في بلاد التاتار وفي بطرسبرج
سافرت من باكو إلى أستراخان، والمسافة ٦٢ ساعة، ٤٨ ساعة منها في بحر الخزر وست ساعات من مصب نهر الفولجا في هذا البحر، وإنما سمي بحر الخزر نسبة لأمة من أمم الترك قاطنة على شواطئه تُسَمَّى الخزر، ومسطحه عبارة عن ١٢٥٠ كيلومترًا من الشمال إلى الجنوب، وعَرْضُه يختلف من ٢٨٠ كيلو إلى ٤٦ وكله مِلْك الروسيا ما عدا ساحله الجنوبي فإنه مِلْك العجم. والقسم الشمالي منه يَتَجَمَّد معظمه في السنة ثلاثة أو أربعة أشهر، وفي الصيف يكون هذا البحر هادئًا، وأما في الخريف فيكون هائجًا جدًّا، وهو يُعَدُّ من أهم موارد الثروة في روسيا، وبه يصطادون الفقمة وأسماكًا كبيرة، وليس فيه شيء من جمال البحر الأبيض ولا جمال البحر الأسود، ومن أهم مواني بحر الخزر خلاف باكو كراستو فودسك وألكسندر وفودسك، وتوجد على مصب نهر الفولجا فيه مدينة بتروفسك وبه جملة شركات بحرية تمخر بواخرها فيه وفي النهر معًا، أهمها شركة سامولوث وقافقاز ميركوري، وفي النهر شركة أخرى اسمها فولجسكي يمكن أن تُذْكَر بجنب هاتين الشركتين.
وطريق بخارى يكون من باكو إلى كراستوفودسك، ثم في السكة الحديدية، وهذه السكة تَمُرُّ على مَرْو وسمرقند وطاشقند وأورانبورغ وسامارا وأوفا، وكلها بلاد إسلامية. ومعظم سكان الثلاث بلاد الأخيرة من التتار، والمسافة من كراستوفودسك إلى طاشقند ثلاثة أيام بلياليها في القطار.
وأحسن طريق إلى طهران عاصمة إيران باكو وانزلي «على بحر الخزر» ومنها في ترعة إلى بير بازار، ثم في العربة إلى رشت فقزوين فطهران، ومسافة هذا الطريق ثلاثة أيام من باكو. وهناك طريق آخر ولكنه أطول وهو باكو-جولفا-طوريس-قزوين-طهران.
أما أستراخان فمدينة تجارية في غاية الأهمية، حتى إنه ليصدر منها في السنة مليون بود من البضاعة يبلغ ثمنها ١٠٠ مليون روبل (البود معيار روسي يساوي ٤ فونت، والفونت رطل روسي يساوي ٤١٠ جرام، فيكون البود عبارة عن ١٦ كيلو و٤٠٠ جرام).
وسوق البترول رائجة في أستراخان، وكذلك الفحم والفواكه وجلود الغنم والأسماك، ومن هذا النوع الأخير يصدر في السنة ١٥٠ مليون فسيخة (هارنج).
وفي أستراخان عشرة جوامع، وعدد العمال الذين يشتغلون في المراكب في ميناها لا يقل عن خمسين ألفًا، وعدد سكانها ١٥٠ ألف نفس منهم ٣٠ ألفًا من التتار والباقي روس. وفيها النور الكهربائي والترامواي وجنينة عمومية.
ومن أعظم فنادق أستراخان وأشهاها طعامًا نزل موسكو الكبير.
ومن أستراخان سافَرْتُ في الڤولجا على باخرة جميلة من بواخر سامولوث، فمرت الباخرة على جملة بلاد عامرة آهلة بالسكان جميلة المنظر، وَوَقَفَتْ في أهمها: منها سامارَّا وعدد سكانها ١٠٠ ألف نفس، وفيها ثلاثة خطوط حديدية؛ خط إلى موسكو، وخط إلى سيبيريا، ومنها سارَّاتوف وعدد سكانها ٢٠٠ ألف نفس، ومنها قازان وهي ليست على نهر الڤولجا، بل على فرع منه يقال له قازانكا، وهذه المدينة مرتبطة مع موسكو بخط حديدي، وتُعْتَبَر أهم مراكز التتار وعدد سكانها ١٦٠ ألف نفس النصف روس والنصف تتار. والنهضة العلمية فيها بين المسلمين حصلت من عهد عشر سنين، وبها مدارس إسلامية زاهرة، وكتبخانة يتردد عليها في اليوم نحو ١٥٠ مسلمًا، ومطبعة كاديموي وهي أكبر مطبعة إسلامية في روسيا، وبها يُطْبع سنويًّا ٢٠٠ ألف نسخة من القرآن. وفي قازان ١٧ جامعًا.
