من مصر إلى أودسا
هل أتاك حديث روسيا وقريمها؟ وقافقاسية وزعيمها على بُعْد الدار وشَطِّ المزار؟ وإن تَعْجَب فَعَجَب قَوْلُهُم، أهذه بلاد تستحق أن يُرْحَل إليها؟ وماذا بها من المشوِّقات والمُرَغِّبات حتى يَتَجَشَّمَ المرء من أجْلها عناء السفر ويَقْطَعَ البعيد من المسافات.
أجَلْ، إنَّ بلاد القياصرة جديرة بأن تُشَدَّ إليها الرحال؛ لأنها في الواقع لا تَقِلُّ عن غيرها رونقًا ونظامًا ولا أَمْنًا وسلامًا، ولأن بها ما بالمَمَالِكِ الأخرى من المناظر الطبيعية ومعالم الحضارة والمدنية، ما يَسْتَفِزُّ السائح لمشاهدة آثارها الجميلة وزيارة معاهدها الجليلة، ويَجْعَله لا يَمَلُّ من الإقامة بين ربوعها الناضرة وغياضها الزاهرة، أو يأسف بحال من الأحوال على ما يَصْرِفه فيها من الوقت والمال.
ولكل أُمَّة عادات أهلية وتقاليد دينية وقيود رسمية وقواعد نظامية، يجِبُ على الغريب احترامها ولو كانت مخالِفة لعادات وتقاليد قوْمِه. كما أنَّ لكل شَخْص أخلاقًا وطباعًا يَنْبَغِي للغير عَدَمُ التعرض له بها، ولو كانت مما لا يلائم أخلاقه وطباعه.
تلك سُنَّة دَرَجَ الناس عليها من القدم تَلَطُّفًا منهم وتَأَدُّبًا في حق بعضهم بعضًا، ومنعًا لما عسى أن يَحْدُث من عَدَمِ احترام الأخلاق والعادات من الأحقاد والمشاحنات والضغائن والعداوات. إذ من المُحَال أن يكون جميع الناس على مَشْرَب واحد وأخلاق وطباع واحدة؛ نظرًا لتَبَايُن الأمزجة والجِبِلَّات، وتأثير قوانين الوراثة والبيئة في الشخص وتَبَاعُد الأقاليم والمناطق، واختلاف اللغات والأجناس والديانات. وقصارى القول:
إذَا تَمَهَّدَ هذا وَجَبَ عليك إن قَصَدْتَ السفر إلى روسيا أن تَعْرِف قَبْل كل شيء نظامات الدخول فيها والخروج منها، وأن تَرْضَخ إليها ولو أنها غريبة في بابها، وفيها من الشذوذ ما لا يُوَافِق رُوح العصر بالمَرة. فَأَوَّل ما تَعْمَله أن تَسْتَحْصِل على باسبور كالعادة، ثم تؤشِّر عليه من قونصلاتو الروسيا بعد أن تَدْفَع لها رسمًا قَدْره ٢٤ قرشًا، وبِغَيْر هذه الإشارة يستحيل عليك أن تَطَأَ أرض روسيا أيًّا كانت صِفَتُك، ومَهْمَا عَلَتْ في الهيئة الاجتماعية مَنْزِلَتُك. على أنَّ الباخرة نَفْسَها تَجْمَع الجوازات من رُكَّابها قبل السفر من الأستانة إلى أودسا، وإن وُجِدَ منهم مَن لا جواز له أو كان جَوَازُهُ غَيْر مُؤَشَّر عليه من القنصل أَنْزَلَتْه حالًا إلى البر ولم تَسْمَح له بالسفر، حتى لو كان دافعًا للأجرة بتمامها، وإذا فُرِضَ أنه سَافَرَ خِلْسَة رَدُّوه عند وصوله إلى أودسا مثلًا مِنْ حيث أتى ولَمْ يَقْبَلُوا فيه أدنى شفاعة.
ومتى وَصَلَت السفينة إلى أودسا يَصْعَد البوليس إليها لفحص الجوازات المجموعة مِنْ قَبْل فَحْصًا دقيقًا، فإن وَجَدَها مُسْتَوْفِيَة للشرائط القانونية صَرَّحَ لأصحابها بالنزول إلى البر وإلا فَلَا.
