أصبح علامة لا يُخطئها بصر، وليس بأيٍّ منا حاجة إلى أن يقرأ عن قلَق العصر في صحيفة أو كتاب، بل تكفيه حياته هو مرجعًا كلما أصبح به صباح أو أمسى مساء؛ لأنه يُحسُّ في كل لحظة وكأنه مُقبلٌ على مجهول: تُرى ماذا تُخبئ له اللحظة الآتية، ويقرأ الصحيفة اليومية أو يستمع إلى مذياع أو تلفاز، ليعرف أخبار الدنيا، وإذا بمعظم أخبارها، في كل نشرةٍ إخبارية يقرؤها أو يستمع إليها، قتل، وخطف، وتعذيب، وتدمير، وأغرب ما تراه في هذا كله، هو أن أفظع الجرائم تُقتَرف محتميةً بأشرف القيم، وأن الكثرة الغالبة من الضحايا هم الأبرياء، الكل في قلقٍ تتمزق منه الأعصاب، وعلَّته في أغلب الظن هي أنه عصرٌ جاء ليكون حلقة وصل بين حضارتَين؛ حضارة منهما بلغت ختامها بحربَين عالميتَين، في أولاهما (١٩١٤–١٩١٨م) ارتجَّت الجدران، وفي ثانيتهما (١٩٣٩–١٩٤٥م) انهار البناء؛ فبعد أن كان الناس يَحيَون على قوانينَ وقواعد ونظم ثبتَت ثباتًا جعل كل فردٍ قادرًا على أن يعرف في يومه كيف يكون غده، بحيث يُعِد له العدة وهو على ما يقرُب من اليقين، بأن ما يتوقَّع حدوثه في غده سيراه محققًا رؤية العين حين يحلُّ موعده، لكن هذا الثبات كان يُخفي وراءه ما يُخفيه من ظلم الظالمين؛ فقد كاد العالم عندئذٍ ينقسم قسمَين، أحدهما يُمسِك بالرقاب، يستغلُّ الضعيف ويستذلُّه، والآخر يختنق.
كان مسرح الأحداث في القرن الماضي يشهد النقيض؛ فهو عصر استعمار الأقوياء للضعفاء، ولكنه كان في الوقت نفسه عَصرَ الأفكار الجديدة التي بُذرَت بذورها، لا لتنمو وتُورِق فَور غَرسها، بل لتنضَج وتُثمر بعد حين؛ فقد كان القرن الماضي هو العصر الذي تحوَّلَت في أوائله الرؤية، من سكونية يَرونَها في الكون، بمعنى أنه لا زيادة في الكون ولا نقصان، وكل ما في الأمر حركة تنقُل ذرات المادة من هنا إلى هناك، ومن هناك إلى هنا بقانونٍ محكم محسوب، حتى لقد غلبَت الفكرة بأن اللحظة الحاضرة يمكن لصاحب العلم أن يستدلَّ منها كل الماضي كيف كان، وكل ما هو آتٍ كيف يكون، فتغيَّرت الرؤية من تلك السكونية إلى ديناميةٍ حركية يَرونَها في الكون؛ فهو كونٌ ينمو ويمتد، ثم هو كونٌ يُبدَع فيه جديدٌ كل لحظة. وإذا رمزنا للرؤية السكونية السابقة، والنظرة الدينامية السكونية السابقة، والنظرة الدينامية اللاحقة، برمزَين يُوضِّحان الفرق بينهما، قلنا إن الأُولى أشبه بآلةٍ تضبط الوقت في دقةٍ لا تخل، وليس فيها إلا قطع من مادةٍ أحكم تركيبها، بحيث تؤدِّي ما تؤديه كما يُنتظر لها أن تؤديه، فلا زيادة ولا نقصان ولا انحراف عن الطريق المرسوم. وأما الرؤية الثانية فيمكن الرمز لها بشجرة تنمو. إن عالم النباتِ بكل علمه لا يستطيع أن يتنبَّأ لها على وجه الدقة كيف تنمو: كم عدد الفروع وكم عدد الأوراق، وبأية صورة تتعرج الفروع، أو تستقيم، وبأية طريقةٍ تتعرَّق كل ورقة بخطوطها؟ كان الكون في الرؤية الأولى مواتًا إلا من أحياء هذا الكوكب الأرضي، فأصبح الكون حيًّا بما ينمو ويتسع، وبما يُبدَع فيه كل لحظة من جديد.
