عالِم ومنهجه
(١) إيمانه بالعلم
«والعلم» هنا مقصود به علم الكيمياء بصفه خاصة؛ و«الكيمياء» مقصود بها الوسائل التي
يستطيع بها الكيميائي أن يبدل طبائع الأشياء تبديلًا يحولها بعضها إلى بعض، وذلك إما
بحذف بعض خصائصها أو بإضافة خصائص جديدة إليها؛ لأنه إن كانت الأشياء كلها ترتد إلى أصل
واحد، كان تنوُّعُها راجعًا إلى اختلاف في نِسَب المقادير التي دخلَت في تكوينها، فليس
الذهب
— مثلا — يختلف عن الفضة في الأساس والجوهر، بل هما مختلفان في نسبة المزج، فإما زيادة
هنا أو نقصان هناك، وما على العالِم إلا أن يحلل كلًّا منهما تحليلًا يهديه إلى تلك النسبة
كما هي قائمة في كلٍّ منهما، وعندئذٍ يرتسم أمامه الطريق واضحًا إذا أراد أن يغيِّر من
طبيعة
هذا أو ذاك؛ لأن مدار التغيير هو — كما قلنا — حذف أو إضافة.
وكان رجال الفكر من هذا العلم فريقين: فأكثرية تذهب إلى بطلانه واستحالته، وقلة تؤكد
إمكانه عند العقل وفي الفعل على حد سواء.
فمن المنكرين الشيخ الرئيس ابن سينا الذي حاول في كتابه الشفاء أن يقيم الحجة على
بطلانه، وكانت حجته هي أن الصفات التي يقال عنها إنها إذا أضيفت هنا أو حذفت هناك تحوَّلت
الأشياء بعضها إلى بعض، صفات محسوسة عرضية لا تمسُّ جواهر الأشياء، فليست هي بالفواصل
الحقيقية التي تميز نوعًا من نوع وأما الفواصل الحقيقية فمجهولة، فلسنا ندري ماذا في
الذهب مما يجعله ذهبًا ولا ماذا في النحاس ما يجعله نحاسًا، وإذا كان الشيء مجهولًا
فكيف يتاح لنا أن نوجده إيجادًا أو أن نفنيَه إفناء؟
١
وكان الفيلسوف الكندي كذلك من المنكرين لا مكان قيام هذا العلم، وأقام إنكاره هذا
على
أساس أن الطبيعة قد انفردت — دون الإنسان — بأشياء محال على الإنسان أن يأتيَ بمثلها
كما
انفرد الإنسان — دون الطبيعة — بأشياء أخرى، ومن الخلط بل من الخداع أن يحاول الإنسان
فعْلَ ما قد انفردت الطبيعة بفعله،
٢ فكما أنه محال على الطبيعة أن تصنع سيفًا أو سريرًا أو خاتمًا فكذلك محال
على الإنسان أن يصنع ذهبًا أو فضة أو نحاسًا.
والظاهر أن أبا نصر الفارابي قد وقف موقفًا وسطًا بين إمكان علم الكيمياء
واستحالته، مستندًا في ذلك إلى أرسطو وموقفه من هذا الموضوع نفسه. وخلاصة هذا الموقف
الوسط، هي أن تحوُّلَ الأشياء بعضها إلى بعض متوقفٌ على نوع الصفات المراد حذفها أو إضافتها،
فإن كانت ذاتية تعذر التحول، وأما إن كانت أعراضًا عرضية التحول، هذا إلى أن إمكان
التحول قد يكون مقلوبَ الوجه الصورية النظرية، لكنه عسيرٌ من الوجهة العملية.
٣
لكنَّ هناك فريقًا آخر هم أكثر إيمانًا بما يستطيعه العلم هؤلاء الإمام «فخر الدين
الرازي» الذي عقَد فصلًا في المشرقية يبيِّن فيه إمكانَ علم الكيمياء، ومنهم الشيخ نجم
ابن
البغدادي الذي ردَّ على ابن تيمية وزيَّف ما كان؟ استحالة علم الكيمياء، ومنهم كذلك أبو
بكر محمد بن الرازي الذي تصدَّى للرد على الكندي في الموضوع، وصنَّف «الطغرائي» كتُبًا
يثبت
فيها إمكان قيام هذا العلم على ما كان «ابن سينا» قد ذهب إليه من عدم إمكان ذلك.