وفي اللوكاندة لا يَكْتَفُون ببطاقة الزيارة، بل يطالبونك بالباسبور ليقيدوا اسمك في دفاترهم مِن واقِعِهِ، وليرسلوه بعد ذلك إلى بوليس المدينة لِيَعْرِف مَنْ أنت وأين أنت، وهو بَعْد أن يُسَجِّله عنده يَرُدُّه إليك ويَأخُذ على ذلك رَسْمًا تُحَاسِبك عليه اللوكاندة عند مبارحتها. ولو انْتَقَلْتَ مِن لوكاندة إلى أخرى في نَفْس البلد طالبوك بالباسبور أيضًا وأَرْسَلُوه إلى البوليس مرة أخرى، وهكذا يجري الحال على هذا المنوال في كل بلد تَحُلُّه من بلاد الروسيا.
وعند الخروج من الروسيا يجب حتمًا التأشير على الباسبور من البوليس قَبْل السفر ببعض أيام، وفي نظير ذلك تَدْفَع رَسْمًا لا يَقِلُّ عن رَسْم الدخول، وَعَلَيْك بعْد ذلك أن تَمُرَّ يوم السفر على بوليس المينا لِيَتَحَقَّقَ من هذه الإشارة ويُقَيِّد اسمك عنده، وبغير ذلك لا يُمْكِنك أبدًا الركوب في الباخرة والخروج من الروسيا.
ولَيْسَت هذه القيود قاصرة على الأجانب، بَلْ هي شاملة لنفس رعايا الروسيا، ولكن ذلك كله لا يَنْبَغِي أن يُقْعِد هِمَّتَكَ ويُثْنِي عزيمتك عن السفر إلى هاتيك البلاد الجميلة، للوقوف على درجة مدنِيَّتها ومعرفة حقيقة قُوَّتها وموارد غِناها وثروتها، فإنك متى دَخَلْتَها تَمَتَّعْتَ فيها بكل حرية كما لو كُنْتَ في فرنسا أو إنكلترا، وذَهَبَ عنك تأثير الباسبور وقيوده.
أَبْحَرَتْ بنا الباخرة من سكندرية في يوم من مايو رَقَّ نسيمه وصفا أديمه، ولكنها لسوء الحظ لم تَلْبَث أن سطا عليها الضباب في غداة ذلك اليوم فحَجَبَهَا عن الأنظار، حتى خِلْنا أننا في المحيط الأطلانطي أو تحت جوٍّ لوندرة في زمن الشتاء، ولَمْ نَعُد نُبْصِر شيئًا، فأخَذَت الباخرة تستجير بكثرة الصفير والشهيق والزفير لكي تَحِيد عن الطريق البواخر القادمة عليها، ولا تَتَصَادَم معها إذا سَمِعَتْ نعيقها وصُمَّتْ آذانها من ذلك النعير.
وفي اليوم الثالث وَصَلْنا إلى بيرية مينا أتِينا بَعْد سفر ٤٠ ساعة من سكندرية، وفي الرابع إلى إزمير وبينها وبين بيرية ٢٠ ساعة، وقد سبق لنا أن قُلْنا بعض الشيء عن هذه المدن الثلاث في رحلتنا التي نشرناها عن المجر ورومانيا.
ولما دَخَلْنا مينا إزمير كانت إحدى البواخر اليونانية قادمة من جهة البلد، فَمَسَّهَا لَغَم فانشقت وحَصَلَ فيها دَوِيٌّ عظيم وتَصَاعَدَ منها دخان ولهيب، وتَطَايَرَ أكْثر رُكَّابها إلى الجو فتَمَزَّقوا إربًا إربًا على مرأى منا، ويا لهول هذا المنظر، ثم هوى الجميع إلى قاع البحر، فاستولت الكآبة علينا وانْقَلَبَ سُرُورُنا إلى أحزان، وكَثُر عويل النساء والصبيان، وكان من ضِمْن السيدات فتاة روسية ذات جمال فَتَّان تُحَاكِي البدر في ليلة النصف من شعبان، فكأنما هي حورية من حور الجنان أو مَلَك من ملائكة الرحمن:
فَهَالَهَا الأمر جدًّا حتى غابت عن الصواب وَعَلَتْ مُحَيَّاها صفرة الموت، ولكن — ولله الحمد — قَدْ أَفَاقَتْ بَعْد قليل من غشيتها وعادت إلى بهجتها الأولى ونَضْرَتها، فأخذت تَلْعَن الحرب ورجالها وتَذُمُّهُم بكل لسان ولو كانوا من أبناء جِلْدتها.
