الثقافة العربية إلى أين؟
كالسائر نحو هدفه البعيد، أضناه السير، فوقف يتلفَّت وراءه، ليرى كم قطع من الطريق وكم بقي، كهذا السائر المكدود الحائر كنتُ، حين سألني من سألني قائلًا: ماذا تتوقع لمستقبل الثقافة العربية؟ وذلك أني وقفتُ أمام السؤال لأنظر ورائي، كي أتثبَّت قبل أن أجيب، أين نحن الآن؟ وكيف كنا؟ لعلي بذلك أهتدي إلى إجابة مرجَّحة الصواب، عما نتوقَّعه للثقافة العربية في مقبل الأيام، قريبها وبعيدها، لكنني ما كدتُ أحاول استرجاع الذي كان، حتى تساءلتُ: وما الذي تعنيه بالذي كان؟ أهو ما قد مضى من هذا القرن العشرين؟ أم هو ما قبل ذلك، قافلًا بخطاك خطوةً وراء خطوة حتى تبلُغ الأوائل الغامضة، التي بدأ عندها الشيء الذي نُسمِّيه بالثقافة العربية؟
ومع كلمات هذا السؤال، حين ألقيتُه على نفسي، وجدتُ ذاكرتي تنتقل بي عبر مراحل التاريخ في خطفٍ سريع، فلمحتُ على بُعدٍ تشابهًا يلْفتُ النظر، بين قديم وحديث، من حيث تتابع المراحل، مع بُعدٍ بعيد بين الحالتَين، من حيث قوة الصحة وضعف المرض، فأخذَتْني فرحةُ من وجد الطريق الموصل إلى إحابة مقنعةٍ عن سؤال السائل: كيف ترى مستقبل الثقافة العربية؟
فلقد ارتسم أمام مُخيِّلتي خطَّان متوازيان، كان أحدهما مقسمًا سبعة أقسام، وأما الثاني فقد بدأ في مسايرته المتوازية مع الخط الأول، عند المرحلة الثالثة، وكأنه أخذ المرحلتَين أخذ المحاماة الباردة، لا أخذ المكابدة والمعاناة والمعايشة الدافئة. نعم لقد ارتسم ذلك الخطَّان المتوازيان في مُخيِّلتي، فكنتُ كمن ينظر إلى خريطةٍ واضحةٍ المعالم أشد ما يكون الوضوح، خريطة تُصوِّر مسار الثقافة العربية قديمًا وحديثًا، تصويرًا يكاد ينطق لي بالإجابة عن السؤال المذكور: ماذا ترى في مستقبل الثقافة العربية؟
كان الخط الأول من الخطَّين المتوازيَين، هو خط القديم الذي جعلتُه يبدأ من القرن الأول الهجري، ويمتدُّ إلى القرن العاشر الهجري (من السابع الميلادي إلى السادس عشر) فكان أول قسمٍ من أقسامه خلال القرن الأول الهجري، بمثابة عين «الموضوع»، الذي سيُصبح المدار الرئيسي لما يُسمَّى بعد ذلك باسم «الثقافة العربية»، وبهذا كان القسم الأول من خط السير، أقرب إلى أن يكون «حياة» تنبض، منه إلى أن يكون تنظيرًا بالفكرة، وصياغةٍ للمبادئ والقوانين والقواعد؛ ومن ثَمَّ كان الأجمل بنا أن ننظر إلى تلك المرحلة الأولى من مراحل السير، نظرتَنا إلى أساس البناء، الذي لا يُعد طابقًا من طوابق ذلك البناء، ومع ذلك فهو الشرط المسبق، الذي بغيره لا يكون بناء ولا تكون طوابق.
