الفصل الرابع
عبد المنعم عزمي زميلي في الفصل منذ دخلتُ المدرسة، ومن الطبيعي أن أرويَ له كل صِلاتي العاطفية وغير العاطفية، والغريب أنه يائس يأسًا تامًّا أن يصل الأمر بيني وبين حميدة إلى زواج، فهو يرى أن فارق السن بيننا ليس كبيرًا، وأنها ما تلبث أن تُخطب، فهو لذلك ينصحني أن أودِّع هذا الحب إلى غير رجعة. ولم يكن هذا الذي يطلبه ميسورًا، فأنا لا أتصور بحالٍ أن حياةً يمكن أن تقوم لي إذا خلتْ من حميدة. وكم كنتُ أضيق بأوامر بيتها ألا تخرج إلا مع أمها، فإن خرجتْ وحدها لتذهبَ في زياراتٍ يعيِّن أهلها رقباءَ عليها فيها. ولكن هذا جميعه لم يكن يمنعنا من اللقاء، فقد كنتُ أعرف مواعيد زياراتها، وكنتُ ألقاها قبيل الزيارة أو بعدها. وكنا نسير في الطريق يدها في يدي، ثم لا شيء بعد ذلك. كلمة أحبكِ أقولها أو تقولها لا تحمل حقيقة المشاعر التي أحسها نحوها، والتي أعتقد أنها تحسُّها نحوي. تروي لي عن أبيها وعن أمها، وأروي لها عن عمتي وعن أبي وعن جدي. كثيرًا ما أروي لها عن وجدي، فهو لا يرى من الحياة إلا وجهًا جادًّا لا ابتسام فيه ولا عبث، وكانت هي تعجَب به من أجل ذلك، وكنتُ أنا أراه سخيفًا من أجل ذلك نفسه.
وكثيرًا، كثيرًا ما أشرتُ لها بمخاوف عبد المنعم، أو منعم كما تعودتُ أن أناديَه أو أذكره، وكانت هي دائمًا تطمئنني أنها لن تتزوج، حتى تنتهي من الكلية.
– حتى ولو كان الزوج أنا؟
– حتى ولو كان الزوج أنت.
وكنتُ أطمئن، فالذي لا شك فيه أنني لو سرتُ في الدراسة كما تعودتُ أن أسير؛ فأنا سابقها إلى التخرج.
هكذا كنتُ أقول لمنعم، ولكنه هو لا يحب الحب على أية حال. إنه معجب كل الإعجاب بالصلة بيني وبين وصفية، أما ذلك الحب ذو اليد في اليد، وبناء المستقبل من الأحلام والرؤى الوردية بلا مناسبة لها، وذلك الخفق الذي يتولى القلبَ للأسى فليس إلا أعراضًا تصيب الأطفال ولا يعرفها الكبار من أمثالنا. وكان هو في صِلاته الخاصة يرفض هذه العلاقات في حياته، ولا يقبل إلا نوعًا واحدًا من العلاقات.
أخبرني منعم في يوم أنه ذاهب إلى فرح إحدى قريباته، وحاول أن يأخذني معه، ولكني خجلتُ أن أذهب إلى فرح بغير دعوة. وكم لُمتُ نفسي في ذلك اليوم لرفضي الذهاب؛ فمعروف أن الأفراح إنما تعمر بغير المدعوين، فماذا كان عليَّ لو ذهبتُ وقضيتُ ليلةً ممتعةً؟ ولا أحد يعرف عيشة في سوق الغزل. كم تتحكم فينا هذه العادات السخيفة التي لا معنى لها ولا معقولية! المهم لم أذهب.
وفي اليوم التالي من الفرح وجدتُ منعم مشرق القسمات فرحًا تحيط به نشوة عارمة. أما ليلة.
– كيف؟
– تاريخية!
– ماذا؟ وقعتَ معاهدة عن مصر؟!
– وقعتُ عهدًا مع هناء البدري.
– مَن هناء البدري؟
– أشهر راقصة في كازينو الفجر.
– وقعتُ معها عهدًا!
– غير مكتوب.
– وما شروط العهد؟
– تنتظرنا الليلة في الكازينو.
– أنا؟! ما دخلي أنا في الموضوع؟
– كلمتها عنك.
– عني أنا؟
– كلمتها عن جمالك.
– ماذا جعلتَ مني يا منعم؟
– ألا يسرك أن أتحدث عن جمالك؟
– إن جعلتَ من جمالي هذا وسيلة لعلاقاتك الخاصة، فإن هذا لا يسرني أبدًا.
