الفصل الثامن
حاصرتْني نيفين في العمل، وكنتُ أنا راغبًا عنها تمامًا، فقد كانت هناء تكفيني مهمة البحث عن أخريات، وكان أملي في ذلك الحين أن أتقن أسرار المحاسبة لعلي أستطيع أن أصل إلى الثروة التي أصبحتْ كل ما أفكر فيه؛ ولهذا وطَّدتُ صلتي بفتحي، حتى لا يُخفي عني شيئًا من أسرار العمل، ولكن محاولة تباعدي عن نيفين لم يزدها إلا إصرارًا.
وما البأس؟ وماذا يحدث إذا توطدتْ صلتي بها هي أيضًا ما دامتْ في ذلك تصر أن تنتظر حتى أنزل لتركب معي السيارة، وتصر في كل حديثٍ لها أن تربط بيني وبينها، وأنا لم أعد غِرًّا؟ فإذا كنتُ قد بدأتُ مغامرتي مع راقصة، فلا بد أنني كسبتُ خبرةً عريضةً. إن نيفين من النوع الواقعي الذي يصل إلى هدفه في أقرب طريق. لم يمر على توصيلي لها أكثر من شهر، وإذا هي: ماذا ستفعل اليوم؟
– أبدًا، لا شيء.
– ولماذا لا نخرج معًا؟
– إلى أين نذهب؟
– لا شأن لك.
– متى نلتقي؟
– في السادسة.
– أجيء إليكِ؟
– ستجدني بالباب.
نوع جديد عليَّ، لقد عرفتُ وصفية وقادتْ خطواتي الأولى نحو الشباب، وعرفت حميدة فأشعلتْ في القلب وجيبًا، وكلما حاول الجسم أن يشتعل أطفأتْه، وأعادتْني أمامها ملاكًا كل مشاعره قلب واجف ملهوف، وعرفت هناء، فعرفتُ المرأة في القمة العليا من أنوثتها ونضجها. نيفين نوع جديد بالنسبة إليَّ، سيدة متعلمة لا تعمل بالرقص، وواضح أن مسألة القلب عندها ليست هي كل العلاقة التي يمكن أن تقوم بين رجل وامرأة، كنتُ أمام بيتها في السادسة كما طلبتْ. إلى أين؟
– هل معكَ نقود؟
– بالقدر المعقول.
– فأنا أدعوكَ.
– علام؟
– لا شأن لكَ، مل يمينًا في الشارع المقبل، قف عند البقال.
– بقال؟
– يا أخي أنت ما لك؟
– أمركِ.
نزلتْ وعادتْ بكيسٍ كبيرٍ وضعتْه على المقعد الخلفي، وركبتْ إلى جانبي: اذهب إلى الدقي.
وما زالت تميل بي يمنةً ويسرةً، حتى وقفنا أمام عمارة أنيقة ونزلنا، وما هي إلا درجات قليلة، حتى وقفنا أمام شقة أخرجتْ مفتاحها ودخلنا، وما إن أقفلتِ الباب حتى صحت: يا نهار أسود من الحبر، شقة خاصة لك؟!
– فشرت اخرس.
– أخرس؟! فما هذه إذن؟
– شقة أختي.
– أختك؟!
– نعم.
– وأختكِ؟
– في الكويت.
– والمفتاح؟
– لأنظفها.
– ولماذا لا تؤجرها؟
– تخشى أن يُنقَل زوجها في أي وقت، وليس في بيتنا مكان لهما، ثم هما في غير حاجةٍ إلى قيمة إيجارها.
– معقول؟
– اجلس.
كان بالكيس زجاجة ويسكي، وما يحتاج إليه الويسكي … واضح أن الآنسة نيفين ذات تجارب واسعة.
شربنا وذهبنا إلى حجرة النوم.
إن الآنسة نيفين ليست آنسة.
حين جلسنا في البهو نظرتْ إليَّ طويلًا: أنتَ مندهش.
– أنتِ ما زلتِ صغيرةً.
– أبي موظف ومرتبه بسيط، وبنات اللصوص في الجامعة يلبسن أفخر الملابس، لا بد أن أكون مثلهن.
– والزواج؟
وضحكتْ ضحكةً ساخرةً.
– ماذا جرى يا أستاذ؟ هناك ألف طريقة لإعادة الأمور إلى نصابها.
واضح جدًّا أن معلوماتي قاصرة، لقد كنتُ أحسب أن صلتي بهناء تتيح لي أن أكون عالمًا في هذا الميدان.
وما لبثتُ أن تبينتُ كم أنا جاهل!
•••
طلبتُ من فتحي أن يخرج معي نوصل نيفين ونتناول الغداء معًا، فوافق.
وعلى الغداء: فتحي، قل لي، ألم تذهب في حياتك إلى كباريه؟
– يا أمين يا أخي، أنا دائمًا أحافظ على الفرض، وحتى لو فكرتُ في الذهاب على سبيل التعرف لما أسعفتْني المادة، فقد زوجني أبي قبل أن تظهر نتيجة البكالوريوس، وأصبح عندي — والعين لك — ولد وبنت.
