مأزق حَرِج
من المشكلات الفكرية ما قد يَعرِض لك عبورًا في لحظة من لحظات الحياة الجارية وكأنها جاءت مصادفةً لتختفي مع ظروف حدوثها، ولكنك تراها وقد تشبَّثَت برأسك لا تريد أن تنزاح عنه إلا أن تجد لها حلًّا فتستريح. ولو أنها مشكلةٌ هامشية لا تضرب بجذورها في حياتنا إلى الصميم، لأمكن تجاهُلُها برغم حضورها، أما أن تنظر إليها فتجدها مما يقع في بنائنا الثقافي عند حجر الأساس، فها هنا يزداد أمرها تعقيدًا؛ فلا هي تنزاح من تِلقاء نفسها نسيًا مع ما ينساه الإنسان من همومه مع مر الزمن، ولا أنتَ من جانبك تُريد لها أن تنزاح قبل أن تحُل عُقدتها.
ومن أمثلة هذه المشكلات المُحيِّرة، مشكلة كنا طرحناها عرضًا — أو قل إنها طَرحَت نفسها في مجرى الحديث — وكنا ثلاثة؛ صديقَين وأنا (والصديقان الآن في رحاب الله) وسوف أعرض على القارئ، لنحاول معًا أن نجد منها مخرجًا، وإن كنتُ على شك في أن يُشارِك قارئ اليوم في أمثال هذه القضايا الفكرية، التي ربما ظن أنها قضيةٌ لا تمس حياتنا العملية في كثير أو قليل، وتأخذه الدهشة للوهلة الأولى، حين أزعم له أنها تَسري في تلك الحياة العملية سريان الدماء في أوعيتها من الكائن الحي؛ فلقد كان موضوع الحديث بيننا — أعني الصديقَين وهذا الكاتب — هو البحث عن أعمق أساسٍ يمكن أن نرُدَّ إليه اختلاف النظرة الأخلاقية بين العربي من جهة، وشعوب الغرب بصفةٍ عامة من جهةٍ أخرى. نعم إننا نحن وهم على حدٍّ سواء ندين بديانات هي نفسها الديانات هنا وهناك (وذلك على الأعم الأغلب) مما كان يمكن أن يؤدي إلى رؤيةٍ أخلاقية واحدة أو متقاربة، وأسسُ الفضائل والرذائل متشابهة في البشرية بأَسْرها. إذن فما الذي أحدث الاختلاف الظاهر بين الرؤيتَين في آخر المطاف؟ أم أن الاختلاف — يا تُرى ظاهرةٌ سطحية، حتى إذا ما حفرنا التربة تحت الشجرتَين، وجدناهما فرعَين من أصلٍ واحد؟
ذلك هو السؤال كما طرحناه على أنفسنا ذات يومٍ من أواخر سنوات الخمسينيات؛ فبعد أن تخبَّطنا في السير بأفكارنا، هنا مرةً وهناك مرة، اقترح أحدُنا، وكان دائمًا سريع الالتفات بفكره نحو «اللغة» ليجد فيها ما يفضُّ معظم المشكلات الفكرية، اقترح أن ننظر إلى مفرداتٍ لغوية نراها أساسيةً بالنسبة إلى الوقفة الأخلاقية لنُقارِن مفرداتنا العربية بما يقابلها من مفرداتهم، لعلنا نقع على قبسٍ يهدي، ثم أشار صاحبنا إلى كلمة «المثال» (أو «المثَل الأعلى») في اللغة العربية، وما يُقابلها في الإنجليزية والفرنسية معًا، وقد يكون كذلك في لغاتٍ أوروبية أخرى؛ لأن ذلك المقابل يرتدُّ إلى أصلٍ يوناني قديم، وأعني بذلك المقابل كلمة «أيديال»؛ فما نُسمِّيه باللغة العربية «مثلًا أعلى» (أو «مثالًا») يسمُّونه هناك «أيديال». وما إن تقدَّم صاحبنا بهذا الاقتراح، حتى فتح الله علينا بشيءٍ كثير مما نبحث عنه، فانظر — أولًا — إلى الكلمة العربية «مثال» التي على أساسها نَصِفُ الشخص الأكمل، أو السلوك الأكمل، بأنه «مثالي» تَجدْها شديدة الصلة