صورة الإنسان
كان ذلك على وجه التحديد، يومًا في أواخر سنة ١٩٥٠م، عندما جلستُ على مائدة الغداء في فندق بالقاهرة. واستأذن شابٌّ إنجليزي في نحو الثلاثين من عمره، في أن يشاركني بالجلوس إلى المائدة، ثم ما هو إلا أن تبادلنا أطراف الحديث، فعرفتُ أنه أديب يكتب الرواية والمقالة، يُحاضر في الأدب الإنجليزي بجامعة بغداد، وجاء إلى القاهرة ليقضي إجازة عيد الميلاد، وليجمع مادةً يستعين بها في الرواية التي يكتبها، معتزمًا أن يجعل مصر عنصرًا أساسيًّا من عناصرها. ولم تكن جلسة الغداء قد انتهت حين سمعنا من مائدة بجوارنا صوتًا مشحونًا بانفعال المسيطر الآمر، يتوجَّه به نحو عاملٍ يخدم في غرفة الطعام. ولم نَدرِ ما الذي فعله العامل أو قاله، مما استثار في «الزبون» المُتجبِّر المتكبر جبروته وكبرياءه، إلا أن العبارات التي وجَّهها إلى العامل دلَّت على أن ذلك العامل قد استباح لنفسه تقريب المسافة الاجتماعية بينه وبين «الزبون»، فخاطبه بضمير المخاطب المفرد، بدل ضمير الجمع علامة على الاحترام الواجب؛ فربما أشار إلى معطفٍ موضوع على مقعدٍ قريب، سائلًا: أهذا معطفك؟ ومثل هذه الصيغة في الحديث لم تكن تجوزُ بين خفيض ورفيع من درجات الحياة.
بل إنه لم يكن يجوز من الخفيض أن يُخاطبه بلغة الخطاب المباشر بأية صورة جاءت، وإنما الخطاب في هذه الحالة يجب أن يوجَّه إلى حلقةٍ وسطى بين الطرفين كالسعادة، أو الحضرة، أو الجناب، أو أي شيء من هذا القبيل، فكان على العامل أن يسأل قائلًا: هل هذا معطف سعادتكم، أو معطف حضرتكم، أو معطف جنابكم؟ أو ما يؤدِّي هذا المعنى الدال على وجود فاصلٍ يفصل الطرفَين حتى لا تجيء المخاطبةُ نقطة التقاءٍ بين الرفيع والخفيض من أبناء الوطن الواحد.
فلما ذهبت الصرخة وأصداؤها، وهدأَت قاعة الطعام مرةً أخرى إلا من طقطقة الأطباق والملاعق والشكوك والسكاكين، سألني الأديب الإنجليزي: ما الذي حدث بين الرجلَين؟ قلتُ له إن خلاصة ما حدث هو أن العامل تحدَّث إلى الزبون بلغة توحي بأنهما «رجلان». فنظر إليَّ الإنجليزي نظرة الدهشة قائلًا: وكم هما إذن؟ أليسا رجلَين؟ قلت له: نعم، إنما كذلك في دنيا الأبدان، أما في عالم الحساب الاجتماعي، فأحدهما — وهو العامل — صفر، والآخر لستُ أدري كم يساوي لأني لا أعرفه؛ فربما كان بحكم بمنزلته الاجتماعية مساويًا لألف رجلٍ أو ألفَين أو عدة آلاف. وأَحَس الإنجليزي بالطبع نبرة السخرية الحزينة في إجابتي، فصمَت قليلًا وسألني: متى وكيف في رأيك تحدُث ثورة لتغيير هذه الأوضاع؟ فأجبتُه بقولي: أما «متى» فلا علم لي بغيب، وأما «كيف» فلا كيف في الموقف إلا كيفٌ واحد هو أن يقوم الجيش بالثورة نيابة عن الشعب؛ لأن ما سوى الجيش من فئات، فيهم القلق الثائر وليس لديهم أدواتُ التنفيذ؛ فجماعات الطلاب — مثلًا — لا تملك غير الحناجر للهتاف، وجماعات العمال لا تملكُ إلا الإضراب عن العمل، مما يضرُّ أكثر مما ينفع.