والقسم الثاني من الخط الأول، هو القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي) ومعه جاء التفكير والتنظير، فكأنما قال العربي المسلم لنفسه: إن موضوعي هو كتاب الله وسنة رسوله، فلا بد لي من العلم بهما علمًا يوثق به، ولكن كيف لي أن أبلُغ ذلك العلم الثابت، قبل أن أكون على درايةٍ تامة باللغة العربية، وهي لغة الكتاب الكريم والحديث الشريف؟ فلأن تكون لغة بعينها هي اللغة التي نتحدَّث بها ونكتُبها وننظمها شعرًا وأدبًا، فهذا شيء، وإما أن تكون على «علمٍ» بتلك اللغة (وأرجو أن تقف لحظة عند كلمة «علم»)، فذلك شيءٌ آخر. وإذن فنجمع أدوات البحث العلمي، بكل ما يقتضيه من جمع المادة اللغوية نفسها، في مفرداتها، وفي تراكيبها، وفي قواعد نحوها وصرفها، وفي جمع الشواهد التي نستند إليها في كلِّ ما ينتهي بنا البحث العلمي إليه من مبادئ وقوانين وقواعد؛ فذلك كله شرطٌ أساسي لمن يريد أن يفهم حق الفهم كتاب الله وسنة رسوله؛ ومن هنا قامت علوم اللغة قيامًا كان وحده كفيلًا بأن يرفع الثقافة العربية إلى أعلى عليين، وهي بعدُ في أوَّل خطوة على الطريق، ومع علم اللغة جاءت علوم الفقه بأحكام الدين، فما دامت اللغة العربية قد أسلَمَت مفاتيحها إلى علمائها، فقد كان أول ما استخدَمتْ فيه تلك المفاتيح هو أن يستخلص الفقهاء أحكام الشريعة.
فلماء جاء القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) كان ذلك هو القسم الثالث على خط السير في الثقافة العربية؛ فها هنا كان العربي المسلم قد رسخَت قدماه في بيته — لغةً ودينًا — ففتح نوافذ البيت، ليُرسل منها بصره إلى حيث يستطيع ذلك البصر أن يمتد. ولقد استطاع أن يمتدَّ إلى كل ما كانت الدنيا قد عَرفَته من قبلُ، وأخذ العربي ينقل إلى بيته كل ما استطابه من علوم الأوائل ومعارفهم. وقد ينفعنا في هذا الموضع من حديثنا، أن نُميِّز بين نوعَين مختلفَين في ذلك المنقول، وذلك لأن أحد النوعَين سيكون عند العرب مادةً ثقافية للصفوة دون الجمهور العريض، وأما النوع الثاني وحده فهو الذي سيتسع مداه ما اتسعَت دائرة الجمهور، وأعني بأوَّل النوعَين ما تُرجم عن اليونان من فلسفة وعلم، كما أعني بالنوع الثاني شيئًا أقرب إلى ما نُسمِّيه اليوم بلغة عصرنا «علومًا إنسانية» إذ كان قوامه تصوفًا وأدبًا وفنًّا، نُقل عن الهند وفارس ومصر.
فلما جاء القرن الرابع الهجري، وامتداده في القرن الخامس، كنا من خط السير الثقافي عند قسمه الرابع، وفيه انصهَرتْ كل المواد الثقافية السابقة في بوتقةٍ واحدة، وأصبحنا أمام نضجٍ بلَغَت به الثقافة العربية ذروتها؛ ففيها من الفلاسفة الفارابي وابن سينا وفيها من الشعراء المتنبي وأبو العلاء، وفيها من المفكرين التوحيدي وإخوان الصفا، وفيها من نقاد الأدب عبد القادر الجرجاني، وفيها مما لا يتسع المقام الضيق لذكر شيء فيه. وحسبنا — فيما له صلة بموضوع حديثنا هذا — أن نعلم أن تلك المرحلة من مراحل السيرة الثقافية، كانت مرحلة النضج.