٤
وعلى رأس المثبتين لعلم الكيمياء بالقول وبالفعل معًا هو «جابر بن حيان» الذي كان
أول
من اشتهر عنه هذا العلم فهو يتساءل في عجب: كيف يظن العجز بالعلم دون الوصول الطبيعة
وأسرارها؟ ألم يكن في مستطاع العلم أن يجاوز الطبيعة إلى ما وراءها؟ فهل يعجز عن
استخراج كوامن الطبيعة ما قد ثبتت قدرته على استخراج السر مما هو مستور وراء حجبها؟ وهو
يستدرك هنا بقوله: إننا لا نطالب من لا علم له بالتصدي للكيمياء، بل نطلب ذلك من ذوي
العلم الذين استوفوا أركان البحث؛
٥ ولعمري إن هذا القول من «جابر» لممَّا نضعه في مقدمة الشروط التي نستوجب
استيفاءَها في كلِّ باحثٍ علمي، كائنًا ما كان موضوع بحثه، وفي أيِّ عصرٍ جاء؛ فلا يجوز
لغير
العلماء المختصين أن يقولوا ماذا يُستطاع وماذا لا يُستطاع في مجال البحث. ويمضي «جابر»
في حديثه عن إمكان العلم الكيموي أو امتناعه، فيقول إن أسرار الطبيعة قد تمتنع على الناس
لأحد سببين؛ فإما أن يكون ذلك لشدة خفائها وعُسْر الكشف عنها، وإما أن يكون للطاقة تلك
الأسرار بحيث يتعذر الإمساك بها، وسواء كان الأمر هو هذا أو ذلك، كان في وسع الباحث
العلمي أن يلتمس طريقًا إلى تحقيق بُغْيته، فلا صعوبة الموضوع ولا لطافته ودقته مما يجوز
أن تَحولَ العلماء دون السير في شوط البحث إلى غايته.
٦
(٢) مصدر العلم
أنَّى للإنسان أن يعلم العلم الذي يعلمه؟ هذا سؤال ما انفكَّ الفلاسفة يسألونه ويحاولون
عنه الجواب: أفيكون في فطرة الإنسان وطَبْعه المجبول أن يهتديَ إلى العلم من تلقاء نفسه
لو
واتَته الظروف المناسبة؟ ذلك ما أخذ به سقراط الذي كان على اعتقاد بأن العلم كامنٌ في
الإنسان، ولا يحتاج إلا إلى مَن يُحرِّكه بالأسئلة الموجِّهة، فيخرج العلم من حالة الإضمار
إلى حالة الظهور، أو من حالة الكمون إلى حالة العلَن، أو — بالمصطلح الفلسفي — من حالة
الوجود بالقوة إلى حالة الوجود بالفعل. ولو كان الأمر كذلك لكان التعلُّمُ ضربًا من ضروب
الكشف عما هو خبيءٌ في النفس، وليس هو باكتساب شيء يأتي إلى نفس المتعلم من خارجها،
ولكانت عملية التعليم لا تزيد على عملية التوليد، ويعبِّر «جابر» عن هذا الرأيِ بقوله
إن
المتعلِّم عندئذٍ: «يكون مبتدعًا للأشياء من نفسه في أول الأمر بطباعِه.»
٧ لكنه لا يجعل هذه الصفة عامة في كل إنسان على حدٍّ سواء، بل يقصرها على مَن
يصفهم ﺑ «الاعتدال»، والاعتدال عنده معناه توازنُ العناصر التي منها يتكوَّن الشخص المعيَّن
— «فالشخص المعتدل هو الذي يستخرج الأشياء بطبعه، ويقع له العلم بالبديهة في أول وهلة.»
