آخر السياحة
موسكو مدينة مقدسة عند الروس وكلها مضاءة بالنور الكهربائي والترامواي يسير فيها من أولها إلى آخرها، واسمها بالروسي موسكوفا وإليها ينسب الموسكوف وهي قَلْب الروسيا بمثابة القلب من الجسد، ولذلك يسمونها قَلْب روسيا، وكما أن رومة هي عاصمة الديانة الكاثوليكية، كذلك موسكو هي عاصمة الديانة الأورثوذوكسية واللغة الروسية في موسكو فصيحة نقية، بل هي أَجْمَل وأَفْصَحُ منها في غيرها من جميع البلاد الروسية، كما أنَّ اللغة الفرنساوية في تور واللغة الطليانية في سيينا وفلورانسا أَفْصَح منهما في سائر البلاد الفرنساوية والطليانية، وتجار موسكو بارعون في التجارة لدرجة أنهم يفوقون فيها على تُجَّار روسيا كلها.
وفي موسكو كنائس فخمة جدًّا منها كنيسة كرملين التي يتوج بها القياصرة عند جلوسهم على العرش، وفيها قبور القياصرة القدماء مثل ميخائيلوف وألكسيس وتيودور، وفي موسكو ناقوس قديم ذو زنة كبيرة حتى إنه لضخامته وعِظَمِه يُسَمُّونه قيصر النواقيس، وبها جملة مزارات منها رواق للصُّوَر والرسوم اسمه جالليري تريشيجوف، وفيها جملة تياترات وملاهٍ وقَصْرٌ جميل للقيصر، ويقولون إن هواء موسكو وإن كان باردًا في الشتاء إلا أنه جافٌّ ولا ضَرَرَ منه، وفيها فنادق كبيرة مهمة منها المتروبول والناسيونال والسافواي والكونتينانتال ونزل موسكو الكبير، وعَدَد سُكَّان موسكو يَنِيف عن المليون، ومنها إلى سواسطابول في القريم بالسكة الحديدية ٣٠ ساعة، ونحو ثلاثة أيام إلى تفليس في القوقاز.
وفي موسكو قابلت رجلًا تتريًّا فسألته بالتركي كم عدد التتار هنا، فعبس وتولى ثم استفهم مني بخشونة وغلظة سن كم (أنت من؟) فعرفته بنفسي، فلم يقتنع بل فتح محضرًا وعمل معي تحقيقًا:
ج: مصرلي (من مصر).
ج: دون أخشام (البارحة مساء).
ج: أوت أفندم بن مسلمان (نعم يا سيدي أنا مسلم).
وهنا طوي المحضر، وبَعْد أنْ تَفَرَّسَ فِيَّ قليلًا أراد أن يمتحنني ليَعْرف إنْ كُنْتُ حقيقة مسلمًا أو غَيْر مسلم، فقال لي بكل بساطة وسذاجة ولكن بصوت أَجَشٍّ: شمدي ألم نشرح لك صدرك أو قوسنا — هايدي باقلم — الآن اقرأ لنا سورة ألم نشرح — هيا لِنَنْظُر، فحَمِدْتُ الله على أن وَقَعَ اختياره على هذه السورة ولم يَقَعْ على غَيْرها، وقلْتُ في سِرِّي الخطب سَهْل وجاوبته: بكي أفندم، أي سمعًا وطاعة، ثم تَعَوَّذْتُ بالله من الشيطان الرجيم وسَمَّيْتُ بسم الله الرحمن الرحيم ورَتَّلْتُ له السورة ترتيلًا، فانشرح صدر الرجل وأَقْبَلَ عليَّ وهَشَّ وبَشَّ في وجهي بعد أن كان عابسًا، وقال لي ياغجي — صاغول أوك (الكاف تنطق نونًا) أي عظيم — أشكرك، وما كان أَسْرَعَ بَعْد ذلك أن أجابني إلى ما طَلَبْتُ ثم سَلَّمَ علَيَّ وانصَرَفَ مسرورًا، وعَلِمْتُ منه أن عدد المسلمين في موسكو ١٨ ألف نفس.
