ذيل السياحة
أخبار ومعلومات عن روسيا
فالروسيا لها الآن في الوجود ١٠٥٠ سنة، وأول عواصمها نوف جورود (المدينة الجديدة) على بحيرة دلمي، وهي على بُعْد ١٥٠ كيلومترًا من بطرسبورغ، وثاني عاصمة كييف، والثالثة موسكو، والرابعة بطرسبورغ، وقد حكم الروسيا عائلتان؛ عائلة روريك وعائلة رومانوف وهي العائلة الحاكمة الآن، ورومانوف هذا كان بطريقًا على موسكو، وأوَّل من تَوَلَّى أريكة المُلْك مِن ذُرِّيَّته القيصر ميخائيلوف، وتلاه الكسيس ثم تيودور ثم بطرس الأكبر، وهو أوَّل مَنْ لُقِّبَ بِلَقَب إمبراطور.
وقد حَكَمَ الروسيا أيضًا التتار المسلمون ٢٥٠ سنة، والسعيد من الروس في ذلك العهد من كان يُزَوِّج بِنْتَه إلى أمير من أمراء التتار.
ولما اخْتَلَفَتْ كلمة التتار ودَبَّتْ بينهم عقارب الشقاق، انتهز هذه الفرصة الغراندوق ديمتري دون سكوي، وقاتلهم حتى أجلاهم عن أرض الروسيا وأرجعهم إلى بلادهم الأصلية، وكان ذلك في سنة ١٣٨٠، وفي سنة ١٥٥٢ استولى القيصر إيوان (أي حنا) الملقب بالمهول على قازان عاصمة التتار، وبَعْدها بسنتين أَخَذَ أستراخان، ومن ذلك الوقت إلى الآن أَصْبَحَ التتار تَحْتَ حُكْم الروسيا بَعْد أن كانوا سَادَتَها وحُكَّامَها، فانظر يا صاحِ إلى تقلبات الزمان:
وقد دَخَلَت الديانة النصرانية في روسيا في القرن العاشر للميلاد على يد قسس أروام من قسس القسطنطينية، ترجموا الإنجيل إلى اللغة البلغارية القريبة من اللغة الروسية، وكانت هذه الترجمة من أقوى العوامل على انتشار الديانة المسيحية في روسيا. وأوَّل مَنْ تَنَصَّر من الروس الغراندوقة أولغا وقد تَمَّ تنصيرها في القسطنطينية، وكان عرابها الإمبراطور قوسطنطين بورفيروجينيت، وبعدها تَنَصَّرَ حفيدها فلاديمير وهو الذي نَشَرَ الديانة النصرانية في روسيا كلها؛ حتى عَدَّه الروس من كبار القديسين، وأنزلوه منزلة الحواريين والرسل الأولين.
وكنائس روسيا لا تقل الآن عن ٥٠٠ ألف كنيسة، والقسس يبلغون المليون عدًّا، وكلهم أقوياء البِنْية جدًّا ولهم مَنْظر مهيب ونفوذ وسطوة على قلوب الشعب، ومن عاداتهم أنهم يُرْخُون شعورهم وراء ظهورهم، وكان لروسيا في أول أمرها بِطْريق له الرئاسة العظمى على جميع رجال الدين، ولكن بطرس الأكبر لما رأى أن البطريق معارض له في الإصلاح ودائمًا يقِفُ حَجَرَ عَثْرَة في سبيل تَقَدُّمِ البلاد وإنهاضها، أَمَرَ بإلغاء وظيفته، ومِنْ وَقْتِها إلى الآن صارت السلطة الدينية والسلطة الدنيوية في قبضة قياصرة روسيا العظام، ولم تَقُمْ للبطارقة قائمة بَعْدَها في البلاد.
وأَغْلَب قباب الكنائس الكبرى في روسيا من البرونز المُذَهَّب، ومنها ما هو على شكل القباب الطيارة، والدين الأورثوذكسي في روسيا أرسخ من جبل رضوى على ظهر الأرض، حتى إنك لترى في كل مكان منها في الطرقات، في الدواوين، في المصالح، في البواخر، في اللوكاندات، في غرف النوم، في المطاعم، في القطارات، أيقونات للمسيح والعذراء والرسل، لا تنقطع من حولها الأنوار لا بالليل ولا بالنهار. وكلما مَرَّ أحد أمام كنيسة رَسَمَ الصليب بيده على وجهه إلى صدره تعظيمًا وتكريمًا (وكذلك الحال غالبًا عند الابتداء في الأكل وبعد الفراغ منه من باب الشكر على النعمة)، ومن الكنائس ما هو مرسوم على جدرانها من الخارج صورة القديسين ليكونوا شهداء على الناس. والصلاة عند الروس بلا أرغن ولكنها قد تَتَخَلَّلها بعض تراتيل دينية.
وما أجمل كنائس بطرسبورغ وموسكو وكييف وما أفخمها. إن العقل ليحار في وصف بدائعها ومحاسنها وما اشْتَمَلَتْ عليه في الداخل من النفائس والذخائر الثمينة، ففي كنيسة القديس إسحق وفي كنيسة قازان في بطرسبورغ ترى محل إكليل الشوك على رأس المسيح إكليلًا من ماس بديع الصنع، وترى العذراء مرسومة وفي أناملها الخواتم الغالية وفي جيدها قلائد الدر والجواهر.
ولَعَمْر الحق لو نزل المسيح إلى الأرض، وشاهد ما عليه بعض رجال الدين من الترف والنعيم، وما يتَّشِحون به من الخز والديباج، وما يسكنونه من القصور الباذخة، لأحالهم على مجلس تأديب وعادَ يَعِظ الناس من جديد موصيًا طغمة لأكليروس بالزهد والتقشف، أو على الأقل بالقناعة في المأكل والمشرب والبساطة في الملبس حتى في أيام الآحاد والمواسم والأعياد؛ لأن مملكته لَيْسَتْ من هذه الدنيا.
ولو رأى ما وَضَعُوهُ على صورته الكريمة من الحلي الباهرة، لخانه حُلْمُه المعهود وانْتَزَعَهَا بيده غضبان آسفًا، وَوَزَّعَهَا في الحال على الفقراء والمساكين ليكون لهم مِنْ ثَمَنِها رءوس أموال تنقذهم من مخالب الفقر والفاقة، حتى لا يعيشوا بؤساء ويموتوا تعساء، ولا ذنب لهم سوى أنهم وُلِدُوا فقراء.