ويستطرد «جابر» فيقول نقلًا عن فورفوريوس
٨ «إن مَن كان هذا سبيله (هو) سقراط الحكيم؛ فإنهم لا يشكُّون أن كثيرًا من
العلم وقَع له بقليل الرياضة، وأن ذلك بالطباع.»
٩ أي أن رياضة قليلة، أو قُلْ فاعليةً وجهدًا قليلَين كانَا يكفيان لتحريك علمٍ
كثيرٍ في نفسه؛ لأن العلمَ كامنٌ هناك بالفطرة، ينتظر ما يحرِّكه فيتحرك.
العلم بالفطرة — إذن — أحدُ المذاهب المختلفة في تفسير التعلُّم؛ ومذهب آخر يقول
إن
العلم إنما يكون بالتلقين، فما في فطرة الإنسان علمٌ لا بالقوة ولا بالفعل، فهي — على
حدِّ
العبارة التي قالها الفيلسوف الإنجليزي «جون لُكْ» (١٦٣٢–١٧٠٤) — تُولد صفحة بيضاء، ثم
تأتي العوامل الخارجية عن طريق الحواس فتخطُّ عليها آثارها ومن هذه الآثار المخطوطة يتكوَّن
علم الإنسان، ومن بين هذه العوامل الخارجية — بل من أهمِّها — هو المعلِّم، والوالدانِ
هما
بمثابة المعلمين، فهؤلاء يُلقنون الناشئ بما يكوِّن له نفسه على الصورة التي يريدونها
له؛
وفي ذلك يقول «جابر»: «… [إن مَن يُوكَل إليه أمرُ تكوين الإنسان] يدرس عليه جميع العلوم
وضروب الآداب وعلوم العُلْويَّات، أو غير ذلك مما يُراد من ذلك المكوَّن أن يكون ماهرًا
فيه.»
١٠
يذكر «جابر» هذين المذهبين في مصدر العلم؛ المذهب القائل بأن العلمَ لدنيٌّ ينبع
من
الفطرة، والمذهب القائل إن العلمَ آتٍ كله من الخارج بالتحصيل والتلقين، ثم يُضيف إليهما
مذهبًا ثالثًا يقع بين بين؛ وذلك أن يكون في نفس المتعلم استعدادٌ للتلقِّي، ثم تجيء
العوامل الخارجية فتستخدم ذلك الاستعداد الفطري؛ فالفطرة ليست «علمًا» ولكنها «تهيُّؤ»
لقبول العلم، وإذنْ فلا بد في الأمر من داخل وخارج معًا؛ وهذا هو بعينه ما يقوله القائلون
بضرورة الوراثة والبيئة معًا في عملية التربية إلا أن جابرًا يستخدم لغة أخرى غير هذه
اللغة، فيعبر عن الحقيقة نفسها بقوله: «إن [العلم] لا يكون بالبديهة، ولا بالتعليم من
الصغر، بل يكون على البديهة.»
١١ — فهو يقول عن العلم إنه «بالبديهة» في الحالة التي يكون فيها موروثًا
بالطبع، ثم يقول عنه إنه «على البديهة» حين لا يكون الموروث بالطبع إلا استعدادًا فقط،
وعلى هذا الاستعداد تأتي المؤثرات من خارج، وإن جابرًا ليختار من هذه المذاهب الثلاثة
مذهبًا، وهو هذا الذي يجمع بين الاستعداد والتلقين، مؤكدًا أن: «النفس لا تكون عالمة
أولًا بالضرورة.»
١٢ أي أنها محالٌ عليها أن تُولد مزودة بالعلم كاملًا، لكنها مستعدة للتقبُّل
بطبيعتها، فهي: «قادرة فاعلة جاهلة.»
١٣ أول الأمر، ثم تُراض بعد ذلك بفضل قدرتها وفاعليتها، فيتحول الجهل
علمًا.
