من تفليس إلى بلاد الشراكسة
كانت تفليس في أوائل العصر المسيحي قرية حقيرة لا تُذْكَرُ، وفي القرن الخامس للميلاد عَثَرَ فيها بالصُّدفة المَلِكُ المُسَمَّى بالذئب السبع أثناء الصيد والقنص على عين ماء حارَّة تجري في الجبل، فاتَّخَذَهَا من ذلك الوقت عاصمة لمَمْلَكَة الكرج، ونَقَلَ إليها تَخْت مُلْكِه من متسخيت العاصمة القديمة التي هي الآن بلدة صغيرة على بُعْد ساعة منها في السكة الحديدية، ولولا هذه العين لظَلَّتْ تفليس على حقارتها إلى الأبد، ولبَقِيَتْ مجهولة من الجميع، وما كان سَمِعَ بذكرها أحد، فالعين إذَنْ هي ولية نِعْمَتِها وينبوع عِزِّها وسعادتها.
- القسم الأول: إفرنكي وكل شوارعه واسعة مستقيمة، ومِنْ أهمِّها شارع جالافانسكي وشارع ميخاييلوفسكي، وكلاهما مضاء بالكهرباء، وفي الشارع الأول منهما ديوان حاكم القوقاز ومصالح الحكومة والكنيسة الروسية الكبرى ومخازن التجارة والمتحف وجنينة إسكندر وتياترو الأوبرا، وهو في غاية الحسن والبهاء ويقال له عندهم كازوني تياتر، أي تياترو الحكومة، وأجمل ما فيه من الخارج واجهته الفارسية البناء، وعلى بُعْد قليل منه تياترو آخر كبير. وفي الشارع الثاني معظم المطاعم والألعاب والملاهي، وفي آخره جنينة المجتهد والناس يقصدونها كل يوم للفسحة والرياضة خصوصًا يوم الأحد، وبها تخت أرمن يُغَنُّون أغاني شجية وهم لابسون ملابس ملونة، وعلى رءوسهم لُفَافات حمراء مُطَرَّزة بالقصب، وآلات الطرب عندهم قانون ودُف وكمنجتان وأورغن، وبالقرب من هذه الجنينة في الشارع قهوة كبيرة بها تخت من الكرج مُرَكَّب من رجال ونساء، وكلهم لابسون ملابس ملونة كذلك ومزركشة بالقصب، وألحانهم طلية وآلات الطرب في هذا التخت بيانو ومندولين ودف وآلات كبيرة من ذوات الأوتار تُسَمَّى كل واحدة منها عندهم جيتارة.
- والقسم الثاني: أهْلِيٌّ وبه جنينة النباتات والجوامع وأسواق البلدية، وتُعْرَف هناك بالبازار، ومن أعظمها سوق الميدان وسوق الأرمن وسوق الشيطان، وشوارع هذا القسم كأغلب شوارع البلاد الشرقية ضيقة ومُلْتَفَّة على بعضها، ومعْوَجَّة اعوجاج الثعبان.
وفي تفليس نهر صغير اسمه كوَّرا وآخر أصغر منه من نوع الغدير اسمه فيرَّا، وعلى الأول منهما تدور دواليب حديدية للطحن وغيره بقوة التيار، وبها محل اسمه فانتازيا يرقصون فيه ليلًا (عند الطلب) رقصًا أهليًّا، وهو على نوعين؛ أحدهما رَقْص اللزجين ويُسَمَّى ليزجينيكا، والثاني رَقْص الكرج ويُسَمَّى كينتا أوري. وفي تفليس تمثال واحد يُعْرَف بتمثال فارانسوف وكان حاكمًا على القوقاز، وبالقرب منه مطعم مشهور بالمأكولات الأهلية اسمه نادكوروايه.
ومآذن الجوامع في تفليس ليست عالية، فهي كمآذن تونس، وفي تفليس جملة فنادق أَعْظَمُها وأَجْمَلُها وأَحْسَنُها لوكاندة الشرق أمام سراي الحاكم، وهي لا تقل شيئًا عن فنادق الدرجة الأولى في أوروبا، ومطعمها فاخر للغاية، وكَفَاها ترتيبًا ونظافةً ونظامًا أنَّ مُدِيرَها فرنساويٌّ بخلاف اللوكاندات الأخرى في جنوب القوقاز فأكثرها بِيَدِ الكرج والأرمن، وهي أشبه شيء بلوكاندات الأروام في مصر.