أحدثَت هذه الرؤية الجديدة التي استهلَّ بها القرن الماضي حياته، رجَّة في عالم الفكر كله، فتغيَّرت وجهاتُ النظر، فأخذَت فكرة «التطوُّر» تسود وتتنوَّع، فتغيَّر بها منهج النظر إلى الكائنات؛ فما دام التطور — وليس الثبات — هو الأساس، إذن فجوهرُ أي شيء هو تاريخه؛ فالتغير معناه أن يكون الكائن المعيَّن — كل كائن وأي كائن — سيرة تمتد على فترة من الزمن. وإذا رصدنا مراحل تلك السيرة لحظة لحظة، كنا أمام ما يشبه الرواية؛ فالذي نراه من شجرة، أو من نهر، أو من عصفور، أو من إنسان، إنما هو إحدى لحظات وجوده، وهي لحظة تختلف عما سبقَتْها وعما سوف تسبقها.
وإذا كانت سُنَّةُ الكون وكائناته حركةً ونموًّا وسيرةً، فهل يُعقل أن يظل الشعب الحاكم حاكمًا والشعب المحكوم محكومًا؟! إذن لا بد من ثورة أو ثورات تتفجر لتمحو الثبات الذي كان، ولتعمل على إيجاد ما يتغير به وجه الحياة، وكان لا بد لهذا التغيُّر الجارف من حروبٍ تدُكُّ الحصون القائمة، فكانت الحربان العالميتان الأُولى والثانية، وما قام بينهما وبعدهما من ثوراتٍ إقليمية هنا وهناك.
وفي سنواتٍ قلائل بعد نهاية الحرب العالمية الثانية (١٩٤٥م) أخذَت الأقطار الواقعة تحت حكم الرجل الأبيض تستقلُّ قُطرًا بعد قُطر. وقامت هيئة الأمم المتحدة على زعم بأن متفرقًا من الأمم قد اتحد، فلم تمضِ بعد ذلك إلا سنواتٌ ثلاث، حتى أُعلن ميثاق حقوق الإنسان، فأخذَت التغيُّرات الكبرى في بنيان الحياة الإنسانية تتسع أبعادًا وتعمُق أغوارًا؛ لأنها تغيراتٌ سارت في خطوطٍ أفقيةٍ تشمل كرة الأرض بأَسْرها، ولا يقتصر التغيُّر الواحد منها على بلدٍ بعينه يضرب بجذوره في أرضه حتى لا تنتقل عدواه إلى جيرانه؛ فهنالك التغيُّر في مكانة «العامل» الذي استهدَف أن تكون للعمال كلمةٌ أعلى صوتًا، وأجرٌ أكثر، ورتبةٌ اجتماعية أعلى، وامتدَّت الحركة لتوحُّد بين العامل والعامل عَبْر الحواجز القومية، إذ أصبحَت القُربى بين العاملين بسواعدهم وأيديهم أوثقَ آصرةً من الصلة التي تربط العامل ومواطنيه في البلد الواحد. وهنالك التغيُّر في عالم المرأة، وقد امتد هو الآخر في أبعادٍ أفقية جعلَت للمرأة في جميع أنحاء العالم حركةً واحدة؛ لأن حقوقها الضائعة تكاد تكونُ مشتركة، لا يختلف فيها بلد عن بلد إلا في القشور دون اللباب، واللباب هو أن تُعَد المرأة «إنسانًا» له كل حقوقِ الإنسان التي أُعلن ميثاقها في أواخر سنة ١٩٤٨م؛ إذ ما جدواها إذا قيل لها — مثلًا — إن لها مثل الرجل حقًّا في الحرية والمساواة، ثم لا تكاد تسمع عن هذه الحقوق عند عتَبة الدار حتى تَصطدِم داخل الدار بمن يسلبُها باليسارِ ما كانت أخذَته باليمن منذ قليل؟! وذلك لأنها تنظُر فإذا هي لم تزل مرهونةً بكلمة مجنونة ينطق بها زوج في لحظةٍ غاضبة، فتجد نفسها مُعلَّقةً في الهواء. تغيراتٌ أخرى كبيرةٌ وواسعة شملَت الطفل وحقوقه، والمُسنَّ وحقوقه، والمريض أو المعوَّق وحقوقه، وهكذا وهكذا.