والتتار قوم في غاية الشهامة والشجاعة، ولهم شهرة في الاقتصاد والاستقامة والقناعة، وهم تجار ماهرون وزُرَّاع بارعون، وأكثرهم يعرفون القراءة والكتابة والحركة العلمية بينهم في باغجة سراي وأستراخان وقازان وأورانبورغ وأوفا في غاية التقدم، ولهم جرائد مخصوصة ومجتمعات علمية ومدارس للبنين والبنات، ومن نسائهن بعض العالمات، وعدد المسلمين التتار في أراضي الڤولجا نحو مليونين، ومركز شيخ إسلام التتار في أوفا، واللغة التتارية هي بِنْت عَمِّ اللغة التركية وبينهما من المشابهة ما بين اللغتين الطليانية والإسبانية، وكما أن الإنكليز والأمريكان أولاد عم كذلك التتار والترك أولاد عم، ولذلك تراهم يَهْتَمُّون اهتمامًا زائدًا بكل ما يتعلق بالدولة العثمانية، حتى إنهم ليفرحون لِفَرَحِها ويحزنون لِحُزْنِها، وعدد المسلمين التتار في روسية أوروبا ستة ملايين أكثرهم في أستراخان وقازان وأورانبورغ وأوفا وسامارَّا وطنبو وبلاد قاسم وسعيد.
ومن أهم علماء التتار موسى جار الله، وُلِدَ في روستوف وطَلَبَ العلم في قازان وبخارى والمدينة المنورة ومصر، وعمره الآن ٣٥ سنة، ومنزلته في بلاد التتار كمنزلة الشيخ عبده في مصر، وهو يعد هناك من كبار المصلحين الدينيين، وله جملة تآليف ورسائل جليلة.
وقد سألني التتار عن الشيخ محمد عبده والشيخ علي يوسف والشيخ رشيد رضا ومصطفى باشا كامل وفريد بك وجدي، وشَكَرُوا لهم صِدْق غيرتهم على الدين، وأَثْنَوا الثناء الجميل على خدماتهم الجليلة للإسلام والمسلمين.
وعلى بُعْد ساعتين من قازان يُشَاهَد على الڤولجا كوبري من أجمل وأتقن نوع، وبعد سفر سبعة أيام من أستراخان وصلت السفينة إلى نيجني نوف جورود، وهي واقعة على ملتقى نهر أوكابنهر فولجا، وكان مُنْعَقِدًا فيها وَقْت زيارتي لها السوق الكبير «يارماركا»، وهو ذلك السوق الذي يَجْتَمِع فيه الكثيرون من أهل روسيا خصوصًا الفلاحين، ويَقْصِده تجار التتار، ويَنْعَقِد رسميًّا في ١٥ يوليو من كل سنة، وينتهي في ١٥ أغسطس، وأَجْر غُرَف النوم وقتئذ تكون باهظة جدًّا، أما الأكل فكالعادة. وعَدَد سكان نيجني ١٠٠ ألف نفس وللتتار فيها بعْض الجوامع والمدارس.
ومن نيجني سافرت في الڤولجا فَمَرَّت الباخرة على بلاد كبيرة عامرة من أهمها أوستراما، ويُوجَد عِنْد بلد اسمها باراسلاوي كوبري بديع الصنع مثل الكوبري الذي بعد قازان، وبَعْد سفر يومين وَصَلْنا إلى ريبنسكي مدينة الغلال في روسيا، وهنا انتهت السياحة في الڤولجا.
وهذا النهر من أكبر أنهار الدنيا، وله في روسيا المقام الأول بَيْن جميع أَنْهُرها، وهو يَخْتَرِق روسية أوروبا كُلَّها من شمالها إلى جنوبها، وطوله ٣٤٠٠ فرست منها ٣٠٠٠ صالحة للملاحة، ومنبعه في جهة اسمها أوستاشكوف في حكومة توير، وعلى نحو ١٠٠ فرست من المنبع خزان طوله ٧٠٠ فرست يصرف منه الماء في زمن التحاريق، فيرتفع منسوب النهر ويعود ذلك على الملاحة بالنفع العظيم. ومن الڤولجا يتفرع نهران كبيران؛ نهر كاما ونهر أوكا.