بالكلمة الدالة على الفرد العادي الذي لم يبلغ — بالضرورة — درجة الكمال في المجال الذي يكون هو موضوع الحديث، وأعني بها كلمة «مثَل»؛ فليس بين «المثل» الواحد من الأمثلة الكثيرة في نوعٍ ما، وبين «المثال» إلا حرفٌ واحد، هو حرف الألف في كلمة مثال، لكن ذلك الحرف الواحد قد ميَّز «الأعلى» من كل ما دونه من «أمثلة»، فإذا قلنا عن طالبٌ معيَّن من طلاب الجامعة، إنه هو «مثال» الطالب الجامعي، كان معنى ذلك أنه قد بلغ أكمل درجات التفاوت، بالنسبة إلى جميع «الأمثلة» التي تقع عليها في مجموعة الطلاب، لكن كلمة «مثال» وإن تكن قد رفعَت صاحبها إلى أكمل الدرجات فيما يتفاوت فيه طلبة الجامعة، فهي في الوقت نفسه لا تجعل من ذلك الطالب المثالي مخلوقًا آخر ينتمي إلى غيرِ أُسرة البشر؛ أي إن من هو «أكمل» ومن هم دون ذلك مرتبةً، يتدرجون جميعًا في جماعةٍ إنسانية واحدة، يتفاوت أفرادها في الدرجة، دون أن يختلفوا في النوع الإنساني الذي ينتمون إليه. وقل هذا نفسه أينما ميَّزتَ شيئًا دون سائر الأمثلة من أقرانه، كأن تُميِّز معزوفةً موسيقية بدرجة الكمال التي بلغَتْها ولم يبلغها سواها، أو أن تُميِّز جوادًا دون سائر الجياد، أو كتابًا في موضوعٍ معيَّن دون سائر الكتب في ذلك الموضوع، وهكذا، وما معنى ذلك؟ معناه أن نظرة العربي — استدلالًا من لغته — حين يُفاضل في مجال الأخلاق، أو في أي مجالٍ آخر، فهو إنما يُفاضِل بين كائناتٍ من كائنات العالم الواقعي الفعلية، فاضلًا ومفضولًا على حدٍّ سواء، فجميعهم على درجةٍ ما من النقص وكل ما هنالك من فرقٍ بين فاضل ومفضول، هو أن درجة النقص في أولهما أقل من درجة النقص في الثاني. ولعل مَردَّ هذه النظرة العربية، هو أن يُحتفظ بالكمال المطلق لله وحده سبحانه وتعالى.
ونترك هذه النظرية العربية مؤقتًا، لنتجه بأنظارنا إلى نظرة أهل الغرب، مأخوذةً من لغتهم؛ فقد أسلفنا بأن الكلمة المقابلة لﻟ «مثال» عندنا، هي كلمة «أيديال» عندهم، وهي كلمةٌ مشتقة اشتقاقًا مباشرًا من «أيديا» ومعناها «فكرة»، وأين تكون الأفكار؟ إنها لا تكون على الأرض كسائر الأجساد والأجسام، بل هي كائناتٌ «عقلية» لا يحدُّها ما يحدُّ الأشياء المادية من حدود المكان وحدود الزمان، والفكرة العقلية عن أي شيءٍ مهما يكن موضوعه، هي دائمًا أقرب جدًّا إلى الفكرة الرياضية. ومعلومٌ أن الفكرة الرياضية لا تُشير إلى مادة الأشياء، بل تُشير إلى ما بين الأشياء من «علاقات»، فإذا قلت مثلًا «خمسة» فأنت لا تشير بهذه الصورة الرياضية إلى مجموعة بذاتها من مجموعات الأشياء، وإنما تُقدِّم بها «صورةً» عدَدية تصلُح لكل مجموعة من الأشياء تُوازيها في «العلاقات» التي تُصوِّر هيكلها البنائي، وقد تكون مجموعة الأشياء خمس برتقالات، أو خمسة كتب، أو خمسة رجال أو ما شئت؛ فكل المجموعات الخمسية متشابهة في صورة علاقاتها الداخلية بين أفرادها؛ أي إنها متشابهةٌ كلها في «الصورة» برغم اختلاف مجموعات الأشياء المختلفة في مادة مضموناتها.