وربما كان ما هو أعمق من تلك التغيُّرات جميعًا، وهو التغيُّر الجذري الذي تغيَّرت به وجهة النظر إلى «الثقافة» ومعاييرها؛ فبعد أن كانت وجهة النظر خلال القرن الماضي وأوائل هذا القرن — وأعني فترة الثبات التي أشرتُ إليها — هي أن للثقافة معيارًا واحدًا، وهو ثقافة الغرب، أو ثقافة الرجل الأبيض، بمعنى أن درجة التقدُّم أو التأخُّر في الحياة الثقافية للفرد الواحد، أو لشعبٍ من الشعوب، تُقاس بمقدار قُربها أو بُعدها من ثقافة الرجل الأبيض، ثم انقلَب الميزان بعد استقلال الشعوب فيما أصبح «تقريبًا» يُسمَّى بالعالم الثالث؛ إذ أعقب ذلك الاستقلال السياسي نتيجةٌ طبيعية، هي أن تستقل الثقافات بموازينها الإقليمية، دون الحاجة إلى ميزان الرجل الأبيض وثقافته؛ فلكل شعبٍ حياته، وتاريخه، وعقائده، وتقاليده، ونظمه الاجتماعية، وماذا تكون ثقافته — إذن — إلا أن تكون تعبيرًا عن هذا كله؟ ماذا يقول الشاعر إذا لم ينبض قلبه مع إيقاع الحياة التي يحياها هو وذووه؟ وعلى أي الصور تجيء شخصيات الرواية والمسرحية إذا لم تكن مستمدةً من الخبرة الحية للأديب وهو في خِضَم الحياة الجارية مع بني أمته؟
هي إذن كما ترى، تغيراتٌ واسعة وعميقة جاءت كلها إشعاعًا من تلك الفكرة العظيمة الخصبة التي وُلدَت في أوائل القرن الماضي لتُغيِّر وجهة النظر إلى الكون وإلى الحياة من أساسها؛ فبعد أن كانت القاعدة المرجعية لما هو صواب في أي شيء، هي أصلٌ ثابت يجري على سننٍ معلومة ومحسوبة، أصبح أساس الحكم شيئًا آخر، هو مدى حيوية الاعتمال الداخلي الذي يضطرم في كيان الكائن المعين، أو الجماعة المعيَّنة، فيُغيِّرها بما تستطيع به أن تنمو وأن تُبدع ما هو جديد، وأن تُشكِّل بيئتها لصالحها، ولا تقف موقفًا سلبيًّا تتلقَّى فيه المؤثرات الخارجية لتتولَّى تشكيلها.
