الفصل العاشر
كان محل شوا هو هدية زواجنا، باعته لي وسجلته دون أن أدفع مليمًا واحدًا من ثمنه، ومع هذا كانت عمتي غاضبةً عليَّ، الآن لم يعد يهمني غضبها أو رضاها. حاولتْ هي وعمي بكل جهدهما ألا أتم هذا الزواج، فلم ألقِ إليها أو إليه بالًا، إنهما لا يريدان أحدًا يكون غنيًّا مثلهما، وحين حاول أبي أن ينصحني رأى في عيني أنني لا أدين له بشيءٍ، فكانت محاولته واهيةً هينةً.
أما وصفية فقد فكرتُ أن تنتقل إلى بيتيَ الجديد مع شهيرة، ثم ما لبثتُ أن تبينتُ أن وضعها هناك لن يكون مريحًا، إلى جانب أن صلاتها بصالح السائق قد توطدتْ، ولعلها كانت مقدمةً على الزواج منه، وقد فهمتُ منها أنها تعرف حاضنةً ستمكنها أن تُزف إلى عريسها، ويتم الزواج وهو يعتقد أن زوجته غاية في الشرف والعفة.
موقف هناء هو الذي أدهشني فعلًا. ستتزوج؟
– نعم.
– ألم يكن من الطبيعي أن تخبرني وأنت في الخطوات الأولى؟
– المسألة جاءت فجأة.
– فجأةً يا أمين، ألمثلي تقول هذا الكلام؟ لقد نويتَ الزواج من شهيرة منذ أول يومٍ رأيتها.
– أبدًا وشرفي.
– أمين فتح عينيك، أنا هناء.
– أنت زعلانة؟
– أنت مغفل. هل ظننتَ يوم عرفتكَ أنني أنوي الزواج بكَ؟
– لعلكِ فكرتِ أنني لن أتزوج.
– يا مغفل، إن الرجال هم حرفتي، أنا أعلم أنك ستتزوج منذ أول يومٍ قبلتك فيه.
– والآن؟
– متى ستتزوج؟
– الخميس القادم.
– طبعًا عمتك غاضبة عليك.
– كيف عرفتِ؟
– العروس أكبر منك، والمال ليس مشكلةً في نظر عمتك.
– لعلها تريدني أن أظل محتاجًا إليها.
– ربما أيضًا. المهم، أنت مفلس كالعادة؟
– يعني.
– خذ هذا المبلغ، وأنفق منه أمام عروسك.
– هناء، هذا غير معقول.
– يا مغفل، هذا هو المعقول، لا تظهر جشعك منذ اللحظة الأولى، إن احتجتَ لأكثر قل لي ولا تقل لها.
– أتدعو لي لأنكَ تحبني؟
– طبعًا.
– كذاب، إنه أنا التي أحبك، أما أنت فلا تعرف الحب.
– أنا لا أعرف الحب؟
– صعب عليك.
– تظلمينني.
– أمين، أنت الذي تظلم نفسك دائمًا.
وحين خرجتُ من بيتها وجدتها قد أعطتني مائتي جنيه كنتُ في أشد الحاجة إليها لأنفق على خروجي مع شهيرة.
•••
حين تم الزواج لم أفكر أن أترك مكتب المحاسبة رغم أن المحل يستطيع أن يشغل وقتي جميعًا. ولم يعد المرتب الذي أصيبه من المكتب ذا قيمة بالنسبة لي، ولكني مضطر أن أبقى حتى تكلمني حميدة.
كان قد مر على آخر مكالمة شهران، وهي لم تتصل بي، وخشيتُ أن أترك المكتب، فلا تعرف لي مكانًا تلتمسني فيه.
وحين مر من الشهر الثالث يومان. كيف أنتَ؟
– متى جئتِ؟
– أمس.
– أكل هذا شهر عسل؟!
– أحسَّ أنني لا أحبه، فسافرنا إلى أوروبا.
– وأحببتِه؟
– الحقيقة أنه يعاملني معاملةً غايةً في الرقة.
– إذن فقد أحببتِه.
– إني أكلمكَ في التليفون.
– أهذا يكفي؟
– يكفي لأن تعرف مشاعري.
– حميدة أتعرفين كم أحبكِ؟
– بل أعرف كم أحبكَ.
– لقد تزوجتُ.
– ماذا؟!
– وأصبحتُ اليوم غنيًّا.
– ماذا؟!
ورويت لها كل شيء، لم أخفِ شيئًا، وعرفتْ تليفون عملي وبيتي. لقد أحستْ أن زواجي لا صلة له بحبي لها.