وفَرغْنا من الغداء وافترقنا، كلٌّ في سبيله، لكنني لم أنسَ الصرخة المُدوِّية التي صرخ بها ذلك المتجبِّر المتكبِّر في وجه العامل لغيرِ ما سببٍ يجيزه إنصاف. وكان أول ما دار في خاطري تعليقًا على ذلك الذي حدث، عبارة همستُ بها لنفسي قائلًا: نعم إن ذلك العامل صفرٌ اجتماعي يأيها المتجبِّر المتكبِّر، لكنه صفرٌ نفيس. وأعجبَتْني هذه العبارة التي همستُ بها لنفسي، ولم أخلع ملابسي لأرتدي ثياب البيت، إلا بعد أن جلستُ إلى مكتبي وفرغتُ من مقالٍ جعلتُ عنوانه «الصفر النفيس» ودفعت به إلى مجلةٍ للنشر، وهو مثبتٌ في كتابٍ يضُمُّه مع طائفةٍ أخرى من مقالاتٍ كنتُ أكتبها يومئذٍ بأنفاسٍ من لهب. وأذكُر أن كان بين ما قلتُه في ذلك المقال موجهًا حديثي إلى ذلك المتغطرس المجهول، إن ذلك الصفر البشري الذي نراه على نحوِ ما تراه، إنما هو اليوم صفر لأنه يقف على يسار العدد، ومن ذا يُدريك كم يساوي هذا الصفر نفسه عندما يحدُث ما يحدُث فينتقل من يسار العدد إلى يمينه؟ إنه عندئذٍ قد يساوي ألفًا، أو عشر آلاف أو ما مكَّنَته طاقته أن يكون.
ذكرتُ تلك الذكرى للحظةٍ عشتها ذات يومٍ من شهر ديسمبر سنة ١٩٥٠م، ذكرتُها الآن حين هممتُ أن أكتب عن صور الإنسان بصفةٍ عامة ما مُقوِّماتها، وصورة الإنسان العربي بصفةٍ خاصة ماذا حقَّقَت من المثل الأعلى، وماذا فاتَها أن تُحقِّقه في المرحلة الحاضرة من تاريخها؟ إذن فسؤالنا الأول هو عن الصور المثلى، ما هي ليُقاس عليها؟ لقد كان لرجال الفكر في هذا المجال اجتهادات بدأَت لكيلا تنتهي، وعلينا نحن أن نستعرض ونقارن ونختار. وأوَّل صورة مما يستحق الذكر، هي الصورة التي قدَّمها الفيلسوف اليوناني القديم — أفلاطون — إذ كان في سبيله إلى تحديد «العدل» تحديدًا واضحًا، لكي يجعل منه الأساس الذي تُقام عليه الدولة المثلى، واستطردَت لمحاورة حول معنى «العدل» استطرادًا مستفيضًا يستعرض مختلف المعاني التي يمكن أن يفهم «العدل» على أساسها، حتى انتهى به الأمر إلى ضرورة تحليل النفس الإنسانية إلى عناصرها؛ ففي هذه التجزئة ما يُوضِّح الصورة، فوجد هو ومحاوروه من تلاميذه أن النفس مؤلَّفة من عناصر ثلاثة، لكلٍّ منها صفة إذا توافَرتْ، كانت له بمثابة «الفضيلة» الخاصة به. وتلك العناصر الثلاثة هي «العقل» وفضيلته «الحكمة»، و«القلب» وعواطفه وفضيلته «الشجاعة»، و«البطن» وشهواته وفضيلته «العفة»، فإذا اجتمعَت تلك الفضائل الثلاث معًا تحقَّق بذلك العدل؛ أي إن العدل محصلة مجموعة فضائل وليس شيئًا قائمًا بذاته. ونفهم ذلك الرأي فهمًا أوضح، حين ننتقل بالحديث من الفرد البشري الواحد، إلى المجتمع وما يقع فيه من تفاعُل بين أفراده، فها هنا نقول إن المجتمع يُصبح مجتمعًا عادلًا، إذا «تعادلَت» فيه القوى الثلاث؛ فهنالك عالم الحاجات الطبيعية الغريزية، وهنالك العواطف وانفعالاتها، وكلٌّ من هاتَين القوتَين تدفع وتندفع ولا تتزن وتتعادل إلا إذا جاءت قوة العقل فأمسكت لهما الزمام بحكمتها، لتترك لكلٍّ منها حرية الحركة في حدود لا تطغى ولا تُجاوز المعقول. وقد ترك لنا أفلاطون صورةً تُصوِّر ما أراده، عَربَة يجرُّها جوادان يمسك بلجامهما سائقٌ مدرب، أما الجوادان فهما دوافع العاطفة ودفعات الشهوة، وأما السائق فهو العقل يُلجم الجوادَين بحكمة تضبط لهما إيقاع الحركة.