ومعذرةً لهذا الإسهاب في شرح الفكرة الرياضية، لكنها ضرورةٌ تُحتِّمها الرغبة في أن نفهم الهيكل الذي تُبنى عليه كل فكرة أيًّا ما كان مجالها؛ إذ هي دائمًا صورةٌ مجرَّدة، قوامها «علاقات» أطراف بعضها ببعض. ولا بد لي هنا أن أُنبِّه القارئ بألا يخلط بين الفكرة عندما تكون مجرَّدة، كفكرة «بيت» — مثلًا — دون أن تُشير بها إلى بيتٍ واحد معيَّن، وأن تستعيد بالذاكرة صورة بيتك الخاص، أو بيتٍ بذاته أيًّا كان؛ فليست أمثال هذه الصورة الذهنية التي تتذكَّرها مما وقع لنا في حياتنا الفعلية، هو ما نقصد إليه هنا، وإنما قصدنا إلى الأفكار، التي تُشير كل فكرة منها إلى نوعٍ بأَسْره من الكائنات.
وعلى ضوءٍ من هذا الشرح نعود إلى أهل الغرب حين يجعلون المثل الأعلى «فكرة» مجرَّدة، ولا يجعلونه فردًا معينًا من مجموعة الأفراد، كما هي الحال بالنسبة إلى ما تعنيه كلمة «مثال» أو «مثل أعلى» في اللغة العربية. إننا حين نقول عن طالبٍ معيَّن إنه «مثال» الطالب، فنحن — كما أسلفنا — نقارن كائنًا مجسَّدًا بسائر أفراد نوعه أو جنسه. وأما أهل الغرب حين يقولون عن طالبٍ معيَّن إنه «أيديال» فهم — استدلالًا من الأساس اللغوي للمعنى — يقارنونه بالفكرة العقلية المجرَّدة لما يصف الكمال في الطالب، والفكرة العقلية المجردة — كما قلنا — هي أشبه شيء بالمُدركات الرياضية، أو قل إنها تمثل «التعريف» النظري الذي يُحدَّد به الأركان الجوهرية للشيء الذي أردنا تعريفه.
ولكن ما أهمية هذه التفرقة بين قومٍ يجعلون «المثل الأعلى» في مجالٍ معين، فردًا من الأفراد يتميَّز بالدرجة في سُلَّم التفاوُت، وبين قومٍ آخرين يجعلونه فكرةً عقلية مجردة، يُقاس إليها الأفراد بعدًا وقربًا؟ وجوابنا هو أن الفرق آخر الأمر كبير، حين يصبح الموقف علاقاتٍ اجتماعية بين الناس وهم يتفاعلون بعضهم مع بعض؛ ففي الحالة الأولى، اتي يكون «المثل الأعلى» فيها واقعًا ماديًّا، لا يُتَّهم أحد بشططٍ أو إسراف أو عنت، إذا طالب كلَّ الناس فردًا فردًا أن يَحيَوا حياتهم على صورةٍ مثلى؛ لأن ما قد تحقَّق في فردٍ واحد منهم، لا يصبح مستحيلًا عليه أن يتحقَّق في سائر الأفراد، وهذا المطلب هو بالفعل مدار الحكم الخُلُقي على الناس من وجهة النظر العربية، لكن حقيقة الإنسان أضعفُ من أن تُمكِّن جميع أفراد المجتمع من أن يبلُغوا ذروةً استطاع بلوغَها فردٌ واحد متميز؛ ومن هنا ينشأ للمواطن العربي في حياته العملية، ذلك المأزِق الحرِج الذي أشرنا إليه في عنوان هذا الحديث؛ لأنه سيجد نفسه دائمًا أمام احتمالَين؛ فإما هو قادر على تجسيد الذروة الخُلُقية في سلوكه، كما استطاع بلوغَها مواطنٌ مثالي معيَّن. وإما يجد طبيعته أضعفَ من أن تُسعِفه في ذلك المسعى. وهنا يغلبُ عليه التستُّر على ضعفه ذاك، حتى لا يكون موضع ازدراءٍ من مواطنيه، فيلجأ إلى ازدواجيةٍ مأمونة العواقب