أين نضع المبادئ؟
تعالوا نبدأ طريقنا معًا من بدايته؟ فقد ردَدْنا في حديثنا السابق حياة الإنسان بكل تعقيداتها وتفصيلاتها، إلى وحداتها البسيطة، على غرارِ ما يُحلِّل الفيزيائي أو الكيميائي قطعةً من مادة ليردَّها إلى عناصرها الأولية، فبغير هذا التحليل لما نريد فهمه يستحيل علينا ذلك الفهم إذا أردناه على الوجه الأكمل، فوجدنا أبسط الوحدات التي تتركَّب من تجمُّعاتها وتركيباتها حياةُ الإنسان كما نراها في أنفسنا وفي سوانا من الناس، مؤلَّفة من ثلاثِ حلقات؛ أولاها حلقة المعرفة التي نُدرِك بها ما نُدرِكه مما يحيط بنا، أو مما نُحسُّه في أنفسنا وهي معرفةٌ نُحصِّلها من المؤثِّرات التي تتلقاها حواسُّنا ضوءًا أو صوتًا أو لمسًا أو ما تصادف أن يكون؟ وثانيتها حلقةٌ قوامها ذلك المحتوى المعقد الذي يكمُن في باطن الإنسان، بعضه فطري كالغرائز والانفعالات وبعضه الآخر مُكتسَب كالعواطف التي تؤسَّس على انفعالات وكالعقائد التي يتلقاها الفرد من مجتمعه وكالأفكار التي تبدأ أفكارًا ثم ترسخُ مع الزمن في نفس حاملها حتى ليَحسبُها جزءًا لا يتجزأ من فطرته. هذه العناصر وأمثالها هي التي تتكوَّن منها الحلقة الثانية وهي التي تتلقَّى ما تنقلُه إليها الحواسُّ من مؤثِّراتٍ جاءتها من مصادرها الخارجية أو الداخلية، تتلقَّاها الحلقة الثانية بكل ما شُحنَت به من مخزونات العواطف والغرائز وما إليها، لتصبغها بصبغتها هي، وتُشكِّلها على الصورة التي تهواها هي. ولمَّا كان المخزون الباطني يختلف في تفصيلاته من فرد إلى فرد، ثم من شعب إلى شعب، كانت المؤثِّرات التي جاءتنا من العالم الخارجي، معرضةً لكل ضروب التشكيل والتلوين التي تضطلع به مكونات النفس؛ فلا يكفي أن يتأثَّر شخصان بمؤثِّرٍ واحد معيَّن لنضمن أن تجيء حياتهما على صورةٍ واحدة؛ لأن ذلك المؤثِّر سيدخل عند كلٍّ منهما في مصنعٍ داخلي مختلف، والله أعلم على أية صورةٍ يخرج ذلك المؤثِّر من المصنع الداخلي عند كلٍّ منهما؛ ومن هنا كانت خطورة هذه الحلقة الثانية — كما أسلفنا في حديثنا السابق — لأنها هي «النفس» التي قد تكون أمَّارةً بالسوء مرة، أو تكون لوَّامةً مرة، أو تنالها رحمة الله فتكون مطمئنَّة مرةً ثالثة، وعلى أساسِ ما يُنتِجه ذلك المصنع الداخلي لصاحبه تجيء الحلقة الثالثة — التي هي السلوك الظاهر — الذي يؤدِّي به سالكه ما يؤدِّيه من عمل — أو من كَفٍّ عن العمل — مما يقع فيما يُشاهِده منه الآخرون.