وماذا بعد أن نضجت الثمرة، وبلغت كمالها؟ كانت الخطوة التالية — وهي القسم الخامس في خط السير — هي مرحلة راجع فيها المثقَّف العربي نفسه، وكأنه وقف ليتساءل: تُرى هل بعُدَت بي الشقة عن جادَّة الطريق؟ تُرى هل ذهبَت بي الروافد الثقافية الوافدة إليَّ من خارج الحدود، إلى أبعدَ مما كان ينبغي لي أن أبعُد به عن خَطِّي الأصيل؟ ثم ما هو أضل سبيلًا: هل تكون الفلسفة التي أخذتُها عن اليونان، وعن أرسطو على وجه التحديد، كما تمثَّلَت تلك الفلسفة في ابن سينا، هل تكون تلك الفلسفة حاويةً لما يتناقض مع دين الإسلام؟ أسئلة كهذه تشكَّك بها المتشككون في قيمة ما جاء به الناقلون من خارج الحدود، وكان فارس هذه الحركة، هو الإمام أبو حامد الغزالي، في القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي) في كتابه «تهافت الفلاسفة».
ولم تكن حركة الرفض لتمضي دون أن يتصدَّى لها من يردها، فما مضت بعد حركة الغزالي الرافضة بضع عشرات من سنين، لم تبلغ أن يكتمل بها قرنٌ من زمان، حتى أجاب المغرب العربي في الأندلس — متمثلًا في الفيلسوف ابن رشد — على المشرق العربي في محاولات رفضه للعناصر الدخيلة في الثقافة العربية. وكان العنوان الذي اختاره ابن رشد لكتابه الذي رد فيه على ثورة الغزالي، واضح الدلالة؛ إذ أسمى كتابه «تهافت التهافت»؛ أي إن ما هو متهافت بتناقُضاته، ليس فلسفة أرسطو كما مثلها ابن سينا، بل هو ما جاء به الغزالي في كتابه «تهافُت الفلاسفة». ولم أدَعْ هذه الفرصة تفلت من يدي قبل أن أشد انتباه القارئ إلى نقطتَين هامتين لنا الآن؛ أولاهما ذلك التجاوب الحي في حياة الثقافة العربية حينئذٍ؛ فمفكرٌ عربي في هذا الطرف من الأمة العربية، يردُّ على مفكِّر عربيٍّ في ذلك الطرف من الأمة العربية. وبمثل هذا التجاوب والتجاذُب والمحاورة واللقاء، كانت هنالك «ثقافةٌ عربية» يتدفَّق ماؤها في نهرٍ قوي التيار، موصول الاتجاه، فقارن ذلك بما نحن فيه اليوم من تجرُّؤ وتفكُّك في حياتنا الفكرية والأدبية وغير ذلك من جوانب، حتى لكأنَّ كل واحدٍ منَّا جزيرةٌ قائمة وحدها في محيطٍ واسع، فإذا صرخ صرخاتِه كان سعيد الحظ لو سمع صداها مرتدًّا من سفوح الجبال، وأما زملاؤه البشر، فقد سدَّ كل منهم إحدى أذنَيه بالطين، وسد الأخرى بالعجين، فلا يسمع حتى صرخات نفسه إذا صرخ؛ ولذلك جاز سؤال السائلين: أحقًّا هنالك ما يصحُّ تسميته بالأمة العربية من ناحية الفكر والأدب وغيرهما من عناصر الحياة الثقافية، تلك واحدة. وأما الأخرى فهي أن من رفض ثقافات الغرباء ومن تقبَّلها كان كلاهما يصدُر في رفضه أو في قبوله عن بحر من العلم بتلك الثقافات التي يرفضها أو يقبلها؛ فالغزالي حين قدَّم رفضه للفلسفة الأرسطية، قدَّمه على علمٍ تفصيلي كامل بما يرفضه، وكذلك قل في ابن رشد حين أجاب، فقارن هذا بما نحن فيه اليوم؛ إذ يجرؤ الرافض والعامل معًا، على رفض ما لا يعرف عنه شيئًا، أو قبول ما لا يعرف عنه شيئًا؛ لأننا قد أصبحنا في شغل عن تحصيل المعرفة، والذي يشغلنا هو لا شيء!