في حياة دنياه، وذلك بمعنى أن يتظاهر أمام الناس بما هو أفضل، مما لا يقع تحت المؤاخذة الخُلقية، ويرجئ إشباعَ جوانبِ ضعفه إلى حين يحتمي وراء الجدران فلا تقع عليه الأبصار. وفي مثل هذه الظروف التي تُهيِّئ الفرصة لانتشار الازدواجية الخُلقية، يكون من المرجَّح أن يسود الناسَ عدمُ التسامُح مع من لا يَبرعُ في ممارسةِ تلك الازدواجية على نحوٍ محكمٍ، بحيث يجعل نفسه على مرأى من الناس ومسمع، وقتما ينهزم أمام نوازعه، فيبدو للناس على غير صورة الكمال الخلقي المنشود.
وأما في الحالة الثانية، التي هي حالة أهل الغرب حين يقيسون سلوك الناس إلى «فكرةٍ» عقلية تُصوِّر ما ينبغي أن يكون عليه الأمر، من الناحية النظرية، فالمفهوم ضمنًا في هذه الحالة، أن النزول بتلك الصورة العقلية المجردة إلى الأرض لتتجسَّد فعلًا في مسالك الأفراد، هو أمرٌ مُحالٌ على البشر، ومع ذلك فهو أمرٌ مرغوبٌ فيه أن تُقام أمام الناس صورةٌ مثلى لما ينبغي أن يكون، ليحاول الإنسان ما استطاع أن يقترب من الهدف، وبقَدْر اقترابه يكون مقدارُ فضيلته، وهو موقف تنتج عنه نتيجتان اجتماعيتان؛ الأولى هي أن نسبية الحكم الخلقي أكثر حفزًا للأفراد على محاولة الصعود نحو الأكمل، دون أن يصيبه إحباط عند الفشل. والثانية هي أن أفراد المجتمع يصبحون أكثر تسامحًا بعضهم مع بعض في الأحكام الخلقية؛ لأن الأمر عندهم ليس هو إما الصواب كل الصواب وإما الخطأ، بل هو أن فعلًا معينًا أصوب من فعلٍ آخر، وأن خطأ معينًا أوغلُ في الخطيئة من خطأٍ آخر.
وخلاصة الفرق بيننا وبين أهل الغرب — فيما يبدو لنا — من حيث الرؤية الأخلاقية، هو أنه برغم اتفاقنا على إقامة تصوُّرٍ لمجموعةٍ منسَّقة موحَّدة للقيم العليا المطلقة؛ أي التي تصل فيها كل قيمةٍ من تلك القيم إلى ما لا نهاية له من الكمال، فصدقٌ مطلقٌ، وإرادةٌ مطلقةٌ، ورحمةٌ مطلقة، وقدرةٌ مطلقة، وعلمٌ مطلق … إلخ، كلها يجتمع معًا في صورةٍ موحَّدة، لتصبح أمامنا غاية الغايات، فنسعى إلى الارتفاع إليها بما نُفكِّر وما نُريد وما نسلُك، دون أن نطمع في بلوغها، وإلا طمعنا في أن نبلغ مرتبةً إلهية، وسبحان الله الذي لا إله إلا هو. أقول إننا في نظرتنا العربية، وأهل الغرب في نظرتهم، على اتفاق في الإيمان بوجود تلك القيم في لا نهائيتها، لكن أبناء الثقافة الغربية يقفون عند هذا الحد، ويجعلون تلك الصورة العليا غايةً يُقاس إليها الفعل الإنساني اقترابًا منها أو ابتعادًا عنها، فتكون الحالة الأولى توجهًا نحو الفضيلة يُحمَد عليه الإنسان، وتكون الحالة الثانية مجافاةً للفضيلة يهبط بها الإنسان نحو الرذيلة. وقد أسلفنا لك القول بأن مثل هذا الموقف من شأنه أن يؤدي إلى شيء من المرونة في الأحكام الخُلُقية على الناس؛ لأن قياس عملٍ محدَّد معيَّن إلى فكرةٍ مجرَّدة مطلَقة لا يُبيِّن لنا الحدود واضحةً وحاسمة وفاصلة.