وفي وادي الڤولجا ٢٣ حكومة (ولاية) عَدَد سكانها ٤٠ مليون نفس، وعلى ضفتيه ٣٩ مدينة منها تسع عواصم من عواصم هذه الحكومات، وأكثر من ألف بلد، وآخره عِنْد مدينة توير وهي مرتبطة مع موسكو وبطرسبورغ بخط حديدي، وبينها وبين موسكو ثلاث ساعات، والناظر إليه عند مرور القطار على هذه المدينة يَقَعُ في دهشة، ولا يكاد يُصَدِّق أنه هو نفس نهر الڤولجا العظيم الذي تَمْخُر فيه الوابورات بين أستراخان وريبنسكي؛ لأنه في هذه الجهة أي جهة المنبع يُشْبِه تقريبًا ترعة من ترع مصر، وكلما بَعُد عن المنبع وقَرُب إلى المصب زاد اتساعه وتَدَفَّق ماؤه تدفقًا يُشْبه اندفاع مياه النيل وغزارتها في إبان فيضانه.
وشواطئ الڤولجا عارية ليست كشواطئ النيل التي تتيه دلالًا بما عليها من شجر الدوم والنخيل. والنقط القليلة الماء فيه معلمة على طول النهر بعوامات صغيرة قمعية الشكل على خطين؛ خط أبيض وخط أحمر، وكلها تضاء ليلًا من أعلاها بالكهرباء، وعلى ضفتيه عمد ملونة جميلة الشكل متباعدة بعضها عن بعض بمسافات معلومة، وهي كذلك تضاء بالكهرباء. وفي بعض جهات يكون عَرْضه قَدْر عَرْض النيل مرتين. وأما طُولُه فأقل من طُول النيل بكثير، وهو يَصْلح للملاحة مدة ستة أشهر والستة الباقية من السنة يتجمد ماؤه ويصير كله جليدًا.
وفي الڤولجا يربطون مراين الخشب بعضها ببعض ربطًا مُحْكَمًا، ويجعلون الجزء الظاهر منها أقل من الغاطس بكثير، ويَضَعُون فَوْقَها الإشارات نهارًا ويُوقِدُونها بالمصابيح ليلًا، ويَبْنُون عليها غُرَفًا من الخشب ويَقْطِرونها بقاطرة بخارية فيكون لها أثناء سَيْرها في النهر منظر جميل، وبهذه الوسيلة يتخلص التجار من دفع أجرة باهظة على الخشب فيما لو شحنوه كله في باخرة. ولون ماء الڤولجا في الصيف كلون ماء النيل في شهر طوبة.
وروس الڤولجا ليسوا في درجة من المدنية والتهذيب مثل روس بطرسبورغ وموسكو وكييف وأودسا، وقِطَع الأكل عندهم كبيرة، حتى إنَّ نِصْف الكوستليتة الواحدة ليكفي لتعذية اثنين معًا.
بطرسبرج
ومن ريبنسكي أَخَذَت القطار إلى بطرسبورغ فَوَصَلَتْها بعد ١٦ ساعة، وهي مدينة كبيرة على ضِفَّتي النيفا وفي غاية الحسن والرشاقة، وقد أَسَّسَها بطرس الأكبر سنة ١٧٠٣ على أثر الانتصار الذي أحرزه الأسطول الروسي على بلاد السويد في خليج فنلاندا، وبَلَغَ عدد سكانها في آخر حكمه ٧٠ ألف نفس، وهو الآن أكثر من مليون. وفي سنة ١٨٢٤ فاض نَهْر النيفا فأَغْرَقَ المدينة، وكان الخطب عظيمًا والمصاب عميمًا، فَوَقَفَتْ حركتها عشر سنوات ولكنها أخذت بعد ذلك في التقدم، فزاد عدد السكان واتسع نطاق العمران، وكلها الآن مبنية على الطراز الحديث وشوارعها في غاية الاستقامة كالألف، فلا ترى فيها عوجًا ولا أمتًا، ومن أهمها وأجملها شارع النيفا وهو شارع طويل لا يُدْرِك الطرف مداه، وبه تُرَع صناعية حسنة الوضع بديعة الصنع.