ولكل حلقةٍ من تلك الحلقات الثلاث ضوابطُها التي تختص بها، فإذا كانت مهمة الحلقة الأولى هي أن تُزوِّد صاحبها بمعرفةٍ يعرفها عن عالمه المحيط به، كي يتصرف على أساس ما يعرفه، فإن ضوابط تلك الحلقة المعرفية تدور كلها حول أن تكون المعرفة التي تنقلُها إلى صاحبها معرفةً صحيحة لئلا يضل الطريق في سلوكه الذي سيُرتِّبه على ما قد عرف، فلا بد للعين أن تكون دقيقة الإبصار، فإن لم تكن استعانَت بالمناظير، فإن لم تُسعفها المناظير لجأ الإنسان في هذه الحالة العاجزة إلى مُبصرٍ يعينه. ولا بد للأذن أن تكون جيدة السمع، وهكذا قل في سائر الحواس. على أن الحواس لو سَلِمَت كلها من العطب، ينبغي أن يكون وراءها إرادةٌ متعمدة من الإنسان المسئول تُلزمه بالأمانة في نقل المعرفة التي تلقَّاها، وبالصبر على المشاقِّ إذا كان طريقه إلى المعرفة عن طريق حواسِّه فيه ما يشُق عليه. وهكذا تقوم بحكم الضرورة ضوابطُ كثيرة مُلزمة للإنسان في الحلقة المعرفية الأولى، ليضمن لمعرفته أكبرَ قدْرٍ من الصواب. ولقد أمكن استقطاب مجموعة القيم الضابطة للمعرفة تحت عنوانٍ واحد، أو قل تحت قيمةٍ واحدة، هي قيمة «الحق».
فإذا انتقلنا إلى الحلقة الثانية، تلك الحلقة المعتمة بضبابها، المحيِّرة بعنادها، المُربكة بخصوبتها وتراثها، المالكة لزمام صاحبها وكأنه مطيةٌ لها، ألجمَتْها لتتحكم في تسييره في أيِّ اتجاهٍ شاءت هي له أن يسير. ومع كل هذه الطبيعة المتمردة العاصية في الحلقة الثانية، فلها ضوابطُها، وإن تكن الضوابط هذه المرة شديدةَ المرونة في معانيها ومقاصدها حتى لكأنها لا ضوابط. لقد كانت ضوابط «الحق» في الحلقة الأُولى مما يمكن تحديده تحديدًا فاصلًا وحاسمًا، وحسبُكَ أن تعلم بأنها هي هي نفسها القواعد التي يتناولها بالبحث «علم المنطق» الذي أمكَنه أن يبلغ دقةً رياضية لا تفلت منها شعرة، في صياغته للقواعد التي تسير عليها الحركة العقلية الاستدلالية لتجيء النتيجة العلمية آخر الأمر يقينًا لا يحتمل الشك، وذلك في العلوم المتقدمة في تطبيق المنهج العلمي وكعلوم الطبيعة، أو تجيء تلك النتيجة على درجة عاليةٍ من احتمال الصدق، وذلك في العلوم الإنسانية التي لم تبلُغ بعدُ دقة العلوم الطبيعية وإن تكن سائرةً على الطريق نحو أن تبلُغ تلك الغاية.
كان ذلك هو شأن المعايير الضابطة في الحلقة المعرفية الأولى، حتى إذا ما انتقلنا إلى المرحلة «الوجدانية» الثانية، التي تتلقَّى المعرفة المحصَّلة لتلجمَها وتتحكَّم في تشكيلها وتلوينها ثم في توجُّهها الوجهة التي نُريدها لها، وجدنا الضوابط هنا — كما قلنا — مرنةً عائمة. ولقد استقطبتُ ضوابط هذه الحلقة تحت اسمٍ واحد، أو تحت «قيمة» كبرى واحدة هي قيمة الجمال، ولا أُنبِّئكَ كم ألفَ مرة تَكرَّر ذكر «الجمال» على لسان هذا الكاتب، منذ عَرفَ في صباه الباكر أن القيم الكبرى، التي تنطوي تحتها جميع القيم الإنسانية هي ثلاث؛ الحق والجمال والخير. ولا بد أن تكون أنتَ كذلك أيها القارئ قد أجريتَ لسانكَ بهذه الأسماء الثلاثة دون أن يستوقفك هذا الاسم الغامض المبهم «جمال» مزعومًا له أنه يجمع في معناه مجموعة الضوابط التي يظن أنها ترسمُ طريقَ السير الصحيح لمكوناتِ الحلقة الثانية التي هي حلقةٌ وسطى بين حلقة «المعرفة» في طرفٍ أول، وحلقة «العمل» في طرَفٍ أخير.