لكن ما مصدر التلقين عند «جابر»؟ مَن ذا الذي كشف له عن الحقائق فتلقَّفها وتمثَّلها
بفطرته القابلة القادرة؟ ها هنا نجده يصرِّح في أكثر من موضع بأن مصدرَ علمِه هو النبيُّ
وهو
عليٌّ وهو سيده «جعفر الصادق» وما بين هؤلاء جميعًا من أبناء الأسرة الشريفة، فهو يقول:
«تأخذ [من كتُبي] علمَ النبيِّ وعليٍّ وسيدي وما بينهم من الأولاد، منقولًا نقلًا مما
كان
وهو كائن وما يكون من بعد إلى أن تقوم الساعة.»
١٤ وفي موضع آخر يقول: «فو الله ما لي في هذه الكتب إلا تأليفها، والباقي علم
النبي
ﷺ.»
١٥
فما مؤدَّى هذا؟ مؤدَّاه أن مصدر التلقين هو الوحي، ينزل على النبي ثم يتوارثه الخلفاء
من
بعده، وعن هؤلاء يكسب الكاسبون. فليس العلمُ عقلًا ولكنه نقل، ليس هو بالكشف المبتكر
الأصيل بالنسبة إلى العالِم الكاشف، بل هو تنزيلٌ من السماء. وعلى هذا الضوء نفهم اسم
«الكيميا» لماذا أُطلق على مثل هذه الأبحاث التي قام بها «جابر»؛ فهي لفظة معرَّبة من
اللفظ العبراني، وأصله كيم يه، ومعناه أنه من الله.
١٦
(٣) الأستاذ والتلميذ
لهذا كان للأستاذ الذي ينقل العلم للمتعلم منزلة مقدسة عند «جابر»؛ وإنَّا لننقل
هنا
مقالة كتبَها في العلاقة بين الأستاذ والتلميذ،
١٧ ونعتقد أنها من الروائع في ميدان التربية، ولن ندخل على لفظها من التعديل
إلا بمقدار ما يجعلها مناسبة لسمع القارئ الحديث، قال:
فأما ما يجب للأستاذ على التلميذ، فهو أن يكون التلميذُ ليِّنًا قَبولًا لجميع أقواله،
من
جميع جوانبه، لا يعترض عليه في أمر من الأمور … فإن ذخائر الأستاذ العالِم ليس يُظهرها
للتلميذ إلا عند السكون إليه، وحمده غاية الحمد؛ وذلك أن منزلة الأستاذ هي منزلة العلم
نفسه، ومخالف العلم مخالف الصواب، ومخالف الصواب واقعٌ في الخطأ والغلط، وهو ما ليس
يُؤثِره عاقل؛ فإذا لم يكن التلميذ على هذا المقدار من الطاعة للأستاذ، أعطاه الأستاذ
قشور العلم وظاهره.
ولستُ أريد بطاعة التلميذ للأستاذ أن تكون هذه الطاعة في شئون الحياة العملية
الجارية، بل أريدها طاعة في قبول العلم والدرس وسماع البرهان على أستاذه، وحفظه، وترك
التكاسل والتشاغل عنه؛ ذلك أن شئون الحياة العملية لا قيمة لها عند الأستاذ الربَّاني؛
لأن الأستاذ هو كالإمام للجماعة التي هو قيِّم بها، وكالراعي، والسائس للأشياء التي
يتولَّى صلاحها وإصلاحها؛ فمتى عسرت عليه، أو عسرت عن التقويم، فإما أن يطَّرِحها، وإما
أن
يُتعبَه تقويمُها إلى أن تستقيم …
وينبغي للتلميذ أن يكون صامتًا للأستاذ، كتومًا لسرِّه؛ لأن التلميذ في هذه الحال
كالأرض المزروعة التي يتخذها الإنسان لصلاح حاله؛ فإن كانت تربتُها طيبةً استقر فيها
البذر، فأزكى وأينع، وردَّ أمثال بذره؛ وإن كانت تربتها فاسدة قبيحة، هلك البذر فيها
ولم
يُثمر إلا ما هو قليل النفع … وواجب التلميذ أيضًا أن يكون منقطعًا إلى الأستاذ دائم
الدرس لما أخذ عنه، كثير الفكر فيه؛ فليس في وُسْع الأستاذ إلا أن يعلِّم تلميذه أصول
العلم، وعلى التلميذ بعد ذلك أن يروِّض نفسَه على ما قد تعلَّم.