لكن هذه التغيُّرات الكبرى لا تبلُغ غاياتها بين يوم وليلة، إنها بمثابة خلقٍ جديد لمجتمعٍ جديد. ويزيد الأمر عُسرًا، أن الأمر ليس موكولًا كله لرغبة الإنسان؛ فلا يكفي أن يقول الإنسان لنفسه: أريد كذا. فإذا الشيء المراد قد تحقَّق؛ لأن لكل رغبة أعداءها، فإذا كان العمال قد تحرَّكوا واتَّحدُوا عَبْر الحواجز القومية، ليجعلوا للمهارات الحرفية والفنية مكانتَها التي تستحقها، فهنالك أصحاب الأموال ومعهم أصحاب المهن كالأطباء والمهندسين ورجال القانون ورجال التعليم ومن جرى معهم هذا المجرى، يتمنَّون أن تظل لهم امتيازاتهم الاجتماعية القديمة. وإذا كانت المرأة قد أخذَتها الصحوة أخيرًا وبدأَت تشعُر بوجودها إنسانًا كامل الحقوق، بالمعنى الصحيح الذي يتناول الجوهر، وليس بقشورٍ شكلية ثانوية لا تنفع ولا تشفع، فهنالك الرجل الزوج الذي يحلُم بأن يكون كسلفه سيدًا وحوله الجواري، ثم إذا كانت الشعوب المحكومة قد استقلَّت، فهنالك حكامها الأقدمون تشتدُّ قبضهم على سلطانهم القديم، ففعلوا ما فعله الذئب في حكايات الأطفال، قالت لهم أمهم قبل خروجها سعيًا وراء القُوت: لا تفتحوا باب الدار لأحدٍ سواي. فجاء إليهم الذئب مرتديًا ثيابًّا كثياب الأم وقرع الباب. وهكذا فعل الحكام الأقدمون للشعوب التي ظفِرَت باستقلالها. وكيف يتم لهم استقلال والعلم ليس علمهم، والصناعة ليست صناعتهم؟ فهم — إذن — ما يزالون أتباعًا في صورةٍ جديدة، ما ينالون من العلم وثمراته إلا ما يتصدَّق به عليهم حكَّامُهم الأقدمون أنفسهم!
ولكَ أن تُضيفَ إلى ذلك كله، أنه إذا كان المستعمر الخارجي قد حمل عصاه على كتفه ورحل، فقد حلَّ محله — تقريبًا — مستعمرٌ داخليٌّ يحمل القوة المغناطيسية التي تجذب كنوز البلد إلى خزائنه بقدرة قادر، ويبقى جمهور الشعب على حاله يعمل ليملأ خزائن آخرين، وكأن لسان حاله يقول لهؤلاء الآخرين من مواطنيهم — بعد أن كانوا من الغرباء — ما قاله شاعر عربي قديم: «إذا كنتُ مأكولًا فكن أنت آكلي!»
هذه الارتجاجاتُ كلها قد زعزعَت هياكل الحياة الثابتة التي كانت، تمهيدًا لوضع ثابتٍ جديد يأتي، ولكنه لم يتكامل بناؤه بعدُ، فأدى ذلك إلى قلقٍ في حياة الناس أصولًا وفروعًا، لا يكاد يُتاح لأحد منهم أن يعلم في يقين أو ما يقرب من اليقين، ماذا يكون مصيره ومصير بيته غدًا أو بعد غدٍ؟ ولقد رأيتُ شبابنا قد انحرف عن جادة الطريق بصورةٍ ملحوظة، بحيث أصبح كثيرون منهم — برغم شبابهم — ينبشون الماضي ليجدوا فيه ركنًا آمنًا يعتصمون به، وبحيث إذا وجدوا كتابًا لكاتبٍ قديم، وقدَّم إليهم كاتبٌ من معاصريهم ومواطنيهم كتابًا ينقض ما قاله المؤلف القديم، ففي حالةٍ واحدة — ربما — من كل مائة حالة يتجه شبابنا بثقته إلى من يعاصره من مواطنيه؛ لأن القديم عنده أصدقُ رأيًا، وأكثر إيمانًا، وأشد إخلاصًا، فكيف نتوقع لشبابٍ وقف مثل هذه الوقفة الرافضة أن يهمَّ ببناء حاضرنا، فضلًا عن أن يُمهِّد لمستقبلٍ مأمول؟!