ونعود إلى ما لنا فيه، فلقد سرنا مع الثقافة العربية في عهدها القديم ورأيناها بعد انطلاقها من الإيمان بالدين الجديد، تدخُل مرحلة التعبئة العلمية استعدادًا لفهم ذلك الدين فهمًا صحيحًا، ثم انتقلَت — بعد أن اطمأنَّت منها النفس — إلى الأخذ عن الجيران ما كانوا يملكونه من ثقافات، وبعدئذٍ مزجوا الأصيل بالوافد فحصَلوا بذلك على ثمرة ناضجةٍ من إبداعهم. وهنا فزع الفازعون من أن يكون العربي قد ضلَّ السبيل في ثقافته، لكن سرعان ما نهض من استطاع أن يُعيد الطمأنينة إلى النفوس. ونُضيف الآن إلى هذه المراحل الست التي ذكرناها، مرحلةً سابعة هي صحوةٌ أخيرة جاءت بعد ذلك الأخذ والرد. ويكفي أن نذكُر عملاقًا كابن خلدون ممثلًا لتلك الصحوة الأخيرة، التي بها خُتِم عهدٌ قويٌّ مبدع شديد الوعي بذاته وبما يحيط به.
فماذا بعد ذلك؟
كنَّا عندئذٍ قد قطَعنا من شوط الثقافة العربية — بعد ظهور الإسلام — تسعةَ قرون، وكانت قد بقِيَت، بدءًا من لحظة التوهُّج الأخيرة إلى وقتنا هذا، نحو خمسة قرون. وإني لأزعُم أن ثقافتنا العربية — خلال تلك القرون الخمسة — قد جاءت على نمطٍ شديد الشبه في تعاقُب مراحله، بالنمط الذي سارت عليه القرون العشرة الأولى، بفارقٍ هام بين الحالتَين؛ ففي القديم كان السائد هو صحة الأقوياء، وفي الحديث بات السائد هو مرض الضعفاء، في القديم كان الأخذ عن الآخرين، أخذًا يشبه التغذِّي بالغذاء الذي يزيد الدماء الفتية الشابة فتوةً وشبابًا، وفي الحديث أصبح الأخذ عن الآخرين أخذًا يُشبِه حقن الكسيح بأمصالٍ لعله يستقيم على قدمَيه.
فالقرون الثلاثة الأولى من الحقبة الحديثة، وأعني: الفترة الممتدة بين أوائل العاشر الهجري والثالث عشر (وهي المقابلة لما بين أوائل السادس عشر وأوائل التاسع عشر بالتاريخ الميلادي) يمكن النظر إليها على أنها مرحلةٌ قامت بالدور الذي قام به القرن الثاني الهجري، وذلك من حيث هي فترةٌ حاول فيها العربي المسلم أن يتمكَّن بالدراسة من أصول لغته وأصول عقيدته، على ألا ننسى الفرق بين الحالتَين، فشتَّان بين عالمٍ يُنتج العلم إنتاجًا مما يشبه العدم، وتلميذٍ يتناول بالدرس والحفظ والشرح ذلك الإنتاج، فإذا كان القرن الثاني الهجري قد شَهِد علماء اللغة يُنشِئون لأول مرة شيئًا اسمه علوم اللغة، وشَهِد فقهاء الدين يُنتِجون لأول مرة شيئًا اسمه علوم الدين، فقد جاءَت فترة القرون الثلاثة الأولى من تاريخنا الحديث، لتتعلَّم علم هؤلاء، وتُحاول استيعابَه وفهمه وتطبيقَه ما كانت لتطبيقه وسيلة.