أما إذا فَتَّشَ الكنائس بِنَفْسِه وعلى الأخص كنائس بطرسبورغ ورومة ومدريد ومالطة والقدس وبيت لحم مسقط رأسه، ووَقَفَ على ما تحويه خزائنها من الأعلاق المصوغة من الذهب الخالص والمُرَصَّعة بالجواهر واللآلئ، لهاله الأمر واستهوته أشجان، ولَأَمَرَ بالإفراج عنها فورًا مكتفيًا بالذخائر الأخرى، وأشار بِبَيْع الحجارة الكريمة وسك الذهب إلى نقود لتُتَدَاوَلَ بين الناس حتى يَقِلَّ الشقاء المستحْكِمَة حلقاته على الأرض، وتَخِفَّ وطأة الفقر في هذا العالم فيُشَتِّتَ شَمْل العدميين، وتَنْحَل عصابات الفوضويين، وينضمون إلى أحضان أمهم الكنيسة، ويعودون إلى حظيرتها، ويصبحون جميعًا من أبنائها الصادقين ومحبيها المخلصين.
وبعد هذا كله لا أدري لماذا يُحيطون بعض كنائس القوقاز مثل كنيسة باطوم وكنيسة تفليس بالمدافع التي غَنِمَها الروس في حروبهم مع الترك أو الجركس أو نحوهم، مع أن الكنائس لم تَكُنْ في الأصل إلا لنشر المحبة والسلام، ولم تُجْعَل مَتَاحِفَ لِتُذَكِّرَ الناس بسفك دماء الناس وضَرْبِهم بالمدفع وقَتْلِهِمْ بحد الحسام.
والفرق بين الشهر الروسي والإفرنكي ثلاثة عشر يومًا، فإذا ضَمَمْتَ هذا العدد إلى تاريخ أي يوم في الشهر الإفرنكي كان عندك التاريخ الروسي، مثال ذلك أول سبتمبر في روسيا يوافق ١٤ منه في أوروبا ومصر، وبالعكس اطرح عدد ١٣ من تاريخ الشهر الروسي يكون عندك التاريخ الإفرنكي.
وعدد العساكر الموجودة تحت السلاح في روسيا ثلاثة ملايين، وأما الاحتياطي فلا حد له. وإن كان العساكر البرية أقوياء أشداء، فالعساكر البحرية أَشَدُّ وأقوى.
ومن العساكر البرية نوع يقال له القوازق (وهي كلمة تتارية معناها قاطع الطريق) وهم نصارى ومسلمون وبوذيون، فالنصارى قوازق الدون والمسلمون قوازق الجراكسة وأورال وسيبيريا، وهؤلاء بعضهم نصارى، والبوذيون قوازق الموغول جهة بحيرة بيكال، وكل القوازق شجعان بواسل أولو بأس شديد وقوة، ولهم فروسية خارقة للعادة حتى إن الواحد منهم خصوصًا المسلمين ليركب (واقفًا) وسط ثلاثة خيول أو أربعة، ويمسك بأعنتها بيديه ويهجم بها كلها من قيام بسرعة كسرعة البرق الخاطف، وهو ثابت في مكانه لا يتحرك ولا يتزلزل كأنه الطود الراسخ، ومنهم من يَنُطُّ الحاجز والخندق بحصان واحد وينزل ويركب في الطريق مرارًا أثناء ركض الحصان كأنه عفريت من الجان.
والقوازق على العموم لا يهابون الموت ولا ينكصون أبدًا على الأعقاب، فإذا اعْتَرَضَهُمْ نهر في طريقهم خاضوه أو جَبَل صعدوه، وكلهم فرسان خيالة بارعون في الكر والفر، ويلبسون ملابس الجراكسة (جركسكا)، وأشهر أنواع القوازق قوازق الدون، وهو نهر طوله ٢٠٠٠ فرست يَمُرُّ في خمس حكومات من حكومات روسيا، ويَصُبُّ في بحر أزوف، وليس كله صالحًا للملاحة، وعلى بُعْد غير قليل من مصبه مدينة نوفوشركاسك عاصمة هؤلاء القوازق، وعدد سكانها ٥٥ ألف نفس، ورئيسهم يُسَمَّى بلسان الروس أتامان.
وضباط الجيش في البر والبحر، أكثرهم من أولي النعماء، تلوح على وجوههم علائم النجابة والعلم والذكاء، وملابسهم جميعًا جميلة وفاخرة.
والملابس الأهلية في روسيا فرتيكة فوق البنطلون وعليها حزام بسيط أو بشرابتين، وقد تكون الفرتيكة بيضاء أو ملونة مطرزة أو غير مطرزة، ومنهم من يلبس فوقها الجاكيتة، وللأهالي كاسكيت مخصوصة غير الكاسكيت المستعمل في أوروبا وكذلك الطلبة. ويتردد على لسان الروس غالبًا كلمة نيتشيفو (معهلش)، والشعب الروسي ساذج بسيط والعامة في غاية الانحطاط والهمجية بخلاف الخاصة، فإنهم بلغوا أرقى درجات التهذيب واستنارَتْ عقولهم بالمعارف العصرية، وساروا شوطًا بعيدًا في ميادين الحضارة والمدنية، والمرأة من الخاصة في غاية الرقي والتقدم.
ولوكاندة النوم في روسيا اسمها جوستيتسا، ومع ذلك فإن أغلب اللوكاندات الكبيرة مكتوب عليها اسمها باللغة الفرنساوية كما هو الحال في البلاد الأورُبَّاوية، ولوكاندة الأكل تسمى عندهم رستوران. وأجرة النوم في بعض الفنادق غالية جدًّا، فهي تَخْتَلِف من ثلاث روبلات إلى عشرة فما فوق.
ومن الغبن الفاحش أن بعض هذه الفنادق لا تكتفي بهذه الأجرة بل تُضِيف عليها أجرة الغطاء وملاآت الفرش وأكياس المخدات والفوط ونحو ذلك، فهي تمتص دَمَ النازل عندها روسيًّا كان أو أجنبيًّا.
ولقد زادت فنادق باطوم، روسية كانت أو أرمنية أو كورجية، الطين بلة والطنبور نغمة، فإنها عند تقديم الحساب تُضِيف على مجموع الأقلام قلمًا (للبقشيش) تُقَدِّر قيمته كما تراه، وتَجْعَل دَفْعَه إلزاميًّا، وعلى هذا المثال يكون الحال في المطاعم الكبيرة فيها.
والأكل في روسيا جَيِّد ولذيذ وأثمانه معتدلة اعتدال أثمان الأكل في غيرها، ولكن ذلك لا يكون إلا في الأكلة ذات الثمن المحدد، فقد يكون هذا الثمن أَقَلَّ من روبل أو روبلًا ونصف بحسب عدد الألوان التي يَتَناولها الشخص. أما إذا كان الأكل بالطبق (الا كارت) فاسْتَعِدَّ للبذل ولا تَبْخَلْ ولا تَلُومَنَّ بعد ذلك إلا نفسك، فقد يكون ثمن الصحن الواحد روبلًا أو روبلين.
ومقدمات الطعام عندهم كالسردين والبطارخ المكبوس والبطارخ الغض (الطازة) والأسماك المملحة المختلفة الأشكال والألوان والسلاطات المتنوعة، شيء يفوق الحصر ويحار الإنسان أثناء الأكل، أيكتفي بهذه الحوادق الجالبة للشهية أم يَجْمَع بينها وبيْن غَيْرها من المآكل الأخرى.