كان هذا الكاتب لعشرات السنين يمر على اسم «الجمال» — من حيث هو اسمٌ على إحدى القيم الثلاث الكبرى — مرور الكرام كما يُقال، لا يُحاسبه ولا يُحاسب نفسه، ولا يُراجعه أو يُراجع نفسه متسائلًا: بأي معنًى يُراد منا أن نفهم «الجمال» على أنه اسمٌ شامل لضوابط مكونات النفس من غرائزَ وعواطفَ وانفعالاتٍ وعقائد وأفكار بُثَّت في مخزون النفس بغير تحديدٍ ولا توضيحٍ إلى آخر هذه الأُسرة العجيبة من عناصر ذلك المخزون الخبيء في صدورنا والذي يريد أن يكون صاحب الحق المطلَق في أن يقول لصاحبه «نعم» و«لا» تجاه ما يُصادفه من مواقفَ تُريد منه أن يتصرف على هذا الوجه أو ذاك، فلفظ «الجمال» معروفٌ وشائع على كل لسان؛ ومن هنا يجيء معظم الخطر في إساءة الفهم حين يُراد لما يُسمَّى ﺑ «الجمال» أن يكون هو الضابط الذي نرجع إليه في ترشيد «النفس» بمُكوِّناتها التي أشرنا إليها؛ فلقد ألِف الناس أن يستخدموا صفة «الجمال» ليصفوا بها غادةً حسناء، أو زهرة أو بستانًا أو شفَق الشمس عند غروبها، فكيف تمكَّن هذا المدار الذي تدور في فلكه تلك الاستعمالات وما يُماثلها، أن يكون هو المقصود حين يُراد ﻟ «الجمال» أن يكون المعيار المرجعي الضابط ﻟ «النفس» وما انطوت عليه من مكوناتٍ ذكرنا لك بعضها؟
وكانت اللحظة التي أوقفَت هذا الكاتب موقف الحذَر إزاء هذه الكلمة ومعناها — وذلك في مجال الفكر الفلسفي أو النقدي وليس في مجال الحياة اليومية العابرة — أقول إن اللحظة التي أوقفَت هذا الكاتب موقف الحذَر في فهم مصطلح «الجمال» هي تلك اللحظة التي كان يُراجع فيها بطاقات الكُتب في مكتبة الجامعة، باحثًا عن كتابٍ بعينه للصوفي المعروف «ابن عربي»، وإذا به يقع بين البطاقات على بطاقةٍ لكتابٍ له عنوانه «الجمال والجلال» فأخذَته الدهشة والفرحة معًا؛ لأن المشتغلين بالفكر الفلسفي لم يعرفوا أن الفكر العربي قد اشتمل فيما اشتمل، على نظريةٍ خاصة ﺑ «الجمال» كالتي نجد أمثلةً لها عند فلاسفة الغرب، وعند المحدَثين منهم بصفةٍ خاصة؛ لأن تنظير «الجمال» لم تكتمل صورته على الوجه الذي أصبح معروفًا عند أصحاب الفكر الفلسفي، إلا على يدَي «بندتو كروتشه» الفيلسوف الإيطالي الحديث الذي ربما عَرفَه الناس من معارضته لموسوليني معارضةً أنزلَت به الأذى، أكثر مما عَرفوه ذا فلسفةٍ خاصة في فكرة «الجمال» أو في غيرها.
لهذا أخذَت هذا الكاتبَ دهشةٌ وفرحةٌ عندما علم أن لابن عربي كتابًا عن «الجمال والجلال». وقبل أن أمضي في الحديث أودُّ للقارئ أن يعرف لمحةً سريعة عن الفرق بين «الجمال» و«الجلال» في المصطلح الفلسفي. وربما كان أقربَ طريقٍ لبيان الفرق أن نسوق أمثلةً فيها المقارنة بين المعنيين، فإذا كان مفهومًا لنا أن نصف بالجمال «غادةً حسناء، وزهرةً وبستانًا»، فإن الذي يُوصف بالجلال «من حيث هو مصطلحٌ فلسفي في هذا المجال» البحر، والصحراء، والجبل، والمبنى الضخم ذو الأعمدة الشامخة وما إلى ذلك؛ فبينما تُثير موضوعات الجمال مشاعر الرقة والتناسُق، فإن ما تثيره موضوعات «الجلال» هو الشعور بالعظمة والقوة واللانهاية.
