العربي بين حاضره وماضيه
١
تجيء الأيام وتمضي، أعوامًا بعد أعوامٍ، فيتغير من الإنسان ما يتغير، فلا الملامح هي الملامح، ولا القوة هي القوة، ولا الطموح هو الطموح، ولا العاطفة المشبوبة والانفعال المشتعل، هما العاطفة المشبوبة والانفعال المشتعل، ولم تعُد الحواس تفعل اليوم فعلها كما كانت بالأمس؛ فالعين لا تبصر كما كانت تبصر، والأذن لا تسمح كما كانت تسمع، بل واللسان لا يتذوق الطعوم كما كان يتذوق. إلا أن شيئًا ما — برغم ذلك التغيير كله — يبقى ليظل به فلان هو نفسه فلان الذي عَرفَه الناس. ولقد وقعتُ اليوم على شاهدٍ جديد يؤيد هذه الحقيقة، وكان شاهدًا من نوعٍ جديد غير مألوف.
كان ذلك حين هممتُ بالكتابة عن العربي بين حاضره وماضيه، فقذفَت لي الذاكرة فجأة بشبح من أصدائها الخافتة الباهتة؛ إذ وسوسَت لي بشيءٍ كتبتُه سنة ١٩٥٠م، أو ما يقرب جدًّا منها، عن «نشر القديم» فألحَّت عليَّ الرغبة في أن أبحث عن ذلك المقال القديم الذي كُتب منذ أربعين عامًا (نحن الآن سنة ١٩٨٨)؛ لأرى ما فيه، سواءٌ أكان ذا صلة بما أعددتُه في رأسي من أفكار لأتناول في ضوئها حديثي هذا عن حاضر العربي وماضيه. ووجدتُ ضالتي بين مجموعةٍ من أخوات لها، كنتُ جمعتُها معًا في كتابٍ جعلتُ عنوانه «الكوميديا الأرضية». وقرأتُ المقال القديم فإذا بالشعور الغريب يغمرني فيصوِّر لي نفسي في أوائل أربعينياتها، وكأنما شُغلتُ عمَّا كنتُ بصدد البحث عنه؛ لأنصرف إلى شيءٍ آخر، هو المقارنة بين الرجل الواحد في لحظتَين من عمره، تباعَدتَا بما يقرب من نصف القرن، كيف كان يكتب حينئذٍ عن «التراث» ونشره وكيف يكتب عن الموضوع نفسه اليوم؟ وأمعنتُ النظر ما أمعنتُه لعلي أقع على مواضع الشبه بين الحالتَين ومواضع الاختلاف، فكان أول ما لحظتُه هو أن كل ما قد حدث للرجل من تغيير، برغم هذه المدة الطويلة هو أن فتَرتْ قُوَّته مع الشيخوخة وخفتَتْ نبرته وبَردَت حرارته؛ فما كان رجل الأربعين يجرؤ على قوله بلا حذر ولا حَيْطة، هو هو نفسه الذي يريد رجل الثمانين أن يقوله، ولكنه تعلَّم كيف يضبط عبارته ويقيِّدها، حتى لا تندفع في تعميماتٍ لا حق لها في إطلاقها؛ فقد يكون الشيء المعيَّن الذي هو موضوع الحديث «أبيض» اللون، لكن «الأبيض» ليس على درجةٍ واحدة من البياض دائمًا. وأظنُّني قد ذكرتُ للقارئ في مناسبةٍ سابقة، تلك اللوحة الفنية التي رأيتُها في مُتحفٍ للفن الحديث، وهي لفنانٍ له قيمته الكبرى في عالم الفن الحديث، ولم يكن في اللوحة شيءٌ قط إلا مربَّعات من اللون الأبيض، مع درجاتٍ مختلفة حتى لَيرى الرائي عشرات من أطياف اللون، لكلِّ طيفٍ منها ما يُميِّزه عن سائر الأطياف، ومع ذلك فجميعها «أبيض». وهكذا يكون الفرق بين كاتب الأربعين وكاتب الثمانين؛ فالفكرة قد تكون واحدةً في الحالتَين، إلا أن رجل الأربعين كان يُطلقها بلا قيد، وأما رجل الثمانين فقد تعلَّم مع طول الخبرة كيف يُحدِّد المطلق ليُبرز أوجه التبايُن بين جوانبه.
وبعد أن أشبعتُ رغبتي في رؤية نفسي كيف كانت، بدأتُ مع «سلَفي» مناقشةً صامتة فيما أوردتُه في مقاله الغاضب. نعم فلقد خُيِّل إليَّ أنه كتَب ما كتَبه في اختلاجة الغضب مما كان يُنشر عندئذٍ من كتب التراث ويُشير إليها دون أن يسمِّيها، إلا أن الذي هالَه في المقام الأول هو كثرتُها كثرةً أفقدَتْها التوازن في البنيان الثقافي، أو هكذا ظن رجل الأربعين، فهمستُ لنفسي قائلًا: إنني لا أعلم الآن، وقد مرت أربعون عامًا أو ما يزيد عليها، منذ كتبتُ مقالة «نشر القديم» ولم أعُد أذكُر ماذا كانت تلك الكتب القديمة التي أثارت في نفسي يومئذٍ ما أثارت، لكن الذي أذكُره جيدًا هو أنني كنتُ قد عُدتُ منذ قريبٍ من إقامة بالخارج لم تقصُر ولم تطُل، لكنها كانت إقامةً شهدَت من قلاقل الحرب العالمية الثانية ما شاهدت. وحسبنا أن كان ختامها قنبلتَين ذريتَين تُسقِطهما أمريكا على اليابان، إحداهما على مدينة هيروشيما والأخرى على مدينة ناجازاكي. وبتلك الضربة القاضية وضَعَت تلك الحرب الضروس أوزارها — كما يقولون — وماذا يُجدي أمام مئات الألوف من البشر يُفتَك بهم فتكًا في أقل من لمح البصر، ماذا يُجدي أن نقرأ للمقاتل الطيار الذي ألقى بالجحيم من عليائه على الأرض وأهلها، أنه بكى بدمعٍ سخينٍ لمَّا رأى عمود الدخان يَصْعد فيملأ جو السماء. نعم عاد صاحبنا إلى وطنه ليجد حوارًا بين علمائنا في الصحف يختلفون فيما بينهم أهو الأصحُّ في اللغة أن نقول عنها «قنبلة أم أن نقول قنبرة»؟ فلما دار ببصرِه فيما حولَه من كتبٍ تدور بها عجلات المطابع عندئذٍ ألفى كثرتها الغالبة نشرًا للقديم فكتَب ما كتَب.
قرأتُ ما كتَبه رجل الأربعين فتساءلْت: تُرى كم بقي عندك من سلَفك هذا ما يجعلكما إنسانًا واحدًا وكم تغيَّر بينكما بفعل الزمن وما يحمله للأحياء من خبرة تتحدد وتزداد يومًا بعد يوم؟ ها هنا رأيتُ أن أجري حوارًا هادئًا بين الرجلين: ابن الثمانين وسلفه ابن الأربعين، ليتبيَّن من الحوار كم بقي برغم الزمن وكم تغيَّر.
تلك — إذن — نقطةٌ أُولى فيما لحظتُه من عبارتك التي أسلفتَها، أُضيف إليها نقطةً ثانية وأكتفي، وهي عن الصيحة التي أردتَ أن تصيح بها، لتقول للقوم: إننا يا قوم في وادٍ والدنيا الجديدة في وادٍ آخر. وإني لأصيح معك الصيحة نفسها، بعد أن نتفق على أن الدنيا الجديدة هذه أُسقِطَت فيها قنبلتان ذريَّتان على هيروشيما وناجازاكي، فنحن وإن كنا نَودُّ لأنفسنا أن نشارك دنيانا في علومها الجديدة — ذَرية وغير ذَرية — إلا أننا نودُّ كذلك لو أعطَينا دنيانا شيئًا مما عندنا، والذي عندنا هو عقيدة في «التوحيد» لو سَرتْ بكل قُوَّتها في قلوب البشر، لنتج عنها بالضرورة توحُّد للإنسان المعاصر، يشفيه من التمزُّق النفسي الذي جعلَه يرتفع بالعلم إلى ذروةٍ ويهوي في الوقت نفسه إلى هاوية تُعمي بصيرته حتى ليقذفُ بلدانًا بأَسْرها بقنابله التي صنعها بعلمه. إن علوم دنيانا الجديدة قد وُضعَت ثمارها في أيدٍ مجنونةٍ عابثة، فمن ذا يستطيع أن يرد إلى المجنون رشاده وإلى العابث حكمته ليعتدل الميزان؟
«إن كل أنواع العزلة شرٌ على الحياة إذا أرادت أن تكون حياةً خصبة مليئة، إلا إذا كانت عزلةً مؤقتة فيها استعدادٌ لما بعدها. وشر أنواع العزلة جميعًا هي العزلةُ الفكرية عن سائر العالم؛ فليس الفكر طاحونة تدور في الهواء ولا تطحن شيئًا، إنما الفكر يدور في بحوثٍ علمية حول موضوعٍ من الطبيعة أو الكيمياء أو عن نباتٍ وحيوان ونفس واجتماع واقتصاد وتجارة وزراعة وصناعة، وعن حرب وسياسة ونُظم في الحكم وفي التربية والتعليم وغير ذلك. وفي كل هذه الأمور يكتُب المؤلفون من علماء الغرب عشراتِ الكتب تلو عشراتها بل مئات وألوف تلو مئاتها وأُلوفها، فهل نترك هذه الأكداس الفكرية كلها لننطوي على أنفسنا في جُبٍّ مظلمٍ؟ … إلخ.»
هكذا مضى الرجلان؛ رجل الثمانين ورجل الأربعين، في حوارٍ حول ما كتبه ابن الأربعين عن نشر التراث القديم، لكنه حوار جرى هينًا لينًا هادئًا، لما كان بين الرجلَين من صلة القُربى؛ فلم يكن أكبرهما يتجاهل أن رفيقه هو أخوه الأصغر، كلا، ولا كان أصغرهما يستهين بأن مُحاوره قد أضاف إلى علمه وخبرته حصيلةً جمعها خلال أربعين سنةً تفصل بينهما، بل إن رجل الثمانين حين قرأ ما كان قد كتَبه ابن الأربعين، أَحسَّ كأنه يرى شبابه في مرآة فتذكَّر كم توهَّجَت فيه حرارة الشباب طموحًا وقدرةً وجرأةً ووضوح هدف، لكن ذلك كله لم يعُد يشفع له عند أخيه الأكبر تسرعًا في الحكم وبصفةٍ خاصة حين يُقيم ذلك الحكم على تشبيهاتٍ أخَّاذة بجمال فكرتها وصياغتها معًا، لكنها عند منطلق العقل موضع شك في صوابها، ومن ذلك تشبيهان أجراهما الكاتب الأصغر فيما كتبه عن «نشر القديم» وحقًّا لقد أجراهما بدقة في التصوير وبقلمٍ يعرف كيف يصوغ العبارة وبنى عليها أحكامه، فهل أصابت الأحكام؟ فقد زعم في التشبيه الأول أن الكتاب القديم هو عندنا — نحن المحدَثين — أقرب إلى تُحفةٍ نُعنى بها ونرعاها، منه إلى كتابٍ نبحث في صفحاته عمَّا ينفع حياتنا الحاضرة ويُثريها، ثم راح يبني على هذا التصوير ما يبنيه، فيقول ما معناه إن النسبة بينه — أي الكتاب القديم — وبين المؤلَّفات التي تحمل علمًا جديدًا ومشاعرَ جديدة، يجب أن تتوازى مع النسبة بين متحف الآثار — أو متاحفها مهما بلغ عددُها — وبين سائر المباني التي يسكنها الناس، ويتاجرون فيها أو يُعلِّمون فيها أبنائهم. إن هذه الأخيرة إنما أُقيمت ليعيش فيها الناس، وأما المتحف فيُزار للفُرجة أو للعِبرة. وما دام الأمر كذلك بين قديم وجديد وجب أن تكون هذه هي نفسها النسبة التي نُراعيها فيما نُحييه من تُراث الصلب وبالقياس إلى ما ننقله عن المحدَثين أو ما نُؤلِّفه تأليفًا جديدًا.