وأمام لوكاندة الشرق خَلْف السراي جبل القديس داود، والهواء فيه منعش من الساعة السادسة مساء، والناس يَفِدُون إليه بكثرة خصوصًا في الليل، والصعود إليه يكون في فينيكولير (مصعد كهربائي)، والمسافة ١٠ دقائق ذهابًا وأقل منها إيابًا، وفي لمث الجبل من جهة البلد دير القديس داود.
ويُعَدُّ هذا الجبل من أجمل منازه تفليس وكله يُضَاءُ بالكهرباء، وفيه مطاعم وقهاوٍ وتخوت آلاتية كل ألحانها مُطْرِبَة شجية، ومن ضِمْن آلاتهم الرباب والمزمار والنقرية، ومن قمة الجبل ترى مناظر تفليس كلها، ولكن المنظر بالليل أجمل منه بالنهار؛ لأن البلد وقتئذ تكون كأنها مزينة بزينة عمومية في غاية التنسيق والإبداع بما يتلألأ فيها من الأنوار التي تُبْهَر بمحاسنها الأبصار.
وتكاد تفليس أن تكون محاطة بالجبال من جميع جهاتها، فالحر الذي تفر منه في مصر هو ملاقيك فيها. ولكن إذا اعْتَدَلَ الهواء أَنْعَشَ الأرواح والأجسام، وحبَّب إلى الغريب المُقَام بها بضعة أيام.
وفي تفليس حمام معدني مشهور اسمه حمام أوربيلياني، ومياهه تنفع للروماتيزم، وهي مستمَدَّة من تلك العين الحارة التي اكتشفها جلالة الملك الذئب السبع.
وفي تفليس ميدان فسيح على بُعْد قليل من سراي الحاكم اسمه ميدان إيريفان، تَتَوَزَّع منه خطوط الترامواي في البلد في كل مكان (وإيريفان هذه بلدة جهة قارص على مقربة من باطوم، وعندها أشميازين وهي مدينة مقدسة عند الأرمن وبها مقرُّ كَبِير الدِّين).
وفي تفليس بعض المسلمين مثل بابانوف وحصانوف من أرباب الملايين. وبوسطة باريس تصل إليها في ثمانية أيام مارة ببرلين وبطرسبورغ وموسكو وخاركوف وروستوف وباكو ثم تفليس. وعدد سكانها ٤٠٠ ألف نفْس منهم ٣٠ ألف روسي و١٨٠ ألف أرمني و١٠٠ ألف كورجي و٦٠ ألف مسلم وخمسة آلاف يهودي.
وفي تفليس متحف لطيف به جملة رايات قديمة استعملها الشيخ شامل بطل قافقاسية وزعيمها (وسيأتي الكلام عليه فيما بعد) في حروبه مع الروس مكتوب عليها «إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا — نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين يا محمد»، وفيه لوحة كبيرة مرسومة فيها صورة الشيخ شامل وبه رايات عجمية مكتوبة في أطرافها البسملة وبعض آيات قرآنية، وفي وسطها أسد العجم شاهرًا سيفه، وغير ذلك من الرايات والأعلام. وفي المتحف صُوَر ورسوم تُمَثِّل أغلب وقائع الشيخ شامل، وبه أسلحة قديمة ومدافع منقوشة عليها عبارات باللغة التركية واللغة العربية، ومن ضمن ما فيه لوحة كبيرة تمثل دخول الروس في تفليس وبه يفطات وأوراق قديمة مكتوبة بالتركي، وغير ذلك من نفائس الآثار.
ومن ضواحي تفليس كودجور ومانجليس، وهما مشهوران باعتدال الهواء حتى إنه يكاد أن لا يكون للحر أثر فيهما في زمن الصيف، والذهاب إليهما يكون بالأوتوموبيل من ميدان إيريفان.