فأما ما يجب للتلميذ على الأستاذ فهو: أولًا — أن يمتحن الأستاذ قريحة المتعلم؛ وأعني
بالقريحة جوهر المتعلم الذي طُبع عليه، ومقدار ما فيه من القبول، والإصغاء إلى الأدب
إذا
سمعه، وقدرته على حفظ ما قد تعلَّمه وعلى تذكُّره؛ فإذا وجد الأستاذ تلميذه قَبولًا،
ذا أرض
زكية، وجوهر ترتضع فيه المعلومات كلما ارتسمَت فيه، أخَذ يسقيه أوائل العلوم التي تتناسب
مع قدرته على القبول، وتتناسب مع سِنِّه وخبرتِه؛ ولم يزَل به يُلقِّنه العلم أولًا أولًا،
وكلما احتمل الزيادة زاده، مع امتحانه فيما كان قد تعلَّمه؛ فإذا كان حافظًا لما كان
سقاه
وغير مضيِّع له، زاده في الشرب والتعليم، وإن وجده ينسى ويتخبَّل في حفظه، أنقص له المقدار،
وعاتبه على ذلك عتابًا كالإيماء من غير إمعان في التصريح؛ ثم امتحنه بعد ذلك ثانيًا
وثالثًا؛ فإن وجدَه جاريًا على ديدن واحد في النسيان، هزَّه بالعتاب وأوجعه بالتقريع،
وبالغ في توبيخه.
ومن أوائل العلوم يتدرج الأستاذ بتلميذه من مرتبة إلى مرتبة حتى يصير في عداد
الأستاذين الذين يجب عليهم للتلامذة مثل ما وجب له في أول أمره؛ وإذا بلغ التلميذ إلى
هذه المرتبة من العلم ومن رموزه وصغائره ولطائف ما فيه، أصبح واجبه أن يُعلِّمه، فإن
لم
يفعل ذكَّره أستاذُه بذلك قبل أن ينتقل إلى تلميذ سواه؛ والأستاذ الذي يغفل عن تلميذه
يكون
خائنًا والخائن لا يؤتمن، ومَن لا يؤتمن لا يُؤخذ عنه علم؛ لأن العالِم لا يكون إلا
صادقًا.
وبالجملة فإني أقول: إن سبيل الأستاذ والتلميذ أن يكونَا متعاطفَين بعضهما على بعض
تعاطفَ قبول، وأن يكون التلميذ كالمادة، والأستاذ له كالصورة — انتهت مقالة الأستاذ
والتلميذ.
وأنه لممَّا يتصل بموضوع الأستاذ والتلميذ ما قد ذكره «جابر» في مواضع كثيرة جدًّا
من
الطريقة التي ينبغي للدارسين أن يتناولوا كُتُبَه بها، ونخصُّ بالذكر في سياقنا هذا شروطه
التي يشترطها على القارئ؛ لأنها شروط منهجية سليمة في كل بحث علمي يرجع فيه صاحبه إلى
النصوص والأصول والوثائق.
ذلك أن جابرًا يشترط على الدارس أن يقرأ كلَّ كتاب من كتُبه ثلاث قراءات متتالية،
لكلِّ
قراءة منها هدفٌ خاص؛ أما القراءة الأولى فللتثبُّت من صحة ألفاظ النص، ومن معاني تلك
الألفاظ، وأما القراءة الثانية فلدراسة هذا النص، لا من حيث معانيه المباشرة، بل بغية
الوصول إلى مدلولاته البعيدة الخفية، فما أكثر ما يكشف تحليل النص عن معانٍ ما كانت
لتظهر لو وقف الدارس عند ظاهر اللفظ وحده، دون الغوص إلى ما هو منطوٍ في تضاعيفه
وثناياه، وأما القراءة الثالثة فهي لتبويب المعاني وتصنيفها لعلنا نجمع الشبيهَ إلى
شبيهِه، أو نوازن بين المتباين منها، تصنيفًا وموازنة من شأنهما أن يبلغَا بنا الغاية
المرجوَّة من موضوع الدراسة.