وأما التشبيه الثاني فقد أقامه بين موقفنا العاطف إزاء كتابٍ قديم ننشره وبين موقفٍ عاطف يوازيه، حين يقع أحدنا في خزائن كُتبه وأوراقه، على كراسةٍ قديمة كان يكتب فيها موضوعات الإنشاء وهو صغير. إنه لا يُمزِّق الكراسة ولا يُلقي بها في سلة المهملات، بل يبتسم لها ابتسامة إشفاقٍ، ويمسحُ عنها الغُبار، ويتخير لها مكانًا ملائمًا في خزائنه، فهل أصاب كاتب الأربعين في التشبيهَين من حيث صلاحيتهما لاستخراج الأحكام على حركة إحيائنا لتراثنا العربي؟ إن أصحاب الفكر المنهجي يعلَمون أن اللجوء إلى التشبيه منزلقٌ خطير للوقوع في الخطأ؛ إذ يندُر جدًّا أن يكون التطابُق كاملًا بين المشبَّه والمشبَّه به؛ ومن ثَمَّ يجيء خطأ النتائج التي نستدلُّها، ولذلك تراهم يُحذِّرون الباحثين من إقامة التفكير العلمي على تشبيهات.
وعلى ذلك فانظر إلى التشبيه الأول عند صاحبنا رجل الأربعين حين جعل الكتاب القديم ننشُره لنحيي جانبًا من تراث السلف، هو أشبه بالتحفة نحنو عليها ونرعاها منه إلى الكتاب نَدرُسُه ونتفع بما فيه، فهل يصدق هذا القول على كتبٍ تحتوي على شيء من علوم اللغة العربية؟ هل يَصدُق على فقه الفقهاء الكبار؟ هل يصدُق على كتب التاريخ وكتب الرحلات؟ ثم هل يصدُق على ديوان الشعر العربي؟ هل يصدُق على كتب المتصوفة الكبار، التي عبَّروا فيها عن حالاتهم الروحية والنفسية في مجاهداتهم الصوفية؟ هل يصدُق على النثر الفني الغني عند أدباء النثر؟ هل يصدُق على بعض الجوانب العلمية الخالصة في هذه الظاهرة الطبيعية أو تلك؟ إذن فليس كل ما نُحييه من تراث السلف هو أقرب إلى آثار المتاحف كما زعم. وشيء كهذا يُقال عن التشبيه بكراسة الإنشاء في سنوات الدراسة الأُولى، يعثر عليها صاحبها إبَّان رجولته أو شيخوخته؛ فليست كُتب اللغة التي خلَّفَها الخليل وسيبويه من قبيل الكراسات القديمة نحنو عليها كما يحنو الوالد على صغاره، وليس شعر أبي العلاء المعري، أو من شئتَ من فحول الشعر العربي من قبيل الكراسات القديمة، لا ولا فقه مالك والشافعي وابن حنبل وأبي حنيفة شبيهًا بالكراسة القديمة. وهكذا قل في ذخائر الماضي، التي كُتبَت لتبقى موضوعًا ومنهجًا.
إنه شيءٌ من الجمال الأدبي في صياغة تشبيهٍ فاسد، أدى بصاحبه إلى خطأٍ في حكمه على قضيةٍ كبرى في حياتنا الثقافية. وإن الروابط الوثيقة والحميمة التي تربط كاتب هذه السطور وهو في ثمانينياته، بذلك الكاتب الأربعيني لتجعله على يقينٍ من صدق النوايا عند سلَفه الأصغر، لكن حسن النوايا لا يُحوِّل الخطأ صوابًا. وسر الوقوع في مثل هذا الخطأ عند صاحبنا وأمثاله — وهم كثيرون — هو الحكم على قضيةٍ كبرى، كقضية التراث العربي وإحيائه، وكأنهم يحكمون على سطرٍ واحد من صفحةٍ واحدة في كتابٍ واحد، وربما كانت وسيلتنا إلى النجاة من الوقوع في مثل هذا الخطأ هي أن ننظر إلى المجموعة الكبرى من زاوية مفرداتها، وعندئذٍ لا يكون سؤالنا إلى ماضينا العربي هو: هل نُحيي ذلك الماضي أو نتركه في مخابئه؟ بل ننصرف بسؤالنا نحو المجموعة كتابًا كتابًا؛ ومن ثمَّ فلا يُترك الحكمُ لفردٍ واحد معين مهما بلَغَت درايته؛ فمن المغالطات العجيبة أن يسود فينا ظنٌّ أن للتراث العربي علماءه الخاصين والمختصين، برغم تنوُّع موادِّه تنوعًا يتناسب مع عدة قرون نشأ خلالها ذلك الجسم الهائل الذي نُسمِّيه بكلمة واحدة هي كلمة «تراث»، كما يتناسب كذلك مع عشرات الألوف من رجال العلم والأدب الذين أنتجوه. ومع هذه الكثرة الهائلة على امتداد ذلك الزمن الطويل يُصوِّر لنا الوهم أن فلانًا أو علَّانًا من الناس عالمٌ بالتراث وله كلمته المسموعة، فيما يُنشَر منه وما لا يُنشَر، مع أن البداهة تقضي بأن يُتركَ الرأي لأصحاب العلم في كل ميدان. على أن يُضاف إلى ذلك وجوب الأولوية لما عساه أن يكون أقرب من سواه في قوة الإيحاء بالنهوض.
إن ضخامة سؤالٍ يطرحه إنسان على نفسه بحثًا له عن جوابٍ غالبًا ما تحدُّ من قدرة ذلك الإنسان على الإجابة عن سؤاله، وربما سهَّل أمامه الصعب لو أنه سلَّط فكره على عنصرٍ فرديٍّ واحد من عناصر المسألة المعروضة؛ فبدل أن يسأل العربي نفسه قائلًا: على أي نحوٍ أجعل الصلة بين حاضر حياتي وماضي الأمة العربية؟ يستطيع أن ينصرف بسؤاله بادئَ ذي بدء إلى حاضره هو وكيف يرتبط بماضيه هو في حدود حياته الفردية، وعندئذٍ قد تلمع أمامه حقيقةٌ كبرى استنادًا إلى حقيقةٍ فردية صغرى. ولقد قدَّمَت لنا المصادفة البحتة في غضون حديثنا هذا أن رجع كاتب هذه السطور وهو في ثمانينيات عمره إلى شيءٍ كتَبه وهو في أوائل الأربعينيات في موضوع العلاقة الثقافية بين حاضر العربي وماضيه، ولم يكن هذا الكاتب يتذكَّر مما كتَبه في لحظة ماضيه شيئًا، اللهم إلا أنه كان قد كتب ذات يومٍ بعيد مقالة عن نشر التراث، ودفعه التطلُّع إلى البحث عن تلك المقالة في مظانِّها، حتى وجدها وقرأها فاستَحسَن فيها ما استَحسَن، واستَقبَح ما استَقبَح، مما دعاه إلى وقفةٍ قصيرة يُناقِش فيها نفسه أين الصواب فيما وقع في الماضي وأين الخطأ ولماذا أخطأ حين أخطأ؟ إذن فقد كانت استعادة لحظةٍ فكرية ماضية من مجرى حياته الفردية مناسبةً أثارت حوارًا داخليًّا، ربما أفاد منه هو في توضيح رؤيته، بل صادفَت كلماتُ حواره هذا قارئًا يتابعه بفكرة قبولًا أو تعديلا أو رفضًا، فيعمل كل ذلك عنده على توضيح رؤيته كذلك، فماذا لو وسَّعنا رقعة هذا المثل الصغير الفردي الواحد، لننتقل بعقولنا إلى أفقٍ أوسع، بأن نجعل الأمة العربية تُحاور ماضيها؟ فكيف يتمُّ لها ذلك إلا — أولًا — بأن يجد القارئ العربي مسألةً تقع في دائرة اهتمامه وقد تعرَّض للرأي فيها كاتبٌ من أبناء الماضي، و— ثانيًا — بألا يحيط القارئ العربي الجديد زميله الماضي بهالة التقديس؛ ومن ثَمَّ ينفتح أمامه مجال الحوار الحر بين عربيٍّ وعربي باعدَ بينهما الزمن، لكن بقِيَت بينهما مسألةٌ مشتركة مما يمسُّ عصبًا حيًّا من الحياة العربية أو الحياة الإنسانية على إطلاقها.
وانظر إلى أمثلة حيَّة في نفرٍ من أعلام الفكر العربي الحديث، تجد هؤلاء الأعلام قد استمدُّوا عظمتهم من مثل هذا اللقاء بين عربيٍّ جديد وعربيٍّ قديم في موضوعٍ مشترك، فكان ما كان من اتفاقٍ في الرأي أو اختلاف، فكم كنا لنفقد من موهبة طه حسين إذا لم يكن قد التقى بالشعراء العرب الأقدَمين كما التقى؟ وكم كنا لنفقد من قدرة مصطفى عبد الرازق إذا لم يكن قد أدار فكره في فلسفة الفلاسفة وفقه الفقهاء من العرب الأقدمين؟ وكم كنا لنفقد من عباس العقاد إذا لم يكن قد عاش مع البطولات العربية في أبطالها كما عاش، وكم كنا لنفقد من مصطفى صادق الرافعي إذا لم يكن قد اتجه بقلبه وبعقله نحو السلف؟ وكم كنا لنفقد في عالم الشعر إذا لم يتمثل أحمد شوقي نماذج الفحول من الشعراء العرب؟ وكم كنا لنفقد من أدب توفيق الحكيم إذا لم تكن عيناه قد التقطتا أهل الكهف وشهرزاد والسلطان الحائر وغيرها من التراث العربي؟ وهكذا تستطيع أن تُراجع أعلام حياتنا الثقافية واحدًا واحدًا لتجد الكثرة الغالبة منهم قد انقدَحَت لهم شرارة الموهبة عندما مسَّت مواهبهم كنوز الأقدمين. وهكذا يكون العربي الموهوب بين حاضره وماضيه.