وفي تفليس شركة فرنساوية لتسيير الأوتوموبيلات بينها وبين فلاديقافقاز في طريق بَهِج للغاية مسافته عشر ساعات. أما إذا كان السفر إلى تلك الجهة في السكة الحديدية ففي طريق آخر لا مناظر فيه ولا جمال، ولا تقل مسافته عن ٢٤ ساعة.
وأحسن محل في الأوتوموبيل المحل نمرة ٣ خلف السائق، والأجرة ٢٠ روبلًا ونصف ذهابًا ومثلها إيابًا خلاف أجرة العَفْش. وقد رَكِبْتُ الأتوموبيل مع غيري من السياح، واخْتَرَقْتُ به سلسلة جبال القوقاز المشهورة، وتُسَمَّى هذه السكة بالسكة الحربية الكورجية؛ لأن الجيوش الروسية استعملتها في حروبها في القوقاز، وأكثر سكان هذه الجبال نصارى من الكورج ويسكنها أيضًا الأنكوش والأستين، وليسوا كلهم مسلمين. أما مناظرها فمدهشة وجميلة للغاية لا يذكر بجنبها أجمل مناظر سويسرة، فمن حزون إلى سهول إلى قمم شاهقة تناطح السحاب يانعة خضراء، إلى نجاد ووهاد كلَّلَتْها الأشجار، إلى وديان سحيقة تجري فيها الأنهار، إلى قلل شامخة تأخذ هي الأخرى بمجامع الألباب، ولو أنها قرعة جرداء لا نبات فيها ولا ماء. وفي الطريق لوكاندات ومحطات أولها محطة قازبق (كلمة محرفة عن غازي بك) وأنفاق كأنفاق السكك الحديدية تمر منها الأتوموبيلات وعلامات لمعرفة خط السير وتقدير المسافات.
ولما وَصَلْنَا إلى فلاديقافقاز إذا بها مدينة جميلة على نهْر جارٍ اسمه تيريك، وهي مرتفعة عن سطح البحر بثمانمائة متر، فإذا كان الحر شديدًا في تفليس كان البرد بها شديدًا، وهي قاعدة ولاية تيرسكي وبها جنينة بلدية كبيرة في غاية الحسن والجمال، يَحُفُّها نهر تيريك من إحدى جهاتها بل هي أجمل حدائق القوقاز كلها حتى نفس تفليس، وكلها مضاءة بالكهرباء وفيها تَصْدح الموسيقى العسكرية في كل يوم، وإليها يَهْرع الناس بكثرة. وبالبلد جامع فخيم على حافة النهر بمأذنتين عاليتين في غاية الحسن، وبها شارع كبير في وسطه مَمْشَى طويلة مغروسة فيها الأشجار ذات الظل الظليل على الجانبين، وموضوعة فيها مقاعد للجلوس من الطرفين. وعدد سكان هذه المدينة ٧٥ ألف نَفْس، وبها فنادق كبيرة مثل الجران أوتيل والأمبريال وغيرهما، ومنها تسافر القطارات إلى شمال روسيلو وإلى حمامات القوقاز المعدنية المشهورة وهي بياتيجورسك على بعد ساعات من فلاديقافقاز — وإيسانتوك وكيزلوفودسك ومنها يَخْرج ماء نارزان المعدني الذي يُشْرَبُ في الروسيا بكثرة — وجيلزنوفودسك. وهذه الحمامات متقاربة من بعضها، وكلها في غاية الاستعداد ولا ينقصها شيء من معدات الراحة والنظافة الموجودة في غيرها من حمامات أوروبا المعدنية، والفنادق هناك مُعْتَبَرة غير أن أُجْرة السكن فيها غالية جدًّا.
وفي ولاية تيرسكي تَسْكُن قبيلة من الجراكسة اسمها القابارطاي، والجهة المقيمة بها هذه القبيلة تَبْعُد عن فلاديقافقاز سِتَّ ساعات في السكة الحديدية. وسُمِّيَتْ ولاية تيرسكي بهذا الاسم نسبة إلى نَهْر تيريك، وهو نَهْر يَنْبُع من جبال قازبق (غازي بك) في سلسلة جبال القوقاز، ويَصُبُّ في بحر الخزر.