الفصل الحادي عشر
ظن فتحي أن صداقتي به وجلوسي معه في جِلسته الشهرية يتيح له أن يأتي إليَّ. ما رأيكَ؟
– فيمَ؟
– أنتَ الآن غني.
– الحمد لله.
– والبحر يحب الزيادة.
– والله لا مانع.
– ما رأيك في المشروع القديم؟
– أي مشروع؟
– مكتب محاسبة.
– ماذا؟
– نفتحه معًا.
لماذا يظن الفقراء دائمًا أنهم أذكى من الأغنياء؟ ابن الكلب هذا يعلم أنني لست محاسبًا من الطراز الأول، ولكنه يريد أن يستغل ثروتي في أن أفتح مكتبًا أنفق عليه أنا، ويكسب منه هو. اعتذرتُ إليه، فإذا هو يقول في صفاقةٍ عجيبة: طيب هل لديك مانع أن تسلفني مبلغًا أفتح به مكتبًا، وأرده إليك بعد سنةٍ واحدة؟
ظهر على حقيقته، هذا هو الأصل في الطلب، اضطُر أن يصارح به لمَّا فشلتِ الحيلة الأولى. وإن لم يكن عندي ما أسلفه تزعل؟
– أبدًا.
– ونظل أصدقاء؟
– طبعًا.
– إذن فكأنك لم تطلب، وكأنني لم أعتذر.
لقد أصبحتُ ذا مرونةٍ واسعةٍ في رد الطالبين والطامعين، هؤلاء لا تكفيهم عيون من الأموال جاريةٌ، يريدون أن يناموا ونعمل نحن لهم هؤلاء السفلة.
•••
كنتُ في المحل حين دق جرس التليفون. كيف حالكَ؟
– ما أخباركِ؟
– أنا في بيت أبي.
– ماذا؟
– أبي متعب جدًّا.
– ماذا به؟
– نوبة قلبية مفاجئة.
– هل أستطيع أن أصنع شيئًا؟
– ادع له.
– من أجل عينيك فقط، ولو أنه حرمني سعادةَ عمري.
– إنه أبي.
– ربنا يشفيه إن شاء الله.
– مع السلامة.
– مع السلامة.
ليست المسألة مجرد مرض أبيها، إن لهذا المرض عواقب بعيدةً رحت أفكر فيها، لقد كانت كلما حاولتِ التخلص من زوجها يرغمها أبوها أن تبقى، فلو أن أباها مات ما الذي سيبقي عليها مع زوجها؟
أيمكن أن يتحقق الأمل؟!
أما يزال أملًا؟!
بعد كل هذه السنوات الطوال ما زال هذا الأمل يداعبني، أَحُبٌّ هذا، أم تَمَسُّكٌ بأيام الطفولة الباكرة، أم إصرارٌ أن أحقق كل ما تاقت إليه نفسي؟
إن يكن حبًّا، أيبقى الحب طَوال هذه السنين؟ فأنا إذن وفيٌّ، وأنا أعرف في نفسي أنني لستُ وفيًّا، ولم أكن وفيًّا لأحد حتى أكون وفيًّا لهذا الحب، ولكن المؤكد أنني أريد أن أتزوج حميدة حتى وإن كانت قد تزوجتْ وطلقتْ.
لعله إصرار أن أُنفذ هذا الأمل الذي تاقت إليه نفسي، فأنا أحب أن أُنفذ كل ما تتوق إليه نفسي، وخاصةً هذه الأشياء التي منعنيَ الفقر أن أنفذها، وعلى رأسها زواجي من حميدة. لستُ أنسى شعوري يومذاك، وأنا مهزوم حسير تَنْصَبُّ عليَّ شفقة عمتي كأنها النار اللاهية، فأنا أكره أن يشفق عليَّ أحد، وأكره أن تنظر إليَّ عمتي وزوجها كأنني شيء صنعاه، ولا يطيق العيش بغير معونةٍ منهما.
ولهذا تزوجتُ من شهيرة؛ ليعرفا أنني أستطيع أن أعيش في مثل غناهما ودون حاجةٍ إليهما، ولقد كنتُ حريصًا دائمًا أن يشهدا مظاهر الغنى تحيط بي؛ فالسيارة مرسيدس، وحُلتي من أحسن قماش، والشيء الذي أحرص دائمًا أن يكون باذخ الأناقة هو رباط عنقي، فقد كنتُ دائمًا أحسُد زوج عمتي على رباط عنقه. كما كنتُ أحسد وجدي على أناقته التي كانت تبدو عليه، وكأنها وُلدتْ معه. كان من ذلك النوع الذي يبدو أنيقًا في أي ملبسٍ يلبسه.
والعجيب أنني لم أصل إلى هذا السر أبدًا، فقد ألبس أفخر الملابس وأغلاها ثمنًا، وألتقي به، فإذا هو لا يلبس إلا الملابس العادية ولكنه دائمًا يبدو أكثر أناقةً مني، كأن الأناقة مَعلمٌ من معالم جسمه.