ولا كذلك نظرة العربي؛ لأنه يضيف إلى إيمانه بتلك الصورة اللانهائية المطلقة، صورةً مما يمكن أن يحياه الإنسان في حياته العملية، فتكون هي المعيار الذي يُحاسَب الفرد على أساسه فيما يفعل أو ما يمتنع عن فعله. ومن شاء أن يعرف — بالنسبة إلى المسلم — كيف يكون للإنسان في كل مواقف الحياة العملية «نموذج» يُحب أن يسلُك على غراره، فيقرأ كتاب «إحياء علوم الدين» لأبي حامد الغزالي. إذن فهذه المجموعة الكبرى من نماذج السلوك الصحيح هي التي تُقام معيارًا للحكم على الأفعال أهي مقبولةٌ أم مرفوضةٌ مرذولة. ولا أظن أن تحليلنا لحياة أهل الغرب يمكن أن يُؤدِّي بنا إلى نماذجَ حاسمة الحدود تُفرض على الفرد من الناس ليحتذيها في سلوكه وإلا حُكم عليه بالفساد والضلال. ولسنا هنا في مقام التقويم والمفاضلة، لنقول أيُّ الرؤيتَين في عالم الأخلاق أصوبُ من الأخرى، بل نُحاوِل مجرَّد الوصف الموضوعي لما هنالك مما تختلف به نظرةٌ هنا عن نظرةٍ هناك.
ولو أن أمثال تلك «النماذج» السلوكية الحادة في معالمها وفواصلها قد نزل بها الوحي الديني بكل هذا التحديد الجازم، أو ورَد عنها حديث شريف، لوجب حقًّا أن تكون ملزمةً. أما إذا وُجد بينها ما ليس مُلزمًا للفرد المؤمن، كان من حقنا أن نسأل عن جدواها إذا كانت مجدية، أو عن ضررها إن كانت ضارةً. ووجوه الضرر واضحة، وأهمها حرمان الفرد الإنساني من حرية صياغته لسلوكه، كي يكون بحقٍّ مسئولًا أمام الله يوم الحساب؛ إذ لا فضل لإنسانٍ يسلك على نموذجٍ أُقيم له، حتى لو كان السلوك بمقتضاه سلوكًا فاضلًا؛ فالفضل الأول هنا لمن أقام النموذج وأوصى بالتحرُّك على منواله.
وليست هذه الحرية الضائعة هي كل ما يُؤخَذ على تقييد الحياة الفردية بنماذجَ موضوعةٍ لم يَرِد في أصول العقيدة ما يُوجبها؛ فقد نُضيف إلى الحرية المفقودة ما تؤدِّي إليه من تحطيم للشخصية. إن تلك النماذج الموضوعة لا تلبث أن تتجمَّد وتتحجَّر في صور يتناقلها جيل عن جيل، فتُصبح معوقات للتغيير إذا ما استُحدثَت ظروفٌ معاشية تقتضي ذلك التغيير، فضلًا عمَّا يمكن أن يحدث — بل وقد حدَث بالفعل في حياتنا وحياة غيرنا — أن تصبح تلك النماذج الموضوعة مقرراتٍ دراسيةً لبعض الدارسين، فتكتسي عندئذٍ بغلالة «العلم» فتنال توقيرًا ليس من حقها أن تناله؛ فنحن نعلم كم تضعُف الحاسة النقدية عند الكثرة الغالبة من الناس، بل ومن الدارسين أنفسهم، حتى ليكفي أن تَرِد جملةٌ معيَّنة في كتابٍ يدرسُه الدارسون في معاهد العلم، ليُلقى في رُوع المتلقي أن الذي بين يدَيه «علم» لا شبهة فيه. وتغيب التفرقة بين ما هو علمٌ صحيح، وبين ما هو تاريخٌ يروي لنا أقوالًا وردَت في كتابٍ أخرجه ذات يومٍ مجتهدٌ له علينا فضل اجتهاده، دون أن يكون علينا وجوبٌ الحكم بصوابه.