•••
تفرغتُ تمامًا لمحل الشوا، وعرفتُ كيف يكون الغنى، شعور يلقي إلى القلب خَدَرًا هانئًا، لا يضايقني شيء إلا طمع الفقراء، عبد التواب وعمال المحل لا يكفون عن طلب العلاوات والمكافآت. إن هؤلاء الفقراء يتمتعون بنوعٍ من السعار إلى المال، ولا يكفيهم شيء، ولا يشكرون أبدًا، ويتمنَّون دائمًا أن يخربوا الأغنياء ليحصلوا على أموالهم، إنهم قوم خاملون يريدون المال أن يأتيَ إليهم ساعيًا وهم خامدون لا يسعَون لنيله، وهم سفلة، يستطيعون دائمًا أن يضعوا على ألسنتهم المديح للأغنياء والدعاء لهم في نفاقٍ مَقيت، وإنني واثق كيف يذكرونني في همهم بالسخرية والنِّكات التي لا يملكون غيرها، ولا يُجهدون أنفسهم إلا في تأليفها وإطلاقها وروايتها. كم هم منحطون هؤلاء الفقراء، لا يعرفون كيف يصلون إلى المال، ويحقدون على كل غني ذي مواهب. ولقد أعلم أنهم يقولون عني أني بعتُ شبابي من أجل ثرائي، وأنني تزوجتُ ممن هي أكبر مني لأصل إلى ما وصلت إليه من غنًى. لو كانوا يملكون مواهبي أكانوا يتأخرون عن الإقدام على ما أقدمت عليه؟
ثم، ما هذا المجتمع؟ لماذا تواضع الناس فيه ألا يعيش الإنسان على نفقة زوجته؟ لا شأن لي هنا بما يقول به الدين، فالمجتمع لا يسير على أصول الدين في كل خطواته. إذن فما السبب أن أعيش على نفقة زوجتي؟ إنها صفقة مثل كل الصفقات، أقدم بها السعادة والشعور بأنها مرغوبة محبوبة، وتقدم ليَ المال. أي مالٍ يساوي لحظات السعادة التي أقدمها إليها؟
وما الهدف من هذه الحياة جمعاء؟ وفيمَ سعى هؤلاء الناس جميعًا؟ أليس كل ما تصبو إليه آمالهم لحظةَ سعادة يدفعون في سبيلها كل شيء؟ بل فيمَ ذهابي أنا إلى الشقة التي أخذني إليها فتحي؟ ألَا أحاول أن أحصل على لحظة سعادة؟ وفيمَ ذهابي إلى هناء؟ كل سعي الناس من أجل لحظة سعادة. وأنا أهب لزوجتي شهيرة لحظات ولحظات من السعادة، فما البأس أن تقدم ليَ المال؟ وأي هدًى أروع من هذه اللحظة؟ ماذا يستطيع المال أن يقدم لها أجمل وأبدع من هذه اللحظات التي أقدمها إليها؟
وعلى أية حال، فيمَ هذا الدفاع الطويل؟ كأني أشعر أنني مخطئ وأنني أحتاج إلى دفاع، لَكم أثر فينا مجتمعنا الجامد هذا، وأقام في نفوسنا ألوانًا من القيم كأنها أصنام لا يحطمها عقل أو منطق!
إنني سعيد بحياتي هذه، وليس يعنيني في شيءٍ ما يقوله الناس أجمعون. وفي آخر الأمر المال هو الذي يكسب دائمًا.
لم تقاطعني عمتي، بل كانت تزورني ويزورني معها في كثيرٍ من الأحيان عمي زكريا وأبي. عظيم أبي هذا، لقد أصبح صديقًا حميمًا لزوجتي، وكثيرًا ما رجعتُ إلى البيت فوجدته فيه. وشهيرة سعيدة غاية السعادة به، ولا تناديه إلا مثلما أناديه: بابا. وهو سعيد بندائها هذا، سعيد أيضًا بما يطبخه له الطاهي من أصناف الطعام، ولعله أكثر سعادة بأنني لم أعد أطلب منه مالًا، بل والأعجب من هذا جميعًا أنه في أحيانٍ ليست قليلةً يطلب هو إليَّ أن أسلفه. وهي سلف أعطيها وأعلم أنها لن تُرَد. مجرَّدٌ هذا المجتمع، فنحن مهما نحاول تحطيم قيوده يعتصرنا بقيمه ومُثله. إنني أرفض أن أعطي أي محتاج، ولكن أبي هو الإنسان الوحيد الذي لم أستطع أن أرفض طلبًا له. والعجيب أنني أشعر بشيءٍ من السعادة وأنا أعطيه، ولكن ألا يعرف أبي ما هذا المال الذي أعطيه له؟ ألا يعرف البضاعة التي أقدمها لأحصل على هذا المال؟ ألم يفكر أن هذا المال هو ثمن شبابي وأجمل فترات حياتي أقضيها مسفوحةً في رمال سيدة تكبرني تزوجت بها؛ لأنها غنية، وليس لأي سببٍ آخر. لعله يعلم ولعله لا يعلم، ولكن ماذا يهم ما دام يحصل على ما يريد من مال.
