في بلاد الشركس والداغستان
على بُعْد ثلاث ساعات من فلاديقافقاز ولاية قوبانسكي، وهي مقر معظم قبائل إخواننا الجراكسة، وتلك القبائل هي أبزاخ وحاتوقاي وبجدوغ وكمكوه وشابسغ وحكوص، وسُمِّيَتْ ولاية قوبانسكي بهذا الاسم نسبة إلى نهر قوبان، وهو نهر يَنْبُع من جبال البزر في سلسلة جبال القوقاز ويَصُبُّ في البحر الأسود، وفي سفوح جبال البزر الشمالية تسكن قبائل قره جاي الجركسية، ومن قبائل الجركس أيضًا قبيلة شيشانسي من سكان الجبال، ولا تَنْسَ القبائل التي ذكرناها عند الكلام على بلاد أباظا.
والجراكسة وإن كانوا لا يزيدون عن ٥٠٠ ألف نفْس، لكن أهل القوقاز جميعًا يَخْشَون بَأْسهم لِمَا امتازوا به من الشجاعة والجسارة والرماية والفروسية. والروسيا نفسها تحسب لهم كل حساب وتحترمهم مزيد الاحترام.
ومن تيرسكي إلى كمرة بلد الشيخ شامل ١٦ ساعة، ست منها في العربة وعشر على ظهر الفرس، وهذا الرجل الخالد الذكر هو من قبيلة اللزجين في الداغستان، وحقيقة اسمه «شمويل» ولكنه اشتهر في مشارق الأرض ومغاربها بشامل، ونحن نجاري الناس في ذلك ونُسَمِّيه دائمًا بهذا الاسم المشهور.
لم يكن الشيخ شامل رجلًا حربيًّا فقط؛ بل كان رجلًا دينيًّا وإداريًّا، وهو الذي كوَّن الجامعة القوقازية وأنشأ المحاكم الشرعية في القوقاز، وقد حارب الروسيا ٤٥ سنة على التحقيق، منها ١٣ سنة تحت راية غيره و٣٢ سنة مُسْتَقِلًّا بنفسه، ولولا خيانة حاجي مراد لَمَا تَمَكَّنَت الروسيا بكل حَوْلِها وقُوَّتِها وصَوْلَتِها وسَطْوَتِها من أَسْرِه أبدًا، ولظل يحاربها إلى الممات.
فحاجي مراد هو إذَنْ يهوذا القوقاز، أو حَسَن تحسين الذي داس بأرجله على عهود الوطن وخالف واجبات الشرف والذمة وأضر — وأي ضرر — بحقوق الأمة، حيث سَلَّمَ سلانيك إلى اليونان غنيمة باردة من غير ما حرب ولا طعان، فيا له من وغد ذميم وسافل دنيء لئيم ونذل حقير جبان. ومن العجائب — والعجائِبُ جمَّة — أنه لا يزال حيًّا للآن، ولم يُوطَأ بالأقدام ويَبْصُقْ على وجهه الخاص والعام، ثم يُقَطَّع إربًا إربًا (ولو بصفة استثنائية) ويُصَبُّ على جسمه الغاز ويُلْقَى به بلا أدنى شفقة ولا رحمة إلى النيران، حتى يكون عبرة لمن يخونون الأوطان ويبيعونها للغير بأبخس الأثمان، ألا لعنة الله على الخائنين الأحياء منهم والميتين، يهودًا كانوا أو نصارى أو مسلمين.
ولَمَّا وقع الشيخ شامل أسيرًا في قبضة روسيا خَصَّصَتْ لإقامته محلًّا بمدينة كالوجا الواقعة على نهْر أوكا، وهي على بُعْد ٤٠٠ كيلومتر من موسكو، وقد أقام هناك مُعَظَّمًا مُكَرَّمًا إلى أن رَخَّصَتْ له الحكومة القيصرية بالسفر إلى الأقطار الحجازية، فحَجَّ البيت الحرام وزار الروضة الشريفة النبوية، ثم اختار المدينة المنورة مقرًّا له، إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى، رضي الله عنه وأرضاه وجَعَلَ الجنة مُتَقَلَّبَه ومثواه، ورفعه إلى عِلِّيِّين مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.
وبموت الشيخ شامل وزميله الأمير عبد القادر الجزائرلي، انقرضت دولة الأبطال في الإسلام، وقَدْ خَلَّفَ ثلاثة أولاد وهم: محمد شافع؛ وقد تَرَبَّى في مدارس روسيا ثم انْتَظَمَ في سلك الجيش الروسي، وما زال يَتَرَقَّى فيه إلى أن وَصَلَ إلى رتبة جنرال، وقد تُوُفِّي من ثَلَاث سنين ودُفِنَ في أرض الجراكسة بولاية قره جاي، وغازي محمد باشا وقد مات هو الآخر في المدينة المنورة، ومحمد كامل وهو مقيم بها الآن.