على أننا نودُّ هنا أن نلحظ شيئًا هامًّا في المقارنة بين فترة القديم المبدع وفترة الحديث الحاكي، وهو أن القديم سار شوطه الثقافي «صعودًا» خطوة بعد خطوة، فكانت الخطوة التالية تُضيف جديدًا إلى ما جاءت به الخطوة السابقة، وأما في الحديث، فقد سارت أمورنا خطوطًا تتوازى من أول الطريق إلى آخر الطريق، وكل الاختلاف بعد ذلك هو تفاوت الخط الواحد — قوةً وضعفًا — بحسب الظروف التاريخية الطارئة حينًا بعد حين، فإذا كنا قد جعلنا القرون الثلاثة الأولى في مرحلة الحديث من تاريخنا الثقافي، فلم نقصد بذلك أن طابعها المميز قد انتهى بانتهائها، بل ظل ذلك الطابع قائمًا فينا إلى يوم الناس هذا، وما هو ذلك الطابع المميز؟ هو أن نقف عند حد الحفظ ومحاولة الفهم والشرح والتطبيق لما أبدعه الآباء الأولون.
وجاء القرن الثالث عشر الهجري (التاسع عشر الميلادي) لينقلنا إلى مناخٍ ثقافيٍّ جديد، هو المناخ الذي أصبح فيه للعلم الطبيعي الجديد وجودٌ بيننا، وهو كذلك المناخ الذي أخذ النتاج الفكري في الغرب يتسلَّل إلينا عن طريق الترجمة. إذن فلقد دخلنا فيما يشبه القرن الثالث الهجري، الذي قلنا فيه إنه فتَح النوافذ لتدخُل ثقافاتُ الآخرين إلى الساحة العربية. ومرةً أخرى نُنبِّه حتى لا ننسى الفارق بين «الروح» السائدة في عملية النقل عن الآخرين في الحالة الأولى، والروح التي سادت تلك العملية نفسها في الحالة الثانية؛ فلقد كنا في الحالة الأولى ننقل لنكون سادةً على ما نقلناه، بمعنى ألا ننظر إلى المنقول نظرة الفقير إلى ما يُنعِم به الأغنياء، بل كنا ننظر إليه نظرةَ القوي يُضيف باختياره قوةً إلى قوته، وأما في الحالة الثانية فقد أخذنا ننقل عن الآخرين نقل المُعوِز عمَّن عنده القُوت.
وفي هذه الخطوة الثانية — شأنها في ذلك شأن ما كان في الخطوة التي سبقَتْها — جاء الموقف الذي اتخذناه، لا ليزول عند الانتقال بثقافتنا إلى الخطوة الثالثة، بل إنه جاء ليبقى خطًّا ممتدًا مع سائر الخطوط في حياتنا الثقافية إلى يومنا هذا. وإنه لمما يستوقف النظر حقًّا، عند المقابلة بين تاريخنا الثقافي الحديث، وتاريخنا الثقافي القديم، أنه كما حدث في حِقْبة القديم أن أخذ «العرب» من المسلمين يُحيون التراث الأدبي العربي الذي ورثوه عن العصر الجاهلي، اعتزازًا منهم بالثقافة العربية الأصيلة، وبصفةٍ خاصة في الشعر، وذلك في مواجهة «الموالي» — أي جماعة الفرس من المسلمين — الذين أثاروا روح التفاخر بماضيهم الثقافي (وهو ما يُسمَّى في التاريخ ﺑ «الشعوبية»). أقول إنه كما حدَث في الماضي من إحياء للثقافة العربية الأصيلة ردًّا على من كانوا من غير الأرومة العربية يُفاخرون بتراثهم، كذلك حدث هذا الإحياء للتراث العربي القديم، مع بدء حركة الترجمة عن الغرب الحديث، وكان ذلك في مدرسة الألسن، برئاسة الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي، في ثلاثينيات القرن الماضي. وإنما أُريد بإحياء التراث العربي أن يُوازِن ثقافة الغرب المنقولة إلينا بالترجمة.