الإحياء في كل معنًى من معانيه لا بد أن يتضمن بث الحياة فيما لم يعُد حيًّا، وبثُّ الحياة في كل معنًى من معانيه لا يتحقَّق إلا إذا سرى في كائنٍ حيٍّ؛ فعناصر التربة الكامنة في الأرض تمتصُّها جذور الشجرة فتُحييها حين تمتصُّها وتجعلها قابلةً لأن تسري في كيان الشجرة فتتغذَّى بغذائها وتنمو بنمائها وتُثمر بأثمارها. وهكذا أيضًا يكون إحياء الماضي بإحياء مأثوراته، فافرض — مثلًا — أن شاعرًا عربيًّا قديمًا ترك ديوانًا من شعره، لكن ذلك الديوان مرَّت عليه أصابع الإهمال لتُغرِقه في هاوية النسيان، ثم يحدُث أن يقيض الله منَّا باحثًا أديبًا محبًّا للشعر، فيهم بإحيائه فماذا عساه صانع به؟ أيكفي أن يُحقِّقه وأن ينشره على ورقٍ أبيض، فإذا بالديوان بعد بعثه قد رُكِن على رفوف المكتبات؟ إنه لو كان ذلك هو مصيره الجديد فالذي أصابه لا يختلف كثيرًا عما كان مصابًا به قبل بعثه، اللهم إلا أن نكون قد بدَّلناه كفنًا جديدًا بكفنٍ أبلاه الزمن والإهمال، ثم هل يكفي أن تُضاف إلى نشره خطوةٌ فيقرأه قارئ أو قل فيحفظه حافظ عن ظهر قلب، دون أن تعمل تلك القراءة وهذا الحفظ على أن يَهتزَّ بالشعر وجدان قارئه وحافظه. إنه لو كان ذلك هو كل ما حدَث فلا يكون قد حدَث للديوان القديم المنشور سوى أن نزل من رفِّه ليمشي بين الناس على رجلَيه، إنه بكل ذلك لم تعُد إليه حياة، وإنما يُبعث الديوان حيًّا إذا ما تمثَّله قُراؤه تمثُّلًا توحَّدَت به قلوبهم مع قلب الشاعر، فأحسُّوا ما أحسَّه الشاعر ورَأَوا ما رآه وسمعوا ما سمعه، ولو للحظاتٍ خاطفة؛ ففي تلك اللحظات تتوحَّد هُوية العربي الجديد مع هُوية الشاعر القديم، ثم تمضي اللحظات لكنها تترك وراءها أثرًا عند قُرَّاء الديوان قد يكون خافيًا خافتًا أول الأمر، لكنه بعد أن يُضاف إليه على امتداد الأيام أثرٌ وأثرٌ وثالث ورابع تكون خيوط الانتماء العربي قد نَسجَت في النفوس نسجًا قويًّا، وكأنما السلف والخلف قد اجتمعوا معًا على صعيدٍ واحد.
إننا لا نطالب العربي الجديد الذي يتلقَّى نتاج سلفه أن يأخذه شيءٌ من خشوع أو خضوع، يكون من شأنه أن يصغُر أمام سلفه، لا، بل الأرجح أن يجد الخلَف في أعمال سلفه قصورًا إذا قيس بما قد تَراكَم للخلف من خبرة السنين، بل الذي نريده هو أن يتلقَّى العربي الجديد أعمال سلَفه بالحب والنقد معًا، لينشأ في نفسه ما يشبه الحوار، وبمثل هذا الحوار الحي قد تنقدح شرارة الإيحاء الذي يتلوه إبداع، فيكون في هذه الحالة إبداعًا يحمل في شرايينه دم الماضي، فيتلاحم ماضٍ بحاضر في نفسٍ واحدة.
إنه ليُخيَّل لهذا الكاتب، أن خطأً ما يقع لنا عندما نتحدث عن إحياء الماضي في قلوبنا بإحياء كنوزه. وربما كان موضع ذلك الخطأ هو أننا لا نُحسن تصوُّر العلاقة بين طَرفَي الموقف؛ ففي الموقف طرفان؛ الموروث عن الماضي من جهة، والإنسان الجديد الذي نُريد له أن يَنعَم وأن ينتفع بهذا الموروث. والخطأ الذي أشرتُ إليه هو أننا ننظر إلى الأمر وكأنه أمر تكليفٍ؛ فهنالك واجب قوميٌّ يفرض نفسه علينا وهنالك مواطنون محدَثون لا بد لهم من الاضطلاع بهذا الواجب، فكأننا بهذه النظرة نُعطي الأولوية للماضي وموروثه، لتقع التبعية على العصر الحاضر وأبنائه. والأقرب إلى الصواب هو أن نعكس الترتيب في أذهاننا بحيث نبدأ من حياة العربي الجديد وكيف نعلُو بها لننتهي إلى أن إحياء شيءٍ من فكر السابقين ومن شعورهم قد يكون إحدى الوسائل الفعَّالة في ذلك التسامي الذي أردناه، إذا نحن عرفنا كيف نُحييه في النفوس، فالغاية المنشودة هي العربي الجديد والرقي بحياته مادةً وروحًا، ومن الوسائل المُحقِّقة لتلك الغاية أن يكون على صلةٍ حيَّة بماضيه من أية زاوية اختارها لنفسه؛ فالماضي وما تركَه لنا واسعٌ سَعَة المحيطات، بعد أن نتصوَّر تلك المحيطات وقد انقلب أُجاجها عذبًا. وليس المطلوب من كل فردٍ عربي على حدة أن يشرب المحيط، بل إنه ليكفينا أن تصل إلى كل مواطنٍ شربةُ ماء يستسيغها فترويه.
٢
لا أستطيع أن أحصُر لك الصفات الأساسية التي ذكَرها رجال الفكر على اختلاف عصورهم وشعوبهم، كلٌّ من وجهة نظره، ليُميِّزوا بها الإنسان من سائر خلق الله، وربما كان أكثر تلك الصفات شيوعًا، صفة «العقل»، على تفاوتٍ شديد بعد ذلك في فهم الناس لكلمة «العقل» هذه، وإن يكن معناها المقصود مُحدَّدًا قاطع التحديد، عند أول من أبرز هذه الصفة مميزًا للإنسان، وأعني أرسطو فيلسوف اليونان، وذلك حين جعل تعريفه للإنسان أنه «الحيوان الناطق» قاصدًا ﺑ «النطق» هنا قدرة الإنسان على التفكير العقلي الذي يعرف كيف يستدلُّ النتائج من مقدماتها استدلالًا صحيحًا. لكن تاريخ الفكر قد شهد رجالًا آخرين بتعريفاتٍ أخرى لما يُميِّز الإنسان؛ فمرة هي «الإرادة»، ومرة هي «الشعور»، والشعور الديني بصفةٍ خاصة.
والراجح عند هذا الكاتب، هو أنها صفاتٌ تصدُق كلها على الإنسان مجتمعةً، ويمكن بعد ذلك ترتيبها ترتيبًا يُبيِّن أيها أسبق من أيها. ومهما يكن الأمر في ذلك، فإن صفة من تلك الصفات المميزة للإنسان، تلفِت نظري من ناحيتَين؛ الأولى أنها نادرًا ما تذكر، الثانية أنها تلزم للعربي في عصره هذا؛ لأنها قد تُنبِّهه إلى ما هو غافلٌ عنه، برغم ضرورته وحيويته، وأعني بتلك الصفة ما قد عبَّر عنه الشاعر الإنجليزي الرومانسي من شعراء الكوكبة العظيمة التي ظَهرَت في مرحلةٍ مبكرة من القرن الماضي، وهو الشاعر «شلي» في قوله عن الإنسان إنه هو ذلك الذي ينظر قبل وبعد، قاصدًا بذلك أنه هو الذي يتميز بذاكرة تحفظ له الماضي وتُعيده أينما استدعى وكيفما، ثم يتميز كذلك برؤية المستقبل المرجُو قبل وقوعه. نعم إنه يمكن القول عن سائر الكائنات الحية، من نبات ومن حيوان، أن في طبائعها ما يفعل فعل الذاكرة، وما يؤدِّي شيئًا يشبه استباق المستقبل قبل وقوعه، وإلا فكيف نضع البذرة المعيَّنة من نباتٍ معين، فإذا هي تُعيد تاريخ ذلك النبات مرحلةً مرحلة؟! وكيف يحدث لهذا النبات نفسه أن تجيء مراحل نموه على النحو الذي يؤدي إلى الثمرة ذاتها التي أخرجها أسلافه؟! وما نقوله في هذا عن النبات، نقول أكثر منه على الحيوان، لكن الإنسان — مع ذلك — يظلُّ له موقفٌ خاص يميِّزه في استدعاء الماضي واستشراف المستقبل، وهو أنه يُدبِّر لنفسه ماذا يريد استدعاءه من ماضيه وماذا لا يريده في اللحظة المعيَّنة، كما يُدبِّر لنفسه كذلك كيف يريد لصورة مستقبله أن يكون، فإذا كانت بذرة القمح لا تستطيع إلا أن تُخرج نباتها كما كان أخرجه أسلافها، والثور مع البقرة لا يملكان إلا أن يجيء النسل ثورًا أو بقرةً على غرار ما قد حدث في نوعهما في أجياله السابقة، فإن الإنسان وحده هو الذي يتحكَّم فيما يستدعيه من مخزونات الماضي، ليستثمره في حاضره على أية صورة شاء، كما يتحكَّم في تصوُّر المستقبل الذي يريده ويسعى إلى تحقيقه.
لكن النظر إلى ما هو «قبلُ» وما هو «بعدُ» — أخذًا بالصياغة التي صاغها الشاعر «شلي» — إنما هما الطرفان اللذان تتوسَّطهما لحظة «الحاضر». وسؤالنا المطروح هو عن موقف العربي اليوم بين حاضره وماضيه، ولم نذكُر «المستقبل» في سؤالنا ذكرًا صريحًا؛ لأن تصوره إنما يتولَّد بالضرورة بناءً على الطريقة التي يجمع بها الإنسان ماضيه وحاضره. وإني لأخشى أن تقع هذه التقسيمات في نفس القارئ موقع التهاويم المجردة التي لا صلة بينها وبين حياته الفعلية كما يحياها، مع أنه لو نظر إلى نفسه من باطن، وجدها تحمل له في وقتٍ واحد ماضيه وحاضره وما يرجوه في مستقبله، إلا أن التفاوت بين الأفراد في درجات وعيهم بالأبعاد الثلاثة، هو تفاوتٌ شديد، بمقدار ما يختلفون فيه من درجات وعيهم، وعلمهم، وخبرتهم، ودقة إحساسهم بما حولهم. إنك أنت بمفردك، وأنا بمفردي، وهو بمفرده، وهي بمفردها، وكل إنسانٍ على وجه الأرض بمفرده، يحمل في أصلابه وأعصابه، هذا الذي نُطلق عليه اسم «الماضي» مع الذي نُطلق عليه اسم «الحاضر» مع تصوُّر ما نتوقَّع حدوثه غدًا أو بعد غدٍ، مما خططنا لحدوثه، فتجيء الأحداث مواتيةً فيتحقق، أو لا تجيء فلا يتحقق كما تصورناه. وبعبارةٍ أخرى ربما كانت أوضح وأقرب إلى الأفهام، أقول إننا حين نتحدث عن «حاضر» العربي وعن «ماضيه» فإنما ينصبُّ حديثنا على حالات «داخل» الإنسان، وليس على أشياءَ خارجه، وإذا كنا نستهدف أن نُغيِّر من وقفة العربي اليوم إزاء حاضره وماضيه، فإن الذي نُريد أن نُغيِّره في حقيقة الأمر، هو تصوراتٌ اجتمعَت له في جوفه عن ماضيه وعن حاضره معًا.
إنني في هذا الموضع من سياق الحديث، حريصٌ كل الحرص على أن يتأكد للقارئ في وضوح ناصعٍ، بأن حديثنا هذا عن ماضينا وحاضرنا، إنما ينصبُّ انصبابًا مباشرًا على حياته الواقعية التي يحياها كل لحظة، وليس هو نسجًا من خيال قد لا يكون ذا صلةٍ وثيقة بلحمه ودمه، ولذلك أدعوه إلى تضييق دائرة الحديث بحيث نحصرها في ثلاثة أيام فقط من حياتك، هي يومك الذي أنت فيه، وأمسك، وغدك، وبعد ذلك نسأل: أين تلتقي هذه الأبعاد الثلاثة؟ هل تراها مجتمعة معًا على قارعة الطريق، أو في غرفة من غرف منزلك؟ لا، بل إنها لا تُوجد ولا تلتقي إلا في رأسك أنت، فما حدث بالأمس مما تعرفه موجود في ذاكرتك الآن؛ أي إنه بالنسبة إليك لم يعُد ماضيًا، بل هو حاضرٌ مع الحاضر، وكذلك قل عن غدك، إنه لم يُولَد بعدُ، لكن توقُّع ما قد يحدُث فيه، مرسوم في خواطرك الآن؛ أي إنه حاضر مع حاضرك، وأما يومك هذا الذي يتوسَّط بين أمسك وغدك، فإذا استثنينا منه اللحظة العابرة التي أنت فيها، تراه ما تراه وتسمع ما تسمعه، وتعاني ما تعانيه، وجدنا أن بقية لحظاته إما مضت مع الماضي المحفوظ في ذاكرتك، وإما هو جزءٌ يُضاف إلى مستقبلٍ لم يُولَد بعدُ، وحضوره هو حضور في ذهنك أنت، تتوقَّع به ما سوف يحدث، سواءٌ تحقق توقُّعك أم لم يتحقق. ومعنى ذلك كله أنك تحمل معك ماضيك ومستقبلك في كل لحظةٍ حاضرة، فإذا أردنا لأي شيء من هذه الأقسام أن يتغيَّر فلن يكون التغيُّر إلا في شخصك أنت وما انطوى عليه.