لم يكن شبابي وحده هو الذي أقدمه، ولكني أقدم كثيرًا من حريتي أيضًا، فشعورها بأنها تكبرني وبأني شاب وجميل يجعلها دائمًا تحيطني بنطاقٍ من الغَيرة ضيقٍ وعنيف. إن رأتني أكلم زبونةً بشيءٍ من التلطف، أو إن تأخرتُ خارج البيت تحاسبني محاسبةً دقيقةً، ولا رحمة فيها ولا إشفاق، ولكنها كانت تسمح لي أن أذهب إلى أصدقاء فتحي مرةً في الشهر، موهمةً نفسها أنها بذلك تهيئ لي نوعًا من الحرية، ولهذا كنتُ أختلس أوقات ذهابي إلى هناء اختلاسًا.
ولا أدري لماذا أبقيتُ على علاقتي بهناء، المؤكد أن حفاظي على هذه العلاقة لم يكن عن وفاء؛ فأنا أعتبر الوفاء نوعًا من الضعف الذي يُعيق الإنسان أن يصل إلى آماله التي يَنشدها لنفسه في الحياة، ولو بذلت هذا الوفاء لكل من قدم لي معروفًا لما بقي لي شيء من حياتي أقدمه لنفسي ولمستقبلي. ربما كان إبقائي على هذه العلاقة عادةً لا أرى داعيًا لقطعها، وربما كان محاولةً مني أن أشعر بأنني ما زلت حرًّا أستطيع أن أكون بعيدًا عن زوجتي، أختار ما يحلو لي أو ما أشاء من علاقات. الحقيقة أنني لم أحاول أن أفكر في أسباب محافظتي على صلتي بهناء، كل ما أدريه أنني لم أحاول أن أقطعَها، ولم أفكر في ذلك أيضًا.
•••
كانت حميدة تتصل بي في المحل من حينٍ إلى آخر، وقد أحسستُ من أحاديثها أنها تحاول أن تقبلَ ما سارتْ إليه الأمور، ولكن محاولاتها تذهب سدًى. لم تستطع أن تحب زوجها، وهي تعلم أنني أيضًا لا أحب زوجتي، وأن كلينا يعيش حياةً فُرضتْ علينا. أما هي فقد فرض أبوها عليها حياتَها، وأما أنا فقد فرضتُ على نفسي الطَّمُوح حياتي، ولكن أيفيد هذا الآن؟ هي زوجة لغيري، وأنا بطبيعة الحال زوجٌ لغيرها، والمفروض أن حياة كل منا قد افترقتْ عن الأخرى، كلٌّ في طريق، ولكنها مع ذلك تكلمني وتعرف دقائق حياتي، وأعرف دقائق حياتها، فالطريقان وإن كانا شتى إلا أن بينهما وصلةً تبدو حينًا واهنةً هينةً، وتبدو أحيانًا وثيقةً عمليةً، حتى إذا أفاق كل منا إلى الحقيقة، عرف كم يبعد كل منا عن الآخر.
تقول لي إن أمها غاضبة؛ لأنها لم تحمل وتنجب طفلًا مع مرور سنواتٍ على الزواج، وأكاد أفهم أنها هي التي تمنع هذا الحمل أن يتم.
وحين طالعتْني حميدة بهذه الحقيقة جعلتْني أنا أيضًا أفكر أنني لم أنجب، وأن شهيرة لم تحمل، إلا أن أحدًا لم يثر معي هذا الأمر، ومن يثيره؟ أما أبي فلا يهمه إلا أن يجد المال بين يدي وبيتي مفتوحًا له وقتما شاء. وأما عمتي فلا شك أنها تأمل ألا أنجب أطفالًا، حتى لا يتوثق زواجي بشهيرة، فهي وإن كانت لم تقاطعني إلا أنها في دخيلةِ نفسها لم ترضَ عن الزواج كل الرضا.
ولكن شهيرة لم تفكر أيضًا أن تنجب طفلًا، مع أنه من الطبيعي أن تظن أنها لو جاءت لي بابن أو ابنة لأَصبحَ زواجنا أكثر ثباتًا، وأصبحتْ هي أكثر اطمئنانًا.
– لماذا لا ننجب أطفالًا؟
– أيهمكَ هذا؟
– مجرد سؤال.
– ما كنتَ تسأله لو لم تكن مهتمًّا.
– أتظنين أنني أهتم بالأطفال؟
– ولهذا تعجبتُ من سؤالكِ.
– كنتُ أعتقد أنه يهمكِ أنت أن يكون لنا أطفال.
– يكفيني أنتَ.
– ألا نحاول؟
– إن شئتَ.
كنتُ خبيثًا في سؤالي الأخير هذا، فأنا لا يعنيني أن أنجب أطفالًا من شهيرة بالذات، ولكنني سألت هذا السؤال لأعرف مقدار اهتمامها هي، وقد أدركتُ فيما يشبه اليقين أنها حاولتْ مع زوجها الأول، وتبينتُ أنها لا تستطيع أن تعطي لزوجها أطفالًا.
وكان هذا الحديث هو آخر ما دار بيننا من حديثٍ في هذا الشأن.