ومن أطعمتهم الأهلية شوربة الكرنب ويسمونها بورش، وهم يتناولونها مع الكريمة ويأكلون معها فطائر صغيرة محشوة أو غير محشوة اسمها بيروجكي، ولهم شوربة أخرى تَقْرُب من البورش اسمها شي. ومن مأكولاتهم الأهلية أيضًا شوربة السمك، وهي على ثلاثة أنواع: أوخا وسيلنكا وأوكروشكا، وهذه الأخيرة لا تُؤْكَل إلا مُبَرَّدَة بقطع الثلج الصغيرة.
والمياه المعدنية التي تُشْرَب في روسيا تكاد تكون كلها من نفس البلد، وهي بورجوم ونارزان وإيسانتوك نمرة ٢٠، وقد يستغني الكثير من الروس عن خمر فرنسا وغيرها من الخمور الأجنبية بما يُصْنَع في بلادهم من الخمر الجيد كنبيذ القريم ونبيذ بسارابيا، وفضلًا عن ذلك فإن لهم شامبانية مخصوصة تُصْنَع في مصانعهم، ولهم أيضًا شراب يتعاطَوْنَه قبل الأكل اسمه ڤودكا «عرقي» وهو نوعان: أبيض ناصع وضارب إلى الحُمْرة. وفي أغلب البلاد الروسية يُبَاع اللبن الرايب في زجاجات مسدودة مثل زجاجات الجازوزة ويُسَمُّونه كيفير وهو نافع ولذيذ.
والأدوية في روسيا لا تَخْرُج من الأجزخانات إلا إذا كانت ملتصقة بها ورقة جميلة الشكل، تحتوي على صورة طِبْق الأصل من تذكرة الطبيب الذي أَمَرَ بها وعلى اسمه.
وميزانية الروسيا ثلاثة مليارات روبل و٣٠٠ مليون روبل، أي أكثر من ٣٠٠ مليون جنيه، والحكومة مُحْتَكرة الڤودكا ودَخْلُها منه وحده ٨٠٠ مليون روبل أي ٨٠ مليونًا من الجنيهات في السنة، ولكنه لدى نشوب الحرب الأرباوية صدر أَمْر قيصري بإبطال ذلك الاحتكار، وبمنع جميع المشروبات الروحية في روسيا كلها.
والحكومة تملك أكثر من نصف السكك الحديدية، وإيرادها من ذلك يبلغ ١٠٠ مليون روبل أي عشرة ملايين جنيه في السنة.
أما باقي سكك الحديد في روسيا فبِيَد الشركات، والوابورات الروسية نظيفة وحسنة الإدارة، وفيها كل معدات الراحة الموجودة في غيرها من قطارات أوروبا، ومقاعدها تُسْتَعمل بالنهار للجلوس وبالليل للنوم بتحويلها إلى أَسِرَّة، وهي تَنْهَب الأرض نَهْبًا وتطوي البِيد طَيًّا، وقَلَّ أن تخلو منها جهة من جهات الروسيا، فالسكك الحديدية ممتدة في طول البلاد وعرْضها امتدادًا عظيمًا، وكل مجموع خطوط منها يُسَمَّى باسم خاص، فخطوط القوقاز تُسَمَّى ترانسيكو كازيان، وخطوط طاقشند وسمرقند وبخارى ونحوها تُسَمَّى ترانسيكا سبيان، وخطوط سيبيريا تُسَمَّى ترانسيسيبريان، وهذه السكة الأخيرة تَبْتَدِئ الآن من بطرسبورغ وتَمُرُّ على موسكو، ثم تَخْتَرِق سيبيريا وغيرها من بلاد آسيا حتى تَصِلَ إلى فلاديفوستوك في الشرق الأقصى، والمسافة خمسة عشر يومًا. والقطارات في هذه السكة مِنْ أَفْخَر ما يكون وفيها كل وسائل الراحة والهناء حتى الكتبخانة والحمام.
ويحق لروسيا أن تَرْفَعَ رأسها وتتباهى على غيرها بسكة سيبيريا العظيمة، فهي لعمري مَفْخَرَة من مفاخرها، بل معجزة من معجزات الزمان، تَشْهَد للحكومة الروسية بالهمة العالية والاقتدار العجيب والسبق على الأقران في حلبة هذا الميدان.
والأجرة من بطرسبورغ إلى فلاديفوستوك ٣٣٧ روبلًا و٦٠ كوبك في الدرجة الأولى «نحو ٣٤ جنيهًا»، و٢٠٨ روبلًا و٤٥ كوبك في الدرجة الثانية «نحو ٢٢ جنيهًا».
ومن فلاديفوستوك يتفرع خط حديدي إلى بكين عاصمة الصين وآخر إلى يوكوهاما في بلاد اليابانيين، فهكذا هكذا تكون الهمم العالية في ربط أجزاء الأرض ببعضها وتقريب الأبعاد على المسافرين.
ومرتب القيصر في الشهر مليون روبل (١٠٠ ألف جنيه). وما من مزرعة عظيمة أو عمارة فخيمة مَرَرْتُ عليها أثناء طوافي في روسيا وسَأَلْتُ عنها إلا قِيلَ لي إنها مِلْك التاج، حتى ظَنَنْتُ — وبَعْضُ الظَّنِّ إِثْم — أن هذا التاج يَمْلِك نِصْف البلاد الروسية لنفسه خاصة. وفي الواقع فإن جلالة الإمبراطور نقولا الثاني الجالس الآن على عرش القياصرة أغنى الملوك والسلاطين، ولله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
العملة في روسيا كلها جيدة ولا زيف فيها، وهي تتركب من ذهب وفضة ونحاس وورَق، ولا يوجد بها الآن نيكل ولكنهم عَوَّلوا على إدخاله قريبًا فيها. فمن الذهب الجنيه ونصفه، ومن الفضة الروبل ونصفه وقطعة بعشرين كوبك وقطعة بخمسة عشر وقطعة بعشرة وقطعة بخمسة، ومن النحاس قطعة بخمس كوبك وقطعة بثلاثة وقطعة باثنين وكوبك واحد، ومن الورَق ورقة ذات ٥٠٠ روبل وورقة ذات ١٠٠ وورقة ذات ٥٠ وورقة ذات ٢٥ وورقة ذات ١٠ وورقة ذات ٥ وورقة ذات ٣. ويوجد روبل جديد من الفضة منقوشة عليه صورة القيصر الحالي وصورة ميخائيلوف أول قيصر من عائلة رومانوف، ولكنه نادر وعزيز.
والجنيه الموسكوفي يساوي ١٠ روبلات والروبل ١٠٠ كوبك (فرنكين و٦٧ سانتيما أو قطعة بعشرة مصر وشيء) والكوبك يساوي ملليمًا وكسورًا.