إذن فهذان خطَّان في حياتنا الثقافية الحديثة، قد أخذا يسيران متوازيَين منذ أوائل القرن الماضي؛ خطٌّ يُحيي التراث للانتفاع به — أو لكي يُقاس فيه — وخطٌّ ثانٍ ينقل علوم الغرب وفكر الغرب. وهما الخطَّان اللذان شطَرا حياتنا التعليمية شطرَين؛ فشطرٌ منهما يقصُر دروسه على ميراثنا من الآباء الأولين، وأما الشطر الثاني فيكاد بدوره يقصُر دروسه على المنقول من علوم الغرب وفكره. على أن بين هذَين الشطرَين نقطة التقاءٍ هي غاية في الأهمية والخطورة، وتلك هي أن الدارس في أيٍّ من الشطرَين ليس عليه إلا أن يحفظ ويفهم ويشرح ويُطبِّق في الميدان الذي درس فيه؛ فدارس منقولات الغرب يحفظها تمامًا كما يحفظ دارس التراث ما يُقدَّم إليه من بقايا تاريخه القديم، فلا فرق بين حفظ هنا وحفظ هناك إلا في مادة المحفوظ، فلا أهل التراث أبدعوا كما أبدع آباؤهم الذين خلَّفوا لهم ما خلفوه، ولا أهل المنقول عن الغرب أبدعوا وأضافوا الجديد كما يفعل من نقلوا عنهم ما نقلوه.
ومع ذلك فقد انتقلَت حياتنا الثقافية الحديثة إلى خطوتها الثالثة التي تُقابل الخطوة المشابهة لها في تاريخ القدماء، وأعني بها خطوة «النضج» الذي تكاملَت به الثمرة بعد مزج الوافد والأصيل في كيانٍ ثقافيٍّ واحد، وهو النضج الذي وصفنا به حياة الأوَّلِين خلال القرن الرابع الهجري مع امتدادٍ له في القرن الخامس (العاشر والحادي عشر بالتاريخ الميلادي). وأما في حياتنا الحديثة فمرحلة النضج الذي نشأ من مزج الثقافتَين؛ الموروثة والمنقولة، فهي على وجه التحديد في عشرينيات هذا القرن مع امتداد في ثلاثينياته؛ فها هنا نجد أعلامًا في شتى الميادين، كان أهم ما يُميِّزهم الجمع الواعي بين الثقافتَين؛ الموروثة والمنقولة، جمعًا أتاح لهم أن تنقدح في أذهانهم وفي وجدانهم — نتيجة لتفاعل الثقافتَين — شرارة الإبداع؛ فلأول مرة في تاريخ الثقافة العربية، ظهرت الرواية (قبل العشرينيات بقليل) وظهرت مسرحية الشعر، ومسرحية النثر، ولأول مرة في تاريخ الثقافة العربية في عصرها الحديث، ظَهرَت الفنون التشكيلية من تصوير ونحت، ولأول مرة سارت حركة النقد في اتجاهها الجديد، ودع عنك تلك الشعلة الملتهبة التي ظهر نورها في عشرينيات القرن وثلاثينياته من صُراخٍ ينادي بحقوق الإنسان في الحرية، وفي العدالة وفي الفردية.
ولكننا نحذر مرةً ثالثة من أن نُسوِّي من حيث المضمون الثقافي، بين مرحلة النضج عند السلف ومرحلة النضج الحديثة التي أشرنا إليها، وإلا فأين فينا من هو أبو العلاء المعري؟ وأين فينا من هو ابن سينا؟ فالتشابه الذي نُشير إليه بين القديم والحديث إنما هو تشابه لا يعدو الشكل الظاهري في تتابُع الحلقات من السلسلة الواحدة.
