من أودسا إلى تفليس
أودسا من أجمل مدن الروسيا وأبهاها، وكانت في الأصل قرية تركية صغيرة بها قلعة تعرف بقلعة حاجي بك، استولى عليها رجل إسبانيولي اسمه ديريباس انتظم في سلك البحرية الروسية في سنة ١٧٦٩، وَوَصَلَ فيها إلى رتبة أميرال، وهو أول من أَسَّسَ أودسا وكان ذلك في عهد الإمبراطورة الكبيرة كاترينة الثانية، ثم جاء بعده رجلان فرنسويان، ودخلا في خدمة الحكومة الروسية الواحد بعد الآخر وهما الدوك دوريشليو والكونت دولانجرون، فَوَسَّعَ كلاهما دائرة المدينة وزاد في تَقَدُّمها وعُمْرانها، وما زالت التجارة فيها كل يوم في ازدياد حتى أصبَحَت الآن تُعَدُّ مرسيليا الروسيا.
وأول مَن اسْتَعْمَرَهَا قوم من الأروام واليهود والبلغار سعيًا وراء الرزق والكسب، واسمها مُشْتَقٌّ من اسم مدينة يونانية قديمة تُدْعَى أوديسوس (أي مدينة عولص المذكورة في وقائع تلماك)، كانت بالقرب من هذه الجهة وذُكِرَتْ في تاريخ حَرْب تروادة.
وقد أُطْلِق اسم ديريباس على شارع من أهم شوارع أودسا كما سُمِّيَت المدرسة الإعدادية فيها باسمه، وأُطْلِقَ اسم لانجرون على الجهة الموجودة فيها حمامات البحر. وفي أودسا جملة تماثيل منها تمثال لكاترينة وآخر لريشليو، وفيها شارع لطيف مُشْرِف على البحر اسمه بولفارنيقولا، وبها جملة لوكاندات منها لوكاندة لوندرة وسان بطرسبورغ وأوروبا وسافواي وباساج وبريستول، وفيها عدة بنوكة وتياترو ومتحف وجنينة كبيرة، وأكبر قهاويها روبينا وفانكوبي، وفي ضواحيها حمامات وحْل مشهورة مفيدة للصحة. وعدد سكان أودسا ٤٠٠ ألف نفس.
وفي سنة ١٨١٢ ظَهَرَ الطاعون في أودسا للمرة الأولى، وكاد يُخْرِبها عن آخرها حتى إنَّ مَنْ مات فيها بهذا الوباء لا يَقِلُّ عن ١٣ ألف نفس، وفي سنة ١٨٥٤ حاصرتها أساطيل الدول المتحالفة في حرب القريم وأَطْلَقَتْ عليها المدافع، وأهْلُها خليط من الروس والأروام واليهود، ومن الأروام من أَثْرَى فيها مِثْل بيت رالي الذي أَصْبَحَتْ ثروته لا تقل عن أربعين مليونًا من الروبلات (الروبل قطعة بعشرة وكسور) وعلى بُعْد ٨٠ ميلًا منها لجهة الأستانة جزيرة جبلية صغيرة اسمها فيدونيسي أي جزيرة الثعابين، كفاك الله شَرَّها.
ومن أودسا سافَرْت إلى القريم المشهورة باعتدال هوائها وجمال مناظرها، وكان السفر على باخرة في البحر الأسود من بواخر روسكي باراخوت؛ لأنها أفضل وأنظف وأجمل من بواخر شركة روسيان باراخوت، خصوصًا إذا كانت من وابورات الطبقة الأولى، فسارت بنا الباخرة تَشُقُّ بحيزومها عباب الماء إلى أن رَسَتْ في الغداة على أوباتوريا أول مواني القريم، ويسميها التتار كوزلاوه والروس كوزلوف، وكانت فيما مضى من الزمان سوقًا للنخاسة تُبَاع فيه المماليك والجَوَار البيض.