تلك — إذن — هي إحدى الصور، أو قل أحد التصورات التي صُوِّر بها الإنسان، لا لنقف أمامها نتلقَّاها في سلبية وسكون، بل لنستدل منها — إذا قبلناها — ما يترتَّب عليها من حقوق للإنسان ومن واجبات عليه. وظهر الإسلام حين ظهر لتتفرع عنه حركةٌ ثقافية بلغَت أوجها بعد أربعة قرون من ظهوره، وكان بين رجالها عندئذٍ «مسكويه» الذي كتب عن فلسفة «الأخلاق» كتابةً ربما تفرَّد بها دون معاصريه. وكان مما لفت النظر عند كاتب هذه السطور، أن يجد «مسكويه» قد أخذ بالصورة الأفلاطونية المثلَّثة العناصر، وتساءل هذا الكاتب يومئذٍ: ألم يكن الأجدر بمسكويه أن يضيف إلى العناصر الثلاثة عنصرًا رابعًا لتلتئم الصورة مع الثقافة الإسلامية الجديدة، ألا وهو عنصر «الدين»؟ نعم، قد يكون «مسكويه» قد ذكَر بين تفصيلات الحياة الخلقية عددًا من أخلاقيات الإسلام، إلا أن الصورة العامة عنده بقِيَت عَربةً تجرها عواطف وشهوات ويلجمهما سائق العقل بحكمته.
فإذا فرضنا أن «مسكويه» أراد إضافة جانب «الدين» مع احتفاظه بصورة العربة ذات الجوادَين والسائق، فأين يكون موضعه ليأخذ مكانه الصحيح من الحياة الأخلاقية؟ هكذا سأل هذا الكاتب نفسه، فكتب مذكِّراته التي علَّق بها على كتاب «الأخلاق» لمسكويه وأجاب بما معناه، إن الدين يُوضع في مكانه الملائم إذا وُضِع في الإنسان الممسك باللجام ليكون ذلك الإنسان رمزًا يرمز إلى هداية الدين وتخطيط العقل معًا وفي آنٍ واحد. أليس الإنسان السائق لحياته في مسالك الأرض بين سائر الناس ومختلف الكائنات يريد لحياته «عدلًا» أو قل «تعادلًا» واتزانًا يمسك بالعناصر جميعًا لتتعاون كلها، فتصيح وهي متعاونةٌ أقوى مما تكون وهي فُرادى متنازعة؟ فمن أين يأتي الإنسان السائق بالمعايير التي ترسمُ له الحدود الفاصلة بين خطأ وصواب، أو بين حرام وحلال؟ نعم إن الصورة الأفلاطونية قد ذكَرت صفةً واحدة لكلٍّ من العناصر؛ فللعاطفة شجاعة، وللشهوة عفة، وللعقل الممسك بزمامها حكمةٌ يهتدي بها، لكن هذه الصفات ينقصها التحليل والتفصيل، فما هي فروع القيم التي تحكُم العاطفة، وما هي فروعها التي تحكُم الشهوة؟ ها هنا نجد تفصيلات المعايير المطلوبة في «الدين» نزلت على الناس وحيًا لتضع لهم الحدود والمعايير. ولنتذكر أن «العدل» اسم من أسماء الله الحسنى، يتضمَّن معناه إيجاد التوازُن بين أطراف الخلق جميعًا، كما يتضمَّن وجوب التعادل في النفس الإنسانية التي «سوَّاها» سبحانه وتعالى «فألهمها فجورها وتقواها». وإذا نحن أردنا أن نضع ذلك المتغطرس الذي صادفناه متجبرًا متكبرًا في طغيان، في صورة العربة ذات الجوادَين والسائق بعد تعديلها، لرأيناه يحيا حياتَه مع الجوادَين وينقصه الدين والعقل معًا، اللذان بهما تتحقق صورة الإنسان.