وهنا أريد الوقوف، مع القارئ لحظةً يسيرة، أُذكِّره فيها بالخطوات التي خطوناها فيما قدَّمناه، حتى لا تفلِتَ منه معالم الطريق؛ فقد كان السؤال الذي طرحناه باحثين له عن جواب، هو عن أسس الاختلاف الذي نشعُر بوجوده بين وجهة النظر العربية من جهة، ووجهة النظر في ثقافة الغرب من جهةٍ أخرى، وذلك في مجال «الأخلاق»، فأين تكمن مواضع ذلك الاختلاف؟ وذكرتُ للقارئ أن أحدنا — نحن الأصدقاء الثلاثة الذين أداروا فيما بينهم هذا السؤال — أقول إن أحدنا وقد عُرفَ بسرعة الرجوع إلى «اللغة» للاهتداء بمعاني مفرداتها في الموضوع الذي يحدُث له أن يكون مجالًا للبحث، وكثيرًا جدًّا ما وجد أن تعقُّب تلك المفردات اللغوية إلى جذور معانيها يكشف عما يمكن أن يُفسِّر المشكلة المطروحة، فاقترح على زميلَيه أن ينصَب التحليل والمقارنة على ما يُطلِق عليه العربي اسم «المثال» (بمعنى المثل الأعلى) في مقابلِ ما يُطلِق عليه ربيب ثقافة الغرب اسم «أيديال»؛ فمجرد المقارنة بين أصول هاتَين الكلمتَين سيلقي الضوء ما يَهْدي؛ ﻓ «المثال» عند العربي يُشير إلى شيءٍ واقعيٍّ يتصف بدرجةٍ من الكمال أعلى مما نجده في الأمثلة الفردية التي تقع مع ذلك المثال في نوعٍ واحد، والمادة اللغوية في «مثل» وكل ما يُشتَق منها، تشير إلى ما هو مُجسَّد من الأشياء التي تقع بالفعل في دنيا الأحداث، وأما كلمة «أيديال» فمأخوذة من أصلٍ معناه «فكرة». إذن فبينَما يجعل العربي مرجعه في الحكم الخلقي على «نموذج» من نماذج الواقع الفعلي، يجعل ابن الغرب مرجعه فكرةً مجردة قوامُها جملةُ مبادئَ نظرية. واستدلَلنا من هذا الفارق بينهما في مرجع الحكم، أن العربي أكثر تقيُّدًا من زميله. على ألا ننسى أن العربي كزميله يؤمن بالصورة العقلية المؤلَّفة من مبادئ الكمال المطلق، لكنه يضيف إليها تلك النماذج من صور الحياة البشرية كما تقع. وأبدَينا للقارئ ما نشعر به إزاء تلك النماذج الموضوعة، إذا لم تكن ملزمةً بحكم ورودها في أصول العقيدة الدينية؛ أي عندما تكون صياغةً بشرية، فعندئذٍ رأينا أنها قد تُضيف قيودًا على حرية الفرد في صياغة سلوكه بنفسه ليكون مسئولًا، وأنها قد يتقادَم عليها العهد فتَكتسِب في نفوس الناس قوةً ملزمةً دون أن يكون ذلك من حقها.