ونعود إلى ابن عربي في كتابه «الجمال والجلال»؛ فقد استخرجَه هذا الكاتب من خزانته فوجده كتابًا صغيرًا، بحيث يمكن قراءته في بضع ساعات، فانكبَّ عليه ليقرأ، وإذا بالمعنى المقصود عند المؤلِّف هو مما لا يطرأ على بال الباحث في يومنا ﻓ «الجمال» الذي يتحدَّث عنه ابنُ عربي، هو مجموعة الآيات الكريمة التي تُبشِّر المؤمنين برحمة الله وعفوه وغفرانه وحسن ثوابه. و«الجلال» عنده هو مجموعة الآيات الكريمة التي تتوعَّد الكافرين بجهنَّم وسعيرها. على أن ابن عربي يُبيِّن لنا كيف تجيء آياتُ الجمال وآياتُ الجلال في الكتاب الكريم متعاقبتَين فواحدةٌ من هذه تتبعها واحدةٌ من تلك.
وهكذا عاد هذا الكاتب إلى حَيْرته بالنسبة إلى معنى «الجمال» كما يريده المصطلح السائد. وهو مصطلح — كما ذكرنا — يشير إلى الجمال — بين جوانبَ أخرى — من حيث هو قيمةٌ ضابطة للحلقة الوسطى، التي هي مكمن الجانب الوجداني من الإنسان، فبأي معنًى نفهم هذا المصطلح في هذا السياق؟ وعلى أي أساسٍ يتم انضباط الحياة الوجدانية وترشيدها؟ هنا قد يُساعِدنا أن نذكُر استخداماتٍ مختلفة في لغتنا لكلمة «جمال» وما يشتق منها؛ فمن هذه الاستعمالات للكلمة يجوز أن ينبثقَ معناها المقصود حين تجيء اسمًا يُسمَّى «قيمة من القيم الكبرى الثلاث الضابطة لحياة الإنسان الفكرية والعملية على السواء. وهي الحق والجمال والخير.» فنحنُ نُعزِّي من أصابته كارثةٌ بقولنا: صبرًا جميلًا. ونذكُر بين فضائل السلوك «عرفان الجميل»، ونقول إن فلانًا يُجامل فلانًا. ونقول إنه «يجمُل» بنا أن نفعل كذا. ألا يَنبثقُ لنا من هذه الاستعمالات المتباينة معنى «الرحمة» و«العون» وتخفيف العبء عن المكروث؟ وكلها معانٍ تتفق مع اتجاه ابن عربي في تناوله ﻟ «الجمال» في الكُتيِّب الذي أشرنا إليه. وإذا كان هذا هو المقصود، فأظن أن شيئًا من الفهم الصحيح لمعيار الجمال من حيث هو إحدى القيم الكبرى الثلاث؛ إذ يُناط به ترشيد الحياة الوجدانية عند الإنسان إلى طريقٍ مستقيم، فإذا نظرنا على ضوء هذا المعنى إلى مختلف العناصر التي منها يتألَّف مضمون الحلقة الثانية، وهي التي جعلناها مرحلةً وسطى في الحياة الإنسانية بين «المعرفة» من ناحية والإجراء السلوكي لما قد عرفناه من ناحيةٍ أخرى، أقول إننا إذا نظرنا إلى عناصر تلك الحلقة الوسطى ووجدناها تتباين في غرائز، وانفعالات، وعواطف واعتقادات فيما يجب وما يجوز وما يمتنع، وجدنا معنًى مفهومًا في ترشيد هذه المتباينات كلها بضوابط «التسامح» أو «العفو» أو الرحمة أو المواساة أو غير ذلك من الصفات التي تجري مجراها. وإذن فذلك هو معنى «الجمال» حين يكون معيارًا بين معاييرَ ثلاثةٍ أجمع كل ذي شأن على أنها هي الضوابط التي منها وفي إطارها ينشأ الإنسان في أكمل صورةٍ إنسانية ممكنةٍ.
