الفصل التاسع
كنتُ في مكتبي حين حولتْ إليَّ عاملة التليفون مكالمةً. من؟
– صباح الخير.
– حميدة.
– اليوم سأتزوج.
– أعوذ بالله.
– لا بد أن تعرف.
– وافقتِ؟
– ألم نتفق؟
– اليوم؟
– اليوم.
– هل يمكن أن أراكِ؟
– هل جننتَ؟
– هل تشكين في ذلك؟
– أتسافرين؟
– نعم.
– إلى الخارج؟
– إلى الإسكندرية.
– كم ستمكثين هناك؟
– أسبوعين.
– هل في بيت زو… في بيتك تليفون؟
– أنا التي سأطلبك.
– ما اسم زوجك؟
– هل يهمك أن تعرف؟
– كل الأهمية.
– حمدي إسماعيل.
– في أي درجةٍ هو؟
– ما هذا التحقيق؟
– لا بد أن أعرف كل شيء.
– في الدرجة الثالثة، ومرشح للثانية، وعنده عزبة.
– فهو كبير في السن.
– في الثلاثين.
– أكبر منك بكثير.
– مع السلامة يا أمين.
– كلميني مجرد عودتك، ولو اقتضى الأمر أن تكلميني أمامه.
– مع السلامة.
– مع السلامة، حافظي على صحتك، إن تضايقت اطلبيني، وسأفعل كل ما يرضيك مهما تكون العقبات.
– حافظ على صحتك.
– لم يعد لها لزوم.
– من أجلي.
– ألم تقولي وداعًا؟
– ولكنك قلت إلى اللقاء، حافظ على صحتك من أجلي، مع السلامة. وأقفلت.
لم أستطع أن أمنع دمعتين تسللتا إلى عينيَّ على غفلةٍ مني، وتركتُ ما كنتُ أعمل فيه، وجلستُ صامتًا يشتعل داخلي بالغيظ والثورة، أيستطيع المال أن يتسيَّد حياة الناس إلى هذا الحد؟ أكلُّ ما يمنعني عن حميدة هو هذا المال؟ أكان لا بد لي أن تكون عندي عزبة، ألا يغني شبابي عنها؟
جاء عم مدبولي.
– البك يطلبك.
كدت ألعن أباه وأبا البك جميعًا، ولكني سكتُّ، ولم أنظر إليه، وكأني لم أسمع. ولم أدرِ كم من الوقت مر حين دق جرس التليفون بجانبي، فانتفضتُ مذعورًا، فقد كنتُ بعيدًا كل البعد عن واقعي. ورفعتُ السماعة في لهفةٍ لعلها هي مرةً أخرى. لم تكن هي.
– أمين؟
– نعم.
– أنا سامي، لماذا لم تأت؟
– نعم … آه حاضر … حالًا.
– وقفتُ لأرى فيما يريدني.
حين دخلتُ المكتب وجدتُ سيدةً جالسةً أمامه، وفي يدها مبسم في داخله سيجارة. السيدة أنيقة بصورة لا بد أن تبهر من يراها، وأناقتها تجعلها جميلةً بدون وجه حق، وعلى أية حال إن الذي يواجهها لا يملك إلا أن ينعم النظر فيها، وأغلب الأمر سيعتبرها جميلةً.
– شهيرة هانم الهليلي، صاحبة محلات الشوا.
– أهلًا وسهلًا.
– أمين سليم، زميلنا في المكتب.
ولمحتُ في عينيها نظرة إعجاب وهي ترمقني.
– أهلًا وسهلًا.
– شهيرة هانم تريدنا أن نُشرِف على حسابها.
– تحت أمرها.
– تذهب إليها وتنظم الدفاتر.
– تحت أمرك يا أفندم.
•••
كنتُ عندها في الغد، المحل غاية في الأناقة، عندها كاتب حسابات، ولكن يبدو عليه أنه متخرج من مكاتب الدوائر الزراعية، فطريقته في إمساك الدفاتر لا تتفق مع المَحالِّ التجارية.
شهيرة هانم لم تُخفِ إعجابها بي، وقد ظهر لي من النظرة الأولى لحسابات المحل أن حالتها المالية رائعة.
رأيت أمامي فرصةً تستحق أن أمعن فيها النظر. شهيرة هانم مجرد زيارة أو اثنتين لا تكفي.
– أنا لم أقل زيارة أو اثنتين.