وقد امْتَلَكَها الأتراك في سنة ١٤٧٨ والروس في سنة ١٧٨٤، وبها جامع جميل بُنِيَ في سنة ١٥٥٢ على مثال جامع أيا صوفيا بالأستانة، وعدد سكانها ٢٥ ألف نفس وهم روس وتتار وأروام ويهود، وفيها ملاحة شهيرة، وعلى بُعْد فرستين منها حمامات وحْل صحية في بُحَيرة مونياك، و١٨ فرست حمامات وحْل أخرى في بُحَيرة ساك (الفرست مقياس روسي يساوي ١٠٣٥ مترًا). ويَبْتَدِئ موسم هذه الحمامات في ٢٥ مايو وينتهي في آخر أغسطس، وفي هذه المدة يَقْصِدُها كثير من المرضى والمستشْفِين.
وعلى بُعْد ٦٣ فرست من أوباتوريا توجد مدينة سنفيروبول عاصمة القريم الجديدة، وهي مدينة لطيفة وبها ٦٠ ألف نفْس.
وبعد سَفَر نحو خمس ساعات من أوباتوريا وَصَلَت الباخرة إلى سواسطابول، وهي الآن مدينة كبيرة ذات شوارع عظيمة ومَبَانٍ فخيمة، وبها النور الكهربائي، وفيها يَسِير التِّرام في كل مكان، وفي ميناها أسطول البحر الأسود وبها حامية روسية كبيرة، حتى إن القادم عليها لا يَتَصَوَّر لأول وهلة إلا أنَّ كل أهلها ضُبَّاط وعساكر، ومع كَوْنها مدينة تجارية فإنها تُعَدُّ مدينة حربية من الدرجة الأولى، وهي متصلة مع كل الروسيا بخطوط حديدية وفيها تماثيل للضباط الذين امتازوا في الحروب، بَرِّيِّين كانوا أو بَحْرِيِّين، وتذكارات حربية أشبه بتذكارات واترلو في بلجيكا. ومِنْ ألْطَف منازهها على البحر الجنينة البلدية وفيها تَصْدح الموسيقى في كل يوم ويَقْصِدها الضباط بكثرة، ولكن لا يجوز للعساكر الدخول فيها.
ومن ضِمْن شوارعها شارع مُهِم اسمه البولفار التاريخي، فيه جنينة كبيرة على جهة مرتفعة موجودة بها بناية مستديرة في غاية العظم، مرسومة في دائرها من الداخل وقائع حرب القريم وصور العساكر الذين اشتركوا فيها من تركيَّة وفرنساوية وإنكليزية وغيرها، وبها معدات الدفاع وكثير من أدوات الاستحكامات والمهمات الحربية، وما أشبه ذلك.
في شارع آخر بالقرب من مدخل المينا متحف تاريخي في غاية الأهمية، يَخْتَصُّ بحصار سواسطابول، وكل ما اسْتُعْمِلَ فيها من مدافع وأسلحة وخُرُط وغير ذلك، وقد اشْتَهَرَتْ سواسطابول بهذا الحصار سنتي ١٨٥٤ و١٨٥٥، وفيه خَرِبَتْ كلها تقريبًا ولكنها لم تَلْبَثْ أن نَهَضَتْ مِنْ كَبْوَتِها وقامَتْ بسرعة عظيمة من عَثْرَتِها، وعدد سكانها الآن ٥٠ ألف نفس الأكثرية نصارى والأقلية تتار وأروام ويهود، وفيها بعض لوكاندات أشهرها لوكاندة كيست على البحر والجران أوتيل، وعلى بعد ١٠ كيلومترات منها دير مار جرجس وله الآن ألف سنة ومَوْقِعه جميل للغاية.