إنه إذا كان السائق في صورة العربة التي أسلفناها، يمثل من الإنسان جانبه الراشد المرشد، بما انطوى عليه من «دين» يفصل الضوابط و«عقل» يشرف على خطوات التنفيذ، فمن هذه البداية تتفرع لنا فروعٌ إذا ضممناها بعضها إلى بعض، اقتربنا من صورة الإنسان، كما يُراد للإنسان أن يكون. وأوَّل ما نُلقي عليه الضوء في هذا الصدد هو إننا إذا جعلنا سندنا المزدوج هو الدين والعقل؛ فكأننا قلنا إنه «الإرادة» أولًا و«العلم» الصحيح ثانيًا؛ فبغير إرادة الإنسان تصبح مجموعة المعايير الخلقية التي يفرضها الدين مجرد قائمة من أسماء يحفظها من يحفظها ليكُرَّها اللسان كرًّا كما يكرُّ التلميذ قطعةً من المحفوظات عن غير فهم لمعاني كلماتها، لكنها الإرادة هي التي تنقل تلك المعاير الخلقية من دائرة المحفوظ إلى دائرة السلوك الفعلي مع الناس والأشياء، فإذا كان المعيار — مثلًا — هو أفعل ما أقوله، وأقول ما أفعله، بحيث يتطابق القول مع العمل نقلَتْني الإرادة بهذا المعيار إلى تطبيقه الفعلي بكل ما يحتاج إليه ذلك التطبيق من أمانة وشجاعة لأن التبايُن بين القول والعمل جبن وخيانة؛ فهو جبن لأنه لا يقوى على مواجهة الناس بحقيقة ما استتر، وهو خيانة لأنه يُضلِّل الآخرين.
ذلك هو جانب «الإرادة» المتضمَّن في العقيدة. وأما جانب «العلم» الصحيح بحقائق الأمور فهو ما يؤدي إليه جانب «العقل» من سائق العربة. ولا يمل هذا الكاتب كلما وردَت كلمة «عقل» أن يذكِّر قارئه بمعناها الصحيح، الذي هو نمط إدراكيٌّ تتم به حركةٌ انتقالية من شواهدَ معلومة إلى ما ينتج عنها مما كان مجهولًا؛ أي إن «العقل» حركةٌ استدلالية دائمًا. وما ليس كذلك من أنماط الإدراك الأخرى، فلكل نمطٍ منها اسمه الخاص، فإذا كان عند سائق العربة (الذي هو جانب الرشاد من الإنسان) قد فُرضَت عليه معاييرُ معيَّنة لتطبيقها في سلوكه، وإذا كان لا بد له من «إرادة» تنقلُه من دنيا «المبادئ» الخلقية إلى عالم الأشياء حيث يكون التطبيق العملي، فكيف يُتاح له أن يخطو خطوةً واحدة في عالم الأشياء إلا إذا عرف ما استطاع معرفته عن تلك الأشياء وطبائعها، فهذا قمح، وذلك ماء، وهكذا؟ وكلما كان العلم بحقائق الأشياء صحيحًا، كان الترجيح أقوى بأن الإنسان سيخطو بمعاييره الخُلُقية في دنيا الأشياء خُطواتٍ آمنة من الزلل.