لو يعلم وجدي هذا كيف أثر في حياتي؟!
ما لي أذكره اليوم؟ لقد حرصتُ ألا أذكره لفترةٍ طويلةٍ، حتى خِلتُ أنني نسيته، فما له ينبت فجأةً في كِياني يلح عليَّ كمرضٍ قديمٍ عاودني بعد أن توهمتُ أنني تخلصتُ منه إلى الأبد؟
لقد نجح في كل شيءٍ سار فيه؛ كان أول دفعته في الزراعة، وعُيِّنَ معيدًا بالكلية، وهو اليوم يوشك أن يصبح أستاذًا، واشترى له أبوه قطعة أرضٍ يوم تخرَّج، فإذا هو يشرف عليها، وإذا هي مزرعة نموذجية يأتي إليها الناس من الداخل والخارج؛ ليشهدوا التقدم العلمي والعملي الذي حققه فيها.
وتزوج من أسرةٍ ثريةٍ، ترى أيحبها؟ المؤكد أنها لا تحبه. هل يستطيع أحد أن يحب شخصًا مثل وجدي؟ إنه دائمًا جاد، حتى حين يمزح تراه يمزح في ثقافة، ثقيل الظل، ولكنه ناجح، حقق كل ما أراده لنفسه أن يحقَّق، وما لَه لا يفعل؟ لقد كانت الظروف مواتيةً له دائمًا، تلقي بنفسها تحت أقدامه، لو حاول أن يفشل لما استطاع.
أين هو مني؟ تربى في بيت أبيه، ورُبِّيتُ في بيت غير بيت أبي، حتى وإن كان بيتًا أغنَى، ولكن شعوري بأنني في غير مكاني … أكنتُ أشعر بهذا، أم أنا أختلق الأعذار؟ ولماذا أختلق الأعذار؟ إن كان وجدي ناجحًا، فأنا اليوم ناجح. قد يظن الناس غير ذلك عند المقارنة، ولكن ماذا يعنيني من رأي الناس؟ المهم ما أرى أنا.
أنا تمتعتُ بحياتي، أَتمتعَ وجدي بحياته؟ هل المذاكرة والنجاح والتقدم متعة، أم الحياة التي خضتُ أنا غمارها هي المتعة؟ أراهن أن وجدي لم يدخل إلى كباريه في حياته، أَعرفَ امرأةً مثل هناء؟ أيعرف وجدي كيف يتمتع بالمال؟ إنه حمار، حمار وإن قال الناس غير ذلك.
مستقرٌّ هو في زواجه، وأنا أعلم أن زواجي غير مستقر، بل إنني أعجب كيف استمر هذه السنوات، وما لَه لا يستمر؟ إيراد المحل أضعه في البنك، وشهيرة هي التي تنفق على البيت، وأنا مع هناء إن ضقتُ بشهيرة ذرعًا، ولكن الجهد الذي أبذله في الإبقاء على هذه الحياة كبير، لم أكن أحس به وأنا في الأيام الأولى من الزواج، ولكن الزمن لا يعفي أحدًا، وأنا اليوم أحس في كثيرٍ من الأحيان بنوعٍ من الوهن والخمول والكسل لم أكن أعهده في نفسي، ولقد أستعين عليه بهذه الجِلسة مع فتحي وصحبه، أو قد أستعين عليه ببعض دواء، أو بعض خمر، ولكنها أشياء إن أفادت لحظةً، فلن تفيد في اللحظة التالية. أنا أخاف من الزمن، وأخاف أن يدركني الكبر مبكرًا لكثرة ما أنفقتُ من الشباب، وشبابي هو رأس مالي، وإن كان المحل وإيراده يُلقيان إلى نفسي كثيرًا من الاطمئنان، إلا أن المحل لا يستطيع أن يسير وحده، إنه يحتاج إلى كثيرٍ من الجُهد، وأنا اليوم تعودتُ حياةً لا أستطيع أن أغيرها.
تُرى، لو طلقتُ شهيرة ماذا يحدث؟
قد تثور.
وماذا يهم؟
لقد وهبتُ لها أمتع سنوات حياتها، ولم أطالبها أن تنجب لي أطفالًا، وكل ما قدمته لي محل كانت قد فتحتْه لتسليَ نفسها بالعمل به، ومنذ تزوجتْني أصبحتْ سيدةً لا عمل لها إلا الاهتمام بما يجملها، وما يُبقي عليها رمقَ الشباب وأثارةً من مائه، وأصبحتْ تحرص على الحضور في المآدب، والذهاب إلى النادي في تشبثٍ مريرٍ بمظاهر الصغر. وأشهد قد ناضلتِ السنين حتى أجهدتِ السنين، ولكن للزمن غدره. إن أوهمَ لحظةً أنه انهزم، فما هي إلا أن يتجمع مرةً أخرى، ويُجَيِّشَ كلَّ قواه ويهاجم، فإذا حِصن الشباب مَشيب، وإذا الفتى شيخ، والفتاة عجوز.