ومسلموا روسيا يُسَمُّون الروبل مانات والقطعة ذات العشرين كوبك عباس، فإذا اشتريت من أحدهم شيئًا وكان ثمنه مثلًا ٦٠ كوبك قال لك إن الثمن ثلاثة عباس.
ولا يمكن للسائح في هذه البلاد أن يعيش عيشة لائقة بأقل من عشرين روبلًا (جنيهين) في اليوم، خلاف مصاريف السفر والانتقال التي لا تقل في خط مثل الخط الذي اتبعناه عن ٦٠ جنيهًا برًّا وبحرًا في الدرجة الأولى. والسياحة في هذا الخط أي من سكندرية إلى القريم والقوقاز وروسيا الأصلية يمكن إتمامها في ثلاثة شهور ونصف من ١٥ مايو لآخِر أغسطس؛ لأن البحر الأسود في هذه المدة يكون هادئًا ولطيفًا، وأما بعدها فيَصْعُب السفر فيه لشدة اضطرابه وهيجانه. وللكريدي ليونيه ثلاثة فروع في روسيا؛ واحد في أودسا والثاني في موسكو والثالث في بطرسبورغ، وفي البلاد من المصارف الروسية المنتظمة شيء كثير، ومن أكبر شعراء الروس بوشكين، وُلِد في سنة ١٧٩٩ في بلدة اسمها ميخائيلوفسكي على بُعْد ٣٥ كيلومترًا من بطرسبورغ، وقد نُفِيَ مرتين إحداهما في بلدته هذه والأخرى في القريم، وقُتِلَ في سنة ١٨٣٧ في مبارزة بالقرب من بطرسبورغ بسبب غَيْرَتِه على زوجته وقَاتِلُه ضابط بلجيكي اسمه دانتيس، وكان جد بوشكين «عربيًّا» دخل في خدمة بطرس الأكبر فرقاه إلى رتبة ضابط، ولما تَوَسَّم فيه النجابة والذكاء بعث به إلى باريس لِيَتَعَلَّم فيها العلوم العسكرية، ولما عاد أَخَذَ يترقى في الجيش الروسي إلى أن وصل إلى رتبة جنرال. فلروسيا إذَنْ أن تُفَاخِر بالعرب، وأن تُحَافِظ على علاقات القربى بيننا وبينها وصِلات النسب.
ولبوشكين الآن تماثيل في بطرسبورغ وموسكو وأودسا، وفي هذه المدينة الأخيرة منزل نُقِشَ على بابه (هنا أقام بوشكين في سنة ١٨٢٣).
ومن كبار شعراء الروسيا ليرمونتوف، وكان ضابطًا في الجيش، وُلِدَ في سنة ١٨٤١ ونُفِيَ إلى القوقاز في بياتيجورسك إحدى مدن الحمامات، وفيها قُتِلَ هو الآخر في مبارزة سنة ١٨٤١، وقاتِلُه ضابط روسي اسمه مارتينوف، وسبب النفي ما كان معلومًا عنه من آرائه وأفكاره الحرة ونظمه لمرثية لصديقه بوشكين طَعَنَ فيها على بعض المقامات العالية. وسَبَب القتل أنه عَرَّضَ في أحد المجالس بأحد الضباط حتى أَضْحَكَ عليه النساء، فاستاء الضابط من ذلك واستشاط غضبًا، ورأى في نَفْسِه التعريض إهانة له، وطلب من ليرمونتوف أحد أمرين؛ إما الاعتذار في الحال، وإما المبارزة، فأبى ليرمونتوف قبول الأمر الأول ورَضِيَ بالثاني.
وكانت المبارزة وقتئذ جائزة في روسيا، أما الآن فهي ممنوعة إلا بين ضباط البرية والبحرية، ولكن على شَرْط رِضَا رؤسائهم بها وموافقتهم عليها.
ومن مشاهير كُتَّاب الروس جوجول، وقد مات من نحو ٥٠ سنة، ومن تآليفه كتاب الأرواح الميتة شَرَحَ فيه ما كانت عليه روسيا في الزمن الماضي شرحًا مستفيضًا، وكيف كان يَسْتَعْبِد الأشرافُ فيها الفلاحينَ المساكين ويَسُومُونَهُم الخسف والعذاب المهين، حتى إنهم كانوا يَعُدُّونهم كالسلع والمتاع فيبيعونهم مع الأرض بَيْع المواشي والأنعام، إلى أن جاء القيصر الرحيم أبو الفلاح حقيقةً الإمبراطور إسكندر الثاني فَحَرَّرَهُم من رِقِّ العبودية، وأزال ما كان من الفوارق بينهم وبين باقي الرعية، ومن الأسف العظيم أن هذا القيصر الذي خَدَمَ الإنسانية أعْظَمَ خِدْمَة قَتَلَه النهلست شَرَّ قتلة، وهو الذي بُنِيَت على دَمِه في المحل الذي قُتِلَ فيه ببطرسبورغ كنيسة القيامة، الفائقة في الحسن والجمال.
ومِنْ فُحُول الكتاب دوستوييفسكي، وقد مات من عشرين سنة، ومن أشهر مصنَّفاته كتاب الجريمة والعقاب، وربما فاق لومبروزو في بعض مباحثه وفصوله، وأَمَلُنَا في حضرة الفاضل قبعين أفندي الذي عني بتعريب كتاب الفيلسوف تولستوي في حكم النبي ﷺ أنْ يُشَمِّر عن ساعد الجد ويُرِينَا هِمَّتَه، فيترجم كتاب الجريمة والعقاب خدمةً للناطقين بالضاد، خصوصًا المشتغلين بالقضاء والمحاماة، كما خَدَمَ الأمة بترجمة كتاب الحكم المستطاب. وفي روسيا الآن كاتب كبير اسمه ماكسيم جوركي.
وعدد سكان الروسيا ١٦٠ مليونًا منهم ١١٠ ملايين روسي أرثوذكسي و٢١ مليون مسلم، (على الأصح) ١٠ منهم في روسية أوروبا والباقي في روسية آسيا، و١١ مليونًا كاثوليك، و٦ مليون بروتستانت و١٠ مليون من البوذيين في منغوليا و٦ مليون يهود.
وأغلب السكان في مقاطعتي كورلاند وليفونيا من الألمان رعايا روسيا، وبِيَدِهِم قِسْم عظيم من التجارة. وأهْل فنلندا متقدمون جدًّا في الزراعة، وكان لهم أثناء زيارتي لبلادهم في سياحتي الأولى في روسيا عملة مخصوصة غير العملة الروسية، وهم أهل إباء وأنفة، وكلهم بروتستانت، وكذلك أهل بولونيا أخلاقهم مشابهة لأخلاق أهل فنلندا وكلهم كاثوليك.