وعلى أساس هذا الشرح لجانبَي الإرادة والعلم الصحيح، تنبثق للإنسان حقوقٌ يجب ألا ينازعه فيها أحد؛ فهي حقوقٌ نابعة له من صميم فطرته التي فطره عليها خالقه سبحانه وتعالى؛ فمن وجوب «الإرادة» في الحياة الإنسانية الكاملة، يتولَّد حق «الحرية»؛ لأن الإرادة جوهرها «اختيار» يكون الإنسان الذي يختار لنفسه هذا الفعل دون ذاك مسئولًا عن اختياره أمام ربه يوم الحساب، ثم يزداد حق الإنسان في الحرية شدةً ورسوخًا، عندما نجد أنه نتيجةٌ تلزم عن جانب «العقل» وما يؤدي إليه من علمٍ بالأشياء علمًا صحيحًا، فإذا قامت بيِّناتٌ معينة أمام «العقل»، فكيف يُحجر عليه في استدلالِ ما يمكن استدلاله من تلك البيِّنات. على أن حق «الحرية» إذ ينبع للإنسان من كونه إنسانًا ذا إرادة تختار، وذا عقلٍ يستدل، لا تحدُّها حدود إلا إذا اصطدَمت بحريات الآخرين. وهنا يجب البحث عن نقطة التوازن، أو التعادل؛ أي النقطة التي تُحقِّق «العدل» بين أعضاء المجتمع الواحد. وهذه الوقفة التي يقفها مجتمعٌ حين يُعادِل بين حريات أعضاءه معادلةً لا تجيء معها حريةٌ مطلقة لزيد على حساب حريةٍ مقيدة لعمرو، إنما هو موقف ما كان لينشأ ما لم يسبقه اعترافٌ ضمنيٌّ بحقٍّ أساسي آخر من حقوق الإنسان ألا وهو حق «المساواة» في الفرص المتاحة برغم تفاوت القدرات.
الحرية، والعدل، والمساواة، وغيرها من حقوق الإنسان التي تقتضيها فطرته ذاتُها، ولا تُرتهَن بمنحةٍ يأذن بها حاكم أو لا يأذن، هي من أهم المقومات التي تُبنى عليها صورة الإنسان. وفي هذه المقومات تختلف العصور، كما تختلف الشعوب داخل العصر الواحد. إلا أن هذه الأسماء التي نطلقها على تلك الحقوق كثيرًا ما تُؤخذ لمسًا بأطراف الأصابع، وكأنه يكفينا أن تكون مذكورةً في معاجم اللغة، أو مخزونةً في الذاكرة ليجري بها اللسان عند الطلب، وليست هي بمثابة خرائطَ ترسم للناس صورةَ الحياة العملية، فجديرٌ بنا — إذن — أن نقف وقفاتٍ قصارًا عند بعضها، نُدقِّق النظر في مضامينها لنرى كيف ينبغي لتلك الأسماء أن تُؤخذ. ولنبدأ بالحرية التي تجري على ألسنتنا وأقلامنا جريان الماء على الجبل، ومع ذلك فإن هذا الكاتب يزعم أن ما قد تسلَّل من معانيها إلى حياتنا العملية هو أقل من القليل. أول تلك المعاني هو أنْ لا حرية لجاهل في الميدان، الذي هو جاهلٌ بحقائقه، ولا يكون الإنسان حرًّا إلا فيما قد عرفه، وتتفاوَت درجات الحرية بتفاوت تلك المعرفة نوعًا ومقدارًا، فإذا أدخلنا في غرفة الآلات الإلكترونية رجلًا لا علم له بشيءٍ منها، لم يكن له وهو فيها حريةٌ بالمعنى الذي يجعله قادرًا على التصرُّف فيما حوله. وإذا نحن وسَّعنا دائرة هذا المثل ليشمل العصر الإلكتروني الذي دخلَتْه الحضارة منذ قريب، كان من حقنا أن نقول — بصفةٍ عامة — إن عددًا كبيرًا من شعوب العالم الثالث مفقودُ الحرية بالنسبة إلى هذا العصر، حتى وإن استورد شيئًا من تلك الأجهزة، ولم يكن لدى أبنائه خبرةٌ تكفي لاستيعابها. وإذا وسَّعنا توسعةً أخرى لمفهوم «الحرية» من هذا الجانب، قلنا إنه لا حرية لم لا يعلم. إننا