وقَبْر الشيخ شامل يوجد بالمدينة المنورة بجوار قبر العباس عَمِّ النبي وأمام قبر الإمام ابن حَجَر، وقد بَعَثْنَا بصورته في شبيبته وكهولته وشيخوخته إلى إدارة المؤيد الأغر لِيَرَاها هناك ويَتَبَرَّك بها من يشاء.
والداغستان يُقَدَّرون بنحو ٨٠٠ ألف نَفْس، ولهم من الصفات والأخلاق الفاضلة ما لإخوانهم الجراكسة، والفضل في تهذيبهم وتثقيفهم وبث روح الفضائل والكمالات في نفوسهم وما هم عليه من الاستقامة والصلاح والتقوى يرجع إلى رجل من علماء بخارى اسمه الشيخ محمد بن سليمان، وكم لبخارى قديمًا وحديثًا من الأيادي البيضاء في خدمة الإسلام والمسلمين، وعلى هذا الشيخ الجليل نَبَغَ الشيخ منصور صاحب الدعوة إلى الجهاد ضد الروسيا، ومن تلاميذه الشيخ شامل.
والجراكسة واللزجين والأباظا من أقدم أمم القوقاز، ولم يُعْلَم في التاريخ أن أممًا قبلهم سَكَنَتْ هذه البلاد، فلقد نزحوا إليها من آسيا الوسطى واستوطنوها قبل المسيح بثلاثة آلاف سنة، وفي القرن الثامن للميلاد أسلموا جميعًا فاعْتَزَّ بهم الإسلام؛ لأنهم في الواقع قوة لا يُسْتَهَانُ بها، وكلهم يرجعون إلى أصل واحد تقريبًا ولكنهم لما جاءوا القوقاز تفرقوا في جهات مختلفة فاخْتَلَفَتْ لهجاتهم الكلامية، ولغتهم جميعًا لا تقرأ ولا تكتب (ما عدا الداغستان، فإن لغتهم لها قراءة وكتابة خاصة بها، وحروفها هي نفس حروف الهجاء العربية، ولكن مِنْ ضِمْن هذه الحروف حرفَا لام وكاف تَحْت كل واحد منهما ثلاث نقط، وهذه اللغة لا تُشْبِه أية لغة من اللغات الشرقية ولا غيرها، بل هي لغة قائمة بذاتها وفيها كلمات عربية كثيرة. وفي العهد الأخير أَسَّسُوا مطابع عديدة في تيمورخان شورا مركز ولاية الداغستان، تُطْبَع فيها كُتُب ومجلات باللغة العربية الفصحى وباللغة الداغستانية)، ومن أظهر مخارج الحروف فيها: الحاء والخاء والسين والشين والقاف والغين، وكل معاملاتهم وصكوكهم تكتب باللغة العربية، وعلماؤهم وأئمتهم يعرفون هذه اللغة قراءة وكتابة؛ لأنها لغة دينهم، وزيادة على ذلك فإن الداغستان يقرأون ويكتبون بالعربي ويتكلمون، وكل هذه القبائل على اختلاف أنواعها تلبس لبسًا واحدًا يسمى جركسكا، وهو عبارة عن جبة اسمها عندهم شوخا، وفي صدرها أصابع تسمى كازيري كانت معدة في الأصل لوضع الرصاص فيها، وأصبحت الآن لمجرد الزينة والمحافظة على التقاليد القديمة، وخنجر يتدلى على بطونهم اسمه كنجال، وقد يكون جفيره من الذهب مرصعًا بالحجارة الكريمة أو غير مرصع، وقد يكون من الفضة أو غيرها على حسب مقدرة الشخص، وقلبق يوضع على الرأس اسمه باباخ، وفي البرد يرتدون فوق هذه الكسوة برداء من الفرو الأسود على شكل عباءة اسمه فوركا.
وكذلك الكورج نصارى ومسلمين يلبسون على الغالب هذا اللبس، وتسمى الجُبَّة عندهم آرخالوخ، ومنهم من لا يضع الباباخ على رأسه ويَلُفُّ عليها لفافة من القماش تُسَمَّى باباناقي، وتتدلى منها عَزَبَة خَلْف الظهر، ومنهم من يغطي رأسه بقطعة قماش مصنوعة اسمها باشلاقي، وهي عبارة عن قلنسوة لها زِر لونه كَلَوْن القطعة وطرفاها يمتدان على الجانبين إلى الفخذين.
والكورج تَنَصَّروا في أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع بَعْد الميلاد، ولُغَتُهُمْ تَقْرَأ وتَكْتُب، والكتابة الكورجية وُجِدَتْ في القرن الرابع قبل المسيح وحروفها نَسِيجٌ وَحْدَه فلا تُشْبِه غَيْرَها من الحروف الأخرى، وقد خَرَجَ من الكورج جملة شعراء أهمهم روستافللي الشاعر الكورجي الكبير، وكان عائشًا في أواخر القرن الثالث ومِنْ أعظم شعره قصيدة اسمها جِلْد الفهد.