والنور الكهربائي منتشر في بطرسبورغ بكثرة، وخطوط الترام فيها كخطوط الكف أو كالشرايين في الجسم، وبها ميادين ذات أشجار باسقة ومياه دافقة وأزهار ورياحين. وأجمل منازهها ما كان على شاطئ النيفا أو في الجزر الموجودة به المسمى مجموعها أوستراما وهي ثلاثة: يلاجين وكرستوفوسكي وكامني، وهناك جزيرة رابعة اسمها بازل ولكن ليس فيها شيء سوى المنازل.
ودرجة الحرارة في بطرسبورغ تنزل في الشتاء إلى ٢٥ تحت الصفر بميزان سانتيجراد (أما في سبيريا فتنزل والعياذ بالله إلى ٤٠)، ونهر النيفا في هذا الفصل يَتَجَمَّد ماؤه، ويكون المرور عليه وقتئذ بزحافات، وهواء بطرسبورغ لا بأس به في الربيع والصيف فقط.
وقصر الشتاء في بطرسبورغ على ضفة النيفا من جهة وميدان فسيح من جهة أخرى، وفي وسط هذا الميدان عمود من الحجر المحبب (الجرانيت) اسمه عمود إسكندر، وهو قصر رفيع العماد لم يُخْلَق مثله في البلاد، فلا الخَوَرْنَق يُحَاكِيه ولا أي قصر من قصور الملوك في أوروبا يُدَانِيه، وفيه ١٦٠٠ غرفة كلها مؤثثة بالأثاث الفاخر والرياش الثمين، وبه الكنز الإمبراطوري، وهو يحتوي على صولجان مُرَصَّع بِقِطَع ماس من أكبر ما يوجد في أوروبا، وتاج كاترينة الثانية وثمنه ١٠٠ ألف جنيه، وصليب كبير مُرَصَّع بماس وأواني جميلة من خزف سيڤر وطنافس بديعة للغاية.
والقيصر مُصَوَّر في بطرسبورغ على جملة صُوَر بأشكال مختلفة، منها صورة تُمَثِّلُه بصفة جندي بسيط لابسًا ملابس عَسْكَرِيٍّ وعلى ظهره الجربندية والحرام، وفي خصره الزمزمية، وفوق كتفه الشمال البندقية، وولي العهد (تزاريفتش) عمره الآن تسع سنين.
وفي بطرسبورغ كنائس فخيمة جدًّا، أهمها كنيسة القديس إسحق وأصله من دلماسيا، وكنيسة قازان، وكنيسة القيامة، وقد أُسِّسَت هذه الأخيرة على أَحْسَنِ طرز وأجمل هندام في المحل الذي قُتِلَ فيه الإمبراطور إسكندر الثاني غَدْرًا بِيَدِ النهلست في أول مارس سنة ١٨٨١، وقواعدها من الرخام الأسود المصقول كالمرآة. وأنَّى للقلم أن يُوَفِّيَ هذه الكنائس بَعْض حقها من الوصف والجمال، وما حَوَتْه من الطرائف والنفائس. وغاية ما يمكن أن يُقَالَ بالإجمال إنها آية الحسن والإبداع بل عروس الكنائس.
وفي قلعة مار بولس ومار بطرس التي أَسَّسَهَا بطرس الأكبر على شاطئ النيفا الأيمن توجد كنيسة باسم هذين القديسَيْن الكبيرَيْن بها قبور القياصرة من ابتداء بطرس الأكبر لغاية إسكندر الثالث والد الإمبراطور الحالي، وبها أيضًا قبور كبار العائلة الحاكمة. وفي هذه القلعة يُضْرَب مدفع الظهر كل يوم وبها دار الضرب.
وفي بطرسبورغ دير ألكسندر نيفسكي الذي غلب السويديين في سنة ٤٢٠، وبه كنيسة البشارة المدفون بها أعاظم الكتاب ومشاهير الرجال في روسيا، فهي كالبانتيون في باريس المنقوش على بابه: «لعظماء الرجال شَكَرَ الوطن.»
وزيادة على هذه الكنائس الروسية يوجد في بطرسبورغ كنائس للأرمن والكاثوليك والبروتستانت، وكنيس لليهود في غاية البساطة والحسن، وأمامه على ربوة سفينة نوح.