الحياة التي يحياها أبناء هذا العصر مضطربةٌ قلقة؛ لأنه عصر جاء — كما قلت — همزة وصل بين حضارتَين؛ حضارة كانت وأخرى سوف تكون، وكأنما عصرنا ليس مقصودًا لذاته بقَدْر ما هو نهايات لماضٍ مضى وآتٍ في طريقه إلى الظهور، وداخل هذا القلق العصري العام، يُضيف العالم العربي قلقًا خاصًّا به، فقد زُرع شيء في أرضه اسمه إسرائيل، فاستُقطِب جزء كبير من حيوية الجسم العربي لتنصرف إلى الدخيل المشتول في أرضٍ غير أرضه، حتى أصبحنا أمام مصيرٍ مجهول. ولم نجد من المأزق مخرجًا أيسر من أن تتجه أعضاء الجسم العربي ليعترك بعضها مع بعض، بل وليقتُل بعضها بعضًا، فالكبد يقتُل القلبَ ويريد مع ذلك أن يعيش، أو القلب يقاوم الرئتَين ويحسب أنه سيبقى بعد ذلك مع الأحياء. وكانت المحصِّلة الأخيرة لهذا الاضطراب العام والخاص، أن وجدنا أنفسنا أمام ازدواجيةٍ خُلقية منقطعة النظير، تضطَرنا المؤثِّرات الخارجية والغرائز والعواطف الداخلية معًا إلى ممارسة الحياة على نحوٍ يُحقِّق لنا النجاح أو ما يبدو وكأنه نجاحٌ، ولكننا في الوقت نفسه ننظر إلى موقعنا من التاريخ، فنرى أن الشُّقَّة قد اتسعَت بين ما نحياه بالفعل من جهة، وما كان ينبغي لنا أن نحياه من جهةٍ أخرى، فنلجأ إلى الازدواجية التي أشرتُ إليها، وهي أن أَظهر أمام الناس وكأنني على ميراثي الثقافي القيمي الذي به كنتُ ما كنتُه على امتداد التاريخ، وأما وراء الأستار وخلف الجدران، فحياتي هي حياتي التي أُساير بها الأيام في تقلباتها.
فارقٌ بعيد بين المظهر والحقيقة في حياتنا، بين الظاهر والباطن، بين المعلَن والمستور، أدَّى بنا إلى نرجسية من نوعٍ عجيب، ننظر إلى صورة وجوهنا منعكسة على سطح الماء — كما حدث في أسطورة النرجسية — فنقع في حبها حبًّا أين منه حب قيس وليلى، فنشيد بأنفسنا لأنفسنا، ونكون نحن المتكلم ونحن السامع، ونكتُب في غرامنا بأنفسنا قصائد الغزل لنقرأ نحن ما كتبناه، وكأن كاتمًا للصوت يحول دون أن يبلُغ صوت القراءة إلى آذان الآخرين. وإذا قلنا إنه قد أصبح لنا من أجل هذا رأي في أنفسنا وللدنيا رأيٌ آخر، لهان الأمر؛ لأنه لا يَضِيرنا أن تذهَب الظنون بهؤلاء الغرباء كما ذهبَت. لكن موضع العجَب هو أننا نحن أنفسنا إذ نقرأ قصائد الغزل التي نظَمْناها في حُب أنفسنا، نرفع صوتَ القراءة لعلَّنا نُصدِّق أنفسنا. ومع كل هذا الجهد يبقى شيءٌ في نفس يعقوب لا يُريد أن يُصدِّق ما يسمعه!