ومن سواسطابول إلى باغجة سراي عاصمة القريم القديمة ٤٣ كيلومترًا في السكة الحديدية، وهي مدينة صغيرة بها جملة جوامع وبساتين، ولكن ليس فيها شيء من آثار الرقي الحديث، فلا طرق ممهدة ولا ترامواي ولا نور كهربائي ولا لوكاندات معتبرة. وبها قصر خانات التتار، بُنِيَ في القرن السابع عشر، وعلى باب جامِعِه مكتوبة هذه العبارة: سلامت كراي خان ابن الحاج سليم كراي خان سنة ١١٥٥، وبحوش القصر حنفية مكتوب عليها: قبلان كراي خان ابن الحاج سليم كراي خان — غفر الله لهما ولوالديهما — سنة ١١٦٢، وعلى هذه الحنفية هذه الآية الكريمة: وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا، ومرسوم بها شجرتا ورد وثلاثة أصناف من الفاكهة. وفي الحوش حنفية أخرى مكتوب عليها: عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّىٰ سَلْسَبِيلًا، وبالدور الأعلى قاعة الاستقبال مكتوبة على جدرانها قصيدة فارسية ومرسوم عليها أطباق فاكهة متنوعة، وهذه القاعة هي أجمل ما في القصر، وبالدور الأرضي قاعة سقفها من أجمل ما صَنَعَ الصُّناع، وعلى بابها منقوشة هذه العبارة: باب ديوان سلامت كراي خان ابن الحاج سليم كراي خان سنة ١١٥٦، وبالقصر باب السلسبيل مكتوب عليه صاحب هذه الديار سلطان الأعظم الأكرم منكلي كراي خان … إلخ، وبداخل القصر جنينة وبخارجه جنينة، وهذه الأخيرة هي الآن جنينة البلدية التي يتنزه فيها الناس، وفيها الجامع السلطاني وكانت العشا تُؤَذَّن فيه وقت زياتي للبلد في مايو في منتصف الساعة العاشرة الإفرنكية.
وفي باغجة سراي جريدة تنشر باللغة التركية لصاحبها إسماعيل بك غصبر نسكي اسمها ترجمان، وبها مدرسة للبنات تُدِيرُها كريمته، وفيها يَتَعَلَّمْن التركية والروسية ومبادئ اللغة العربية والعقيدة الإسلامية والحساب والجغرافيا وعِلْم الصحة وعِلْم تدبير المنزل والأشغال اليدوية، ومن البنات مَنْ تَحْفَظْن القرآن كله.
وعدد سكان باغجة سراي ١٨ ألف نفس، منهم ١٤ ألف من التتار وثلاثة آلاف مسيحي وألف يهودي.
ومن سواسطابول إلى يالطة ثلاث طرق: البحر والأوتوموبيل وسكة الحديد، والأول جميل؛ لأن المسافر فيه يشاهد شاطئ القريم بجباله المختلفة الألوان، والثاني أجمل خصوصًا من ابتداء باب بايدار؛ لأنه كله مناظر لطيفة وجبال وأشجار، والثالث لا شيء فيه يَسْتَحِقُّ الذكر.
ويالطة هي من أجمل مدن الحمامات البحرية في القريم، وهواؤها في الصيف معتدل ونافع لأمراض الصدر، ويُسَمُّونها نيس الروسيا، وكل شوارعها ومبانيها على الطراز الحديث، وفيها جنينة بلدية لطيفة تصدح فيها الموسيقى يوميًّا، ومن أشهر لوكانداتها روسيا وفيلا إيلنا ومارينو، وعدد سكانها ٣٥ ألف نفس الأكثرية نصارى والأقلية مسلمون ويهود. ومن ضواحيها ليفاديا وفيها يُصَيِّف القيصر، وألوبكا وأورياندا وغيرها من الجهات الخلوية الجميلة.
ومن يالطة سَافَرْتُ إلى باطوم، فمَرَّتْ الباخرة على جملة ثغور أهمها تيودوزي وكيرش آخر مواني القريم، وفي بوغاز كيرش هذه يَتَّصِل بحْر أزوف بالبحر الأسود.
فساحل القريم يبتدئ إذَنْ من أوباتوريا وينتهي في كيرش، وبعضه سهول وبعضه جبال، والمناظر الجبلية كلها في غاية الجمال. وأما ساحل القوقاز فيبتدئ من أنابا وينتهي في باطوم، وكله غابات وأشجار وجبال من أجمل ما يكون. ومن أهم ثغوره نوفور وسيسك، وهي مدينة كبيرة، وجاجري، وكلها غارقة في الأشجار والخضرة، وهي من أجمل المصايف، وعلى بعد ١٥ فرست منها جبل أتوس الجديد وبه دير أسسه في سنة ١٨٧٥ بعض رهبان جبل أتوس القديم، وسوخوم عاصمة مملكة أباظا (أبخازيا) وكلها فواكه وأزهار، وهواؤها في غاية الجودة، ومنها يرسل مقدار عظيم من الدخان إلى مصر، وفي ضواحيها آثار مدن قديمة وهياكل وقصور وقلاع ومعاقل، وعدد سكانها ٢٠ ألف نفس. أما سكان نفس مملكة أباظا فيَبْلُغون نصف مليون؛ ثلاثة أرباعهم مسلمون والباقي نصارى أورثوذكس، ومعظم سكان هذه المملكة المسلمين هاجروا إلى تركيا، ولم يَبْقَ في القوقاز سوى ٣٠ ألفًا، منهم ثمانية آلاف مِنْ ضِمْن سكان سوخوم، والباقون مُنْتَشِرون بينها وبين نوفوروسيسك على ساحل البحر الأسود وقبائلهم تُسَمَّى أونج.
