الفصل الثالث
كثرتْ زيارات تنت وسيلة لعمتي، وكانت تصحبها دائمًا حميدة، وكنا دائمًا نجد الحديث بيننا.
إلا أن أسبوعًا مر دون زيارة منهما، ووجدتُ نفسي متلهفًا لرؤيتها، ولم تُجْدِ زيارات وصفية الليلية أن تخفف من لهفتي، ورحتُ أفكر فيما أستطيع أن أفعله، لماذا لا أذهب إلى مدرستها؟
ألَمَّ بيَ الخوف أن أفعل، فأجَّلتُ الذهاب يومًا، ثم يومًا آخر، ثم ذهبتُ، وأنا لا أعرف ماذا أنا قائل أو فاعل إذا لقيتُها. كنتُ قد تعودتُ أن أرجع إلى البيت وحدي بعد أن أصبحتِ السيارة مشغولةً دائمًا مع عمي، فقد كثرتْ أسفاره إلى القرية، وأصبح انتظامها في إحضاري أمرًا مستحيلًا. وأنا أيضًا أصبحتُ لا أتأخر عن البيت، فلم ترَ عمتي ضرورة أن ترسل من يصحبني، ونسيتْ عمتي أنها ضربتني يومًا، ولكنني أنا لم أنسَ أنني لا بد لي أن أنتقم، وإن تكن مشاعري الجديدة قد أجَّلتْ فكرة الانتقام، إلا أنها بالتأكيد لم تلغها تمامًا.
شارع مدرسة الليسيه ليس متَّسعًا، وقفتُ على الطوار المقابل في انتظار خروجها، كنتُ لأول مرة في حياتي مضطربًا.
خرج التلاميذ من صبيان وبنات، وبغباءٍ شديدٍ كان يخيَّل إليَّ أن كلهم يعرفني ويعرف لماذا جئتُ إلى هذا المكان؟ فأعطي المدرسة ظهري، ثم أخشى أن تخرج ولا أراها فأعود مرةً أخرى متطلعًا إلى التلاميذ.
وخرجتْ، وإنني رأيتُ حمرةً على وجهها، ورأيتُ فكرةَ ابتسامةٍ لم تتم، وسارتْ طريقَها، فمشَيتُ من ورائها. كانت معها تلميذتان لم أنظر إلى شكلهما تمامًا، فقد كان الاضطراب يسود جسمي جميعًا وعيني خاصةً.
نظرتْ إليَّ تلميذة منهما، ثم نظرَتِ الأخرى، ثم وجدتُ الركب يسرع الخطى بقيادة حميدة، ولم أطق أن أكمل الطريق؛ فمِلتُ عند أول شارع، وتهتُ، وعدتُ إلى البيت، ولحسن الحظ لم تكن عمتي هناك لتسألني أين تأخرتُ؟
لم يمر على هذا اللقاء يومان حتى جاءتْ تزورنا مع والدتها، وعند أول فرصة لحقتْ بي: أريد أن أكلمك.
– فصَعِدتُ إلى السطح.
وجدتُ كومة الجرائد فوق السطح، ووجدتُ السطح مليئًا بالغسيل المنشور. لم تعبأ هي بشيءٍ من هذا، وإنما بادرتني: لماذا جئتَ؟
كنتُ أعرف أنها ستسألني، ولكن لا أدري لماذا وجدتني في حاجةٍ أن أجلس.
جلستُ على كومة الجرائد وسكتُّ.
– لماذا تسكتُ؟
شَعَرتُ أني عطشان، ذهبتُ إلى حجرة الغسيل، وشَرِبتُ ماءً من الصُّنبور، ووجدتُ علبة كبريت، وفكرتُ أن أنتقم من اليوم الذي ضربتْني فيه عمتي، الفكرة ما تزال تلح عليَّ.
وضعتُ علبة الكبريت في جيبي، وعدتُ إلى حميدة، فوجدتُها قد جلستْ على الجرائد، وعادتْ تسأل في إصرار: لماذا جئتَ إلى المدرسة؟
– وأنتِ لماذا لم تأتي لزيارتنا هذه المدة الطويلة؟
– ألهذا جئتَ؟
– ألا تعرفين لماذا جئتُ؟
– ألم تخشَ أن تحرجني؟
– هل أحرجتُكِ؟
– تحيةُ تقول إنك جميل، هل أنت جميل؟
– سأبحث هذا الموضوع عند أول لقاء بمرآة.