– أنا سأضع نظامًا جديدًا للأستاذ عبد التواب، وسأداوم على الزيارة إلى أن أَطمئن على سير العمل.
– ما هذا الكلام الفارغ؟ أنت تظل تأتي دائمًا، أنا أريد حساباتي أن تكون في أيدٍ خبيرة.
– البركة في الأستاذ عبد التواب.
– وما البأس، الأستاذ عبد التواب مستمر في عمله، وأنت تأتي دائمًا.
•••
توثقتْ صلتي بشهيرة هانم، فأصبحت تطلب مني أن أؤدي لها خدمات في الحكومة أو الجمارك، وكانت تمنحني مكافآة خيالية مقابل كل عمل أقوم به.
وفي يومٍ طلبت إليَّ أن أسافر إلى الإسكندرية؛ لأخلص لها بضائع في الجمرك، وأديت المهمة في نجاحٍ تام، وحين عدتُ طلبتها في بيتها، وقبل أن أشرح لها ما فعلته: تعال.
– إلى أين؟
– إلى البيت.
شقة فاخرة بالزمالك، وأثاث غاية في الأناقة، وكانت هي كعادتها في اختيار أجمل الملابس.
– أتعبتك معي كثيرًا.
– أحب هذا التعب.
– هكذا الوحدة في الدنيا.
– يعقل أن يكون هذا الجمال وحيدًا.
– زوجي مات بعد الزواج بسنةٍ وبضعة أشهر.
– محلات شوا كانت ملك زوجك؟
– أبدًا، أنا التي فتحتها، حتى أشغل نفسي.
– الحقيقة يا شهيرة هانم.
– اشطب هانم.
– أنا أعمل عندكِ.
– أليس عندكم في الحسابات شيء اسمه الشطب؟
– أتعرفينه؟
– فأنا آمرك أن تشطب هانم.
– شطبناها، الحقيقة أنني أراك صغيرةً على كل هذا الجهد.
– تستطيعين أن تتمتعي بوقتك، أنا أعتقد أن حالتك المالية …
– لا، من هذه الناحية الحمد لله.
– المحل نفسه لو بعتِه …
– لا، لا ومن غير بيع المحل.
– كيف؟
– أنا عندي عمارة حديثة، وأتفاوض في شراء أخرى، من هذه الناحية لا …
– إذن فلماذا تعملين؟
– المؤكد أنني لا أعمل للربح.
– وهل هذا معقول؟
– لو كنتَ وحيدًا مثلي لعرفتَ أن هذا معقول جدًّا.
– ومن أدراكِ أنني ليست وحيدًا؟
– من عرف الوحدة يعرف زملاءه.
– لي أقارب وأصدقاء، ولكني مع ذلك وحيد.
– إذن فحالك كحالي.
– الوحدة يشعر بها الإنسان في داخل نفسه.
– أتشعر بها؟
– وأنا مع أصدقائي أو أقاربي دائمًا أشعر بوحدة.
– كأنك تتكلم عني.
– عجيبة!
– وما العجيبة؟
– أنا الآن فقط لا أشعر بالوحدة.
– حقًّا؟
– إنني أبحث عن وحدتي في داخلي فلا أجدها.
– أتعني ما تقول؟
– أول مرة نتحدث في غير العمل، تجعلين من الوحيد المزمن شخصًا يشعر أن الدنيا جميعًا أهله وأصدقاؤه.
– العجيب أنني أيضًا شعرت بهذا الشعور وأنا أتحدث إليكَ.
– إذن فلماذا نشعر بالوحدة؟
– ماذا تقصد؟
– ألم تفهمي؟
– الذي فهمتُه غير معقول.
– بل أعتقد أنه هو المعقول.
– أنا أكبر منكَ.
– بسنتين أو ثلاث.
– بل بأكثر من هذا.
– تبدين لي أصغر مني.
– هذا لا يغير الحقيقة.
– الحقيقة الوحيدة هي التي أشعر بها أنا وتشعرين بها أنت.
– لعل جِلستنا وتكاشفنا خلقتْ جوًّا من التقارب بيننا ليس من الطبيعي أن نبنيَ عليه حياتنا كلها.
– ما دمنا تكاشفنا وتقاربنا، فمن الطبيعي أن نظل متقاربين.
– فكر في الأمر.
– أنا لا أحتاج إلى تفكير.
– إذن فأنا أحتاج إلى تفكير.
– أمركِ.