ولعلك تستطيع الآن أن ترى كيف تتفاوت درجة الدقة في تحديد المعنى بين قيمة «الحق» في مجال المعرفة والعلم، وقيمة الجمال في مجال الجانب الوجداني من حياة الإنسان؛ فبينما نجد معايير الصدق العلمي على درجةٍ من الدقة مكَّنَت المشتغلين بالعلوم من الاتفاق على ما هو صحيحٌ مقبول وما هو خطأٌ مرفوض، نرى مثل هذا الاتفاق في المجال الوجداني متعذرًا في كثيرٍ جدًّا من الحالات، فهذا يُحب ما يكرهه ذاك، وما تستريح له النفس عند زيد يكون هو نفسه مصدرَ القلق عند خالد؛ إذ ما دام المعيار الضابط في هذا المجال، هو — كما ذكرنا — الجمال بمعانٍ تدور حول طمأنينة النفس، فهو معيارٌ مبهم الحدود؛ ومن هنا كان الرأي عند هذا الكاتب، هو أن نجعل مثلَنا الأعلى في تربية أبنائنا وبناتنا، أن يقوى الجانب العقلي العلمي المعرفي منهم، وأن يخفتَ صوتُ الوجدان الذي هو قلب الحلقة الثانية في تحليلنا الذي قدَّمناه للحياة الإنسانية.
وبَقِيَت الحلقة الثالثة التي هي مرحلة «التنفيذ» لما قد أدركناه أولًا في الحلقة الأولى، وما شكَّلناه على هوانا ثانيًا في المرحلة الثانية. ومرحلة التنفيذ هذه هي مرحلة السلوك، مرحلة الفعل، مرحلة «الأخلاق»؛ فكلمة «الأخلاق» ينصبُّ معناها مباشرةً على مجال السلوك؛ ولهذا كانت القيمة الكبرى هنا، وأعني المعيار الذي يُقاس إليه نصيب الفعل المعيَّن من الأخلاقية هو «الخير» فكل الفضائل إنما عُدَّت فضائل لكونها مؤدية آخر الأمر إلى ما فيه الخير للإنسان فردًا أو جماعةً، وقد لا يظهر ذلك بصورةٍ سريعة ومباشرة، بل قد لا يجيء هذا الخير لفاعل الفضيلة في حياته الدنيا، فيكون جزاؤه الحسن في الحياة الآخرة.
وهنا في مجال الأخلاق تَرِد «المبادئ» التي جعلناها هدفنا من هذا الحديث؛ لأن فهمها فهمًا صحيحًا ركنٌ أساسي في استقامة الحياة الثقافية كلها وبصفة خاصة حين تتفاعل الثقافاتُ بعضها مع بعض أخذًا وعطاءً؛ لأن أحدًا لا يُجادل في أن مثل هذا التفاعل أمرٌ لا مفر منه، فالناس من ثقافاتٍ مختلفة يلتقون بعضًا ببعض، ولا مناص عندئذٍ من أن يأخذ بعضهم عن بعض، أرادوا ذلك عن عمدٍ وتدبيرٍ أم لم يريدوه، فإذا ما جاءت مرحلة التقويم النظري لرجال الفكر في بلدٍ معين، إذ يحاولون النظر فيما أخذه مواطنوهم عن شعوبٍ أخرى من صور الفكر والأدب والحياة العملية ليَرَوا مقدارَ ما أصابوا فيما أخذوه عن الغرباء ومقدار ما أخطئوا فعندئذٍ يكون مناط الحكم بالقبول أو بالرفض هو المساس ﺑ «مبادئهم» الأخلاقية الأصيلة التي تُعدُّ من أقوى ركائز الشخصية القومية لشعب من الشعوب، فما الذي نعنيه بكلمة «مبادئ»؟ وهل يجوز أو لا يجوز لجماعةٍ من الناس أن تُغيِّر هذا المبدأ أو ذاك من مبادئها الأصيلة، وإذا كان ذلك جائزًا فمتى يجوز؟