– لا تبحثْه.
– هل أنا قبيح؟
– تحيةُ تقول إنك في غاية الجمال.
– وما رأيكِ في ذوق تحية؟
– لا تأتِ مرةً أخرى إلى المدرسة.
– وأنتِ لا تتأخري في الزيارة.
– ليس بيدي أن أزوركم، أو لا أزوركم، فأمر هذا بيد ماما، وأنت تعرف.
– كل الذي أعرفه أنه يجب ألا تتأخري في الزيارة.
– إذا تأخرتُ لا تأتِ إلى المدرسة.
– أكلمك في التليفون؟
– أهون، نعم كلمني. هيا قبل أن يسأل عنا أحد.
– انتظري، لي حساب أريد أن أصفيَه.
– مع مَن؟
– مع أصحاب هذه الملابس.
– عمتك؟!
– ألا ترين أنهم يملكون ملابسَ أكثر مما يجب؟
– وماذا تريد أن تفعل؟
– أجعل منها كميةً معقولةً.
– كيف؟
– سترين.
كانت قد قامت عن الجرائد، فجررتُ الكوم إلى أن أصبح تحت أحد الحبال العامرة بالغسيل، وأشعلتُ الجرائد.
– أنت مجنون … ستحرق البيت.
– بعض ملابس فقط، هيا بنا.
كان لون حميدة ممتقعًا، وهي تنضم إلى والدتها وعمتي، فسارعتْ أمها ماذا بك؟
– لا شيء.
وخرجتُ أنا قبل أن تلح عليها في السؤال.
وما هي إلا لحظات حتى وصل دخان الحريق إلى بعض الخدم، وتلاحقتِ الأرجل في رعب إلى السطح، ولم أجد شيئًا أصنعه.
خيل إليَّ أنهم كلهم يعرفون، فجريتُ أهبط السلم، كنتُ الوحيد الذي يهبط، والجميع يصعدون.
حين أصبحتُ في الشارع؟ وجدتُ نفسي — دون أن أعرف — أذهب إلى أبي.
قابلتْني تفيدة.
دقتْ صدرها بمجرد أن وقع نظرها عليَّ: أمين ما لك؟
– ما لي، لا شيء.
– لا، أنت عامل عَمْلة.
– عَمْلة، عَمْلة إيه؟
– وشك كالبفتة البيضاء، أنت عامل عَمْلة.
– أين أبي؟
– في حجرته.
لم أصدق أنني نجوتُ من عينيها النافذتين.
– أهلًا أمين.
– كيف أنت يا بابا؟
– هيه، أترى جئتَ لأنك مفلس؟
– أبدًا والله، فقط اشتقتُ إليك.
– كنتُ الآن ذاهبًا إليك.
– لو كنتُ أعرف لانتظرتك.
– خيرًا فعلتَ على كل حال، نذهب معًا.
كنتُ أريد أن أعرف نتائج الحريق.
لقِيتُ عمتي بوجه متجهمٍ، وكان واضحًا أنها تحاول أن تكتم أمرًا، فهي تغالب الغيظ في عنفٍ شديد: أهلًا سليم.
– وجدتُ أمين يهبط عليَّ فجأة، وكنتُ أنوي أن أجيء إليك.
والتفَّتْ إليَّ عمتي بوجهٍ يزداد تجهُّمًا: لماذا خرجتَ دون أن تخبرني يا أمين؟
– أردتُ أن أذهب لأبي.
– وأنا كيف أعرف أنك ذهبتَ لأبيك؟
وتدخَّل أبي مسرعًا (مسارعًا): كيف لم تخبر عمتَك؟
وأطرقتُ، كان يجب أن أقول شيئًا يفيد أني آسف، ولكنني لا أحب. وكنتُ أعلم أيضًا أن السؤال لم يكن على الخروج، لم أجد شيئًا أفعله خيرًا من ترك الغرفة، وقبل أن أصل إلى الباب لحق بي صوت عمتي: اذهب إلى غرفتك يا أمين.