وإذا تَعَلَّم الروس اللغة الفرنساوية أتقَنوها وتَكَلَّموا بها بطلاقة لسان وحُسْن بيان، وزيادة على أن أسماء الدكاكين في روسيا تُكْتَب باللغة الروسية ومعها اللغة الفرنساوية أو الألمانية، فإنَّ ما يُبَاع فيها مرسوم على واجهتها. وللروس رَقْص مخصوص اسمه رَقْص قوزاق وهو شبيه بالرقص الحربي.
وقد اصطَلَحوا في روسيا على تسمية حكومات خاركوف وبولتافا وكييف وسيرينجوف بروسيا الصغيرة، وموسكو بروسيا الوسطى، وأودسا والقريم بروسيا الجديدة، وباقي الحكومات بروسيا الكبيرة.
وثمن الباسبور في روسيا لِمَنْ يُسَافِر من رعاياها إلى الخارج ١٨ روبلًا، ومع ذلك لا يُعْمَل به إلا لستة أشهر. أما الذين يسافرون إلى الداخل فيُعْطَى لهم الباسبور مجانًا. وكل روسي يَتَغَيَّب عن روسيا يَدْفَع عند عودته لها رسمًا للباسبور ٢٠ روبلًا عن كل سنة، إلا إذا كان تَغَيُّبه لطلب العلم أو لمصلحة تعود بالخير على بلاده.
وما اجتمَعْتَ بيهودي إلا ورأيْتَهُ ناقمًا على الروس ويشكو بثه وحزنه إلى الله مما يلاقيه من الاضطهاد وسوء المعاملة في هاتيك البلاد. فإن الحكومة الروسية سَنَّتْ قانونًا حَظَرَتْ فيه على اليهودي غير المولود في بطرسبورغ الإقامة بها إلا إذا كان طبيبًا أو محاميًا، وحَرَمَت اليهود من التوطف في الوظائف الملكية والعسكرية، وجَعَلَتْ عدد التلامذة اليهود في مدارس الحكومة محددًا، فلا يُقْبَل منهم أكثر من خمسة في المائة بشرط أن يكونوا على مصاريفهم. انظر كيف أن الروس يحْجُرون على الحرية الشخصية ويَحْرِمون فريقًا من الناس من حقوقهم الطبيعية خصوصًا في هذا العصر، عصر العرفان والمدنية لا عصر الخشونة والهمجية.
ولكنا أثناء طبع هذا الكتاب عَلِمْنَا أن جلالة القيصر نقولا الثاني عندما تَحَقَّقَ له صِدْق رعاياه اليهود وإخلاصهم وتفانيهم في خدمته واستبسالُهم في الحرب الأورُبَّاوية، مَنَحَهُم الحقوق المدنية وسَاوَى بينهم وبين غَيْرِهم من الرعية، فكأنه نَظَرَ إلى ما طَلَبْنَاه لهم في آخر هذه الرحلة كما سيأتي، وأنالَنَا بُغْيَتَنَا وحقَّقَ أمنيتنا، فلجلالته على هذه المنحة الجليلة وعلى أبطال المسكراث من روسيا الشكر الجزيل والثناء الجميل منا ومن عموم الإنسانية.
والدستور في الروسيا (برُمَّته) دستور روسي وعمره الآن سبع سنين — وهنا استطراد لا بأس به — ذلك أني أقترح على من يعنيه الأمر في مصر أن يَأْمُرَ حالًا بكتابة لوحتين كبيرتين بالخط الثلث الجميل، إحداهما يكتب فيها الآية الآتية: وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ، وتُوضَعُ في قاعة الجمعية التشريعية جهة الأعضاء، والثانية يُكْتَب فيها هذه الآية الأخرى: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ، وتُوضَع جهة الرئيس، وأن تكون كتابة هاتين اللوحتين على مثال اليفط الموجودة بمحكمة مصر، بَعْضُها في قاعة الجلسة وبَعْضُها في أودة الرئاسة المكتوبة فيها الآيات الآتية: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ، وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ، اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ.
وكلها بخط الخطاطين الشهيرين حسن أفندي سري وعلي أفندي لطفي. وهذه الآيات جميعها سواء الخاصة بالمحاكم أو بالشورى ليس فيها ما يَمَسُّ عواطف أحد من إخواننا النصارى ولا إخواننا اليهود؛ لأنها لا تَتَعَلَّق بأمور تعبدية بل بمسائل عمرانية تَهُمُّ الجميع، ومِنْ شأنها أن تُذَكِّر القضاة دائمًا بالعدل مع الناس كافة على اختلاف أجناسهم وأديانهم، وتجعلهم لا يحيدون قَيْدَ أنملة عن الحق حتى مع عدوهم ومن يبغضونه عملًا بقوله تعالى: وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا، ومِنْ شأنها كذلك أن تُذَكِّر نُوَّابَنا ورئيسهم بالمشاورة والمذاكرة في كل أمر من أمورهم حقيرًا كان أو جليلًا. فلا يَضَعُ أحد منهم كمامة على فمه ويلازم السكوت، ولا يَغُرَّنَّه الغَرور ولا تُزَعْزِعْهُ الأباطيل والأراجيف، ولا الوشايات والسعايات، ولا السخائم والنمائم، ولا الدسائس والمكايد، ولا الكذب والاختلاق، ولا البشاشة والزلفى ولا ضدهما، ولا الدعوة إلى المآدب والأفراح والولائم، ولا الإقبال والإدبار، ولا أكثر من ذلك، بَلْ يَضْرِب بكل هذه الأمور العرَضية عرض الحائط ويَجْعَل لنفسه رأيًا خاصًّا في كل مسألة، ولا يُحْجِم عن إبدائه ولو بعبارة عامية بكل صراحة وحرية غير هَيَّاب ولا وَجِل، وأن لا يَجْرِيَ أبدًا وراء رأي الغير، وأن لا يقول إلا ما يَعْتَقِدُه حقًّا وصوابًا، وأن لا يُقَرِّر إلا ما يراه نافعًا لصالح البلد وإلا كان لا معنى للجمعية ولا للاجتماع، ومن أخص واجبات الجرائد نَشْر المناقشات والمداولات حتى تَعْرِف الأمة قِيمَة كل نائب من نُوَّابها ومقدار اهتمامه بالشئون العمومية.
وفي إستامبول توجد يُفَط في المحاكم التجارية وفي بعض مخازن التجارة مكتوب فيها هذا الأثر الشريف: «الكاسب حبيب الله». وللإنكليز شعار قديم وهو: «ربِّي وحقِّي» يُكْتَب في بعض جرائدهم باللغة الفرنساوية لا باللغة الإنكليزية.
ولنعد الآن إلى ما نحن بصدده؛ لأننا نعترف بأننا خَرَجْنَا عن الموضوع، وطالما خَفَّفَ الاعتراف الاقتراف.