حياةٌ قلقة هي التي يحياها العصر كله، ثم يضيف كل بلدٍ إلى دواعي القلق العام المشترك، عواملَ إقليميةً خاصة تَزيد حياته قلقًا يُدبر له هذا الجانب الحيوي المفقود، ووجدناه أميًّا لم يظفَر بحقه من التعليم، فقلنا إنه لا بد للتعليم منذ الآن أن يكون حقًّا للجميع يشبه حقهم في الماء والهواء … إلى آخر ما كان الجمهور قد حُرم منه وأردنا له أن ينعم بحقِّه فيه؛ لأن «العدل» الاجتماعي يُوجب علينا ذلك، لكننا من ناحيةٍ أخرى وجدنا أن الناتج الاقتصادي كله لا يكفي لسد هذه الحاجة، فما بالك وشرطُ الاقتصاد الناجح هو أن يُخصِّص جزءًا من الناتج ليُضاف إلى تمويل عملية الإنتاج، لنضمن زيادةَ ما نُنتِجه زيادةً تتناسب مع زيادة السكان من جهة، وتُحقِّق ظروفًا أنسب للتنمية الاقتصادية بنسبةٍ معقولة. وهكذا أوجَبَ علينا تحقيق «العدل» الاجتماعي، وما لا تُساعِد عليه الكفاية الإنتاجية؛ فوقعَت حياتُنا في تناقُضٍ لا أدري كيف السبيل إلى الخلاص منه. وليست هذه المشكلة خاصةً بنا، بل ولا هي خاصة بالعالم الثالث؛ إذ رأينا بلادًا في العالم الأول تستبدُّ بها نقابات العمال؛ بحيث تُطالِب بأجور وبأوقات فراغ، لا تتناسب مع الإنتاج. ومعنى ذلك قريبٌ جدًّا من معنى الانتحار؛ ومن هنا نشأت مقولة «المعادلة» الصعبة التي أُريد بها في الأساس وجوب إيجاد النقطة التي يتحقَّق بها أكبرُ قَدْر من العدل الاجتماعي مع أكبر قَدْر من التنمية الاقتصادية، بمعنى أن يُحوَّل جزءٌ من ناتج هذا العام ليُضاف إلى تمويل النشاط الإنتاجي في العام الذي يليه. و«الصعوبة» المشار إليها في هذا التعادُل، ناشئةٌ من أن تحقيق العدل الاجتماعي تحقيقًا جزئيًّا، كافٍ وحده لابتلاع الناتج كله ويطلُب المزيد، فكأننا نُطالِب بشيء كالمستحيل، حين على قلق، فقد ضاع الشعور بالأمن في كل أرجاء العالم. ومع ضياع الأمن قلَّ العفاء على طمأنينة النفس، وحُوصر الفرد من الناس في ظروفٍ علمية وصناعية جديدة، فقد معها فرديته الحقيقية برغم ما تؤكِّد له الحياة السياسية أنه حرٌّ. وأين هي الحرية في حياة تُشكِّلها وسائل الإعلام التي تُعطي المتلقِّي ما تعطيه، دون أن تكون له حيلةٌ في الرد والمناقشة والرفض؟ إنها عملية «غسيل» لمخ المتلقي تُوجِّهه على نحوٍ يتوهَّم معه أنه هو الذي يُوجِّه نفسه، وكأننا أمام صورة كالتي صوَّر بها «اسبينوزا» وَهْم الإنسان حين يظُن أنه حر الإرادة فيما يدع وفيما يختار؛ إذ قال اسبينوزرا في ذلك إن الحجر تلقيه، فيرتفع في الهواء ويقطع شوطه ثم يقع على الأرض عند النقطة التي كان يمكن للعلم أن يحسبها مقدمًا فيُحدِّدها تحديدًا دقيقًا. أما الحجر نفسه فلو أنه مُنِح حياةً كحياتنا لتوهَّم أنه قد قام برحلة في الهواء اختارها لنفسه ورسمها، ووصل إلى مستقره من الأرض وفقًا لخطَّته التي رسمها! وهكذا حياة الفرد في عصرنا وكيف حُوصِرت بأجهزةٍ علمية تتركُه شبه مرغم على الطريق الذي يسير فيه!
وجاءت دول العالم الثالث التي نحن منها، فوضعَتْها الظروف التاريخية في مأزقٍ فوق المآزق التي تُشارك بها الآخرين، خلاصتُه أننا حين تولَّينا شئون أنفسنا — بأنفسنا كسائر البلاد التي اكتسبَت حريتها ممن اغتصبها — وجدنا جمهورنا العريض محرومًا من حقوقه في نواحٍ كثيرة، وكان علينا أن نرُد له شيئًا من تلك الحقوق الضائعة؛ لم يكن ينعم بالحد الأدنى من طعام ومسكن وثياب، فقلنا إنه لا بد أن نُطالِب بعدلٍ اجتماعيٍّ وبتنميةٍ اقتصاديةٍ لا بد منها في وقتٍ واحد.