١٨
على أن جابرًا اشترط كذلك شرطًا للقراءة الدارسة الفاحصة، هو أيضًا في صميم المنهج
العلمي السليم؛ إذ يشترط على الدارس أن يجمع كتُبَه كلَّها أولًا قبل أن يهمَّ بقراءة
بعضها، لكي يضيفَ ما في كل كتاب منها إلى ما في الآخر،
١٩ لأن الكتاب الواحد قد ينفرد بمعنى واحد لا يشاركه فيه غيره
٢٠ وعندئذٍ يكون الاكتفاء بدراسة بعض كتُبِه دون بعض مؤديًا إلى تكوين فكرة مهوشة
ناقصة عن مذهبه؛ هذا فضلًا عن أن كل كتاب من كتبه — كما يقول هو نفسه — إنما يُعدُّ شرحًا
لبقية الكتب كلها، وهو في ذلك يقول عن كتبه: «فإنَّا إنما نضرب المثل بعد المثل في
المواضع على تفسير كتاب من كتاب في مسألة تمرُّ بنا أو شيء مثل ذلك، فإن قواعد هذه الكتب
إنما هي أنَّا نذكر في كل كتاب خاصة لجميعها ليست في غيره من الكتب، وبعضها يشرح بعضًا.»
٢١
(٤) تعريف الألفاظ
لقد بلغت الدقةُ العلمية المنهجية بجابر مبلغًا بعيدًا، عندما أدرك في وضوحٍ خطرَ
تحديد
المعاني الواردة في أيِّ بحث علمي، تحديدًا يبيِّن معالم الموضوع في حسم وجلاء، ويساعد
على
استنباط الأفكار بعضها من بعض؛ ولقد وضع في «الحدود» — أعني تعريف الألفاظ العلمية —
كتابًا سنوجز مادتَه فيما يلي، لكننا نسارع هنا إلى إثبات عبارة قالها في تقديره لقيمة
كتابه هذا؛ لأنه تقديرٌ يدلُّ على وَعْيه الشديد بأهمية الموضوع، فيقول: «يا ليت شِعْري
كيف
يتم عمل لمن لم يقرأ كتاب الحدود من كتُبِنا، فإذا قرأتَه يا أخي، فلا تجعل قراءَتك له
مثل
قراءة سائر الكتب، بل ينبغي أن تكون قراءَتُك للكتب مرة في الشهر، وأما «الحدود» فينبغي
أن يُنظَر فيه كل ساعة، وأن إعطاء الحد أعظم ما في الباب.»
٢٢ وأنه في ذلك لعلى حق؛ لأنك إذا أحسنت تحديد المعنى الذي تتحدث فيه، قطعت
بذلك شوطًا بعيدًا من طريق البحث الموفق السديد.
يقول جابر في كتابه «الحدود»:
٢٣ إن الغرض بالحد هو الإحاطة بجوهر المحدود على حقيقته، حتى لا يخرج منه ما
هو فيه، ولا يدخل فيه ما ليس منه، فإذا ما حُدِّد الموضوع تحديدًا تامًّا، صار لا يحتمل
زيادةً ولا نقصانًا؛ والتحديد التام إنما يكون بذكر الجنس الذي يندرج تحته النوع المراد
تحديده، ثم بذكر الفصل الذي يميز ذلك النوع من بقية الأنواع التي تندرج معه تحت جنس
واحد.