وقد أَقَمْنَا في المينا ثلاثة أيام، ولم يَرْضَ الربان بالسفر إلا بعد أن أَخَذَ على ضُبَّاطها تَعَهُّدًا بالكتابة بسلامة الطريق وخُلُوِّها من الخطر، فسارت بنا السفينة بعد ذلك باسم الله مجراها قاصدة القسطنطينية. ولما اقْتَرَبَتْ من محل الحادثة كان الكل وُقُوفًا على ظَهْرها يُصْعِدون الزفرات ويُرَدِّدون الحسرات ويَنْدُبون سوء طالع أولئك التعساء، وما لاقوه بين طرفة عين وانْتِبَاهَتِهَا من المخاطر والمُهْلِكات، فتبًّا لدار لا يَدُوم نعيمها، وهيهات أن يَصْفو الدهر لأحد فيها في جميع الأوقات.
وفي الطريق مَرَّت الباخرة على متلين وتسمى بالتركية مدللي، وكانت تسمى قديمًا أليبسوس، وقد اغتصبها الأروام من سكانها الأصليين بدعوى أنهم أقاموا بها ردحًا من الزمان قبل حَرْب تروادة، وفيها نَبَغَ جماعة من الشعراء والفلاسفة والمؤرخين، وقد وَقَعَتْ في قبضة العجم مرتين، واشترك أهلها مع زركيس ملك العجم في غارته الشعواء على بلاد اليونان ولكنهم تَخَلَّوْا عنه لَمَّا فَشِلَ في الأمر ولم يَنْجَحْ، وانضموا إلى اليونان، وهكذا الدنيا مع الغالب من قديم الزمان:
فكم قَضَتْ عليهم أحوالهم المعاشية بالرياء والمداراة والتملق والنفاق والمداهنة والمصانعة والمداجاة، وكلها على الأكثر أمور تَصَنُّعية وليست صادرة دائمًا عن عواطف حقيقية.
وقد استولى الرومان أيضًا على هذه الجزيرة، وأَخَذَهَا الأتراك في زَمَن السلطان محمد الفاتح.
وسُمِّيَتْ متلين باسم عاصمتها، وكان ذلك في زمن البيزنتيين، وهي من أهم وأكبر جُزُر البحر المتوسط، وعدد سكانها ١٣٠ ألف نفس أكثرهم روم. وهواء الجزيرة في غاية الاعتدال حتى في فصل الشتاء، وبها ثلاثة ينابيع معدنية، ومن أهم حاصلاتها الزيت والزيتون.
ولم تقف الباخرة بها بل استمرت في سيرها، وبَعْد خمس ساعات اجتازت الدردنيل ثم دَخَلَتْ في بحر مرمرة، وأخيرًا وَصَلَتْ إلى القسطنطينية، وأنت الآن تعرفها معرفةَ المستفيد مما نشرناه لك عنها وعن أختها بورصة، وما عَهْد ذلك ببعيد.
ومن إزمير إلى الأستانة ٢٤ ساعة، وبعد أن مَكَثَتْ بها الباخرة يومين أو ثلاثة سافَرَتْ إلى الروسيا في البوسفور ثم في البحر الأسود، وهذا البحر يكون هادئًا على الغالب في الربيع وفي الصيف، أما في الشتاء فيهيج، وتكون الملاحة فيه وقتئذ محفوفة بالمصاعب، ولا يَتَجَلَّد منه في هذا الفصل إلا الجهات القريبة من سواحله ولكن لمدة قصيرة، وفي الخريف يكثر فيه الضَّباب والزوابع خصوصًا في آخر أكتوبر.
وبعد سَفَرِ نحو ثلاثين ساعة وصلت الباخرة إلى أودسا.