وأزيد الأمر وضوحًا وتوضيحًا، فأقول ليس «الماضي» شيئًا قائمًا فيما هو قائم حولنا، وإلا لما كان «ماضيًا»؛ فكل ما هو قائم، تقع عليه العين، وتسمعه الأذن، وتمسُّه الأيدي، هو «حاضر» حتى ولو كان الذي صنعه قد مضى وترك وراءه ما صنع، الهرم الأكبر شيءٌ حاضر كأي شيءٍ آخر ذي وجودٍ حقيقي في عالم الأشياء، والذي مضى هو خوفو والذين أقاموا له الهرم، وديوان المتنبي شيءٌ حاضر بين أيدينا لكل من أراد أن يسمع شعره، والذي مضى هو شخص المتنبي، فإذا سُئلنا: أين هو «ماضينا» الذي يُراد لنا أن ننسج خيوطه في ثوب «حاضرنا»؟ أجبنا بأن ماضينا بهذا المعنى الحي، هو ما «نعلمه» عنه؛ أي إنه موجودٌ منسوج في حياتنا بالمقدار نفسه الذي هو «حاضر» به في رءوسنا وفي وعينا وفي سلوكنا، كثيرًا بكثير وقليلًا بقليل، فإذا كنتَ — مثلًا — لا تعرف معرفة المتذوق الواعي، إلا بيتًا واحدًا من ماضي الشعر العربي، كان «الماضي» العربي فيما يختص بالشعر، هو عندك بيتٌ واحد، حتى ولو كان في بيتك خزائنُ تحتوي على ألف ديوان مما وَرِثناه في مجال الشعر. لقد كتب الفقهاء الأقدمون ما كتبوه في فقه العقيدة وفي فقه الشريعة، فإذا لم تكن قد «عَرفتَ» شيئًا منه، كان ماضينا في هذا الميدان بالنسبة إليك صفرًا، وكأنه لم يكن لنا ماضٍ فيه، حتى ولو قيل إن دار الكتب فيها كل ما خلَّف لنا الفقهاء محققًا ومطبوعًا على أجود ورق، وفي صورة هي أجمل ما تستطيعه المطابع. وهكذا لا يكون لماضي الإنسان وجودٌ حيٌّ مؤثر، إلا إذا كان مُحصَّلًا في أذهاننا على نحوٍ يتيح له أن يكون جزءًا لا يتجزأ من حياتنا الواعية. ولا فرق في هذا بين أن نتحدث عن فردٍ واحد من الناس وما قد دسَّ في وعيه — الظاهر منه والباطن — من خبرات ومؤثِّرات، وبين أن نتحدث عن الأمة بأَسْرها، فماضيها الحي المؤثِّر إنما هو على وجه التحديد، ما قد وجد طريقه إلى أذهانهم وإلى قلوبهم، ثم ظهر في تشكيل سلوكهم وفي تعيين أهدافهم وفي طرائق تقويمهم للأشياء والمواقف قبولًا ورفضًا.
وهنا نلفِت الأنظار إلى فكرةٍ ربما كان الشاعر «ت. س. إليوت» (صاحب قصيدة «الأرض اليباب» التي وفَّاها نُقَّادنا عرضًا وتحليلًا) أقول إنها فكرة ربما كان «إليوت» أكثر القادرين شرحًا لها، وأعني بها أن ثقافة الأمة المعيَّنة في حقبةٍ معيَّنة، هي حاصلُ جمعِ ما قد وَعَته الرءوس من مواطنيها؛ فالفرد الواحد من أبنائها، مهما اتسعت دائرة علمه، فهو لا يعلم إلا جزءًا يسيرًا مما نسمِّيه بوجهٍ عام وشامل «ثقافة الأمة» الذي هو فردٌ من أفرادها، وهذه الفكرة مفيدةٌ في سياق حديثنا هذا؛ فنحن نتحدث الآن عن «ماضي» الأمة أين نراه؟! ونجيب بأنه هو ما قد وجد سبيلَه من الموروث عن أسلافنا إلى تيار الحياة الجارية، فهو كامنٌ في خواطرهم، مُثيرٌ لمشاعرهم، مُتمثِّلٌ في مسالكهم. وإن ذلك كله لا يتحقَّق لكل فردٍ على حدة، بل يكون حسابه بالنظر إلى مجموع الأفراد.
فكم — يا تُرى — نجد من الماضي ما هو قائمٌ في حياة الناس، فكرًا ووجدانًا وسلوكًا؟ ثم لا يكفينا أن نجيب عن هذا السؤال وهو قائمٌ برأسه مبتورُ الصلة بأطرافٍ أخرى لها معظم الخطر في حياتنا؛ إذ قد يكون ما هو مُحصَّل من ذلك في الأذهان والوجدان والسلوك، أضخم مما نريد؛ فهو إذا تضخَّم فربما تحوَّل إلى قيدٍ يعرقل سيرنا مع مستلزمات الحياة الحاضرة، وكذلك قد يكون أقل مما نريد؛ لأنه إذا كان كذلك، جاءت الشخصية العربية شاحبة؛ مما يؤدي إلى سرعة ذوبانها في مياه الغرباء، ومع ذلك فليست المسألة في هذا مسألة «كَمٍّ» فقط، ضخمًا وجدناه أم ضئيلًا؛ إذ لا بد من النظر إلى جانب ذلك، بل ربما قبل ذلك، إلى نوع الحصيلة التي اخترناها لتكون هي ماضينا المبثوث فينا، وذلك لأننا قد نُسيء الاختيار — وكثيرًا جدًّا ما نفعل — فنَبُث عوامل الضعف والشلل، من حيث أردنا القوة وانطلاقة الحياة.
وإني لأذكُر في هذا الصدد شيئًا من ذكريات عامٍ واحد من حياتي، وهو العام الذي كنتُ فيه تلميذًا في السنة الثالثة الابتدائية، كما أذكُر مدرسًا واحدًا ممن تولَّوا تعليمنا عامئذٍ، هو مدرس اللغة العربية. كان شيخًا قوي التأثير، يبعث على الرهبة التي تجنح بنا نحو رِعدةِ الخوف، أكثر مما يبعث على الحب وطمأنينة النفس، لكنه كان كذلك جادًّا طموحًا. ولعله أراد أن يرتفع كل طفلٍ منَّا حتى يبلغ مستواه ويصبح صورةً منه، ومن ذلك أنه لم يكن يكتفي بمادة النحو الموجود في الكتاب، بل طالبَنا بأن نرسم بالمسطرة خطوطًا في هوامش الكتاب، تميل بزاويةٍ معينة، لتكون شبيهة بالهوامش التي نراها في الكتب القديمة، وذلك استعدادًا منا لنكتُب في تلك الهوامش ما يُمليه علينا من إضافاتٍ تُضاف إلى ما هو مذكور في الكتاب المقرَّر. وما زلتُ أذكر شيئًا مما أملاه علينا وحفظناه حفظًا أصم وأعمى؛ إذ كان منه تعليق على أداة الشرط «إذا» وهو أنها «ظرفٌ لما يُستقبل من الزمان، خافضٌ لشرطه، منصوبٌ بجوابه». وكم تساءلتُ بيني وبين نفسي كلما وردَت إلى ذهني تلك العبارة: ماذا تفيد؟ لا سيما والمتلقي طفل في الحاديةَ عشرة من عمره؟ ولَكَم أردتُ، حتى وأنا في هذه السن التي تقدَّمَت، أن أفهم لماذا قال عن أداة الشرط، التي هي كلمة «إذا» إنها خافضة لشرطها، ومنصوبة هي بجوابها؟ وخيِّل إليَّ حينًا أنني قد فهمتُ؛ فنحن إذا قلنا — مثلًا — «إذا حل الربيع تفتَّحَت الأزهار» كان ذلك مساويًا لقولنا: «عند حلول الربيع تتفتح الأزهار»، ومن هذه الجملة يظهر لنا أن الشرط في الجملة الشرطية التي ضربناها مثلًا، قد تحوَّل إلى أن يكون «مضافًا إليه» إذ يقول «عند حلول …» ويكون بالتالي في حالة خفض أو كسر، وأما جواب الجملة الشرطية فهو عبارة: «تفتَّحَت الأزهار» فيجعل كلمة «عند» التي هي ظرف زمان، مفتوحة أو منصوبة، كما تقول مثلًا: «قرأتُ الصحف صباحَ اليوم» فتكون كلمة «صباح» منصوبة. هكذا خُيل إليَّ أني أفهمتُ نفسي كيف ولماذا قالت قاعدة النحو لتلميذ الحادية عشرة، إن كلمة «إذا» هي «ظرف لما يُستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه». ومع ذلك فافرض أني قد استطعتُ الفهم الصحيح، وأنا في مثل سني وخبرتي باللغة، فهل كان يستطيعه طفل؟ ثم افرض أن الطفل قد استطاعه، فأين وجه المنفعة؟ وإني لأدعو القارئ إلى استعادة ما أسلفناه، وهو أن العربي إذ يحيا حياته، حاملًا في رأسه هذا الذي قيل له عن كلمة «إذا» وما تؤدِّيه، فإنما هو يحيا حاملًا معه نتفة من «الماضي»، لكنها نتفةٌ عسيرة الهضم، قد تُصيب المعدة بالأذى. وأما اليقين عنها فهو أنها لن تنفع حاملها غذاءً يقتات منه ليكون عربيًّا موصول الهوية بماضيه، فإذا تصورنا أن مئات الألوف ممن يُعدُّون بين حملة العلم في بلادنا، يَحيَون وهم يحملون في رءوسهم أطنانًا من أمثال هذه «المعرفة» التي إن صلَحَت في الأركان الأكاديمية المعزولة عن الهواء الطلق؛ فهي لا تصلُح لحياتنا الناهضة وسيلةَ حَفْز، ودَفْع، وتحريك.
ثم شاء القدر لذلك الشيخ الجاد الطموح، أن يكون هو نفسه المدرس الذي جعل من محفوظاتنا الأدبية خطبة الحجاج في أهل العراق: «أنا ابن جلا وطلَّاع الثنايا، إذا وضعتُ العمامة تعرفوني … إلخ» وهي خطبة مليئةٌ بالتوعُّد والتهديد، مما يكره كل إنسانٍ حُر أن يكون هو أساس التعامُل بين حاكم ومحكوم، فكيف يمكن لمثل هذه النتفة الأخرى من «ماضينا» إذا ما ثبتَت في نفوس الصغار الناشئين، ألا تنتهي بحافظها وحاملها إلى أن يقابل استبداد المستبد بشعورٍ بليد لا يتحرك ولا يثور، اللهم إلا إذا أدركَتْه رحمة الله، فوجَّهَته نحو أن يعصي «ماضيه» ولا ينصاع إليه، كلما صادف منه أمثال هذه الصور برغم روعتها في موازين الصياغة الأدبية.