نقنع عادةً من مفهوم «الحرية» بالمعنى الجزئي الذي نقصد إليه ونحن في مجال السياسة، حيث نطالب بحق الفرد الراشد في انتخاب نوابه، وحق صاحب الرأي في أن يُعبِّر عن رأيه حتى ولو كان مضادًّا لرأي الحاكم والحكومة، وذلك لأن هذا الجانب السياسي من مضمون «الحرية» سَهْل التناول. لكن الحياة أعقد جدًّا من أن تكون كلها سياسة، ومن أن يكون المطلوب هو حق الانتخاب وحق إبداء الرأي حتى ولو كان هذا الرأي لا يؤثِّر في مجرى الأحداث، هذا كله مهمٌ ومطلوب، لكن هنالك أيضًا ما هو مهم ومطلوب، وذلك أن يطمح الإنسان في التحرُّر من قيود الكون وقوانينه ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، فكيف نُزيح عن كواهلنا عوائق المسافات وحرارة الجو وبرودته، وجدب الأرض لقلة الماء، وكمون المواد الضرورية في جوف الأرض؟ كيف نستغل أشعة الشمس وقوة الريح وموج البحر؟ كيف نغوص إلى قاع المحيط تمهيدًا لمعرفته واستجلاب كنوزه؟ كيف نقهر عائق الزمن؛ فأنواع الغذاء يفسدها الزمن، وأنواع المحصول الزراعي مرهونٌ بمواسمه في أوقات معينة، فكيف أتغلَّب على هذه الحوائل، ليكون النبات واللحوم والخضر والفاكهة وغيرها موجودة في كل مكان من العالم، وعلى مدار السنة بأربعة فصولها؟ إنه بالعلم وحده تتحطَّم هذه القيود، ويتحرر الإنسان. وهكذا تتسع آفاق الحرية لمن يعلَم، وقد يتَصدَّق بشيءٍ من ثمرات حريته تلك لمن وقف أمام الطبيعة أصَمَّ وأبكَم وأعمى حتى حُرم الحرية بأعلى معانيها وهو لا يدري.
ذلك — إذن — جانب له خطره في إدراكنا للحرية ومعناها، لكنه يفلت منا فلا نراه. وجانبٌ آخر لعله أعمق أثرًا وأجلٌّ خطرًا في تكوين الرؤية الصحيحة للحرية ومعناها، وهو خاصٌّ بحرية العقل فيما هو يُفكِّر عندما يعترضه ما يستحق التفكير، وشرح ذلك هو أن من ضرورات التفكير العقلي أن يكون هنالك أمامه عتبةٌ يقفز منها إلى ما يمكنه الكشف عنه من الحقائق؛ فالعقل ضرب من الفعالية لا يتحرك من فراغ وإلى فراغ، بل لا بد له من محطة قيامٍ يبدأ منها رحلته، وهي عادةً تُؤخذ من معلوماتٍ سابقة ثبتَت صحتها، فإذا لم يكن ذلك، افترضها المُفكِّر افتراضًا يسوقه على سبيل الاقتراح الذي يمكن أن ينطوي على حل المشكلة التي هو بصدد حلها، إلى هنا ولا اعتراض من أحد على هذا الإجراء المنهجي، المحتوم. وعلى سبيل التوضيح المبسط أفرض أن المشكلة المعروضة على العقل لحلها هي مشكلة التعليم الجامعي وطريقة الارتفاع بمستواه، فهنالك يبحثُ المفكر عن محطة القيام لعقله، فإما يلجأ إلى قراءة عما صنَعَته بلادٌ أخرى في مشكلة كهذه، أو ما قاله مفكرون آخرون — حديثًا وقديمًا — عن مثل هذه المشكلة، ويقتنع بصحة ما صنعه أو ما اقترحه آخرون، فوضَع أقوالهم نقطة بدء له، ليستدل منها ما نحن صانعوه في جامعاتنا بناءً على ذلك، آخذين في اعتبارنا اختلاف ظروفنا عن ظروفهم، وإما ألا يجد المفكر شيئًا يقتنع بصحته مما قاله، أو صنعه الآخرون، فيُقدِّم هو لنفسه فكرة على سبيل الاقتراح، ثم يستخرج من نتائجها ليرى ماذا تكون الخطوات العملية عند التنفيذ.