ترهلتْ شهيرة وتهدَّلتْ وجنتاها، ونضَب من عينها بريق السطوة الشامخة ليُخْلِفَ وراءه نظرةً حائرةً تطالعني بها كلما التقتْ منا العيون، وكأنها تسألني: أأظل معك يومًا آخر أم حان موعد الفراق؟
إذا كنتُ سأتزوج حميدة، فلا بد أن أهب نفسي فترةً أستجم فيها من شهيرة وهناء على السواء، إن هناء أصبحتْ لا تبعث في نفسي إلا الملل، ولم أعد محتاجًا إلى المال منها، ولولا أنها ما زالت أجمل من شهيرة، وأكثر شبابًا لتركتُها من زمنٍ طويل. إنني أعتقد أنني أصحبها كسلًا أن أبحث عن غيرها، فإذا كان مقدرًا لي أن أتزوج من حميدة؛ فلا حاجة لي بهناء. وعليَّ بعد ذلك أن أبذل جُهدي لإرضاء حميدة وحدها، فما عدتُ أستطيع أن أجمع إليها أحدًا.
فكرتُ ولم أطل التفكير، أنا لم أسافر إلى الخارج أبدًا، فما لي لا أسافر الآن؟ سافرتُ وطفتُ بإنجلترا وفرنسا وسويسرا وإيطاليا، وتمتعتُ برحلتي في المشاهدة. لم أُعنَ بالمتاحف التي يقولون عنها، وإنما كانت متعتي جميعًا في ليالي هذه البلدان مكتفيًا بالمشاهدة دون المشاركة، وحين عدتُ لم يمر على عودتي يومان، حتى جاءني التليفون المرتقب من حميدة. لقد مات أبوها، وطُلِّقَتْ من زوجها.
لم يعد بيننا اليوم ما يمنع الزواج، كل ما هنالك أطلق شهيرة، وأنتظر شهور العدة.
مكثتُ بالقاهرة أسبوعًا، ثم أخبرتُ شهيرة أني مسافر إلى الإسكندرية، وزعمت أنني سأستلم بضاعةً من الجمرك. ومن هناك أرسلتُ إليها ورقة الطلاق، وكلمتُ وجدي في التليفون، وطلبتُ إليه أن يذهب إلى بيتي — أقصد بيت شهيرة — ويأخذَ كل أشيائي، ولم يحاول أن يعتذر، فهو يعلم أن ليس لي شخص آخر يستطيع أن يقوم بهذه المهمة، ولم يسألني أين يذهب بهذه الأشياء، فقد ظن أن من الطبيعي أن يذهب بها إلى بيت أبيه، ولكنني أخبرته أن يذهب بها إلى بيت أبي أنا، فهذا هو المكان الطبيعي الذي كان يجب أن أكون فيه دائمًا، وإن كان الحال قد عاق أبي أن يعولني، فلا بأس أن أعول الآن أبي بمالي أنا.
•••
تزوجتُ من حميدة، أخيرًا تزوجت من حميدة. أيام الزواج الأولى هي أجمل ما مر بي من أيام، لقد حققتُ كل ما أردت في الحياة، عشنا في بيت أبي بعد أن جددتُ كل شيءٍ فيه من أثاث وجدران، وحتى أبي جئت له بحجرة نومٍ جديدة.
قضيتُ وحميدة شهر العسل بالإسكندرية، فهي لم تشأ أن تقضيَه خارج مصر. وحين عدنا إلى البيت، وتناولتُ أول غذاء في بيت أبي مع حميدة وأبي، خُيِّل إليَّ أنني أصبحت ملكًا على الدنيا بأسرها.
وما لبثتِ الأيام الحلوة أن مرتْ سراعًا، وما لبثتْ همتي أن خمدتْ، فأكثرتُ من الذهاب إلى أصدقاء فتحي. وكم فرحتُ حين أخبرتْني حميدة أنها تحمل لي طفلًا، إذن فالحياة تفرش لي من السعادة ما حرمتْني منه السنين الطوال.
نهاية النهاية
أصدقاء فتحي والجوزة هم كل تسليتي في هذه الأيام، ولكن اليوم حدث شيء عجيب؛ لقد قالوا لي بدلًا من أن تدخِّن خذ قطعة من المخدر، واشرب عليها فنجان قهوة سادة.
وفعلتُ وأنا أكتب الآن، وأنا أحس كأن حياتي تطبق على صدري، حتى ما أحسب أنني مستطيع أن أكمل ما بدأتُ، ألا أرى ابني؟ أتذهب حياتي كلها نهبًا للحظة مجنونة، حسبتُ أنها ستمدني بالسعادة والهناء، ألهذا الحد تعبث بنا الحياة، فتضع لنا الموت في كأس الأمانيِّ؟! ألهذا الحد تخادعنا الحياة؟ ولكنني مع ذلك أحبها، وأريد أن أعيش، ولا أريد أن أموت. لا، لا، لا أريد أن أموت.