لكن شيخنا الجليل لم يكن قد اقتصر على أمثال تلك المحاولات المستمدة من «الماضي»، بل تركنا والوعاء مليءٌ بعوامل القوة. وإني لأزعُم بأن أقوى ما يستمده العربي المعاصر من مطالعة الموروث عن أسلافنا، كلٌّ في ميدان تخصُّصه واهتمامه، هو روح الجدية، والوقار، والضمير الحي. اقرأ ما شئتَ من نصوص التراث، وفي أي ميدانٍ تختاره، تَجدْك أمام إنسان يجدُّ ولا يهزل، يسمو بقارئه إلى قمته ولا يهبط من قمته إلى السفوح ليرضى عنه قُراؤه. وإني لأُشهِد الله أن ما قد بثَّه فينا ذلك الشيخ في دروسه، وفي شخصيته، لم يذهب عنا قبل أن يترك فينا أثرًا من الشعور بالجد، والوقار، ويقظة الضمير، انعكَسَت كلها من روح «الماضي» الذي كان الشيخ همزة الوصل بيننا وبينه.
اللغة هي الوسيلة الأولى لربط الصلة بين إنسان وإنسانٍ آخر، يعاصره، أو يسبقه في الزمن أو يلحق به، فإذا كنا نريد للعربي اليوم أن يكون موصول الوجدان بالعربي الذي مضى، فإن أهم ما يُحقِّق تلك الصلة هو اللغة المشتركة بينهما، على أن يكون واضحًا لنا بأن تلك المشاركة لا تنفي أن تتغيَّر أساليب التعبير بين كاتب وكاتب في العصر الواحد، ودع عنك أن تُباعِد بينهما مئات السنين أو ألوفها، لكن اختلاف الأساليب في اللغة الواحدة، يُخفي وراءه أسسًا ثابتة هي التي تضمن للُّغة المعينة استمرارها، أو قل إنها هي «روح» اللغة كما يقولون، وبوحي من هذه الروح يستطيع الذوق الفطري السليم — فضلًا عن النقد العلمي الاحترافي — أن يُفرِّق في مختلف الأساليب بين قويٍّ وضعيف؛ فوجدانية الروح مع تنوُّع الأساليب تنوعًا لا يتناهى عند حدٍّ معلوم، هو سر عجيبٌ من أسرار «اللغة» أيًّا كان نوعها؛ فالأصل واحد، وأما «الإبداعية» اللغوية (كما يسميها «تشومسكي» الذي هو في الطليعة بين فلاسفة اللغة في عصرنا) فلا نهاية لتنوعها؛ فلا يكاد الطفل ذو العامَين يلتقط شيئًا من روح اللغة في قومه، حتى تراه قد بدأ يمارس تلك القدرة على الإبداع اللغوي وهو لا يدري؛ إذ تراه وقد استطاع أن يضع المعنى الواحد في تشكيلاتٍ لغوية لم تكن هي التي سمعها ممن حوله، إنها تشكيلاتٌ من عنده هو، خرط صياغتها على مخرطَته الخاصة، حتى ليحدُث في حالاتٍ كثيرة أن تجيء صياغته بعيدة عن المألوف، ولكنها مؤدية للمعنى، فيضحك السامعون للتركيبة اللغوية العربية، التي جاء بها الطفل، ومن أين جاء بها؟ إن ذلك سِرُّ الإبداع في أبسط صوره وفي أعلاها.
وهذه الحاسة اللغوية وإن تكن مشتقة من فطرة الإنسان، إلا أنها — شأنها شأن ما هو فطري في معظم الأحيان — قابلة للتهذيب والإرهاف بالتدريب الدراسي. ومثل هذه الحاسة المرهفة التي تُميِّز الصواب من الخطأ، كما تُميِّز الأجمل من الأقبح، تكاد تنحصر في أبناء اللغة، دون من يتعلمونها من أبناء اللغات الأخرى. وأذكر أني في مناسبةٍ سابقة قد رويتُ روايةً سمعتُها من المرحوم الأستاذ أحمد أمين، وهي أنه بعد أن أهدى كتابه «فجر الإسلام» إلى أحد المستشرقين الكبار، جاءه خطابُ شكرٍ ختمَه صاحبه بقوله: «نفعنا الله بخرارة علمك»، فالخرارة عند المستشرق الكبير هي ما يخر، أما ملابساتها الأخرى التي يُحسُّها ابن اللغة فهي شيءٌ آخر.
ومثل هذه الحاسة اللغوية هي ما كنا نتوقع من مدرس اللغة العربية أن يبُثها، ويُربيها، ويُنميها، ولو قد فعل لما رأينا هذه الكثرة الكاثرة من الكتَّاب بل ومن الشعراء في هذا الجيل، تكتب على نحوِ ما تكتب، وتَنظِم على نحو ما تَنظِم. وبعض العلة يرتَد إلى جماعةٍ ممن وضعوا أنفسهم مواضع الأساطين في اللغة. وإذا سألتَ عما يفعلونه، وجدتَ ما يفعلونه أقرب الأشياء شبهًا بالحفريات الأثَرية، لا تُفرِّق بين كِسرة من الخزف، وعُملة من الذهب؛ فكلتاهما أثَرٌ نفيس، يستحق على التساوي أن يُعنى به حفظًا في الخزائن. ولا عجب أن تجد هؤلاء الأساطين إذا ما أمسكوا الأقلام ليكتبوا، جرت بهم الأقلام إلى عِي، وغَث، وهُزال.
ولن يتحقق لنا أمل في صلةٍ وجدانية بيننا وبين ماضينا العربي، إلا إذا تغيَّرتْ وجهة النظر إلى طبيعة اللغة، لنبُثَّها في نفوس أبنائنا وبناتنا، بحيث يقرءون ما يقرءونه، أو يكتبون ما يكتبونه، والشعور يملؤهم بأنهم إزاء خلجاتٍ حية كأنها خيوط من عَصبٍ ينتفض تحت سن القلم، وعندئذٍ نقرأ ما نقرؤه مما كتَبه السلف (كلٌّ فيما يثير اهتمامه) فلا يكون الذي بين أيدينا ورقٌ بارد في كتاب، بل يتمثل لنا إنسانًا يتحدث إلينا بما يتحدث، لا لكي نقول له: نعم، صدَّقنا. بل لنُحاوره فيما يعرضه علينا، فيعود هو إلى الحياة عن طريق حوارنا معه، ونزداد نحن حياةً على حياة، عندما تُضاف خبرة الماضي إلى خبرة الحاضر في خطٍّ واحد موصول الطرفَين. ولم يكن هذا هو الذي بثَّه فينا مدرس اللغة العربية وهو يُعلِّمنا أصول الجملة الشرطية، ولا كان هو الذي بثَّه فينا وهو يطالبنا بحفظ خطبة الحجاج، كلا، ولا هو الذي يَبثُّه القائمون على اللغة العربية فيمن يتلقَّاها دراسةً أو قراءة.
ذلك — إذن — هو شيء عن «الماضي» وأين يقع منا ونقع منه. إنها جملةٌ نطالب بربط أواصرها بين حاضرنا وماضينا، لا لكي نستشير السلف كيف نزرع القطن وقصب السكُّر، وكيف نُنشئ مصانع الحديد والصلب ومُولِّدات الكهرباء، ولا لكي نستشيره كيف نُقيم نُظُم الحكم النيابي ونُظُم التعليم الذي تتسلسل حلقاته من روضة الأطفال إلى الدراسات العليا بالجامعات، بل نطالب بربط حاضرنا بماضينا لنستلهم ما عسانا نصونُ به مُقوِّمات الروح العربية في كبريائها وفي حفظها للتوازُن بين ما يزول ويفنى، وما يخلُد ويبقى. وإنه لميزانٌ لو أحسن العربي إقامته كما أحسن السلف في فترات عزَّتهم، لعرفوا ماذا يُضحَّى به من أجل ماذا؟ إننا نُطالع القدماء لا لكي نكون عيالًا عليهم، هم يأمرون ونحن نأتمر، كلا؛ فهم رجال ونحن رجال، لكننا نطالعهم لنشعُر بطمأنينة من يعتصم بالحبلِ حتى لا تقتلِعَه الريح أو يبتلعه الطوفان؛ فالذي نُطالعه حين نُطالع القدماء، إنما هو ما أبقى عليه الدهر لجودته، بعد أن نفخ في الهواء كثيرًا جدًّا من الغث كأنه هَباء من الهباء. وإذا ما طالعتَ لأحد الأسلاف الذين خلَّدهم التاريخ، شعرتَ بصفاته إنسانًا عملاقًا ارتفع كما ارتفع لقدراتٍ فيه، دقة علم، ونفاذ بصيرة، وقوة عزيمة، وفضيلة أخلاق … تحسُّ بهذا كله، وتنطبع به، فيسري في شرايينك من دمائه ما يسري، وحسبك منه أن تشعر بعزةٍ قومية، لكونك خلفًا لهذا السلف. كان الإنجليز أيام امتلاكهم للهند، يقولون: إن نسبَ شكسبير إلى أُمتنا أعظم من تملُّكنا لإمبراطورية الهند. وحين قالوا ذلك عن شاعرهم العظيم، فهم لم يقصِدوا بقولهم ذاك، أن شكسبير سيُعلِّمهم بمسرحياته وبشعره، كيف تغوص الغواصة إلى أعماق المحيط، وكيف تطير الطائرة إلى قلب السماء، وكيف تجري على الأرض سيارةٌ وقطار، بل كان المقصود — بالإضافة إلى النشوة الفنية — الشعور بالعزة القومية. وهكذا نحن حيالَ ماضينا وعمالقته، أو هكذا ينبغي أن نكون.
لكن انظر في غير تعصبٍ وبلا حكمٍ مسبق تُضمره في نفسك قبل أن تنظر لترى، انظر إلى ما يقع في حياتنا من حيث العلاقة بين العربي ورجوعه إلى ما خلَّفه السلَف من فكر وأدب وما شئتَ من ثمرات القلم واللسان! وسوف تعلم كَمْ يقرأ القارئ كتابًا من الماضي، بحثًا عن حلول يفضُّ بها مشكلات يومه، على ظنٍّ بأن حاكم الأمس لا بد أن يكون أعدل من حاكم اليوم، وفقيه الأمس لا بد أن يكون أفقه من فقيه اليوم، وتاجر الأمس لا بد أن يكون أكثر أمانةً ونزاهةً من تاجر اليوم، وامرأة الأمس لا بد أن تكون أعَفَّ من امرأة اليوم وهكذا. نعم هكذا نفتح دفاتر الماضي بحثًا عن حلولٍ لمشكلاتنا على غرار ما حُلَّت به مشكلات الأوائل. ومن هذا الأساس المغلوط، يتحتَّم أن تكثُر في حياتنا الحاضرة أغلاط ننحرف بها عن سواء السبيل.
٣
ما زلتُ أذكرها لحظة من لحظات الانفعال، التي كثيرًا ما أخذَت بزِمامي، فتراجع العقل، وتقدَّم الوجدان ليُمسك باللِّجام؛ فهي لحظة عشتُها في حَيْرة مع نفسي، وكان ذلك في آخر عامٍ من أعوام الأربعينيات، حين قرأتُ — لأول مرة — تفرقة بين شمال العالم وجنوبه؛ فللشمال قوة العلم، وقوة الحرب، وقوة المال، بل وقوة الفن والأدب، وللجنوب ضعف الجهل، وضعف الهزيمة، وضعف الفقر، بل وضعفٌ طرأ عليه في عالم الإبداع. ولم أكد أفرغُ من قراءةِ ما كنتُ أقرؤه، حتى تملَّكَتْني الحالة الانفعالية التي أشرتُ إليها، سبحانك اللهم ربي خلقتنا شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا، فهل كانت مشيئتك — يا ربَّاه — أن يُنكب الشرق، إن كانت القسمة بين شرق وغرب، وأن يُنكب الجنوب، إن كانت القسمة بين شمال وجنوب، وأن تتراكم النكبتان على من كان «شرقًا جنوبًا» معًا؟! وأن تجتمع النعمتان عند من كُتب له أن يكون «غربًا شمالًا»؟!