ويوجد فيها جامع فخيم للمسلمين في شارع كون بورج على شاطئ النيفا الأيسر، وقد بلغت تكاليفه مليون روبل (مائة ألف جنيه) جُمِعَتْ كلها بالاكتتاب، وهو على طرز جوامع التركستان وله مأذنتان.
والفضل في بنائه عائد إلى أمير بخارى المعظم، فإنه لما زار جلالة القيصر قال له: يا مولانا لكل أمة في بطرسبورغ من رعاياك معبد ما عدا المسلمين، وهم هنا كما لا يَخْفَى على الأنظار العالية غير قليلين، فهل لجلالة القيصر أن يَأْذَنَ لهم ببناء جامع يَجْمَع شتاتهم ويَلُمُّ شملهم، ويُقِيمُون فيه كغيرهم شعائرَ الدين، فأظهر القيصر ارتياحه إلى هذا الطلب العادل وأَمَرَ ببناء الجامع، وهي مأثرة جليلة يَذْكُرُها لجلالة القيصر نقولا الثاني بالشكران على مدى الزمان رعاياه المخلصون من المسلمين، ويُشْرِكُهُم في المدح والثناء في بقاع المسكونة كافة إخوانهم في الدين.
وفي بطرسبورغ كتبخانة إسكندر المشهورة، وبها مصحف كبير بخط اليد، كما فيها أكاديمية الفنون الظريفة وأكاديمية العلوم التي بداخلها كتبخانة فيها ثلاثون ألْف مجلد وكتب أخرى كثيرة بخط اليد ومجموعة نقود ومداليات ثمينة ومتحف نباتي ومتحف جيولوجي ومتحف أسيوي.
وفي بطرسبورغ متحف حيواني ومتحف الإيرميتاج، وبه آثار مصرية وآشورية وتماثيل يونانية ورومانية ومجموعة نقود ومداليات في ثلاث غرف، وكتبخانة تحتوي على مائة ألف مجلد ولوحات صور ورسوم فرنساوية وطليانية وإسبانية.
وفي بطرسبورغ متحف إسكندر الثالث ومتحف مُشْتَمِل على كثير من تُحَف الصينيين واليابانيين، وبها متحف البيداجوجيا ومتحف الطوبجية ومتحف آسيا ومتحف الموسيقى ومتحف بطرسبورغ القديمة ومتحف سيبيريا والشرق الأقصى ومتحف الطب العسكري ومتحف التاريخ الطبيعي، ومن ضمن ما فيه حيوانات هائلة وحيتان كبيرة وثعابين ضخمة وطيور من التي تعيش في الثلج وغير ذلك. وفيها متحف قوانين الصحة ومتحف المقاييس والموازين ومتحف بحري في نظارة البحرية في الدار العظيمة التي أسسها بطرس الأكبر المعروفة بالأميروتية، وفي هذه الدار أيضًا كتبخانة كبيرة.
وفي بطرسبورغ رصدخاناتان وميدان فسيح جدًّا اسمه شان دومارس، أسسه بطرس الأكبر لإقامة الأعياد الأهلية وعمل الاحتفالات العسكرية.
وبالقرب من قلعة القديس ماربولس ومار بطرس منزل بطرس الأكبر على ما كان عليه في أيامه، وأكثر الأدوات والمفروشات الموجودة فيه من صنع يده.
ولبطرس الأكبر في بطرسبورغ ثلاثة تماثيل مختلفة، وفيها تمثال لكاترينة الثانية، ولنقولا الأول الذي حَصَلَتْ حرب القريم في أيامه، ولإسكندر الثالث مؤسس سكة حديد سيبيريا العظيمة.
ودواوين الحكومة في بطرسبورغ في غاية الفخامة، ومن المباني العظيمة بناية مجلس شورى الدولة والسينود المقدس والدوما.
وأسباب البسط والانشراح في بطرسبورغ متوفرة صيفًا وشتاء توفرها في برلين وفيينا وباريس ولوندرة، ففيها تياترات من كل نوع وملاهٍ مختلفة أشهرها الأكواريوم وكازينو وجنائن عمومية، ومطاعم فاخرة منها مطعم كوبات وهو أغلاها ومطعم الدب ومطعم فرنساوي ومطعم طلياني.
وفيها محلات لبيع تذاكر السكك الحديدية وأَسِرَّة النوم وتذاكر الملاحة النهرية والبحرية، وفنادق معتبرة منها فندق أوروبا وأستوريا وإنكلترا وفرنسا وريجينا.