كنا — إذن — إلى خاتمة الأربعينيات من هذا القرن، فيما جعلناه مرحلة النضج الثقافي، الذي عرف كيف يجمع تراثًا عربيًّا إلى جديدٍ آتٍ من الغرب، وهو الشبيه المقابل لما حدث في القرن الرابع الهجري ممتدًّا إلى القرن الخامس، وهنا بالنسبة إلى تاريخنا الحديث. نشبَت الحرب العالمية الثانية، فخرجنا منها كما خرج العالم بأَسْره، والروح تنتفض فزعًا، وتلتهب رغبةً في أن يتغير مجرى التاريخ. وكان من أهم جوانب التغيُّر المطلوب في شتى الأقطار التي كانت حتى ذلك الحين ترزح تحت نير التسلُّط الغربي بأسمائه المختلفة، من حكمٍ فعلي يسيطر به الاستعمار الغربي على هذا البلد أو ذاك، وإلى احتلال، إلى انتداب، وما شئتَ من أسماءٍ أخرى، تختلف لغةً وتجتمع كلها عند معنًى واحد، وهو أن يكون للغرب الأوروبي والأمريكي سيطرة على سائر أقطار الدنيا إلا قليلًا منها، فكانت الرغبة حاميةً في نفوس الأقطار المغلوبة على أمرها، في أن تتحرر وتستقل وتصبح دولًا ذوات سيادة، وهذا بالفعل ما أخذ يتحقق بسرعةٍ غريبة. وجاء ذلك التحرُّر للشعوب في الوقت نفسه الذي اتجهَت فيه القلوب والأنظار نحو أن ترتبط أمم الأرض في هيئةٍ متحدة، تتولى حل مشكلاتها بطريقٍ غير طريق الحرب؛ ومن ثَمَّ سارت تلك الأمم في ازدواجيةٍ تلفت النظر؛ فكل أمة منها ترسل وفودها إلى هيئة الأمم المتحدة وكأنها متحدةٌ حقًّا، لكن كل أمةٍ منها — في الوقت نفسه — تعمل جهدها على أن تُعلن قوميتها الخاصة المتميزة لغةً، وثقافةً، وثيابًا، وكل شيء؛ فبمقدار ما تجمَّعَت الشعوب، عادت وتفرَّقَت حرصًا من كل شعب على سلامة هويته.
ولم تشذ عن ذلك الاتجاه العام، الأمة العربية بكل شعوبها، فبدأَت موجةٌ ثقافية — أو قل إنها قَوِيَت واشتَد دفعها — وهي الموجة الرافضة لثقافة الغرب، والرافعة لواء ثقافةٍ قومية خالصة، ولكن من أين يبدأ العمل على تنفيذ هذه الرغبة؟ يبدأ بإحياء الدين في قلوب الناس، وفي عقولهم، وفي سلوكهم، وفي اعتزازهم بأنفسهم. ومع الدين يجيء إحياء اللغة العربية كما عرفها الآباء الأولون، وتجيء كذلك تقاليد الماضي، والإشادة بأبطال الماضي، إلى آخر هذا الاتجاه القومي. وبالبداهة تتجمع جماهير الشعوب وراء دعوة كهذه؛ إذ هي — على الأقل — تُساير ما قد ألِفوه وعَرفوه. وهكذا جاءت مرحلة الرفض التي تقابلها قديمًا وقفة الغزالي وابن تيمية ومن ذهب معهما في هذا الاتجاه.
لكننا قد أسلفنا القول بالنسبة إلى مرحلة الرفض في تاريخنا الماضي، بأنه من الطبيعي أن ينهض من يقاومها، وتكون هذه المقاومة عن طريق أضواءٍ تُصَب على الثقافة الأجنبية المرفوضة؛ لبيان وجهة النظر الأخرى، التي ترى الصحة والصواب في تقبُّل الغذاء الفكري من أي صوبٍ جاء. وأخيرًا يصحو من غفل وسها، فتكون يقظةً، وهذا بعينه ما حدث في تاريخنا الحديث؛ إذ ما هي إلا أن ارتفعَت أصواتُ تصحيح الخطأ. على أن ذلك لم يُفلِح حتى اليوم — واليوم هو أواخر الثمانينيات — لم يُفلِح في أن تعتدل كفَّتا الميزان.
ومع ذلك؛ فمن ذا الذي يتعقَّب المسيرة الثقافية العربية، ولا يتوقَّع في رجحانٍ شديد، أن يتحقَّق في مستقبلٍ قريب اعتدال الكفتَّين في إطارٍ ثقافيٍّ موحَّد جديد؟