تلك هي طريقة العقل في سيره إزاء المشكلات التي يجعلها موضعًا لتفكيره، إلا أن هذه الطريقة نفسها كثيرًا جدًّا ما تؤدي بالإنسان إلى موقفٍ عجيب من الجمود الفكري، وذلك حين يظن أن ما قد جعلناه فيما سبق محطةَ قيامٍ في بعض عملياته الفكرية، إنما هو من قبيل الحقائق الثابتة التي لا يجرؤ عقل على التنكُّر له وتغييره، ناسيًا أو متناسيًا أن تلك البدايات المنهجية هي دائمًا مقبولةٌ على سبيل الافتراض، وتبقى ما بقيت نتائجها قادرة على حل المشكلات المراد حلُّها، أما إذا ما تبين ذات يومٍ أنها لم تعُد صالحة لمواقفَ جديدة استحدثَتْها ظروفٌ جديدة، فلا مناص عندئذٍ من أن نستبدلَ فروضًا غيرها يستند إليها العقل في منهج سيره، وفي هذا التغيير تكمن «حرية» من أعظم ضروب الحرية التي لم يظفر بها الإنسان من قبلُ بكل القوة التي ظفر بها في العصر الراهن. ولا عجب إن رأينا العلوم الطبيعية والرياضية والاجتماعية جميعًا، قد غيَّرت أسسها عندما استدارت أواخر القرن التاسع عشر لتدخُل في القرن العشرين؛ فالعلوم الرياضية بيَّنَت أن الفروض التي تُقام عليها، هي فروض يمكن تبديلها بغيرها، بحيث يمكن للأنساق الرياضية أن تتعدَّد بتعدد فروضها. ولم يعُد الأمر كما ظن الأسبقون على طول التاريخ، أن يُنظر إلى فروض البنى الرياضية على أنها في ذاتها حقائقُ كونية ثابتة. وكذلك العلوم الطبيعية ومعها العلوم الاجتماعية، أدركت أنها أمام وجود لا يتصف بالثبات، بل هو في كل ظاهرة من ظواهر وجود دائب التغير؛ ومن ثَمَّ لم يعُد في حدود الممكن إلا أن تُصاغ القوانين العلمية مؤسسة على مبدأٍ إحصائي يعتمد على المتوسطات، فإذا كان العقل قد اكتسب هذه الحرية الجديدة في عصرنا، أعني حرية أن يُغيِّر في المبادئ الأولية التي كانت تُبنى عليها العلوم، ولم تكن قَط عُرضةً للتبديل والتعديل، فماذا نقول في مشكلات الحياة الجارية، إذا ما أردنا أن نتصدَّى لحلها، فهل يُعقل أن نتحرَّج في تغيير المبادئ التي كان يُظن بها الثبات فنُبقيها متورطين في قبولها، لكي تفيدنا في مجال الحلول التي نسعى إلى الوصول إليها؟ انظر إلى أوجهٍ مختلفة من حياتنا العملية، تَجدْنا مقيدين بقيودٍ نظنُّ أنها في قوتها وثباتها أصلب من الحديد، فلا نُغيِّر منها شيئًا، ثم نعاني المر من صعابٍ تترتب عليها؛ فللأحزان عندنا مراسم، وللأفراح مراسم وللزواج مراسم، وللمواسم والأعياد مراسم، وكل هذه المراسم قد أصبحَت كالثوب الذي قصُر وضاق على صاحبه، الذي طالت قامته وضخُم حجمه، وترانا كمن ألقى في الماء رجلًا وأوصاه ألا يبتل بالماء؛ إذ على هذا النحو نتصدى لكثير من مشكلاتنا الاجتماعية نريد إصلاحها مع الحفاظ على مراسم يُفترض لها الثبات، وبهذا نحرم عقولنا من ركنٍ هام من أركان حريتها.