عندما تستقر أوضاع الحياة على قواعدَ معروفةٍ ومتعارف عليها، وذلك في فتراتٍ تستَتب فيها صور الحياة الحضارية ولو إلى حدٍّ معلوم؛ عندئذٍ تقل المشكلات التي تستعصي على الحل أو بعبارةٍ أخرى تقل الأسئلة التي يبحث لها المسئولون عن جواب فلا يجدونه، وذلك لأن معظم المواقف قد رُسِمَت لها حلولها فسارت الأمور سيرًا أشبه بالسلوك الغريزي في جماعات النمل والنحل. أما والعالم الآن — كما ذكرنا — يجتاز مرحلةً انتقالية بين حضارتَين، فكثيرةٌ جدًّا هي الأسئلة التي تنشأ عن مواقف وأزمات، فلا يجد لها المتخصصون حلولًا يمكن أن يستقر الناس عليها؛ فما قد تبدو عليه الصلاحية اليوم، يغلب أن تتبدَّى نواقصُه غدًا فيتغيَّر، لا عن قصورٍ في العلم أو في دراسة المشكلات، بل إنها هي طبيعةُ الظروف الراهنة تقضي بذلك لسرعة التغيُّر في مجرى الحياة العملية، الشأن في هذا كالشأن في أُسرةٍ أرادت الانتقال من مسكنها إلى مسكنٍ جديد، وأخذَت في نقل أثاثها وأشيائها، فنقلَت منه جزءًا وبقي جزء؛ فلا المسكن القديم بات صالحًا، ولا المسكن الجديد تم إعداده، أو قل إن شأن المرحلة القلقة التي يجتازها العالم الآن، كشأن الغلام في مرحلة المراهقة؛ فلا هو قد اكتمل نضجه شابًّا عرف طريقه فيُعامَل معاملة الرجال، ولا هو في مرحلة الطفولة الصريحة فيُعامَل معاملة الأطفال.
تلك هي حالة العصر الذي كُتب علينا أن نعيش فيه، كُلنا يريد أن تدور عجلة الزمن لتنتقل الدنيا في أمان إلى الوضع الحضاري الجديد، لكننا نختلف في الأسلوب؛ فالشيوخ ومن يشبهونهم في الأناة والتدبُّر، يريدون للنقلة أن تندرج خطوةً خطوة فلا يرتج البناء، وأما الشباب ومن هم في حُكمهم، فيريدون دفع العجلة في سرعة أكبر مما تحتمل، فيلجأ كثيرون منهم إلى العنف والانحراف. إن هذا الكاتب لا يُسيء الظن بهؤلاء الشباب من حيث الرغبة في الإسراع بحركة التغيير، لكنه في الوقت نفسه يرى أنهم يُخطئون الوسيلة الصحيحة؛ لأن التضحية بالأبرياء على هذا النطاق الواسع، بل إن التضحية ببريءٍ واحد تقتُله غَدرًا وأنت تعلم أنه بريءٌ، يستحيل أن يعود على الناس بالخير، وإلا لجاز أن تَغرس بذور العلقم المُر وتتوقَّع أن ينبُت لك منها أطيب الثمار!