الروسيا على العموم بلاد جميلة ولكن أجملها القريم والقوقاز، فهما الدرة اليتيمة في تاج القياصرة، ولا عَجَبَ فإن المسلمين مَلَكُوا أجمل بقاع الأرض وأَخْصَبها، ولو كانوا ساسوا مَمَالِكَهم بالعدل والحكمة، وعاملوا الجميع معاملة واحدة، وأحسنوا الإدارة، وبحثوا في كل أمر يَعُود بالخير على الرعايا، وأخذوا من التمدن الحديث أحسنه، وضبطوا الأعمال صغيرها وكبيرها، ولم يُفَرِّطوا في أي شيء من حقوقهم، وكافأوا المحسن وجازوا المسيء، وسدوا آذانهم عن سماع الوشايات والأكاذيب كما فَعَلَ صلاح الدين، وطبَّقوا القوانين من غير محاباة ولا مراعاة لاستقام أَمْرُهُم وحفظوا مُلْكَهُمْ، وما جَرُأَ أحد على أن يَنْظُرَ إليه بعين الطمع أو يَمُدَّ له يد السوء، فما سقطت الممالِكُ إلا من إهمال أهْلِها وظُلْمِهِم وانغماس أفرادها في حمأة من الرذائل والشهوات، وتَرْك الحبل على الغارب وعدم الاستعداد الحربي. إذ من المعلوم أنه لأجل المحافظة على كل مَمْلَكة يجب على أهلها أن لا يستسلموا للصدف والمقادير، وأن لا يُعَوِّلوا على غيرهم ولا يعتمدوا إلا على أنفسهم، وأن لا يَغْتَرُّوا بزخارف الكلام، وأن يُعِدُّوا لمن يعتدي عليهم ما استطاعوا من قوة ومن رباط الخيل كما هو الحال في نفس مَمَالك أوروبا لحذرها وتَخَوُّفها على الدوام من بعضها، وكما يقضي به قانون تَنَازُع البقاء على ظَهْر هذه الغبراء التي وُطِئَتْ فيها الآن الذمة بالأقدام، وأصبَحَت العهود والمواثيق حِبْرًا على وَرَق، وصار شعار القوم في هذه الأيام خِلَافًا لما يَأْمُر به كل دين: اللؤم والغدر والخيانة كما شاهَدَ ذلك الخاص والعامُّ؛ أين الصدق أيها الناس أين الشرف؟! أين الإنسانية؟! أين القدوة الحسنة؟! هل هكذا تكون نتيجة التربية؟! ماذا جرى للدنيا؟! أَنُزِعَت الشفقة والرحمة من القلوب، أم ماتت الضمائر؟! ما هذه الدروس التي تُلْقَى الآن على العالم؟ أَلِإِصْلَاحِه هي أم لإفساده؟ إنَّ كل جهد رجال التربية أصْبَحَ عبثًا، وكل أتعابهم في تهذيب رجال الغد وتعويدهم في الصغر على محبة الصدق والعدل والحق والرأفة بجميع بني الإنسان من أي جنس وأي دين كان ضائعة سدى.
أيرضى أحد من ذوي القلوب بتلك الفظائع الجهنمية التي حَصَلَتْ في عصر العلم والمدنية في الحروب البلقانية، أم يَصِحُّ أن يَسْكُتَ القوم عنها ويغمضوا الجفون عليها، أم لم يكن لهم أولاد — أليست لهم نساء وفلذات أكباد — أليس فيهم الشيخ الفاني؟ أإلى هذا الحد يجهلون أن الكل إنسان وأن هذا الإنسان مهما كان يجب الرفق به ومعاملته على الأقل ولو ببعض الشفقة التي يعامل بها الحيوان.
ولقد رَسَمَ القرآن للمسلمين تلك الخطط القويمة خطط الاستعداد للعدو وغيرها من الخطط الحكيمة التي تَضْمَن لهم سعادة الدارين، ولكنهم اختلفوا أو قَصَّرُوا وأهْمَلوا، واشتغلوا بالقشر دون اللب، وقدموا العَرَض على الجوهر، فكان ما كان وحَقَّتْ عليهم أحكام الزمان.
ومسلمو روسيا من تتار وجركس وداغستان وغيرهم هم من غير مبالغة أَشَدُّ مسلمي الأرض تمسكًا بدينهم وتَعَلُّقًا بأهدابه وأكثرهم غيرة عليه ومحافظة على سننه وآدابه، وهم حاصلون الآن على حقوقهم السياسية والمدنية، ولهم في روسيا المكانة الثانية من بين ١٢٨ عنصرًا تَتَأَلَّف منهم الدولة الروسية، وكلهم أمم حربية اشتهروا بالشجاعة والرماية والفروسية، وطالما خَدَمُوا روسيا الخدمات الجليلة، وبرهنوا مرارًا في الحروب على ولائهم وشدة إخلاصهم، وأظهروا بسالة عجيبة، حتى إن الحكومة رَقَّت الكثيرين منهم إلى رُتَب القواد في الجيش الروسي، ومنهم ضباط في فرقة فرسان الحرس القيصري الخاص لما امتازوا به من الولاء التام والأمانة والإخلاص والإقدام.
وفي حرب الروسيا مع اليابان سُلِّمَت قيادة فرقة مؤلفة من ستة آلاف عسكري كلهم روس نصارى أورتودكس إلى جنرال مسلم.
ومن المسلمين جيل يقال له القارغيز والباشكير يقيمون في جبال أورال في أوروبا وآسيا وعددهم ستة ملايين.
والروس يُسَمُّون العالِم الكبير من علماء المسلمين أخون والصغير منلا. وأكثر المسلمين الروسيين مشهورون بإقراء الضيف، حتى كأنهم المعنيون بقول القائل:
وعندما يزور أمير بخارى القيصر يستقبله بكل إعظام وإجلال وإكرام، وتتبادل بينهما خطب الولاء.
ورجال الإصلاح المسلمون ولا سيما الشيوخ والتجار، مهتمون كل الاهتمام بنشر التعليم بَيْن الأفراد، وتنوير الأذهان بالعلوم الحديثة، وبالجملة فإن مسلمي روسيا ناهضون الآن نهضة حقيقية تعود عليهم بالعز والفخر مدى الدهر، وهم لا يَقْصِرون هَمَّهُم على تعليم البنين؛ بل يَعْتَنُون أيضًا بتربية البنات، ولا يكتفون بتعليم أبنائهم في بلادهم بل يُرْسِلون كثيرًا منهم إلى الأستانة ومكة والمدينة ومصر.
وعندنا مجموعة رسوم تمثل مسلمي القوقاز والتتار والكورج وبعض نصارى الروس بملابسهم الأهلية، بعثنا بها إلى إدارة المؤيد لِيُطْلِع عليها من يشاء، وكذلك أرسلنا إليها جريدة كورجية وجريدتين تنشران في القوقاز باللغة التركية، إحداهما تُطْبَع في تفليس واسمها منلا نصر الدين، وقد صُوِّر فيها جلالة السلطان محمد رشاد الخامس بصفة شخص، فإن أَحْنَت السنون ظَهْرَه وأَثْقَلَت الحوادث والكوارث كَاهِلَه لابسًا أطمارًا بالية مرقعة وناقِلًا أمتعته من الأستانة إلى الأناضول، وأمامه إمبراطور الألمان مُسَلِّمًا عليه سلامًا عسكريًّا، ولكن السلطان ولله الحمد باق في القسطنطينية وسَيَبْقَى بها إن شاء الله هو وآل بيته الكرام إلى الأبد.