إن كلمة «مبدأ» تدلُّ بذاتها على معناها دلالةً واضحةً مباشرةً مستقيمة، لا نلجأ فيها إلى تشبيه أو مجاز؛ فالمبدأ هو النقطة أو الفكرة التي نبدأ منها السير في عملية التفكير، وذلك لأن العملية الفكرية مستحيلةٌ بغير فكرةٍ ما تُوضع افتراضًا على أنها صحيحةٌ، ومن تلك الفكرة المسلَّم بها يستدلُّ العقل ما يستدلُّه من نتائج، وتكون تلك النتائج صحيحةً على أساس الفكرة التي بدأنا منها خطواتنا الاستدلالية. ولقد سبق لهذا الكاتب في مناسباتٍ كثيرة أن حدَّد المعنى المقصود بكلمة «عقل»؛ لأنها كلمةٌ بالغة الأهمية في حياة الفكر، تتردَّد على الألسنة دون أن يكون معناها الدقيق حاضرًا عند من يستخدمها، فكثيرًا ما نقع في خطأ وخلط؛ فللإنسان بحكم طبيعته أكثر من وسيلةٍ إدراكية يدرك بها صحة الأفكار أو بطلانها، وأجدى تلك الوسائل هي وسيلة الإدراك العقلي، وهي الوسيلة الخاصة بالتفكير العلميِّ أيًّا كان الموضوع المطروح للبحث العلمي. إذن فمن المهم أن نعرف ماذا يُميِّز هذا النمط الإدراكي المعيَّن الذي يكون العقل وسيلته. ونُعيد ما ذكرناه في مناسباتٍ كثيرة سابقة وهو أن الفاصل الذي يُميِّز «العقل» عن سائر وسائل الإدراك هو أنه حركةٌ انتقالية من مقدمة إلى نتيجةٍ تترتَّب عليها؛ أي إنه يدرك الحقيقة التي يدركها بطريقٍ غير مباشر؛ إذ لا بد له أن يتخذ وسيطًا يوصِّله إلى الحقيقة المراد الوصول إليها، والوسيط هو المقدمة التي ينتقل منها إلى نتيجتها. لكن قارن هذا الطريق العقلي بالطريق الإيماني في رؤية الحق، تجدِ الفرق واضحًا؛ فبينما يريد العقل وسيطًا يتكئ عليه لينفُذ منه إلى حقيقةٍ ما ترى الإيمان يلمع بالحقيقة لمعًا مباشرًا بلا وسيط من مقدمة أو مقدمات.
فقيام «مبدأ» — إذن — ضروريٌّ للعملية الفكرية أيًّا كانت، فإذا كان المجال مجال علمٍ رياضي، رأيتَ عند بداية الطريق حقائقَ تُؤخذ مأخذ التسليم بغير برهان لا لأنه يستحيل على عالم الرياضة أن يبدأ من سواها، بل لأنه لا بد له من شيء يبدأ منه ليستدل، وبراعة العالم النابغ في علم الرياضة، هو أنه — حين يختار ما يبدأ منه سيره الرياضي — يعرف كيف يختار البداية التي تُنتج نتائجَ نافعةً في دنيا التطبيق. وفي العلوم الطبيعية كذلك لا بد من فكرة أو أفكارٍ تُوضع في البدء على سبيل الاقتراح؛ أي على سبيل افتراض أنها صحيحةٌ، لنستدلَّ منها ما يُمكِن استدلاله من قوانينَ علمية، ثم يكون لسلامة التطبيق على دنيا الواقع الحكم الفصل في قبول ما كنَّا قد وضعناه موضع الاقتراح أو الافتراض. كل ذلك معروفٌ وواضح بالنسبة إلى بدايات السير العقلي وطريقة ذلك السير. حتى إذا ما انتقلنا إلى مجال القيم الأخلاقية، رأينا فجأة أن كلمة «مبدأ» قد تعلَّق بها شيءٌ من التقديس لم يكن لها في مجالات العلوم مع أن الموقف واحد في الحالتَين؛ ففي مجال الأخلاق، إذا أردنا أن نحكُم على فعلٍ ما بالقبول أو بالرفض، ترانا نرتدُّ به إلى قاعدةٍ عامة لنرى إذا كان أو لم يكن مستدلًّا منها؛ فهناك — مثلًا — مبدأٌ عام ينهى عن السرقة، فإذا حدث أن اقترف شخصٌ ما فعل السرقة، حكَمنا على فعلتِه باللاأخلاقية، استنادًا إلى المبدأ العام، فمن أين جاء الفرق بين مبدأٍ يبدأ منه عالم في الرياضة أو في علم طبيعيٍّ، ليستدل منه، ومبدأٍ وضَعَته الأخلاق ليستدل منه ما يجوز فعلُه وما لا يجوز؟ لماذا هو أمرٌ مشروع للعالم في أي مجالٍ علميٍّ أن يتخذ لنفسه نقطة بدءٍ أخرى إذا ثبَت له أن النقطة التي كان بدأ منها أولَ مرةٍ لم تُوصِّله إلى نتائجَ مفيدة في التطبيق ثم نُحرِّم مثل هذا التبديل على مجال الفكر الأخلاقي؟ فقد يحدث بالفعل أن مبدأً خلقيًّا معينًا كان نافعًا في صورةٍ من صور الحياة ولم يعُد ينفع في صورةٍ أخرى استحدثَتها الحياة في ظل حضارةٍ جديدة. ومع ذلك فهنالك عرفٌ عام بين الناس بأن المبدأ الأخلاقي يجب أن يظل مبدأً أخلاقيًّا مهما كانت نتائجه من نفع أو ضرر. ونحن نسأل هنا عن الفرق الذي يُبيح لعالم الرياضة أو عالم الطبيعة أن يُغيِّر مبادئه ولا يُبيح ذلك لعالم الأخلاق. إن الإجابة على هذا السؤال — في رأي هذا الكاتب — ستضع أيديَنا على فارقٍ بعيد المغزى بين الثقافة العربية في جانبٍ من أهم جوانبها وبين ثقافة الغرب في عصره العلمي الصناعي الراهن.
الفارق الجوهري بين «المبدأ» في مجال العلوم والمبدأ في مجال الأخلاق — فيما يرى هذا الكاتب — هو أن المبدأ في الحالة الأولى ليس مطلوبًا لذاته بقدْرِ ما هو مطلوبٌ للنتائج التي تتولَّد عنه؛ أي إنه وسيلة تُوصِّلنا إلى غايةٍ وليس هو نفسه الغاية التي نريد الوصل إليها. كالطبيب وهو يشخِّص مرض المريض، لا يستهدف التشخيص لذاته، وإلا لاكتفَى به وتَركَ مريضه كما وجده، بل هو يقوم بهذا التشخيص ليكون بين يدَيه بمثابة نقطة البدء التي يستنتج منها خطواتِ العلاج المؤدي إلى الغاية المقصودة، والتي هي شفاء المريض من علَّته، وأما المبدأ في عالم الأخلاق فهو إلى جانب كونه نقطةَ بدءٍ فهو كذلك يشير إلى الغاية المراد الوصول إليها، فإذا كان المبدأ — مثلًا — التمسَّك بالحق والصبر على ما يُحيط بذلك التمسُّك من مشاقَّ، فهو أيضًا المنتهى؛ لأن غاية الغايات هنا هي أن ينشأ مجتمعٌ قائم على حقٍّ لا يشوبه باطلٌ.
تلك واحدةٌ مما يفرق بين «المبدأ» في مجال العلوم، والمبدأ في مجال الأخلاق. وأما الثانية فهي أن معظم المبادئ الخلقية جاءت إلى الناس وحيًا من رسالات السماء، وليست من صنع البشر، وأكثر ما يسَع رجالَ الفكرِ أن يصنعوه إزاء تلك المبادئ هو أن يُحلِّلوها استخراجًا لمضامينها، وإذا كانت هنالك طائفةٌ أخرى من مبادئ الأخلاق قد انبثَقَت للإنسان من واقع حياته العملية، كأن نقول — مثلًا — إننا نأخذ بمبدأ مجانية التعليم لجميع المواطنين، وإعمالًا لفكرة المساواة، إذن يكون أمامنا مجموعتان من المبادئ الخلقية؛ مجموعةٌ نزلَت وحيًا، لا يتم الإيمان بالعقيدة الدينية إلا إذا شَمِل الإيمان بها، ومجموعةٌ أخرى نشأَت من واقع الحياة الإنسانية فيُصبح من حق الإنسان أن يُغيِّرها إذا تغيَّرتْ صورة حياته العملية.
