الفصل الأول
حين ركبت السيارة لم أكن أتصور أنني أبدأ حياة جديدة لم تخطر لي على بال. كل ما أذكره أنني كنتُ فرحًا وأنا أركب السيارة لتذهب بي إلى بيت عمتي، فأنا أحب عمتي سعدية، وأحب ابنها وجدي. كان حب عمتي لي يُترجَم دائمًا إلى شيءٍ من المال تنفحني به. وأنا أذكر أنني منذ تلك السن الباكرة أعتبر المال شيئًا هامًّا غاية الأهمية، فمعنى وجود القروش في جيبي أنني أحمل في جيبي كل شيءٍ تصبو إليه نفسي. وقد كنتُ منذ ذلك الحين وحتى الآن أحب أن أحمل في جيبي كل ما تصبو إليه نفسي، وكنتُ لا أشعر بالسرور حين أجد وجدي ينفق من المال ما لا أستطيع أنا أن أنفق. ولم يكن يعنيني أنه ابن وحيد لأب غني، وإنما كان يعنيني أن المال دائمًا يجري بين يديه، ويعنيني أن الخدم في بيتهم لا أكاد أحصيتهم عددًا، وأن سيارتهم جديدة دائمًا في حين لا يملك أبي أية سيارة، وهو لا يكتفي بذلك، وإنما هو أيضًا لا يكف من شكوى قلة المال وكثرة الأعباء، وكأنما أنا الذي أتيت به إلى الدنيا، وليس هو الذي أتى بي إليها.
فذهابي إلى بيت عمتي سيُعفيني — ولو إلى حين — من رؤية فقرنا، والسماع إلى الشكوى من هذا الفقر، وكأنما لا يكفيني الفقر في ذاته، وكأنما لا بد لي أن أشقى بهذا الفقر بكل حاسةٍ من حواسي الخمس.
لن أحتاج إلى بذل الجهود المضنية لأحتال على أبي حينًا، وعلى أمي أحيانًا؛ لأصيب شيئًا ضئيلًا من المال، فلا عجب إذن أن أفرح.
ولكن ما هذا الحزن المتجهم في وجوه مَن حولي، ولكن ما شأني أنا بمن حولي، المهم هو ما أشعر به أنا، وهو دائمًا شعور مستقل عن الآخرين. إن نفسي هي دنياي جميعًا لا صلة لها بدنيا الآخرين. أنا لا أنسى هذا اليوم، أنا فرح والآخرون في حزنٍ وتَجَهُّم، ولكن كأنما هؤلاء الآخرون يحيَون في دنيا أخرَى لا صلة لي بها.
كان السائق صالح يقود السيارة، وكانت معه الخادمة وصفية التي عملت عندنا منذ قريب لتساعد دادة تفيدة التي لا تكف عن قولها لي أنها أول من لَقَفَني من دنيا الغيب، وأنني على ذراعيها عرفت أول مكان لي في دنيا الناس بعد أن كنتُ مشروع طفل في رحمة الأقدار.
وقد ظلت دادة تفيدة وحدها في البيت حتى مرضت أمي، وأصبحت دادة عاجزة أن تقوم بطلبات أمي وطلبات أبي، وترعى شأني في وقت معًا؛ فجاءت وصفية لتحمل عنها بعض العبء.
صالح صامت على غير عادته، ووصفية تُشيح بوجهها عني إلى الطريق، وكأنما تراه لأول مرة. وكلما ناديتها التفتتْ لي وفي عينيها بداية دمعة أو نهاية دمعة، لم تكن هذه الدموع تعنيني فأنا أكلمهما وكأنهما في حالتيهما العادية، فقد كنتُ أنا سعيدًا. وما دمت سعيدًا فأنا أحب أن أتكلم، بل العجيب في أمري أنني أتكلم أيضًا وأنا غير سعيد. لماذا لا يتكلم الناس دائمًا؟! ولماذا يملون الاستماع إليَّ إذا استمر حديثي فترة طويلة؟! ولكن ما شأني أنا ملُّوا أو أقبلوا، فأنا أريد أن أتحدث، ولو كنتُ إلى غير سامع أتحدث.
– أُسطى صالح، ألا تنوي أن تعلمنيَ السواقة اليوم.
– ليس اليوم يا أمين بك.
– لماذا ليس اليوم؟ ماذا جرى اليوم؟ هل هناك شيء؟
وتترك وصفية دموعها ونظرها إلى الطريق، وتسارع بالإجابة: لا، أبدًا. وماذا يمكن أن يحدث؟
– فلماذا تبكين؟
– أنا؟! أبدًا، أنا لا أبكي.
– كذا؟! ربما، ولماذا لا تعلمني أنت السواقة يا أُسطى صالح؟
– عمك البيه يريدني أن أذهب إليه بسرعة.
– طيب، تعلمني بكرة.
– إن شاء الله.
وأمضي في الحديث، وتمضي بنا السيارة حتى غايتها. ما لي أرى بيت عمتي فخمًا دائمًا؟! كلما أقبلت عليه أحس كأنما أقبِلُ عليه لأول مرة، كل شيء فيه أنيق يروع العين ويأخذ النفس.