– ولكن لا بد أن ترى.
– الإنسان لا يستطيع أن يرى كل شيء في الحياة.
– أتذهب معي؟
– متى؟
– الليلة.
– الليلة الخميس الأول في الشهر.
– وما له؟
– ليلة أم كلثوم.
– تسمعها في البيت مع الأولاد.
– ستدهش لو عرفتَ أين أسمعها.
– أين؟
– أتأتي أنتَ معي؟
– لا بأس، أنا على موعد أعتذر عنه، وأجيء معك.
– اتفقنا.
ذهبتُ إلى بيت هناء، فقضيتُ القيلولة عندها، واعتذرتُ لها عن لقاء المساء، وعجبتْ هي فقد كنا تعودنا أن نسمع أم كلثوم معًا، وثالثتنا زجاجة الويسكي أو الكونياك أو ما تيسر، ولكنها حين عرفتْ أنني سأكون مع فتحي الذي تعلم أنني حريص على توطيد صلتي به، زال منها العجب.
التقيت بفتحي وفي ظني أنه سيأخذ بي إلى جمع من المتصوفة يسمعون أم كلثوم في وقار العلماء وثباتهم، ولكن، كم أخلف فتحي ظني! اشترى فتحي بسبوسةً، وذهبنا إلى شقة في العباسية تقع على السطح من عمارتها، ووجدنا أمام الشقة مراتب مفروشة، ودق فتحي الجرس، وظهر على الباب رجل في مثل سنه مرتديًا جلبابًا أبيض ناصعًا وطاقيةً. أهلًا وسهلًا، تفضلا.
– أمين سليم، زميلي في المكتب.
– أهلًا وسهلًا.
– عبد الحميد جاد الله، صديقي ومفتش حسابات بوزارة الداخلية.
– أهلًا وسهلًا.
ودخلنا وقال فتحي: نحن أول من جاء.
– إنهم في الطريق.
ونظرتُ إلى عبد الحميد مليًّا؛ في الثلاثين من عمره، هادئ، في عينيه ذكاء لم يمنعه من الظهور هذه الهضاب التي تكونت حول عينيه.
– يا ترى ماذا ستغني الست الليلة؟
– كل شيء منها جميل.
ومضى بنا الحديث، وتقاطر الأصدقاء؛ منهم من هو زميل متخرج في كلية التجارة، ومنهم غير زميل. هم أربعة نفر غير فتحي وعبد الحميد، اثنان منهما زملاء دراسة لهما، وأما الآخران فأحدهما فرَّان، والآخر بائع في محلات القطاع العام.
وقبل أن يبدأ الغناء بدءوا هم عملهم، وأخرجت الجوزة من داخل البيت، ومعها لوازمها جميعًا، وكان كل ضيفٍ منهم قد جاء بصنفٍ من الطعام، فإذا المائدة عامرة، ولكن أحدًا لا يمد يده إليها، لقد تحولوا جميعًا إلى أنفاس. العجيب أن فتحي لا يشاركهم مطلقًا، أما أنا فقد شاركتُهم، وما زلتُ أذكر أول نفس اجتذبته، نوع من المخدر بعيدٌ كل البعد عن نشوة الخمر، ومع ذلك ومع تكرار الأنفاس تحولتُ إلى شيءٍ منقطعٍ عن الزمان والمكان، بعيدٍ عن المشاكل وعن الأفراح، سابحٍ في لا نهائية، فلا أنا في أرض ولا أنا في سماء، وإنما أنا هباءة ليست بعيدةً عن الأرض، وليست قريبةً من السماء، ومع الناس أنا ولست معهم، أذكر ما أذكر من حياتي وكأنه لم يقع، وأفكر في مستقبلي وكأنه مستقبل الآخرين، أتحدث فكأنما أسمع حديثًا لإنسان غيري، وأسمع فكأنما أذني ليست أذني، بل كأن الشهيق والزفير مني يقوم به عني شخص آخر لم ألتق به، ولم أعرفه قبل اليوم، ولا يعنيني أن أعرفه، ولا أريد أن أبحث عن شأنه. وغنت أم كلثوم، فكأنما صوتها الذي كنتُ أعرفه يأتي اليوم من مكانٍ سحيقٍ لا يعنيني مصدره، وإنما كل ما يعنيني منه هذه النشوة التي أحسها، أو التي يحسها ذلك الإنسان الذي يقوم عني بالشهيق والزفير.
•••
في الصباح سألتُ فتحي: لماذا لا تشارك؟
– لم تعجبني المشاركة.
– فلماذا تذهب؟
– تعجبني القعدة.
– لك حق.
– أتأتي معي كل شهر؟
– كل شهر وأشارك في النفقات.
– هذه الجلسة هي تسليتي الوحيدة، وثمن البسبوسة هو كل نفقاتي الخاصة.
– لماذا لا تفتح مكتبًا مستقلًّا؟
– ليس بعد، من يدري؟ ربما فتحنا معًا.
– من يدري؟ ربما، من يدري؟