نعم، ما زلتُ أذكرها، تلك اللحظة المنكودة؛ فلقد كنتُ قبلها أحترقُ غضبًا كلما وجدتُنا ننساق انسياقًا أعمى وراء من قسَّم الناس إلى شرق وغرب، ليضع الهزال في الشرق والعافية في الغرب؛ ففضلًا عن أن هذه القسمة لا تستقيم مع الواقع الجغرافي، فإننا لو سلَّمنا بتلك القسمة في الثقافات الكبرى التي شَهِدها التاريخ، بحيث رأينا التبايُن الحاد بين شرق في فارس والهند، تميَّز برؤيةٍ صوفية مُلغزة غامضة، وبين غرب في اليونان القديمة، تميز برؤيةٍ عقلية تضع المقدمات محاولةً أن تستدلَّ منها النتائج في وضوح علميٍّ لا يلُفُّه الضباب، أقول إننا إذا سلمنا بهذه التفرقة الثقافية بين شرق وغرب، بقِيَت لنا الرقعة التي تتوسط الطرفَين والتي هي الوطن العربي بمعناه الثقافي؛ ففي تلك الرقعة نشأَت ثقافةٌ ثالثة، ونمت وازدهَرت وأنتجت حضارات، ولم تكن في رؤيتها العامة شرقيةً خالصة، ولا كانت غربيةً خالصة، بل أفرزَت طبيعتها كيانًا ثالثًا تلاقت فيه عقلية الغرب مع صوفية الشرق في وحدةٍ عضوية لا ينفرد فيها أيٌّ من عُنصرَيها بوجودٍ مستقل، فإذا كان لهذا المزيج قدرته على الإبداع الحضاري كما شَهِد بذلك واقع التاريخ، في الحضارة المصرية القديمة، وفي الحضارة الإسلامية العربية بعد ذلك، فلماذا نتنكَّر لأنفسنا ونتجاهل حقيقتنا وطبيعتنا؟
أقول إني كنت قبل أن وقعتُ لأول مرة على قسمةٍ جديدة للأمم بين شمالٍ قوي وجنوبٍ ضعيف، على كثيرٍ من قلق نفسي وعقلي معًا، أُحاول أن أقيم الدليل على أن لنا ثقافة تجمع بين الحسنيَين، فلما صادفَتني القسمة الجديدة في تلك اللحظة المنكودة، أخذ مني الغيظ ما أخذ، هامسًا لنفسي: ألم تكن تكفينا قسمةٌ واحدة تحاول أن تضعنا في كفَّة المغبون، حتى تجيئنا هذه القسمة الثانية لتزيدَ الطين بلةً كما يقولون؟ لكن المواجهة الانفعالية لا تنفع أحدًا ولا تشفع لأحد؛ فأيًّا ما كان الأمر، فنحن في عصرنا هذا أمام حقيقةٍ واقعة، وهي أن هنالك قارتَين في عصرنا هذا، وهما أوروبا وأمريكا الشمالية، تجتمع فيهما «الغرب الشمال» وهما القارتان اللتان اجتمعَت لهما ضروب القوة التي ذكرناها؛ في العلم، والحرب، والمال. كما أن هنالك ثلاثَ قارات، هي آسيا، وأفريقيا، وأمريكا الجنوبية، تنقصها قوة «الغرب الشمال»، ومنها يتكون — بصفةٍ عامة — «العالم الثالث». وإذا نحينا جانبًا أمريكا الجنوبية، لخروجها عن النطاق الذي يهمُّنا في هذا الحديث، كما نحَّيْنا أستراليا كذلك للسبب نفسه، بقِيَت لنا الكتلة الأفروآسيوية، وهي الكتلة التي يقع فيها الوطن العربي الكبير، مشرقه في آسيا، ومغربه في أفريقيا. وعلينا أن نطرح على أنفسنا السؤال الآتي لنبحث له عن جواب، في صدق ونزاهة وشجاعة، وهو: ما الذي تميز به «الغرب الشمال» المتمثل في أوروبا وأمريكا الشمالية، ومتى تميَّز؟ وكيف تميَّز؟ وما الذي نكَب «الشرق الجنوب» المتمثل في آسيا وأفريقيا، ومتى حلَّت به نكبته؟ وكيف؟
وربما انفتَح أمامنا الطريق إلى الإجابة الصحيحة، إذا أضفنا حقيقةً برزَت خلال هذا القرن، وهي أن الشعوب الصفراء قد أخذَت شيئًا فشيئًا تشُق طريقها إلى القوة التي ميَّزت «الغرب الشمال» بقَدْرِ ما أخذت تتخلَّص من الصفات التي أضعفَت سائر الشعوب الأفريقية الآسيوية، فبدأت اليابان وحدها أولًا، ثم تبِعَتها أقطارٌ أخرى من بلدان اللون الأصفر. وهنا قد يُساعِدنا على الجواب الصحيح عن سؤالنا، أن نسأل سؤالًا فرعيًّا، عما فعلته اليابان — مثلًا — لتخرج من زمرة «الشرق الجنوب» ثقافةً وحضارة؟
وتيسيرًا على أنفسنا في عملية المقارنة وصولًا بها إلى الإجابة المنشودة، فلنحصُر النظر في الأمة العربية من جهة، وفي «الغرب الشمال» الذي هو أوروبا وأمريكا الشمالية — من جهةٍ أخرى — قد كانت للأمة العربية ريادةٌ حضارية مدى تسعة قرون «من أول ق٧ إلى أواخر ق١٥ بالتاريخ الميلادي» ثم غابت عنها ريادتها، وكانت أوروبا بلا ريادة إبَّان تلك القرون التسعة نفسها، ثم استحدثتها خلال القرون الخمسة الأخيرة، انفردَت بها في أربعةٍ منها، وشاركَتْها أمريكا الشمالية في الخامس مشاركةً احتلت فيها مكان الصدارة، فسؤالنا — إذن — يتحول ليُصبح: ما الذي كان في أيدينا ثم ضاع؟ وما الذي كان ضائعًا بالنسبة إلى «الغرب الشمال» ثم تحقَّق وحضر؟ تُرى هل تبلغ شيئًا من الحق إذا قلنا إنها القدرة القتالية، كانت لنا إبَّان القرون التسعة التي أشرنا إليها، ولم يكن لهم نظيرها، فهم وإن وُفِّقوا إلى نصر في الحروب الصليبية، فقد كان نصرًا مؤقتًا وانتهى بهم الأمر إلى هزيمة؟ وأما بعد تلك القرون التسعة، فقد انتقلت إليهم القدرة القتالية ولم يعُد لنا منها شيء. على أن نلحظ هنا جانبًا ستكون له في إجابتنا عن السؤال المطروح أهميةٌ كبرى، وهو أن القدرة القتالية حين كانت لنا، كان سندها هو «الدين»، وأما وهي لهم فإن سندها هو «العلم»؛ فقد قاتلناهم — وكانوا هم المعتدين في الحروب الصليبية — دفاعًا عن الدين بالإضافة إلى أرض الوطن. وأما هم إذ يقاتلوننا في مرحلة ريادتهم، فهم يقاتلون بحثًا عن أرضٍ يملكونها، وشعوبٍ يحكمونها، وموادَّ خامٍ يغتصبونها لصناعتهم بعد أن وقعَت لهم ما يُطلِقون عليه «الثورة الصناعية».
وإننا لنقول الحقيقة نفسها بعبارةٍ مختلفة، إذا وضعنا طرفَي المقارنة في صورةٍ أخرى، قائلين إنه بينما كانت أوروبا عند خروجها من عصورها الوسطى؛ لتدخل عصرها الحديث الذي هو عصرُ قوتها، قد جعلَت ينبوعها الذي تستلهمه روحُ نهضتها، أسلافَهم اليونان والرومان، إما بطريق الاتصال المباشر بتُراثهم، وإما عن طريق العرب؛ ومن ثَمَّ فقد عَرفَت طريقها إلى الرؤية العقلية العلمية، وهي الرؤية التي بُنيَت عليها حضارة الغرب الحديثة كلها، وأقول إنه بينما كانت تلك هي مصادر إلهامها، فقد كانت الأمة العربية إبَّان ريادتها خلال القرون التسعة التي أشرنا إليها، تستلهم الدين؛ أي إنها كانت تستلهم وحيًا إلهيًّا أُوحي به إلى نبيٍّ رسول.
ونضَع أمامنا هذه الصورة بجوانبها المختلفة، لننتقل بها إلى حاضر الأمة العربية، فنسأل عن هذا الحاضر نفسه ماذا نعني به في حديثنا هذا؟ وهنا يأتينا الجواب على درجةٍ عالية من الوضوح؛ فحاضر الأمة العربية، من الزاوية التي تهمُّنا في هذا الحديث، هو أنه موقفٌ قوامه طرفان؛ فهناك حضارةٌ ركيزتها الأساسية هي علم طبيعيٌّ بمعنًى جديد، وهنا ركيزةٌ أساسية، هي دين وتاريخ، كانت قد قامت عليها حضارة فتَرتْ قُوَّتها، ولكن بقِيتَ ركيزتُها وستبقى، فكيف يكون سبيلنا إلى مستقبلٍ قويٍّ مزدهر؟ إنه ليبدو للوهلة الأولى «وربما للوهلة الثانية كذلك» أنه لا سبيل إلا إذا عرفنا كيف ننقل حضارة القوة المستندة إلى علم، فنُقيمها على أرضنا فوق ركيزتنا نحن، بما تنطوي عليه من دين وتاريخ، ترى هل هو مطلبٌ ممكن التحقيق؟ وكيف يتحقق؟
ولستُ أريد لنفسي، كلا ولا أريد للقارئ أن يمرَّ على هذه الكلمات مرًّا سريعًا؛ لأننا لو فعلنا، أفلتَت بنا المشكلة التي نحن الآن بصدد طرحها، وشرحها، وحلها، مع أنها مشكلةٌ توشك أن تكون أخطر ما صادف الأمة العربية منذ أُسدل ستار على مسرح إبداعها في أواخر القرن الخامس عشر، فماذا نعني بقولنا: هل يمكن للعقل العربي أن يقيم العلم الطبيعي الجديد على قوائمَ من دينه وتاريخه؟ وهو سؤال إذا وُفِّقنا إلى جوابه، استطعنا اقتحام العقبة التي حالت، وما زالت تحول دون دخول العربي عصره الذي يعيش فيه توقيتًا، ولا يعيش فيه بانيًا، حتى لقد قنع بأن يأخذ من ثمراتِ عصره ما يتصدق به عليه سادة العصر، وأصبح بهذا الوضع تابعًا، ولا يمحو عنه التبعية أن يهتف لنفسه بالحرية! ونعود فنسأل: ماذا نعني بإقامة العلم الطبيعي الجديد «الذي هو سمة العصور الأولى» على ركيزة الدين والتاريخ؟ ولكي نجيب شارحين في حدود علمنا القليل، نقول: إن موضع الجدَّة في العلم الطبيعي الجديد، هو «الأجهزة التي هي وسيلة البحث العلمي على نطاقٍ واسع، ثم هي في الوقت نفسه نتيجةٌ يُنتِجها البحث العلمي في صورته الجديدة، فالوسائل البحثية أجهزة، والنواتج أجهزة»، وتلك هي التقنية «التكنولوجيا» بمعناها المنهجي الصحيح، وهو المعنى الذي لم يكن هناك سواه عندما أُطلق هذا المصطلح لأول مرة في أواخر القرن الماضي، ثم شاع للكلمة معنًى آخر، بحيث أصبح يُطلَق على الأجهزة المنتجة وحدها. وكان الأَولى، إذا أردنا الاقتصار على أحد الطرفَين، أن نطلق الكلمة على أجهزة البحث العلمي، من مقاييس، ومناظير وغيرها مما تمتلئ به معامل البحوث العلمية، وكان الأصح بدل أن نقول العبارة الشائعة «العلم بالتكنولوجيا» فعلاقة العلم الطبيعي بمعناه الجديد، علاقته بأجهزة البحث هي من الشدة بحيث إذا سُئلنا: ماذا نعني ﺑ «التقدُّم» في العلم؟ كان الجواب هو أننا نعني التقدُّم في دقة الأجهزة المستخدمة في البحث، والعكس صحيح أيضًا؛ أي إننا إذا سُئلنا: ماذا نعني بالتقدم في أجهزة البحث؟ كان الجواب هو: إننا نعني التقدُّم العلمي. ولم يكن قَط لهذه العلاقة المتبادلة بين البحث العلمي وأجهزته وجودٌ في ماضي البشرية بأَسْره، وكل ما عرفه رجال العلم الطبيعي قبل القرن الماضي من أجهزة وسائل غاية في القلة وفي البساطة في آنٍ واحد. وكان مؤدَّى هذا التقدُّم الهائل والسريع في أجهزة البحث العلمي، هو أن استطاع الإنسان المعاصر أن يعلم عن الكون علمًا لم يكن يجرؤ فيما مضى أن يحلُم به. وأضرب مثلَين اثنَين وأكتفي؛ أولهما هو أن لدى الإنسان الآن منظارًا فلكيًّا يستطيع به أن يتلقى الضوء من مصادرَ تبعُد عن الأرض — كما قرأتُ أخيرًا — عشرين ألف مليون سنة ضوئية، وأذكِّر القارئ بأن الضوء سرعته في الثانية الواحدة ثلاثمائة ألف كيلومتر، فكم يكون في الساعة؟ وكم يكون في اليوم؟ وكم يكون في السنة؟ ثم كم يكون في عشرين ألف مليون سنة؟ فهذا جهاز يمد آفاق علمنا بالكون إلى هذا المدى. والمثل الثاني هو تلك الأجهزة التي يُطلِقون عليها اسم «الإنسان الآلي» فيتخيل السامع أنها أجهزة تشبه الإنسان في شكله الجسدي، فيكون لها أذرع وأرجل وجذع ورأس، وحقيقتها أنها أجهزةٌ تؤدِّي ما يؤديه الإنسان في عملياته الإدراكية، وقد يأخذ الجهاز منها صورة الصندوق؛ فللإنسان — مثلًا — قدرة على الإدراك البصري، ولاحِظ أن ذلك شيء أكثر من مجرد انطباع صورة شيءٍ خارجي على حاسة البصر، فهذه العملية كانت تقوم بها آلة التصوير «الكاميرا» أما «الإدراك» فهو أن تُترجَم الصورة المتلقَّاة من الخارج إلى «معرفة» بما يترتب على تلك الصورة من ردود الفعل … إلخ … إلخ.