وكل السفرجية في مطاعم هذه الفنادق مسلمون من التتار، وهم على العموم بارعون في الخدمة براعة الإفرنج فيها، ولا يَقِلُّون عنهم مهارة وسرعة ونظافة وتأدبًا وخفة ورشاقة، وفي أثناء تأدية وظائفهم يكونون بالملابس الإفرنكية وحاسرين عن رءوسهم، ولولا ضيق عيونهم لَحَسِبْتَهُم إفرنجًا خلصًا.
وعدد المسلمين في بطرسبورغ ١٢ ألف نفس. ومن ضواحي بطرسبورغ بتروهوف وهي قسمان؛ بتروهوف القديمة وبتروهوف الجديدة، وفي هذه قصر الصيف على شاطئ البحر أمام كرونستاد، ذلك الثغر الحربي المشهور، وهو وإن كان أصغر من قصر الشتاء إلا أنه لا يقل عنه بهجة ورواء ورياشًا، فَمِنْ قاعة العرش إلى قاعةٍ مفروشة كلها بالحرير الأبيض وتُسَمَّى القاعة البيضاء، إلى أخرى بالحرير الأزرق وتُسَمَّى القاعة الزرقاء، إلى حجرة اسمها حجرة بطرس الأكبر إلى غرفة صينية كلها تحف جميلة من تحف الصين، وهكذا مما يَتَخَيَّل معه الإنسان عند الطواف في هذا القصر وفي أخيه قصر الشتاء في بطرسبورغ أنه يطوف في غرف الجنان.
وفي بتروهوف الجديدة نوافير وعيون ينفجر منها الماء على أشكال مختلفة تروق الناظر وتَسُرُّ الخاطر، وهي على مثال مياه فرساي الشهيرة في فرنسا. ولكل عَيْن من هذه العيون اسم، فمنها واحدة تُسَمَّى عَيْن آدم، وأخرى تُسَمَّى عَيْن حواء وهكذا. وهناك حدائق غِنَاء تَصْدَح فيها موسيقى المعية القيصرية مرتين في الأسبوع، وكل رجالها ضباط يَرْتَدُون وَقْتَ العمل بفرتيكة حمراء فوق البنطلون، ويتحزمون عليها بحزام. وبروجرامها يُوَزَّع على الناس وكُلُّ الأفرع مكتوبة فيه باللغة الفرنساوية.
ولم يُصَرَّحْ لي بزيارة القصرين إلا بعد الاطلاع على الباسبور والتحقق من شخصيتي.
هذا؛ وكل قصور الملوك في أوروبا مُعَدَّة للزيارة والفرجة في أوقات معينة، ولكل إنسان أن يُشَاهِدَها متى كانت خالية من أربابها.
ولبطرس الأكبر في تلك الجهة منزل كان يصيف فيه، وهو الآخر لا يزال كما كان مُدَّة وجوده حافظًا لشكله القديم، ولجميع الأثاثات والأدوات التي كان يَسْتَعْمِلُهَا هذا القيصر العظيم.
وفي بطرسبورغ جملة جرائد كبيرة منها النوفي فريما وغيرها، وثمن النسخة الواحدة منها ٥ كوبك؛ أي قرش تعريفة كما في مصر. وفيها جريدة تُنْشَر باللغة الفرنساوية واسمها جورنال دوسان بطرسبورغ، وهي الآن في السنة الواحدة بعد المئة من عمرها.
ومن بطرسبورغ إلى باريس طريقان أحدهما بطرسبورغ-برلين-باريس، ومسافته ٤٨ ساعة، والثاني بطرسبورغ-فارسوفي-ألكسندروفو-برلين-باريس، ومسافته ٥٣ ساعة.
وفي سياحتي الأولى في الروسيا كاد الليل في بطرسبورغ في شهر مايو أن يكون كله فجرًا، فلا تُوقَد فيه المصابيح لا في الطرقات ولا في العربات، وكُنْتُ إذا أَوَيْتُ إلى غرفتي وَقْت النوم لا أجد حاجة لتنويرها اكتفاء بذلك النور الهادئ اللطيف نُورِ الفجر الدائم، والشمس في تلك المدة كانت تَغْرُب في الساعة التاسعة مساء وتُشْرِق في منتصف الساعة الرابعة بعد نصف الليل.
ومن بطرسبورغ إلى موسكو عشر ساعات في الإكسبريس.