أنا لا أدري لماذا أكتب هذا الكلام، هذا الحديث جميعًا، لماذا أسوقه؟ ولمن أسوقه؟ أنا لست أديبًا ولا علم لي بفنون الكلام، وقد تعود الناس إذا قرءوا أن يقرءوا أدبًا، وقد سمعت بعض الأدباء يقولون: إن الأدب شكل ومضمون. وأنَّى لي أعرف ما معنى المضمون هذا؟ إن كان مجرد حكاية وتجارِب فأنا عندي هذا المضمون الذي يتحدثون عنه، ولكنني لا أعرف شيئًا عن مسألة الشكل هذه. ففيمَ إذن أكتب؟ ومن تراه قارئ ما أكتب؟ أنا أحب الحديث وألقي به على من معي، وسواء عندي أصغى أو لم، ولكن الأمر هنا مختلف، فأنا شخصيًّا كإنسان لست راديو يمكن أن يقفلني أحد بإدارة زر. وقد يستحي السامع مني — وغالبًا ما يفعل — ويضطر أن يبذل سمعه على كُره منه أو غير كره، أو قد يتظاهر أنه يسمعني ويسرح فيما شاء هو، ولكن كل هذا لا يهم، المهم أن أقول وأن أجد أذنًا بشرية، ولو غير مُصغية. أما في الكتاب فالأمر للأسف مختلف كل الاختلاف؛ فإن القارئ يستطيع بكل بساطة أن يطوي ما يقرأ، ولا أقول أنا ولا يسمع هو. ولكن من يدري لعل هذا الكتاب يجد من يصوغه، ويحتال بصياغته على الناس فيقرءونه، وعلى كل حال ماذا يهمني أنا؟ أنا سأكتب ولْيقرأ من يشاء، وليمتنع عن القراءة من يشاء. أحب من بيت عمتي سطح البيت، ملعب واسع ألعب فيه الكرة مع وجدي، لا يضايق لعبنا أحد أو سيارة. لقد كان سطح البيت ملعبًا خاصًّا بنا، ولكننا مع ذلك نتوق أحيانًا إلى الشارع، فننزل إليه ونشارك الأطفال الآخرين لعبهم.
كنتُ أحب أن يكون لنا ملعب خاص، وكنت في نفسي أشعر — بشبه غصة في نفسي — أن هذا البيت ملك لزوج عمتي وليس ملكًا لأبي، ومع ذلك كنتُ أحب عمي البيه كما أحب عمتي، وفي نفس الوقت كنتُ أشعر أحيانًا بكرهٍ شديدٍ لهما جميعًا، ولأيهما أيضًا أنا أعرف مبعث الحب، أما مبعث الكره فلم أكن أعرفه، وحتى الآن لا أدري إن كنتُ تبينتُه أم لم أتبين أمره في نفسي. وعلى أية حال، هل الحب الذي كنتُ أكنه لعمتي ولزوج عمتي ينبعث من عاطفةٍ صادقةٍ غير مدخولة ولا معتمدة على منافع، أم هو حب يشتريانه مني بما يقدمان إليَّ من مال؟ هذا أيضًا لم أكن أدريه وما زلت أجهله.
استقبلني وجدي.
– شفت كُرتي الجديدة؟
– هايلة.
– هيا نلعب بها.
وصعِدنا إلى السطح، وأذكر الآن أن البيت كان هادئًا صامتًا على غير ما عوَّدني، وأذكر أيضًا أنني لم أحاول أن أجد سببًا لهذا الصمت، فقد كانت الكرة الجديدة مُغرية باللعب، وكان السطح في انتظارنا. وبينما نحن منهمكان في اللعب تذكرتُ فجأة أنني مُفلِس تمامًا.
– أين عمتي؟
– لا أعرف.
– ومتى ترجع؟
– الظاهر أنها ستتغدى خارج البيت.
– ياه.
– عايز منها حاجة.
– لا أبدًا، اشتقت إليها فقط.
•••
عادت عمتي سعدية متأخرةً، ولكنني انتظرتها وأنا أغالب النوم، فلا أدري لماذا صَمَّمتُ في تلك الليلة ألا أبيت خاويَ الوفاض؟ شيء جديد بدا من معاملتها لي، لقد كانت تحنو عليَّ دائمًا، ولكنها في هذه الليلة كانت أكثر حنانًا. اهتممتُ بهذا الحنان، ولم أحاول أن أجد السبب الذي يقف وراءه، الحنان في ذاته يكفي.
كانت في كل مرةٍ تعطيني خمسين قرشًا، فإن بالغتْ فجنيه، إنها اليوم تنفحني خمسة جنيهات، ليذهب النوم إلى الجحيم. هذا نوع من الورق لم يعرفه رسولًا بالجنيهات الخمسة من أمي إلى أبي، أو من أبي إلى أمي. أما أن تكون الجنيهات ملكًا خالصًا لي، وأضعها في جيبي، فهذا لا شك جديد، لماذا؟ لا يهم. المهم أن الجنيهات خمسة، وأنها جميعًا في جيبي.
– أمين، ما رأيك أن تبقى معنا هنا؟
– قوي.
– صحيح.
– طبعًا.
– ستكون مثل وجدي، أنت عارف.
– عارف.
– إذن هيا لِتنام، وغدًا ننزل نشتري لك حاجات كثيرة.
– تنزلين معي.
ولا أدري لماذا تبادرتْ دموعها وهي تقول: أنا سأكون مشغولة، صالح سينزل معك.
– طيب، أنا سأكون جاهزًا مع الشمس.
ولم أهتم بالنشيج الذي ودَّعني وأنا أقفل الباب من خلفي.