وقد قيل في الحدِّ إنه لا يحتمل الزيادة والنقصان؛ لأنك إذا زدتَ من الحد أدَّى ذلك
إلى
نقصان المحدود؛ كأن تُضيف إلى حدِّ الإنسان «بأنه حيوان ناطق» بحيث تجعله «حيوان ناطق
يسكن
جزيرة العرب»، فعندئذٍ تنحصر دائرة المحدود في طائفة قليلة من الناس، بعد أن كان المحدود
هو الناس جميعًا؛ وكذلك إذا انتقصت من الحد أدَّى ذلك إلى زيادة المحدود؛ كأن تقول في
حدِّ
الحمار إنه حيوان ذو أربع قوائم، فتنقص فصله المتمم لنوعه وهو النهاق، وبهذا تُتيح بهذا
النقصان في الحدِّ لكل ذي قوائم أربع الدخول في ذلك الحدِّ، ولا تجعله حدًّا مقصورًا
على
الحمار وحده؛ لكن زيادة الحد لا تنقص من المحدود إلا إذا كان زيادة تشمل بعض أفراد
النوع دون بعضهم الآخر، كأن تُضيفَ إلى حدِّ الإنسان عبارةَ «متكلم بالعربية»، فيصبح:
«الإنسان حيوان ناطق متكلم بالعربية»، فالزيادة ها هنا تؤدي إلى نقصان المحدود، أما إذا
كانت الزيادة صفة شاملة للنوع كله، أي أنها خاصة من خصائصه المميزة، مثل إضافة كلمة
«الضحاك» إلى حدِّ الإنسان بحيث يصبح هذا الحد هو: «الإنسان حيوان ناطق ضحاك»، فمثل هذه
الزيادة لا تؤدي إلى نقصان المحدود؛ وأما النقصان من الحدِّ فهو مؤدٍّ إلى زيادة المحدود
لا محالة على أيِّ وجه جاء هذا النقصان منه؛ وذلك لأن الحدَّ مؤلَّفٌ من الجنس والفصل
الذي
يميز النوع ويُحدِثه، فإذا أنقصنا من الحد أحدَ فصوله المميزة للنوع دخل في النوع ما
ليس
منه …
نعم إن «جابرًا» لم يَزِد شيئًا على ما قاله أرسطو في الحد (التعريف)، ولكن حسبه
— وهو
العالم الطبيعي — أن يتنبه إلى ضرورة الأساس الذي ينبني عليه تحديد المعاني، لكي يُقيمَ
عليها العالِمُ بناءَه العلمي في دقة منطقية، وسنورد في موضع آخر من هذا الكتاب
٢٤ تصنيفه للعلوم وتحديده لها تحديدًا يميزها بعضها من بعض، كما قد صنع كلُّ
صاحبِ منهجٍ في تاريخ الفكر.
(٥) رجل التجارب العلمية
لقد أسلفنا القولَ في رأي «جابر» عن مصدر العلم ماذا عساه أن يكون؟ وهو أن مصدر العلم
وحيٌ أولًا ينزل على النبيِّ عليه السلام، ثم يتوارثه خلفاؤه من بعده — خلفاؤه المعترف
بهم
عند الشيعة — ثم يجيء التلقين من هؤلاء لمن رأَوه من التلاميذ صالحًا للتعلم؛ ومعنى ذلك
بعبارة موجزة أن مصدر العلم أستاذٌ مؤهَّل من جهة، واستعدادٌ فطري عند التلميذ من جهة
أخرى.
والحق أني لا أعرف كيف أوفِّق توفيقًا أطمئن إليه بين هذا الرأي في مصدر العلم الأول
—
وهو الوحي يأتي من الخارج — وبين منهجه التجريبي في بحوثه العملية، وهو منهج نموذجي في
دقَّتِه وفي حرصِه على التثبُّت؟ أيكون العلم عنده نوعين: فنوعٌ تلقينيٌّ خاص بتحصيل
الأحكام
الشرعية وما إليها، ونوعٌ آخر كَشْفيٌّ علميٌّ تجريبي خاص بالعلم الطبيعي؟ يجوز أن يكون
الأمر
كذلك؛ لأنه في تصنيفه للعلوم
٢٥ قد قسم العلوم قسمَين أساسيَّين: علم الدين وعلم الدنيا.