ومن نحو عشر سنين تَعَرَّفْتُ في موسكو بفَخْر روسيا وعَلَمِها الخفاق الجامع بين فضيلَتَي العلم والعمل، ومُحِب الجنس البشري على الإطلاق نابغة الزمان ومعدن الفضل والعرفان الفيلسوف الكبير تولستوي (وأصْله ضابط في الجيش)، وكان نازلًا وقتئذ عند أحد مريديه ولابسًا ملابس الفلاحين وهي أحبُّ شيء إليه، وقد دعاني لزيارته في بلده ياسنايابوليانا فشَكَرْتُ واعْتَذَرْتُ.
ولا غرابة إذا وفَّى تولستوي النبيَّ حَقَّه في كتابه «حكم النبي محمد»، فإنما يَعْرِف الفضل من الناس ذووه، والرجل جواد مضياف كثير الرماد، وكانت دارُهُ قبل موته مَهْبِط الحكمة العالية وكعبة القُصَّاد من سائر البلاد، ومن مبادئه نشْر لواء السلام وبَثُّ روح المحبة والإخاء بين جميع الأنام، وحُبُّ الفلاحين والعطف على الفقراء والمساكين واحتقار المال، حتى إنه وزَّع معظم ثروته على البائسين والمعوزين وعاش عيشة الزهد والتقشف، وما كان يألو جهدًا في كل وقت وآن في تخفيف ويلات بني الإنسان وتبديد ظلمات الجهل وتنوير البصائر والأذهان. وكان ينظر إلى هذا الوجود بنفس العين التي كان ينظر بها إليه الشاعر الكبير والفيلسوف العربي الخطير أبو العلا المعري في قوله:
ولكنه مع زُهْدِه وإعراضه عن الدنيا، ورَغْمًا من شيخوخته وتَقَدُّمه في السن، لَمْ تَمُتْ هِمَّتُه ولَمْ يَجْنَح قَطُّ إلى البطالة والكسل، بل كان يَعْمل على الدوام ولا يَمَلُّ أبدًا من العمل، وبالجملة فمنزلة تولستوي عند الروس كمنزلة كونفسيوس عند الصينيين والروس؛ يُحِبُّونه حُبًّا يَقْرُب من العبادة حتى كان في حياته إذا طَرَقَ أيَّ باب فُتِحَ له في الحال، وقُوبِلَ بكل ترحاب.
ومن موسكو إلى كييف ٢٢ ساعة في الكوريسكي. وكييف مدينة جميلة على نهر الدنييبر، وفيها الترامواي والنور الكهربائي، وشوارعها واسعة وفي غاية النظافة، وكنائسها جميلة والديورة أجمل، وبها جثمان جماعة من القديسين، وفي كييف لوكاندات عظيمة منها السافواي والكونتينانتال وغيرهما، وعدد سكانها ٦٠٠ ألف نفس منهم ٢٠٠٠ مسلم.
والدنييبر نهر كبير منبعه في حكومة سمولنسك وطوله ٢٠٠٥ فرست، ويَخْتَرِق تسع حكومات، ويصب في البحر الأسود وليس كله صالحًا للملاحة.
وفي سياحتي الأولى في الروسيا زُرْتُ ريفال، وفيها أسطول البلطيق وفيلنا، ومعظم أهلها يهود وريجا وأكثر سكانها ألمان، وهلزنجفورس عاصمة فنلندا وهي على شاطئ البحر، وفارسوفي عاصمة بولونيا وما أكثر اليهود فيها، وكلها بلاد لطيفة في غاية التقدم والعمران.
ومن كييف إلى أودسا نحو ١٠ ساعات بسكة الحديد، ويوجد الآن قطار يقطع المسافة من بطرسبورغ إلى أودسا في ٣٢ ساعة.
ومن أودسا إلى الأستانة ٣٤٤ ميلًا، ومن الأستانة إلى الدردنيل ١٣٥م، ومن الدردنيل إلى أزمير ١٤٢م ومن أزمير إلى بيريه ٢١١م ونصف، ومن بيريه إلى إسكندرية ٥٣٩م.
تمَّت السياحة ولم يَبْقَ إلا بعض كُلَيْمات على تاريخ روسيا وشئونها العمومية.