ثم نمضي — بعد هذه المراجعة — فنستأنف السير في حديثنا، فنقول: إن المخاطر التي تنجُم للعربي في حياته، عما قد تقرَّر له بأنه «مثل عليا» دون أن يكون لتلك المثل العليا حق الإلزام، لكونها كانت في أصل نشأتها من صنع أفراد من رجال الفكر يتعرَّضون للخطأ كما يتعرضون للصواب، إنما هي مخاطرُ بعيدة الأثر، حتى لقد تنتهي بنا إلى شَللٍ في جرأة التفكير وخفَّة الحركة، فيمضي موكب الحضارة قُدمًا ونحن وقوفٌ مسمَّرة أقدمنا إلى الأرض، مغلولة عقولنا إلى «مثل عليا» لا هي «مثل» ولا هي «عليا».
إلا أنه لمأزق حرج محير مربك خطير، ذلك الذي ينشأ الفتى العربي في حبائله، فلا يدري كيف يجد سبيله من تلك الحبائل ليخرج إلى ما قد خُلِق ليمرح فيه، من أرضٍ فسيحة تحت قدمَيه، وسماءٍ مفتوحة فوق رأسه. وبقولنا «الفتى العربي» نُشير إلى أبناء هذا الوطن الصحراوي الفسيح، الممتد من الخليج إلى المحيط، عَبْر عصور التاريخ ومنذ فجر التاريخ. ولقد اختار التاريخ أرضَ مصرَ ليطلُع فيها بفجره، وكان ذلك الفجر مقرونًا في حياة الإنسانية بفجرٍ آخر هو «فجر الضمير». ولا عجب أن جعل عالم المصريات الفذ، والمؤرخ العظيم «بريستد» عبارةَ «فجر الضمير» عنوانًا على كتابٍ له في تاريخ البدايات الأولى للتاريخ المصري. وما يصدُق على المصري هنا، يصدُق كذلك على سائر أجزاء الوطن العربي بعد ذلك، وأعني ما قد أراده رب العالمين لابن هذا الإقليم المبارك، من أن يكون أول بشرٍ يضع محكمته الأخلاقية في قلبه، فأينما كان وحيثما سار، كان ميزان الحكم الخُلقي منصوبًا بين جوانحه يُميِّز به الخير من الشر، والهدى من الضلال، وإنه لضميرٌ جعل مبدأه في السلوك أن يتفاعل الفردُ مع سائر الأفراد على نحوٍ يُجاوز بالبصر حدود هذه الحياة الدنيا، أملًا في أن يجيء ذلك السلوك مُرضيًا لمالك يوم الدين إذا قامت الساعة وجاء الحساب. إن «الفتى العربي» قد أُريد له إذا ما تُرك على سجية إقليمه — أرضًا منبسطة إلى آفاقٍ بعد آفاق وسماء طلقة حتى آخر أجواز الفضاء — أقول: إن ذلك الفتى العربي لو ترك لسجيته وسجية وطنه، لَمَا عَرفَ في حياته العملية إلا ضابطًا واحدًا، هو ما انضبط به بوحيٍ من رب العالمين. وإنك لتسمع الفلاح المصري والعامل المصري، وهما في أبسطِ صورة لهما يُردِّدان عبارة «إني أعامل ربي» كلما جرى بينه وبين مواطنٍ تعامُلٌ في بيع أو شراء أو صناعة أو كيفما كان.
لكن هذه الصورة الفطرية البسيطة لم تُترك على بساطة فطرتها، بل أُضيفَت إليها القيود قيدًا فوق قيد؛ فهنالك حاكم وحكومة ظهرا في الساحة يتطلبان من الشعوب سيادةً لهما على الناس، قبل أن يتعهَّدا لتلك الشعوب بخدمتها في أمانة وشرف. إذن فقد بات حتمًا على المواطن البسيط كلما أراد أن يُميِّز خطأ الفعل من صوابه، أن يحسب حساب الحاكم والحكومة، إلى جانب ميزان الضمير. ولم يكن ذلك هو القيد الوحيد الذي غُلَّت به الأرجل والأذرع كما غُلَّ اللسان، بل فُرِض على الفرد قيدٌ آخر لعلَّه أبشع وأقسى، وهو «الرأي العام» الذي ترسَّبتْ في خلايا جسمه الكبير — وعلى مدى الأعوام والقرون — رواسبُ مما بُثَّ في تلك الخلايا من مَزاعمَ عن الحق والباطل، والصحيح والفاسد، حتى أصبح لذلك «الرأي العام» في كل شعبٍ على حدة، وفي مجموع الأمة، مزاجٌ خاص فيما يُغضبه وما يُرضيه. والويل لمن أقام ميزان ضميره ليكون فيصلًا بين ما يقبل وما يرفض، من فكرٍ أو اعتقاد أو سلوك، دون أن يبدأ بإحكام الرأي العام في كفَّة الميزان التي يُراد لها الرجحان.