ذلك هو العلم الطبيعي الجديد، في دقة أجهزته، وفي أبعاد نتائجه، ولعله من الواضح أنه يقتضي دقةً بالغةً أقصى مداها في «تحليل» الظاهرة المادية التي تُوضَع موضع البحث، مما حدا ببعض رجال الفكر في الغرب أن يُطلِقوا على هذا القرن العشرين اسم «عصر التحليل» وهي صفةٌ تصدُق على عصرنا كل الصدق، وقد انعكَس صداها على ظاهر الحياة الإنسانية ذاتها، انعكاسًا ظهر أثره واضحًا في العلوم الإنسانية كلها؛ علم النفس، وعلم الاجتماع، وعلم الاقتصاد وغيرها. وحسبك أن ترى إلى أي حد تلجأ هذه العلوم الآن إلى صياغة قوانينها في صورةٍ رياضية، وإذا قلنا رياضية فقد قلنا آخر درجةٍ من درجات التحليل العقلي. ولا شك في أن كل قارئ يعرف شيئًا قلَّ أو كثر، عن مدى ما وصل إليه علماء الطبيعة من تحليل المادة إلى ذرَّات، والذرة إلى كهاربَ بعضُها سالب، وبعضُها موجب، وبعضها محايد. وها هو ذا ضربٌ جديد يظهر بين مكونات الذرة، كشف عنه ثلاثةُ علماء، استحقوا من أجله جائزة نوبل لعلوم الفيزياء لعام ١٩٨٨م، وهو ضربٌ بلغ من الصغر ومن الخفاء حدًّا جعل مكتشفيه يسمُّونه «الشبح» إذ رأَوه أدخل في باب الأشباح منه في عالم الأجساد، فانظر كَمْ من دقة التحليل يتطلَّبها العلم الطبيعي اليوم ليبلُغ أصغر الوحدات التي فيها نُسجَت الظواهر المختلفة في نسيجٍ واحد متصل، هو هذا الكون العظيم، وكلما بلغ العلماء بتحليلهم ما ظنوا أنه آخر المطاف، وجدوا ما هو أصغر. وأما عن القوة الجبارة التي حُبسَت في تلك الكهارب اللامتناهية الصغر، فحدِّث ولن تجد لحديثك خاتمة يقف عندها.
وما علاقة هذا كله بسؤالنا الذي طرحناه أخيرًا، وهو: هل يمكن للعربي أن يشارك في هذا الجهاد العلمي، شريطة ألا يتنافر مع جذور في حياته ولا تكتمل له تلك الحياة إلا بها، ألا وهي دينه وتاريخه؟ وقد يتعجَّب القارئ من سؤالي هذا، قائلًا لنفسه: وما الذي يمنع الجمع بين الجانبَين في شخصٍ واحد؟ على أن هذا المتعجَّب يرجح له أن يكون على تصوُّر للمشاركة العلمية المطلوبة هو التصور السائد فينا جميعًا؛ أي أن تكون تلك المشاركة مقصورة على دراسة ما قد أنتجه آخرون وكان الله يحب المحسنين. أما أن يتصور بأن المشاركة المطلوبة مختلفةٌ كل الاختلاف عن حفظِ ما بين يدَيه؛ إذ تعني — أولًا — أن نحيا حياةً اجتماعية من شأنها أن تُفرِز لنا وجوب البحث العلمي الذي نُواجه به تلك المشكلات. و— ثانيًا — أن تنشأ في جوف تلك الحياة العلمية، اهتماماتٌ على مستوًى أعلى يرتبط بها رجال الاختصاص العلمي بمن يقابلهم في أنحاء العالم المتقدم، ليكون لنا نصيبنا المعقول في بحث أمهات المسائل العلمية التي تستهدف سَدَّ الثغرات الموجودة، والمتعلقة بأسئلةٍ كبرى لم تجد أجوبتها بعدُ. و— ثالثًا — أن يكون منَّا من يبادر الدنيا بلفتةٍ علميةٍ جديدة في أي ميدانٍ من ميادين الطبيعة، فهذا كله لا يطوف للدارس العربي ببال، إلا إذا حفَّزتْه موهبتُه المحبَطة في وطنه، إلى هجرةٍ تضعه في مكان يقدِّره ويُشجِّعه ويُفسِح له مجال المشاركة العلمية بهذا المعنى الكبير.
إنه لا عجب في أن يكون الوطن العربي قد انفتَحَت أبوابه على الغرب منذ ما يقرب من قرنَين كاملَين، ومع ذلك فهو يُعَد بمنزلة من رفض، ويرفُض تقبُّل هذه الحضارة العلمية، اللهم إلا مستهلكًا لثمارها، ودارسًا في معاهده وجامعاته دراسة التلاميذ، فيُحصِّلون ما بين أيديهم، وعلى أساسه يكون منهم المهنيون والمحترفون في ميادين الحياة العملية، حتى إذا ما واجهَتْهم تلك الحياة بمفاجآتٍ لم تكن مذكورة في المادة العلمية المدروسة، استدعَينا لمعالجتها خبراءَ من خارج بلادنا!
فإلى المتعجِّب الذي يسأل قائلًا: وما هو وجه الصعوبة في أن ندرس علوم العصر لنضيفها إلى دينٍ عندنا وتاريخٍ لنا؟ نقول: إن الصعوبة قد نشأَت من الطريقة التي رُبِّينا عليها، وتعلَّمنا في جوها، وهي طريقةٌ من شأنها أن يُؤخذ الدين وأن يُفهم التاريخ على نحوٍ يظهرهما وكأنما يتنافران مع العلم الطبيعي الجديد ونتائجه؛ ومن هنا نرى دارس العلم عندنا — ودع عنك أفراد الجمهور العام — يتناول ذلك العلم على حذَر، خشية أن يكون الأخذ به أخذًا كاملًا، يصدر عن قلبه حبًّا وإقبالًا، صدوره عن عقله دراسة وفهمًا، قد يتنافى مع الإيمان الديني أو مع أي شعورٍ مما توارثناه عن ماضينا جيلًا بعد جيل؛ إذ قد يتنافى — مثلًا — مع خوارق الأولياء، أو مع الاعتقاد في عجز الإنسان وقصوره بالقياس إلى علم الله وقدرته سبحانه وتعالى.
فما الذي ألقى في رُوعِ العربي الجديد هذا الفزع كله من العلم الطبيعي في صورته الحديثة؟ ولكي تدرك إلى أي حدٍّ قد بلغ منه الحذَر الفازع تجاه هذا العلم، قارن بين موقف العربي في هذا الصدد، وموقف الشعوب الصفراء، كاليابان، والصين، وكوريا، وتايوان؛ لترى الفرق البعيد بينهما في الجرأة على تشرُّب الروح العلمية الجديدة في عالم الصناعة، حتى لترى إنتاجها الصناعي يقتحم على بلاد الغرب أبوابها لينافسها في عقر ديارها، مع أننا وشعوب البلاد الصفراء نلتقي إلى حدٍّ ما في أن لكلٍّ منا تقاليده التي انحدرَت إليه عَبْر تاريخه الطويل، ويرفض أن يُلقيَ بها في البحر ليستقبل الغرب الحديث بكل كيانه. إنني إذ أتأمل موقف العربي من علم عصره، وهو موقفٌ حَذِر رافض بوجهٍ عام، ولا يخدعنا أن تمتلئ أرضنا وسماؤنا بثمرات ذلك العلم، وأن تتجاوب القاعات في جامعاتنا بأصداء المقرَّرات العلمية والمعامل وغيرها؛ لأن ذلك كله — كما ذكرتُ فيما أسلفتُه — إنما هو قطفٌ لنتاج غيرنا، نأخذه ونحفظه ونستخدمه، وحتى إذا صنعنا شيئًا مثله، جاءت صناعتنا في أغلب الحالات نسخةً منقولة عن أصلٍ أنتجه غيرنا، أقول إنني إذ أتأمل هذا الموقف الرافض لحضارة العصر متمثلةً في روحه العلمية، أجدني متجهًا بفكري في اتجاهين؛ في اتجاهٍ منهما أحاول مقارنةَ هذا الرفض بما كان للعربي من ريادةٍ علمية خلال ما يقرب من تسعة قرون، فأسأل لماذا؟ ثم أحاول الجواب. وفي الاتجاه الثاني أُحاوِل أن أتلمَّس في روح العلم الجديد معالم قد تبدو وكأنها تُناقِض روح الدين وروح الحياة كما مارسناها عَبْر عصور التاريخ.