وفي هذه الجريدة رسموا عجميًّا يَضْرِب بالبلطة امرأة إفرنكية لينفروا أوروبا من العجم ويوغروا صَدْرَهَا عليهم، ولكني عَلِمْتُ أن كل هذا كذب وبهتان، والثانية تطبع في باكو واسمها شلالة وفيها صورة الشاعر التركي الكبير عبد الحق حامد بك، وصورة تُمَثِّل مقتل الشهيد العظيم محمود شوكت باشا، ورسم منابع البترول في باكو.
وهنا يَجْدُر بي أن أَتَكَلَّم على ثلاثة أشياء لو لَمْ تكن في الروسيا لكانت كلها محاسن، وهي الباسبور واضطهاد اليهود وعداوة الروس للدولة العثمانية.
فإذا ألغت الروسيا الباسبور وجعلت الدخول والخروج في بلادها حُرًّا تَشَبُّهًا بغيرها من الأمم المتمدنة، قَصَدَهَا الناس مِن كُلِّ فج وعاد عليها ذلك بكثير من الفوائد الاقتصادية والمنافع الأدبية، ولا خوف عليها من أشرار الأجانب؛ لأن لديها من القوة ما يَكْفِي لردع كل من يَجْرُأ على انتهاك حرمة القانون أو يُخِلُّ بالنظام العام.
وإذا كَفَّتْ عن اضطهاد اليهود ومَنَحَتْهُم الحقوق الممنوحة لغيرهم من العناصر الروسية، وتركَتْهُمْ أحرارًا يَرُوحون ويَغْدُون كما يشاءون، ولم تَحْجُر على حريتهم الشخصية، وجَعَلَتْ شعارها دائمًا الدين لله والوطن للجميع، نفعوها وأخلصوا لها وتحدثوا بفضلها عليهم وشكروا مِنَّتَهَا وتباهَوْا بالانتساب إليها وافتخروا برعويتها، خصوصًا وأنهم لا يعرفون لهم وطنًا غير روسيا، وقد مَضَتْ عليهم فيها القرون الطويلة وهم لا يتكلمون لغة غير لغتها، فهم رعاياها وفي ذمتها، ويَحِقُّ لهم جميعًا أن يتمتعوا في الداخل والخارج بحمايتها.
وإذا صافت الروسيا الدولة العثمانية وتَرَكَتْهَا تعيش كما تُحِبُّ هي أن تعيش، وكَفَّتْ عن خَلْق المشاكل لها ووَضَعَتْ حدًّا لمطامعها واكتَفَتْ بمُلْكها العظيم، وبما هي فيه من رغد ونعيم، ومَدَّتْ يدها إلى الأتراك وصافحتهم وسالمتهم، تناسوا الماضي؛ لأنهم شعب حسن النية سليم الطوية، وعادت هذه المصافاة على الطرفين بفوائد لا تُحْصَى ومزايا لا تُسْتَقْصَى.
ألم تكن فرنسا وإنكلترا عدوتين قديمتين — ألم يُحَوِّل الملك إدوارد بحنكته وحذقه ومهارته تلك العداوة الشديدة إلى صداقة متينة، مع اختلاف أخلاق الأُمَّتَيْن وتَبَايُن الدين فيهما، فهؤلاء بروتستانت وأولئك كاثوليك، وكل مذهب منهما يَنْظُر إلى الآخر بغير العين التي يَنْظُر بها لنفسه — ألم تَتَحَالف إنجلترا مع اليابان، وهذه دولة وَثَنِيَّة وتلك مسيحية.
فمتى يوجد في الروسيا رَجُل نبيل القصد كريم السجايا، يَحْذُو حَذْو الملك إدوارد، ويَرْجِع عن تلك التقاليد البالية العتيقة، ويُحَوِّل عداوة تركيا إلى صداقة، حتى يستريح العالم من تلك القلاقل التي مَجَّتْهَا الأذواق ومَلَّتْ من سماعها الآذان.
فإذا غيرت الروسيا خُطَطَها القديمة وانتَهَجَتْ خُطَطًا جديدة معقولة بأن أَلْغَت الباسبور وَعَامَلَت اليهود بالرفق واللين وصَادَقَت العثمانيين، تَحَسَّنَتْ أسعارها وارتفع منارها وطاب في الخافقين ذِكْرُهَا، وفاح في كل مكان شذاها وأحبها الناس جميعًا، وبَلَغَتْ في المجد منتهاها.
ومدارس روسيا زاهية زاهرة بالعلوم والآداب، والعربجية الروس يلبسون كلهم رداء واسع الأردان أشبه شيء بالجبة والقفطان.
بلادي بلادي لك جسمي وفؤادي لك حبي وودادي.
لك قلمي ومدادي لك عقلي ورشادي لك صحوي ورقادي.
لك قربي وبعادي فأنت أنت البلاد المحبوبة يقينًا وليس في الدنيا بلاد أجمل ولا أفضل منك في ملتي واعتقادي.
ولكن كل هذا لا يَمْنَع من السفر إلى بلاد الغير للنظر والاعتبار والاستفادة والاختبار.
تحية الإعجاب إلى المؤرخ رشاد بك
لقد كان من حظ المؤيد أن يكون على الدوام مَعْرضًا يَعْرِض فيه حضرة العالِم المفضال والرحالة الكبير والمؤرخ الشهير محمود بك رشاد رئيس محكمة مصر الأهلية سابقًا نفائسه، وخزانة موثوقًا بها لِرَصْد ذخائره العلمية ورحلاته إلى داني البلاد وقاصيها لمحض خدمة الأمم الشرقية. ولسنا الآن في مَقام تعدادِ ما أفادَتْ رحلات هذا المؤرخ من تهيئة النفوس المصرية على الخصوص لاستطلاع ما أوجب رقي الأمم وسبب انخفاضها، فإن رحلتيه الأخيرتين اللتين نَشَرَهُما المؤيد عن الدولة العلية وروسيا حَرَّكَتَا في النفوس لواعج الأشجان على زمن كان فيه السبق للمسلمين في جَوْب الأمصار واقتحام الأخطار لاقتناص مدنية الأمم وصقلها بصاقل من عوائد وأخلاق العرب، مما دعا إلى تفوقهم في زمن قصير على غيرهم في كل شيء.