– يا أخي سنذهب معًا.
– وأنا كيف أذهب؟
– على رجليك.
– وماذا أقول لعمتي؟
– إنك ستذاكر معي.
– ومتى الموعد؟
– الليلة.
•••
دنيا أخرى، حياة غير الحياة، المكان لا ينتسب إلى ما نعرفه من الأمكنة، والزمان ملغًى، لا وجود. والمال منزوف من جيوب إلى صدور وجيوب. حياة لا نعرفها في الحياة، ودنيا لا صلة لها بالدنيا، أنا فيها تائه، لا أعرف لي سمتًا أتسمَّته، ولا هدفًا أسعى إليه، وإنما أنا خشبة في تيارٍ يجري بي لا أدري من أين تلقَّفني، ولا أين يلقي بي؟ منعم يدعي المعرفة، وهو أشد مني جهلًا، وأكثر ضياعًا. نحن على مائدة.
– كم معك؟
– خمسة جنيهات.
– أنا معي جنيهان.
– إن ما معنا لا يكفي ثمنًا لكوب ماء.
– إننا أصدقاء هناء.
– هناء لم ترنا بعد.
– سوف نلتقي بها.
– وإلى أن نلتقي ماذا نفعل؟
– ننتظر.
– وهل ينتظرون علينا؟
– تظاهر بالعظمة.
– إن الناس تنظر إلينا في تعجب، ولن يُجدينا التظاهر بالعظمة.
– وما نظر الناس إلينا؟
– ألا ترى أننا أصغر من المكان؟
– فشر.
– وحياة والدك لا تكن مغرورًا، كلانا هنا ضائع.
– تكلم عن نفسك.
– وعنك قبلي.
– يا جدع عيب أنا منعم.
– طظ.
– سترى.
– هل دخلتَ مكانًا مثل هذا قبل الليلة؟
– وهذه هي الجدعنة أن تكون جديدًا على المكان، وتبدو وكأنك من رواده الدائمين.
– ماذا تطلبون؟
– نعم!
– الكلام واضح.
– رد يا منعم.
– الآنسة هناء البدري.
– لم تأتِ بعد.
– ننتظرها.
– إذن لا تطلبون شيئًا.
– عندك بيرة؟
– الزجاجة بجنيهين.
– هات زجاجةً.
– أتريد شيئًا بجانبها.
– سلامتك.
– بجنيه.
– سلامتك؟!
– لا، المزة.
– هات مزةً.
– اعقل يا منعم.
– اسكت أنت … هيا يا متر ماذا تنتظر؟
– ألا تريد شيئًا آخر؟
– ألا يكفي هذا؟
– مؤقتًا لا بأس.
– إذن فاذهب.
دنيا أخرى، حياة غريبة على حياتنا، ومع ذلك فهي الدنيا كل الدنيا، والحياة كل الحياة لقوم أصبحوا لا يعرفون عن حياتنا نحن شيئًا، ولا يريدون أن يعرفوا. نسيتُ منعم، ونسيتُ السبب الذي أتى بي إلى هنا، ورحتُ أطالع الوجوه من رجال ونساء، خُيِّلَ إليَّ أن هذه الوجوه نبتتْ في هذا المكان، وأنها إذا خرجتْ من هنا غُمرتْ واضمحلتْ، وأتى عليها ما يأتي على نباتٍ اقتُلع من أرضه. كذبٌ ما نسمعه أن أولئك النسوة تعيسات، أو أنهن يحاولن أن ينسَين شيئًا. لم يعد في حياتهن شيء يردن أن ينسَينه، إنهن متأقلماتٌ مع مكانهن هذا، ومع ناس هذا المكان. هكذا في نظرة مفعمة، اقتربت إحداهن من منضدتنا.
– مرحبًا بالدم الجديد.
– بعيد عنك عندنا فقر دم.
– فقر دم أم فقر جيب؟
– اسم الله عليك فهمتيها.
– أحيانًا الدم الجديد يعوض فقر الجيب.
– ترضين بنا.
– يا أختي عليه.
– لا نريد أختكِ.
ونظرتْ إليَّ.
– وأنت يا قمر جئتَ من أجلي؟
– تصدقين إن قلتُ نعم؟
– يا ابني نحن هنا نلغي عقلنا ونصدق كل شيء.
– وإن كنتُ جئتُ من أجلكِ؟
– من أجل هذا الوجه وهذين العينين أترك الدنيا كلَّها، يا عمري عليك وعلى عينيك.
