الفصل السابع

كنتُ في البيت — بيت عمتي — حين دق جرس التليفون وبحركة لا واعية أمسكت السماعة: هل بجانبك أحد؟

– من؟

– ألا تعرفني؟

– حميدة؟

– أريد أن أراكَ.

– حاولتُ المستحيل لأراكِ، أين أنتِ؟

– في العزبة.

– أين؟

– في القناطر.

– أجيء فورًا.

– تعال.

– صِفي ليَ الطريق.

•••

– علامَ انتويتِ؟

– ماذا تنوي أنتَ أن تفعل؟

– ما شئتِ.

– أنا مستعدة أن أفعل ما تشاء.

– نتزوج.

– نتزوج.

وقبل أن أعيد العرض فكرتُ، بماذا سنعيش؟ إن عمتي لا شك ستقطع عني كل معونة، ولا أستطيع أن أفرض إقامتي على أبي، إذا كان لم يستطع أن يبقيَني وحدي في بيته، فكيف يبقيني وأنا مع زوجتي؟ وكأنما قرأتْ حميدة كل ما يدور في رأسي: تفكر؟!

– أليس طبيعيًّا أن أفكر؟

– هل مع الحب تفكير؟

– مع الزواج لا بد من التفكير.

– أنا لا أريد أن أضيِّق عليك الطرق، ولكن لا بد أن نقرر فورًا.

– هل هناك جديد؟

– جاءني خاطب.

– متى؟

– لا يهم، المهم أن أبي وافق عليه.

– وأنتِ؟

– لو كنتُ وافقتُ ما ألقَوا بي إلى العزبة.

أَلَا تخشَين أن يخبر أحد أباك أنني جئت إلى هنا؟

– لم يعد يهمني.

– كيف؟

– واحدة من اثنتين: إما أن نتفق الآن على الزواج فورًا، وحينئذٍ سيعرف كل شيء، وإما لا نتفق وحينئذٍ سيجعله قَبولي الزواجَ من الخطيب الجديد يغفر لي كل شيء.

– ها، تفكرين في كل شيء!

– ماذا قررتَ؟

– هل إذا صممتُ على الزواج بك تحسِّين أني أحبك؟

– نعم.

– أتقدِّرين ما سنلاقيه من عقبات؟

– المال؟

– أليس شيئًا مهمًّا؟

– لقد نلتَ البكالوريوس وستعمل.

– لقد عملت فعلًا.

– أين؟

– لا يهم، وإنما المهم أننا إذا تزوجنا سأفقد وظيفتي الجديدة.

– كيف؟

– عمي زكريا هو الذي عيَّنني.

– عمك زكريا لن يفكر في طلب رفتك.

– إنني ملكية خاصة له ولزوجته.

– أنا معي الليسانس أيضًا وسأعمل.

– فإذا عمل كلانا أتظنين أننا سنستطيع العيش؟

– أنتَ تفكر؟

– لي ولكِ.

– نتزوج ثم نفكر.

– إذا تزوجنا فلا داعي للتفكير.

– ما زلتَ تفكر؟

– وأين سنقيم؟

وصمتتْ فجأةً، وأطلَّت من عينيها دمعتان تحدرتا على وجهها، ولم أملك نفسي: حميدة سنتزوج.

– إننا سجناء ندَّعي الحرية.

– سنتزوج.

– الآن، لا يمكن، ربما كان ذلك ميسورًا منذ دقائق قبل أن تفكر وتجعلني أفكر.

وافترسني فجأةً صمت صاخب ثائر يتلوَّى في كِياني، فلا أجد له فسحةً ليدمر العالم حولي، ولا أطيق أن أكتمه فيدمرني، ورحت أدق يد الكرسيِّ دقًّا مجنونًا لا معنى له، كأنما بيدي قيد وأريد أن أحطمه. وفي هدوء المقبل على المِقصلة قالت حميدة: سأتزوج هذا الخاطب.

– أرأيتِه؟

– أكرهه.

– لعلكِ فقط لا تريدينه.

– أكرهه.

– أقبيح هو؟

– لقد رسمه الله في الصورة التي أكرهها، لو لم أكن رأيته وطلب مني أحد أن أرسم صورةً لرجلٍ أكرهه لكانت صورته.

– لعله طيب.

– أطيب هذا الذي يتزوج فتاةً لأن أباها وكيل وزارة دون أن يهتم إن كانت ترضى به أم لا؟

– لعله يرجو أن تحبيه بعد ذلك.

– فإن لم؟

– يحاول أن يجرب.

– ويستلب حياتي لتكون أداةَ تجربته؟

– لعلنا نستطيع أن نلتقي بعد الزواج.

ونظرت إليَّ في لومٍ شديد وأسًى: أترضى لي هذا؟!

– إني أحبكِ.

– أهكذا تحبني؟ أهذا هو نوع الحب الذي جَمع بيننا؟

– فكيف أعرف أخباركِ؟

– ألهذا فكرت أن تلقاني؟

خذلتْني نفسي وهي التي تعودتِ الكذب، لم أستطع أمام طهرها أن أجيب بنعمٍ حاسمة تزيل ما أثرتُه في نفسها من لوم، تلعثمتُ وتردد لساني وأنا أقول: نعم.

– لا، لم يكن هذا ما أردت، سأغفر لك ما فكرتَ فيه؛ لأنك في موقفٍ لا يسمح لي بلومك.

– أريد أن أعرف أخباركِ.

– اكتب لي رقم تليفونك في العمل.

وحين أعطيتها الرقم قالتْ في حسم: سيكون التليفون هو الصلة الوحيدة بينك وبيني.

– ولا أراكِ؟

– ما دمتُ زوجةً لغيرك، فلن تراني.

– حتى لحظات، رؤية بريئة؟

– إن مجرد لقائي بك لا براءة فيه.

– إذن فالتليفون فقط.

– لا بد لي أن أعرف أخباركَ.

– وأنا لا بد أن أعرف أخباركِ.

– أنا أعرف أنكَ ستنجح.

– كيف عرفتِ؟

– أرى في عينيك إصرارًا على النجاح.

– سأنجح.

– ولكن احذر طريق النجاح.

– سأنجح من أي طريق.

– فقط لا تبع نفسك من أجل النجاح.

– لا بد أن يعرف أهلكِ أنني قادر على الغنى.

– الطريق إلى الغنى أهم من الغنى نفسه.

– كلام أغنياء لا أثق فيه.

– ألا يهمكَ طريقكَ إلى المال؟

– الآن يهمني المال فقط.

– أمين، يخيل إليَّ أنك دائمًا يهمك أن تصل ولا يهمك الطريق التي تؤدي بك إلى الوصول.

– ومع ذلك تحبينني.

– هذا قَدَري، أعرف عيوبكَ كلَّها، ومع ذلك أحبكَ.

– سنلتقي.

– بالتليفون.

– بل سنلتقي.

– إياكَ.

– وبرضائكِ.

– متى؟

– هذا هو الشيء الوحيد الذي لا أعرفه، لن أقول وداعًا.

– أما أنا فأقولها، وداعًا يا أمين.

– إلى اللقاء يا حميدة، إلى اللقاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