ومن جاجري إلى باطوم يرى المسافر وهو على ظَهْر الباخرة جبالًا جميلة في ساحل القوقاز، ذات غابات وأشجار وقممها البالغ ارتفاعها ٢٥٠٠ متر مغطاة كلها بالثلج.
وبعد سفر ثلاثة أيام من يالطة وَصَلَت الباخرة أخيرًا إلى باطوم آخر مينا للروسيا على البحر الأسود، وبينها وبين أودسا ٥٦٣ ميلًا.
وباطوم كما أنها مدينة تجارية هي مدينة حربية، وقد وسَّعَها الروس وفتحوا فيها الشوارع وأناروها بالنور الكهربائي، وأنشأوا فيها على شاطئ البحر جنينة بلدية من الطراز الحديث كلها شوارع مستقيمة، وبها تصدح الموسيقى العسكرية كل يوم. وفي باطوم جنينة أخرى من زَمَن الترك في غاية اللطف على شاطئ بحيرة صغيرة، وقد سُمِّيَتْ هذه الجنينة الآن جنينة إسكندر، وهواء باطوم معتدل ولكن ماءها لا يزيل الصابون إلا بشق الأنفس، وفيها ثلاثة جوامع ومعامل للغاز مِلْك نوبيل الأسوجي صاحب الجوائز السنوية المشهورة، وإليها يأتي البترول من باكو الكائنة على بحر الخزر في مواسير محكمة تحت الأرض، وهي مسافة طويلة جدًّا يقطعها الإكسبريس الذي يقال له في الروسيا كورييسكي في نحو ٢٤ ساعة، ومن أهم معامل الغاز في باطوم أيضًا معامل روتشيلد المعروف ومعامل مانتاشيف الأرمني الروسي.
وعلى بُعْد ١٣ فرست من باطوم في السكة الحديد مزارع الشاي المشهورة في شكوي، وعدد سكان باطوم ٣٧ ألف نفس، وهم خليط من الروس والكرج والأرمن والترك والجركس. ومِنْ أحسن لوكانداتها الشرق والمنظر الجميل وفرنسا والأمبريال.
ومن باطوم سافَرْت بالسكة الحديدية إلى قوطايس وبورجوم وباكورياني في داخلية القوقاز، وهي وإن كانت بلادًا صغيرة لكنها تستحق الزيارة لجمال الطرق المُوصِلة إليها بالنظر لتَشَعُّب جبالها وكثرة أشجارها وتَعَدُّد مُنْعَطَفَاتها وجريان الأنهر والغدران فيها. وليس في قوطايس شيء يذكر سوى نهر ريون، وخَرِيرُه يُسْمَع له دَوِيٌّ شديد من بعيد، وفيها نزل فرنسا صاحبته امرأة من سويسرة لها في قوطايس ٣٠ سنة، وقد أثَّرت بها.
وبورجوم مدينة حمامات معدنية وبها نُهَيْر سريع الجريان شديد الخرير، وآخر أكبر منه، وماؤها العادي بالنسبة لإزالة الصابون مثل ماء باطوم. أما باكورياني نفسها فلا تستحق الإقامة بها لا يومًا ولا بعض يوم، وإنما الطريق إليها من بورجوم من أجمل ما تراه العين. ومن بورجوم طريق آخر في غاية البهجة والحسن إلى أباستومان، السفر فيه يكون في الأوتوموبيل، وأباستومان هذه من البلاد المشهورة باعتدال هوائها وجميل مناظرها.
ومن بورجوم سافرت إلى تفليس عاصمة القوقاز بالسكة الحديدية، وهي في منتصف الطريق بين باطوم وباكو أو بين البحر الأسود وبحر الخزر، ويَبْلغ ارتفاعها عن سطح البحر ٣٠٠ متر.