– وقفز منعم إلى الحديث.
– يا ست عيناه فقيرتان.
– أغنى عينَيْن في الدنيا، يصاحبني هو ولا شأن له بالغنى والفقر.
– يخرب بيتك ستودي بنا في داهية، يا ست إننا جئنا على موعد مع هناء البدري.
واتنترت الفتاة واقفةً.
– يا نهار أسود، لماذا لم تقل هذا من الصبح؟
وسارعتُ أنا أقول: يا ست أنا لا أعرفها، أنا جئت مع صاحبي.
– ألم تركَ بعد؟
– اطمئن، ستصبح صديقها منذ الليلة.
وكأنما غَضِبَ منعم: ماذا تقصدين، صديقها وحده؟
– لا تعتق هناء هذا الجمال أبدًا.
– وأنا؟
– أنا في انتظارك وأمري لله، ولو أن شكلك يعني …
– ماله شكلي؟
– شتان.
– نغيره.
– لا تغيره شيئًا، لعل دمك يكون خفيفًا.
– شربات وحياتك.
– أنا في انتظارك؟
– خذيني من الآن.
– حتى تأتي هناء، أنت لا تعرف.
– إنها صديقتي.
– متى عرفتها؟
– من زمان.
– قَلَّ أن تعرف هناء أحدًا من زمان.
– من زمان وشرفك.
– كتر خيرك. أي زمان؟ الذي يبحث يجدك لم تدخل المحل إلا الليلة.
– كيف؟
– أنا لم أرك قبل الليلة، ولو كنتُ رأيتك ما أخطأتك.
– شكلي حلو، أليس كذلك؟
– لا شعرت، دم جديد، ونحن نحب الدم الجديد. عن إذنكم، حتى لا تراني هناء معكما.
وهمتْ بالانصراف، فأمسكتُ بيدها.
– انتظري، اسمك؟
– ماذا تفعل به؟
– نتعارف.
– لا تقل لهناء أنك عرفتني.
– لا تخافي.
– وفاء كمال.
– ونعم بالوفاء والكمال.
– ونعم بك أنت يا قمر، عن إذنك.
وأمسكتْ بدقني وهزت وجهي هزًّا رقيقًا، وانسحبتْ عنا، ونظر إليَّ منعم.
– صداقتك وش خير.
– أترى ذلك؟
– ممكن أن نأكل الشهد من ورائك.
– وماذا أنت فاعل إذا أحبتني هناء؟
– أنا أعرفها قبلك.
– وماذا تريد؟
– ولا يهمك حبها.
– اسمع أنا أحب حميدة.
– انس حميدة هذه هنا تمامًا.
– أريد أن أطمئنك، أنا لن أحب أحدًا.
– إنك ستصادق النساء هنا، مسألة حبك لهن، أو عدم حبك لا يهمني أنا في شيء، ولكن المهم لا تستولِ على الجميع، وتتركني ضائعًا بلا شريكٍ ولا أنيس.
– لا تخف.
– وانسَ حميدة.
– سأنساها هنا على الأقل.
جاء القاهي.
– تفضلا.
– الست هناء جاءت؟
– وتريدكما.
ذهبنا إلى حجرةٍ صغيرةٍ، لم ألتفت إلى شيء فقد كنتُ منصرفًا بكل تشوقٍ إلى هناء التي ساقني إليها حديث منعم الطويل.
إنها حقًّا جميلة، ولكن خفة الدم في وجهها أهم من الجمال، سمراءُ هي ذات شعر أسود صقيل ناعم وعينين ناعستين في ذكاءٍ، وإشعاع يمتد إليك فيطويك فتستسلم له في خَدَر واستمتاع، ولها قَوام لا تملك إلا أن تتمنى احتضانه، فهي طويلة هيفاء رقيقة في فتنةٍ طاغية، صارخة الدعوة كأنها صوت مرتفع يدعوك إلى المتعة. كنتُ أنقل عيني على مواقعها، ثم انتبهتُ إليها، فإذا هي مثبتة النظرة في وجهي، وجدتها فاغرةَ الفاه، داهشةَ العينين.
وسمعتُ صوتًا من بعيد: أمين سليم، صاحبي.
– يا بختك.
– اتفضلي.
– أنا تفضلت فعلًا، تعال يا أمين.
ودون أن أدري ما يراد بي وجدتُ نفسي في أحضان هناء، ووجدتُ نفسي غارقًا في قبلة لم أعرف لها مثيلًا على شفتي وصفية.
التمرين هو كل شيء في الحياة.