يَسُرُّ كل وطني أن يرى أفرادًا من مواطنيه يقومون لإعلاء شَرَفِ وَطَنِهِمْ ويَجِدُّونَ في تجديد معالم فَخْرِهِمْ؛ لأنه قد مَضَى علينا زَمَن أَهْمَلْنَا فيه كل شيء فَخَرَّبْنَا فيه هذا البناء المشيد الذي تَرَكَهُ لنا أسلافنا العظام، وطَمَسْنَا بتهاوننا آثار هؤلاء الأجداد الفخام الذين اجتهدوا في البحث والتنقيب والكد في مناكب الأرض والجد وراء الرزق والسعي لازدياد درجة العمران، ويحق لنا إذَنْ أن نَفْتَخِرَ برَحَّالَتِنَا الفاضل الذي جدد عصر ابن بطوطة في الإسلام، ألا وهو العالم القانوني محمود بك رشاد، فإنه فضلًا عن المتاعب الجمة والمصاعب الشديدة التي يَلْقَاها في السفر، فإنه لا يبخل بالمال ولا بالوقت للتجول في البلاد المتنوعة الأرجاء الحاوية لِمُخْتَلِف الأجناس، فإن كتاباته عن السياحة المتنوعة فضلًا عن أنها مفيدة في ذاتها من حيث الوصف والوقوف على حالة البلدان، ففيها من العظات الكبيرة المدهشة التي تأخذ بِلُبِّ الإنسان لما فيها من الحكمة البالغة والملحوظات الكاملة خصوصًا عندما يصف داء قومنا وما آلت إليه حكومات الشرق مع الأسف من الفساد والاستبداد حتى وَصَلَتْ لهذه الدرجة التعيسة، مع أن الطبيعة لم تَضِنَّ على الشرق بأحسن العوامل، فقد نَبَغَ في هذه الأراضي كبار الرجال من أنبياء ومرسلين وفلاسفة عظام تتفاخر بهم للآن الآنسانية، فَحَقَّ لنا أمام هذا الرحالة الكبير أن نَفْتَخِرَ بأفكاره، ووَجَبَ علينا أن نَأْخُذَ بنصحه الخالص؛ لأنَّ مثل هذا الهُمَام كمثل الطبيب الماهر أمام جِسْم في خطر هائل. فأرى من الواجب على أُمَّتِنَا أن تُشَجِّع أبناءها المخلصين وتُعَضِّدُهُم؛ لأن أحسن وسيلة للإكثار من المفكرين المجتهدين أن تُسَاعِد الأمة في تَنْشِيطهم بكل الوسائل، وأَنْتَهِزُ هذه الفرصة لِأُعَرِّض أننا في حاجة عظيمة لمثل هذه الدروس التي أَلْقَاها علينا هذا الكاتب العظيم؛ لأنها مملوءة بما نسميه بعلم الفلسفة الاجتماعية، فإذا قام كلٌّ بعملٍ نافع مفيد كهذا، كلٌّ على حسب استعداده وقوَّتِهِ، لتغيرت حالتنا الاجتماعية وطرَقْنَا طريق الحياة الصحيحة. أكثرَ الله فينا رجالًا مخلصين قادرين عاملين كصاحب هذه الأسفار المفيدة.
اقتراح لسعادة الرحَّالة الشهير والكاتب القدير رشاد بك
راقني جدًّا ما يخُطُّه بيمينه ذلك الكاتب النحرير والمؤرخ العظيم رشاد بك، حيث ينتقي لأبحاثه ألطف العبارات مع الرقة والدقة وسلامة التعبير من الركاكة والحشو، حتى لا يَشْعر الإنسان بثقلها على النفس، فضلًا عما يُدْخِله فيها من المُلَح الأدبية الرائقة الشائقة التي لا تَخْرج عن الموضوع الذي يُنَمِّقه بَرَاعَة بحال من الأحوال.
إني أتذكر جيدًا أن لسعادة الكاتب سياحات عديدة في أنحاء العالم غير سياحته الأخيرة في الروسيا. كَتَبَ عنها كثيرًا بقلمه السيال على صفحات جريدة المؤيد الغراء التي خصها بهذا الانعطاف الجميل.
أريد أن أَقْتَرِحَ على سعادة المدقق الباحث اقتراحًا أرجو أن يصادف ارتياحًا وقبولًا من نفسه، وذلك بِجَمْع ما كَتَبَهُ عن سياحاته السنوية المتوالية في كتاب واحد يَرْجِع إليه عشاق الأدب والتاريخ، مع إدخال رَسْم وصُوَر تلك البلاد التي حصل عليها ليكون هذا السفر جامعًا لطيفًا حاويًا ما لذ وطاب. إنه إن فعل ذلك، ولا أُخَالُهُ إلا كذلك، فقد أَضَافَ إلى حسناته حسنة لا يَمْحُوها توالي الليالي والأيام.
وأن يَجْعَل اشتراكه سهلًا حتى يستطيع كل إنسان اقتناءه بحيث لا يزيد عن «روبل»، إن هذا الثمن قليل جدًّا بالنسبة لعِظَم الكِتَاب وللمصاريف والمشقات الهائلة التي صادفها في طريقه. ولكن ماذا نَعْمَل والأزمة ضاربة أطنابها عندنا في الصعيد الذي يرجو أن تُشَرِّفَه لتَكْتُبَ عنه كلمتك فيه. ولعلك تفعل والسلام.
عالِم مسلم فاضل يعظ المسيحيين
لِسعادة العالم الباحث المدقق محمود بك رشاد، رئيس محكمة مصر الأهلية سابقًا، وَلَع شديد بمتابعة الأسفار، واستقصاء أحوال الأمصار، والوقوف على أخلاق وعادات الناس أينما وُجِدُوا، ونَشْر ذلك بين أبناء هذه الديار تنويرًا لأذهانهم وسدًّا لما يحتاجون إليه من الاطلاع على أخبار البشر ومعرفة أخلاقهم وعاداتهم أينما وُجِدُوا.
ولذلك نراه يُمْضِي وقتًا طويلًا كُلَّ سنة في زيارة الجهات التي لم يَكُن زارها من قبل، ويكتب عنها المقالات الضافية الملآنة بكل ما هو لذيذ ومفيد من هذا القبيل.
ولقد زار سعادته مُدَّةَ الصيف الماضي المملكة الروسية وساح في أنحائها الواسعة الأطراف، وكتب عنها عدة مقالات في المؤيد الأغر. ومن جملة ما كتبه عنها أمس العبارة الآتية عما تَطَرَّفَ فيه رجال الدين المسيحي من شحن الكنائس والمعابد بالذهب والفضة والحجارة الكريمة، مع أنه كان يجب أن تُتْرَكَ بحالة البساطة المتناهية التي عاش عليها السيد المسيح وعَلَّمَ بها. وما أبلغ صدور هذا الوعظ المفيد من عالِم مسلم فاضل مَثَّلَه لأولئك الرؤساء المسيحيين الذين تَخَطَّوا حدود دينهم بمراحل وهم لا يشعرون.
(ثم نَقَلَت الجريدة ما كتبه صاحب الرحلة عن تلك الكنائس — راجع [ما سبق ذكره في هذا الفصل].)