ثم أرادت لنا الأقدار أن يُقذف بين أيدينا بنوعٍ جديد من الأدوات التي كان يمكن لها أن تكون وسائل لمزيد من الحرية، فإذا هي تنقلب لتصبح وسائل لعبودية من نوعٍ جديد، وربما كانت هذه المفارقة شاملة للعالم كله بدرجاتٍ متفاوتة، وأعني بتلك الأدوات وسائل الإعلام الجديدة؛ المذياع، والتلفاز، بصفةٍ خاصة؛ فقد كان يمكن لهما أن يكون وسيلتَين لتربية المواطن بكل درجاته، تربيةً يتسع بها أفقه بالمعرفة، فيكون أقدَر على الحكم الصحيح، وأقرب إلى التسامُح كلما وجد من يُخالفه في الرأي، ووجهة النظر؛ لأن هذا التسامُح نتيجة مباشرة لاتساع المعرفة والمقارنة بين المختلفات وهكذا. لكن خاب الرجاء في كثيرٍ مما رجوناه من هذا الوسائل الإعلامية الجديدة، بسببٍ يأتي قبل غيره من الأسباب، وهو وضع هذه الوسائل تحت سلطة الحكومة، فيبُث فيها صاحب السلطة ما يسيطر به على الجمهور المتلقي. ولا غرابة أن نجد كلما نشبَتْ ثورة في بلد، أو قام انقلابٌ في صورة الحكم، أسرع زعماء الثورة أو الانقلاب إلى الاستيلاء على مراكز الإعلام المسموع والمرئي، وبهذا الاستيلاء يكونون قد حققوا ثلاثة أرباع النجاح؛ لأن الاستيلاء على تلك الوسائل معناه الاستيلاء على عقول المشاهدين أو السامعين. ويزيد الطينَ بِلةً في هذا المضمار، أن أصبحَت تلك الوسائل من أقوى ما يستخدمه المستعمرون من وسائل، ليتملكوا العقل والخيال، فيسهُل اصطياد الفريسة. وكبار المستعمرين هم أنفسهم كبار الأثرياء؛ ولذلك يمكنهم تقوية موجاتهم الإذاعية بما لا يستطيع أن تقاومه الضحية بجهودها الضعيفة المحدودة. وتكون الخلاصة تشويهًا في صورة الإنسان يشلُّ قدراته الناقدة، بالوسائل نفسها التي كان الرجاء أن تؤدِّي بنا إلى صورة أعلى وأفضل. ذلك كله، ولدينا ما يُضاف إليه، يُقال عن حق «الحرية» الذي أسلفنا لك القول بأنه حقٌّ ينبثق مباشرةً من كون الإنسان ذا إرادة شاءها له من خلقه وسوَّاه وعدَّله. لكننا أسلفنا لك كذلك بأن حرية الإنسان مشروطة بحريات الأفراد الأخرين؛ ومن هنا ينشأ لنا حقٌّ آخر يُغيِّره تشوُّه صورة الإنسان، وهو حق «العدل» الذي يُعادِل بين حريات الأفراد حتى لا يطغى أحد على أحد. ولا تحسبن أن مثل تلك المعادلة تتحقَّق للناس بين يوم وليلة؛ فالتاريخ يشهد كم انقضى من قرونٍ كانت الحرية لرجلٍ واحد في المجتمع، هو الملك، أو شيخ القبيلة، أو كائنًا ما كان «الرأس» الذي يتحكم في البدن، ثم تقدَّم الإنسان خطوة لتكون الحرية حقًّا لفئة كبيرة من الشعب، ولا بأس عندها في بقاء فئةٍ أخرى تظل عبيدًا لها. ومرَّت قرون مرةً أخرى قبل أن يطلع على الإنسان فجر يومٍ جديد، تكون فيه الحرية — من الوجهة النظرية — حقًّا للجميع، وأما من الوجهة العملية، فقويٌّ يطغى على ضعيف، ويكون له بذلك الطغيان حريةٌ أكثر مما يبقى منها للضعيف، وها هنا يزداد العبء على من يضطلعون بإقامة العدل.
والحديث لا ينتهي، إذا كان موضوعه «صورة الإنسان» كيف هي، وكيف كان ينبغي لها أن تكون.