فأما في الاتجاه الأول — الذي أقارن فيه بين موقف العربي من علم اليوم وموقفه من علم الأمس — فما أسرع ما تأتيك المقارنة بما تريد؛ فعلم الأمس منذ بدأ عند الإنسان نظرٌ علمي حتى نهضَت أوروبا في القرن السادس عشر، كان في أغلب حالاته يدور حول استخراج صيغةٍ من رموز، باستدلالها من صيغةٍ أخرى من رموز. ولقد تعمدتُ هنا استخدام كلمة «رموز» لتشمل فيما تشمله، قسمَين هامين هما: «اللغة» وتراكيبها، و«الرياضة» وما فيها من أعداد أو حروف، فكان مدار الفكر العلمي في معظمه؛ إمَّا علومًا لغوية وفقهية وتحليلاتٍ شارحة لما قد سبق السلف إلى قوله، وإمَّا علومًا رياضية خالصة كالحساب والجبر والهندسة، وإما علومًا أخرى تنبني على الرياضة كالفلك، وفي جميع هذه الحالات لم يكن النظر العلمي ينصبُّ على ظاهرةٍ طبيعيةٍ انصبابًا مباشرًا ليستخرج قوانينها، بل كان ينصَب — كما قلتُ — على أقوال، أو مركباتٍ رياضية (ومنهج الاستنباط في كلتا الحالتَين واحد في أساسه)؛ ومن هنا وجبَت الحَيْطة حين نذكر «علم» القدماء، لنقارنه بعلم المحدَثين؛ فالفرق بعيد بين المعنيَين برغم أن كلمة «علم» مشتركة في الحالتَين، فعلم السالفين توليد كلامٍ من كلام، أو رموز من رموز، وأما العلم الطبيعي عند المحدَثين فموضوعه الطبيعة ذاتها، يتناولها تحليلًا ليصل إلى أبسط وحداتها التي هي بمنزلة الخامة الأولية التي هي قوام الكائنات، واستخلاص القوانين التي على نسقها تجري الظواهر الطبيعية كما تجري. وفي هذا الميدان برع العرب الأقدمون براعةً تفوَّقوا بها على معاصريهم في الغرب، مع ملاحظة أن القرون التسعة التي جعلناها فترة الإبداع العربي كانت هي نفسها عصور أوروبا الوسطى التي كثيرًا ما تُوصف بأنها «العصور المظلمة» وتبدَّل الموقف حين نهضَت أوروبا في القرن الخامس عشر؛ إذ وجَّهت نظرها العلمي إلى الطبيعة، بعد أن كان ذلك النظر موجهًا إلى صُحفٍ خلَّفَها السابقون. وفي تغيير الاتجاه من الصحف وكلماتها إلى الطبيعة وظواهرها وكائناتها، اقتضى الأمر منهجًا جديدًا غير منهج التوليد الذي كان مستخدمًا في استخراج كلامٍ من كلام، أو رموزٍ من رموز، وعندئذٍ وقف العرب حيث كانوا؛ فبينما زاوج الغرب في حياته العلمية، فجمع فيها قديمًا مقروءًا إلى جديد مرئي ومسموع؛ مضى العربي في طريقه يستأنف قديمه في جديده. على أننا لا نريد للقارئ أن يتجاهل جانبًا في مرحلة الإبداع العربي، كان فيه النشاط العلمي منصبًّا على «موضوعٍ خارجي» وليس على صيغ كلامية ليستولدها صيغًا كلاميةً أخرى تُنتَج منها.
فإذا أقبل العربي المعاصر على حياةٍ علمية، حاملًا معه نظرة القدماء إلى العلم مادةً ومنهجًا، وجد الهوة عميقةً بينه وبين ما يتطلَّبه العلم التقني «التكنولوجي» المعاصر بأجهزته التي يتوسَّل بها في عملية البحث العلمي، ثم بأجهزته وآلاته التي هي بدورها ثمراتٌ صناعية ينتجها ذلك العلم. ومن هذه المسافة البعيدة بينه وبين عصره في الرؤية العلمية، يشعُر بالغربة التي تؤدِّي به إلى النفور الرافض أو إلى القبول الحذِر الخائف.
وأما الاتجاه الثاني الذي أجدني متجهًا إليه كلما تأملتُ موقف العربي في حاضره من علوم عصره فهو اتجاهٌ أتساءل فيه: ترى هل يكون ذلك الشعور بالغربة الذي ينتاب العربي المعاصر، ناشئًا كذلك من فجوةٍ أخرى تفصل ماضيه عن حاضره، وهي فجوةٌ أعني بها الفرق البعيد بين ما ينتج للعلماء من تحليل المادة الكونية إلى ذرات، والذرات إلى كهارب، والكهارب إلى صنوفٍ منها مختلفة أظنها أربعة في عددها؛ فمثل هذا التحليل الجديد لمادة الكون قد أوحى بعدة أفكار، منها: أن الفاصل بين ما هو «مادي» وما هو «لا مادي» أوشك أن يزول؛ فها هي ذي قطعة الخشب أو الحديد، قد ردَدْناها آخر الأمر إلى «طاقة» كهربية، ثم يُضاف إلى ذلك ما هو أدعى إلى العجب، وهو أن تلك الكهارب التي تتآلف منها الذرة لا تنقاد في نشاطها إلى قوانين حاسمةٍ محكمة، بل هي تنشَط في كثيرٍ من «الحرية» فلا يتمكن العلم من التنبُّؤ في لحظةٍ معينة، كيف تنشط في اللحظة التالية، فإذا أراد العلم إزاء ذلك أن يستخرج للذرة وكهاربها قوانينها، لجأ إلى منهجٍ إحصائيٍّ لا حتمية في نتائجه. وفوق هذا وذاك، قد يتَفرَّع عن الموقف العلمي الراهن، نتيجةٌ نراها بالفعل عند نفرٍ من مفكري هذا العصر وفلاسفته، وهي أن الكون «تعدُّدي» يتعذر على الباحث فيه أن يجد «الواحدية» التي تجعله كونًا واحدًا موحَّدًا فيما يشبه الكيان العضوي الفرد، خصوصًا إذا تذكرنا أن «الكون» كما يراه علم اليوم، «يمتد» في كل اتجاهٍ كأنه كتلةٌ غازية تنتشر وتزداد اتساعًا ثم تظل تنتشر وتتسع آفاقها، وإذا كان ذلك كذلك، فالكون في مجموعه اليوم لم يكن على صورته وحجمه هذا بالأمس، لا، ولن يكون غدًا. ولنا — بالطبع — أن نضيف نتائجَ فرعيةً كثيرةً أخرى مما انتهى إليه علم هذا العصر، كالهندسة الوراثية التي تزداد قوةً كل يوم، ومن شأنها أن يزداد الإنسان قدرةً على التغيير والتبديل في طبائع الكائنات الحية، بما فيها الإنسان نفسه، وهذا مثلٌ واحد من أمثلةٍ كثيرة.
وحيال هذه الممارسات العلمية العصرية بكل ما ذكرناه وما لم نذكُره من نتائج، أراني مسائلًا نفسي، كلما تأمَّلتُ الوقفة الرافضة التي يصطنعها العربي الجديد، قائلًا: أتكون علة موقفه هذا تلك الهوة السحيقة بين رؤية هذا العصر، وبين ماضيه الذي أورثه رؤيةً أخرى؟ قد يكون ذلك. وبهذا — إذا صحَّ — يصبح الرفض العربي للوقفة العلمية ذات الطراز الذي يُميِّز عصرنا، مؤسسًا — في أعماقه — على عاملَين؛ أولهما هو أن العربي قد وقف بإبداعه الفكري عند مرحلة التوليد الذي يستنبط رموزًا من رموز، والرموز قد تكون مفردات اللغة ومركباتها، وقد تكون رياضيةً، ولم يدخل مع الغرب مرحلته العلمية الحديثة التي تتجه نحو الكون وكائناته وظواهره، بالإضافة إلى الاتجاه الأقدم نحو الكتب الموروثة عن السلف، والنسج على منوالها. وأما العامل الثاني فهو ما قد تطوَّر إليه العلم الحديث نفسه إلى مرحلةٍ تقنيةٍ تقوم على أجهزة وتنتج أجهزة، مما أدى إلى مزيد ومزيد ثم مزيد من تحليلات للكون وكائناته، في دقة أوصلَت الإنسان إلى علمٍ أوسع وأعمق لطبيعة الكون ومادته، فازداد بعلمه هذا قدرةً لم يكن يتصوَّرها بشر من قبلُ، كما أوصلته — بناءً على المعرفة الجديدة — إلى أفكارٍ واعتقاداتٍ تصطدم في — في ظاهرها على الأقل — مع وجهة النظر في الموروث العربي.
ولسنا نريد تبسيط الأمور المعقدة، لكننا مع ذلك إذا ما قلَّبنا النظر في العاملَين المذكورَين اللذَين رأيناهما — على سبيل الظن — علة إحجامنا عن الأخذ بجوهر العصر لنشارك فيه مشاركة سيد مع سيد، وجدنا الخروج من المأزق الحضاري في حدود المستطاع، دون أن نلجأ إلى اعتسافٍ في تصوُّرنا لحقيقة الأمر الواقع، فأما عن العامل الأول، الذي يتلخَّص في أن العربي يسير بفكره على منهج التوليد الاستنباط وحده كما كانت الحال مع السلف ﺑ «صفةٍ عامة» وبرغم أنه يُحصِّل علوم العصر بمناهجها الجديدة، إلا أنه يَحصُر تلك المناهج الجديدة في مجالها الأكاديمي أو المهني وحده، ولا يُجاوز بها تلك الحدود ليجعلها عمادًا من عُمُد منظوره الفكري بصفةٍ عامة، فالتغلُّب على هذا القصور مرهونٌ بضربٍ جديد من التعليم في مدارسنا وجامعاتنا ننقل به إلى الدارس مادةً علمية ومنهجها؛ بحيث يتشرب مع العلم طريقته، فحتى لو أنسته شواغل الحياة العملية بعد ذلك، مادة الموضوع العلمي الذي درسه، بقي له منهج النظر، يستخدمه في شتى مجالات الحياة التي تتطلب فكرًا منهجيًّا يتلاءم مع جو العصر.
وأما عن العامل الثاني، وهو أخطر شأنًا، وأعني به تلك الفجوة بين ما قد انتهى إليه العلم الجديد من تحليل للمادة، ومن قدرة للإنسان على التغيير والتبديل في الكائنات الحية، ومن رؤيةٍ عامة ترى الكون مقطوع الأوصال متعدد الأجزاء، مما قد ينفي عنه التوحد، الفجوة بين هذا كله، وبين ما يظن العربي أنه رؤيةٌ عربية أصيلة، ترى في الكون واحدية، وثباتًا ودوامًا، وتُنكِر على الإنسان حقَّه في العبث بالكائنات كما خلقها خالقها، فذلك كله يمكن إمعان النظر فيه، فنراه غير ما ظنَّه العربي حين قارن بين حاضر الدنيا وماضيه، فلو أن علماءنا القدماء المبدعين الذين — بحكم اهتمامات عصرهم — صبُّوا قدراتهم البحثية على موضوعاتٍ أخرى غير الطبيعة وظواهرها، كاللغة، والفقه، وتحقيق الحديث، وغيرها، أقول لو أن هؤلاء العلماء القدامى المبدعين قد عاشوا في عصرنا هذا، باهتمامات العصر المتجهة نحو مزيد من العلم بالكون وكائناته، لكان الأرجح أن نراهم في الطليعة مع غيرهم، كشفًا لطبائع الأشياء وصوغًا لقوانينها، وتحليلًا للمادة إلى الذرة بمفهومها الجديد وما دون الذرة، وهو تجرؤ للمادة في معامل العلم، لا يؤدي إلى تمزُّق في الكون يُبعده عن واحديته؛ فليس في الدين أمرٌ يُقيِّد الإنسان في تدبُّره لخلق الله عَزَّ مِن خالق.
إنها طريقة التربية، وطريقة التعليم، وطريقة الإعلام في الوطن العربي، لو استنارت فأنارت، لأضحى العربي الجديد عربيًّا حقًّا وجديدًا حقًّا، وفي شخصه يتواصل حاضره وماضيه.