لم يعُد الأمر — إذن — في حياتنا العملية مرهونًا بضميرٍ حُر يُوجِّه صاحبه نحو ما يُقال أو ما يُعمل، إرضاءً لرب العالمين خلال إرضاء ذلك الضمير، بل هنالك حاكم وحكومة، وهنالك رأيٌ عام ضاغط، فضلًا عما هنالك في طبيعة لإنسان الحيوانية من غرائز، وانفعالات وعواطف، ورغبات وشهوات، كلها يلحُّ على حاملها يريد إشباعًا وإرضاءً، فماذا تتوقع من الإنسان، الذي أُلهِمَت نفسُه فُجورَها كما أُلهِمَت تقواها، إزاء الصراع العنيف الذي لا بد له أن يستَعِر في جوفه بين تلك العوامل الكثيرة المتعارضة؟ ماذا تتوقَّع منه إلا أن ينجو من الناس فردٌ بقوته وصلابته، وأن يسقط حوله تسعة وتسعون فردًا خارت فيهم القوة ولانت الصلابة؟ وكيف يجيء ذلك السقوط؟ إنه قلما يجيء في شجاعة الصراحة والعلانية، وأما الأغلَب الأعم فهو أن يجيء في جُبن الخائف المتستِّر بضعفه وراء الجدران، فإذا كان له رأيٌ يخالف ما يُريده الحاكم والحكومة، وما ينصُره الرأي العام، قاله لخلصائه همسًا خلف أبوابٍ مغلقة، وإذا كانت به رغبةٌ تدفعه إليها غريزة أو عاطفة، سافر ليُشبِعها خارج الحدود، أو بحَثَ عن حجُبٍ يتخفَّى في ظلماتها، والويل لمن لا يُتقِن هذه اللعبة الاجتماعية ويجيدها.
ولو اقتصَرتْ تلك اللعبة الاجتماعية على حياة الناس الخاصة، لهان خطبُها، ولكنها تتعدَّى هذا المجال الخاص إلى المجال الثقافي العام، فإذا كنت كاتبًا، وجب أن تكتُب مما في ذات نفسك شيئًا وتخفي شيئًا، وإذا ترجمتَ لحياة بطلٍ من أبطالها، وجب أن تُصوِّره ملكًا من الملائكة المطهَّرين لا يعرف الضعف أو الخطأ إليه سبيلًا؛ فكل ما فيه قوة على قوة، وصواب فوق صواب، بل إنك إذا ترجمتَ لحياة نفسك، أبى عليك الرأي العام إلا أن تُعلِن الحسنات وتُخفِي السيئات، حتى لو كانت لكَ الشجاعة النادرة التي تميل بك نحو تقديم صورتكَ على حقيقتها قوةً وضعفًا.
في مثل هذا المأزق ينشأ الفتى العربي، فلا يجد أمامه خيارًا — في علاقاته مع الآخرين — إلا أن يفرض فيهم السوء إلى أن يثبت له عكس ذلك، فلا يأتمن أحدٌ منا أحدًا، ولا يصدُق أحد منا أحدًا، إلا بعد خبرةٍ يطمئن بها على نفسه، فنُكثِر فينا الضمانات، وتتعقَّد العلاقات، وتزداد الخصومات، مع أننا إذا ما تُركْنا على سجايانا الفطرية، لبدأنا بالحب قبل الكراهية، وبالأمن قبل الخوف، وبالتعاون قبل التنافُر، لكننا أضفنا إلى النقاء غبارًا، وإلى الصفاء عكرًا، فوقعَت حياتنا في مأزِقٍ حرجٍ مخيف.