قلقةٌ هي الحياة في عصرنا، لكنَّ هنالك فرقًا جوهريًّا بين قلق الراشدين وقلق المراهقين؛ فهنالك من الشعوب من استطاعوا أن يتصوَّروا الهدف في شيء من الوضوح، فعرفوا كيف يسيرون بسفائنهم لتخترق الموج المضطرب ولتنجو من العاصفة، إنهم على كثيرٍ من إدراك ما وراء هذه المرحلة الانتقالية، فيعرفون كيف يُدبِّرون أمورهم لتتجه خطوات سيرهم نحو ما يُرجِّحون له أن يكون هو لُب الحضارة وأساسها في القرن الحادي والعشرين، وربما وجدوا ذلك يسيرًا عليهم لأنهم هم صُنَّاع العلوم في يومنا هذا، وهم الذين يمسكون بزمام السير في شتى نواحي الحياة، من فنون، ونظم؛ ولذلك يسهُل عليهم أن يتصوَّروا على أي صورةٍ يجيء ما سوف يجيء في الحضارة الجديدة. إننا نسمع عن المفاتيح الأساسية التي بدأَت تفتح مغاليق المستقبل المجهول، مثل الكمبيوتر وأشعة الليزر والقوة النووية، فهم الذين يملكون في أيديهم تلك المفاتيح، وهم على شيء من المعرفة الصحيحة كيف يُطوِّرونها فتنكشف صفحة الحياة الجديدة المرتقبة.
فهل يسع هذا الكاتبَ العربي وأمثاله، إلا أن يُدير بصره نحو وطنه وأمته، ليرى صورة الحياة الثقافية القائمة، ليعلم إلى أي حدٍّ نحن على علم بحقائق الطريق الذي يسير فيه التاريخ؟ إننا على أحسن الفروض نُتابع الغرب وهو يقلب صفحات الحياة المتغيرة في عصرنا، وكلما فتح منها صفحةً جديدة، تمكَّن نفرٌ منَّا من المشاركة في قراءتها، وإذا هم هناك قد أوقفوا الحركة عند صفحةٍ بعينها أوقفنا نحن الحركة عندنا، وليس في وسعنا شيء غير ذلك؛ لأنهم يبدءون ونحن التابعون. وخلاصة ذلك أن غدنا نحن مجهول لنا، ومن أين لنا استباقه بمعرفة ونحن في حركة التاريخ الحاضرة لا نسمع صوتَ أقدامها فننتظر لعلَّنا نسمع صداها؟!
وإذا كان قلق الحياة في زماننا قد نشأ أساسًا من فجوة وقعت بين حاضرٍ واقع ومستقبلٍ منتظر الوقوع؛ إذ لو كنا في عصرٍ استقرت فيه قوائم حضارته، لتشابه غدنا ويومنا. إذن فقد كان المأمول من رُوَّاد حياتنا الثقافية أن ينفُذوا بمبدَعاتهم سُحب الحاضر ليُطلِعوا الناس على قبساتٍ من مستقبلٍ محتمل الحدوث، لكن مثل هذا النفاذ بالبصائر خلال الحاضر استطلاعًا للمجهول، كان يتطلب منا أن نكون على بيَّنة بما يحدث في يومنا، من وثباتٍ في ميدان العلم، إلى تياراتٍ خافية في دنيا السياسة والنظم الاجتماعية؛ لأنك لا تستطيع أن تستدلَّ من الواقع إلا إذا كنتَ على علم بهذا الواقع، وأعني العلم الذي ينتُج عن ممارسة ومكابدة، وليس العلم الذي نتناقله خطفًا عن إشاعة يُذيعها زيد فيتلقَّفها عمرو، ولا عمرو عَرفَ سر الأمور ولا زيد كان على علمٍ صحيح به.
فإذا كانت أقطار العالم كله تحيا اليوم حياةً قلقة فرضَتْها طبيعة المرحلة التاريخية التي نجتازها، فإن هنالك فرقًا بين قلقٍ يعرف أصحابه ولو على سبيل الاحتمال كيف السبيل إلى اختراقه وصولًا إلى ما وراءه؛ إذ هو على بعض العلم بذلك الماوراء، وبين قلقٍ آخر يسير أصحابه وكأنهم في جُبٍّ معتمٍ لا يعلمون إلى أين هم سائرون.
وهل تسألني: وماذا تريد منا أن نصنعه؟ إن الذي أريده ولو على سبيل التمني والرجاء، هو أن ينتقل رُوَّاد الثقافة فينا من موقف المتفرج إلى موقف اللاعب.