ذلك هو الموقف بالنسبة إلى مبادئ الأخلاق — في رأي هذا الكاتب — وهو موقفٌ يُوضِّح لماذا يمتنع على الإنسان أن يغير مبدأً أخلاقيًّا إذا ما كان بين المجموعة الموحى بها في رسالة الدين، حتى لو ظن أنه مبدأٌ لا يُوصِّل الإنسان إلى حياةٍ مزدهرة؛ لأن التبِعة الأخلاقية في هذه الحالة تمتدُّ حتى تجاوز الحياة الدنيا إلى عالم الخلد. لكن مثل هذا الموقف لا يلتئم مع الحياة العلمية الصناعية الراهنة في جميع حالاتها؛ ومن هنا نشأَت عند رجال الفكر في الغرب فكرةٌ أخرى، مؤدَّاها أن نعامل مبادئ الأخلاق بمثل ما نعامل الفروض في مجالات البحث العلمي؛ أي أن يظل المبدأ قائمًا ومعمولًا به طالما هو الوسيلة الناجحة في تحقيق الأهداف المنشودة، أما إذا تبيَّن عن مبدأٍ منها أنه عائق في طريق النجاح استبدَلْنا به سواه مما عساه يُوصِّلنا إلى غاياتنا كما نفعل في مجال البحث العلمي سواء بسواء.
كان السؤال الذي طرحناه في هذا الصدد يسأل لماذا يُباح للباحث العلمي أن يغير فروضه — التي هي بمثابة نقاط البدء في منهج البحث العلمي — إذا ثبت له أنها فروضٌ لا تؤدي إلى النتائج المطلوبة، ولا يُباح مثل ذلك التغيير بالنسبة إلى مبادئ الأخلاق إذا ثبَت أنها مُعوقاتٌ في طريق السير الناجح المثمر؟ ولقد قدَّمنا عن هذا السؤال جوابنا فوضَّحنا الفوارق بين الحالتَين.
فإذا كان هذا الكاتب العربي يبحث في حقيقة موقفه بين الثقافتَين فها هو ذا يُبرز أين يتفق وأين يختلف. لقد أسلفنا في هذا الحديث وفي الحديث الذي سبقه أساسًا علميًّا لحقيقة الحياة الإنسانية، وهو أساس يُبيِّن لنا الوحدات الأولية البسيطة التي تُبنى عليها تلك الحياة وكل وحدةٍ منها مؤلَّفة من ثلاثِ حلقات؛ معرفة بالواقع ومضمون مُختلط العناصر مخبوء في بواطن الإنسان ثم سلوك عملي قائم على تلك المعرفة الأولى بعد أن شكَّلَتها ولوَّنَتها العناصر الباطنية، فأين في هذه الحلقات الثلاث تقع مبادئ الأخلاق؟ الجواب عند أعلام من مفكري الغرب — فيما نتصور — هو أنها تقع في الحلقة المعرفية الواقعية الأولى ولذلك فهي قابلة للتغيير كلما تغيَّرت تلك المعرفة، وأما الجواب عند هذا الكاتب العربي فهو أن تلك المبادئ مجموعتان؛ مجموعة منها جاءت مع الوحي الديني فتكون بهذا جزءًا من العقيدة؛ وبالتالي فموقعها هو الحلقة النفسية الثانية، ومجموعةٌ أخرى ولَّدَتها خبرة الإنسان في حياته العملية، وإذن فمصدرها معرفةٌ بشرية، وبذلك يكون مكانها هو الحلقة المعرفية الأولى، وبهذه النظرة الحذِرة يستطيع صاحبنا العربي أن يجمع بين الثقافتَين في وقفةٍ واحدة فيُغيِّر من هيكلِ حياته ما يمكن أن يتغيَّر لحاقًا بموكب العصر ويصون الثوابت لينجو بحياته من التحلُّل والدمار.