وقفتُ هنيهةً قدر ما سمعتُ الأمر الصارم الذي أفهمني أشياءَ كثيرة. وخرجتُ لم أستطع أن أذهب إلى الغرفة، وإنما صعِدتُ إلى السطح. وجدتُ آثار الحريق، لم تكن بشعة، لقد استطاعوا أن يتحكموا فيه سريعًا، ويقول صالح: لولا أن الغسيل كان لا يزال مبلولًا لاحترق البيت جميعُه. لم أكن أقصد أن أحرق البيت جميعًا، فما كنتُ أحب أن أعود إلى بيت أمي. عجبتُ من نفسي وأنا أفكر هذا التفكير، لم يهمني أن عمتي ووجدي وعمي البيه وصالح ووصفية وباقي الخدم جميعًا قد يقتلون، وكل ما فكرتُ فيه ألا أذهب إلى بيت أبي. لم أتكلم، ولكن عينَيْ وصفية كانتا مثبتتين عليَّ لا تريمان وأخيرًا قالت في حدة: تعال.
– إلى أين؟
– تعال.
وفي الغرفة سألتْني وصفية: لماذا فعلتَ هذا؟
– أعرفتْ عمتي أنني أنا الذي فعلتُ؟
– لماذا فعلتَ هذا؟
– لأن عمتي ضر…
– أكمل.
– كنتُ ألعب، لا تخبري أحدًا.
وتدخل عمتي.
– لو كنتَ أصغرَ لقلتُ كان يلعب، ولكن أمثالك يتزوجون الآن، وصوتك أصبح خشنًا وشاربك بان، فأنتَ لستَ صغيرًا، ولو كنتَ أكبر لقلتُ … ماذا أقول؟ حقد، لا يمكن ابن أخي يحقد عليَّ، لا يمكن. أمين، أرجوك، أرجوك قل فقط لماذا فعلتَ هذا؟
– هل أخبرتِ أبي؟
– هل هذا هو كل ما يهمك؟
– لم أكن أتصور أن الجرائد إذا أشعلتُها ستفعل كل هذا.
– أهذا هو كل اعتذارك؟
– لم أقصد.
– وماذا أقول لزكريا؟
– عمي البيه؟!
– وهل ذكرتَ بيت عمك البيه، وأنت تفعل فعلتك هذه؟
– لا تخبري عمي البيه.
– أمين أنا خجلة منك، والألعن من ذلك أنني خجلة من نفسي، كأنني أنا التي أشعلت الحريق.
وتخرج عمتي، وألتفتُ إلى وصفية: أتظنين أننا سنرجع إلى بيتنا؟
– ليس هذا بعيدًا.
– لا أريد أن أترك هذا البيت.
– فلماذا أردتَ أن تحرقه؟
– لم أفكر أن أحرقه.
– هل صحيح أن صوتك أصبح خشنًا، وشاربك بان، أرني شاربك.
وتقبلني وصفية قبلةً نهمةً، وأتخلص منها.
– لا أريد أن أعود إلى البيت.
– لو كانت تنوي أن تعيدنا إلى البيت لقالتِ الآن لسليم بك ليأخذَك معه.
– صحيح.
– ولِمَ حاولتْ أن تظهر كل هذا الغضب عليك؟
– آه فعلًا.
ويرِن جرس التليفون، وأسارع إليه لا أدري لذلك سببًا، وتحاول وصفية أن تمنعني لترى شاربي، ولكني أتخلص، وأرفع السماعة: حميدة، أنا أمين.
– هل أنتَ بخير؟
– عمتي غاضبة جدًّا.
– هل حصل شيء للبيت؟
– أبدًا بعض الغسيل فقط احترق.
– الحمد لله، مع السلامة.
– مع السلامة.
وشعَرتُ بفرحة غامرة من هذا التليفون، ورجعت مرحًا خفيفًا إلى وصفية، فوجدتها في غرفة النوم، وإن كانت قد استلقتْ على السرير واثقةً أن عمتي لن تعود إلى غرفتي ثانية.
وفوجئتْ بي وصفية أقبلها في فمها قبلةً محمومةً كقبلتها، وانفرجتْ عيناها عن دهشةٍ بالغة: بسم الله الرحمن الرحيم، خرجتَ بحال وعدتَ بحال.
– ألا تقولين إنك تريدين أن ترَيْ شاربي؟
– ولم تكن راضيًا.
– وتحبين أن تري صوتي أيضًا؟
– أرنيه.
ومنذ ذلك اليوم أصبحتْ علاقتي بحميدة علاقة شاب لا صلة له بالطفولة بفتاة هي التي أخذتْ بيده إلى الطريق الذي تريد.