وأيًّا ما كان الأمر، فلجابر منهجٌ تجريبي يصطنعه في بحوثه الكيمياوية، جدير بالبسط
والتحليل؛ فهو حريص على أن يقصر نفسه على مشاهداته التي تجيء التجربةُ مؤيدة لها؛ إذ
قد
تكون الظاهرة المشاهدة حدثًا عابرًا لا يدل على اطراد في الطبيعة. يقول «جابر» في رسم
خطته العلمية: «يجب أن تعلم أنَّا نذكر في هذه الكتب (يشير هنا إلى الكتب التي بحث فيها
خواص الأشياء) خواصَّ ما رأيناه فقط — دون ما سمعناه أو قيل لنا وقرأناه — بعد أن امتحنَّاه
وجربناه؛ فما صح أوردناه وما بطل رفضناه، وما استخرجناه نحن أيضًا وقايسناه على أقوال
هؤلاء القوم.»
٢٦
فهو في هذا النصِّ يهتمُّ اهتمامًا خاصًّا «بشهادة الغير» — سواء أكانت شهادة مقروءة
أم
مسموعة — هل يؤخذ بها في البحث العلمي أو لا يؤخذ بها؛ فتراه لا يعتدُّ بها إلا على سبيل
التأييد لما يكون قد وصل إليه هو بتجاربه؛ وهذا ولا شك إسرافٌ منه في الحرص؛ لأن العلم
يستحيل أن يخطوَ في تقدُّمٍ مطردٍ ما لم يأخذ اللاحقون عن السابقين علمَهم، وكل ما ينبغي
التثبُّت منه هو أن نستيقن من أمانة أولئك السابقين الذين عنهم نأخذ ما نأخذه؛ أما أن
يقتصرَ العالِمُ على مشاهداته هو وحده وتجاربه هو وحده، وألَّا يلجأَ إلى أقوال غيره
من
العلماء إلا على سبيل الاستشهاد على صدْق ما قد انتهى إليه هو نفسه من مشاهداته وتجاربه؛
فذلك التزام لما ليس يلزم، لكنه على كل حال التزامٌ يكشف لنا عن مبلغ دقة هذا العالِم
في منهج بحثه؛ وإنك لتراه في مواضع أخرى يتخفف بعض الشيء من التزامه المنهجي هذا، ويُجيز
لنفسه قبولَ النتائج العلمية التي ينقلها إليه الآخرون، فهو في ذلك يقول — مثلًا —: «وما
لم يبلغنا ولا رأيناه، فإنَّا من ذلك في عذر مبسوط.»
٢٧ أي أن للعلم المحقق المقبول عنده مصدرَين: فإما الرؤية بحاسَّتِه، وإما رؤية
الآخرين كما تبلغه، ولا شك أنه يُضمِر شرطًا لهذا الذي يبلغه عن الآخرين، وهو أن يكون
هؤلاء الآخرون من الثقات المركون إلى أمانتهم العلمية.
وهاك عبارة وردَت في كتابه «الرحمة»
٢٨ يصف بها تجربةً أجراها، وهي تدل على دقة ملاحظته. قال ما معناه: كان لديَّ
حجرٌ ممغطس يرفع قطعة من الحديد وزنها مائة درهم، وحَفِظتُه عندي زمنًا طويلًا، ثم جرَّبتُه
على قطعة أخرى من الحديد، فلم يرفعها؛ فظننت أن هذه القطعة الثانية من الحديد قد تكون
أكبرَ وزنًا من القطعة الأولى، فوَزَنتُها ووجدتُها أقلَّ من ثمانين درهمًا، ومن هنا
استنتجتُ أن
قوة الحجر الممغطس قد نقصَت، على الرغم من ثباتِ وزنِه.
ويُطلق «جابر» اسمَ «التدريب» على ما نسميه نحن اليوم «تجربة»، وهو يجعل إجراء
التدريبات (= التجارب) العلمية شرطًا أساسيًّا للعالم الحق: «فمَن كان دَرِبًا كان عالمًا
حقًّا، ومَن لم يكن دَرِبًا لم يكن عالمًا، وحسبُك بالدربة في جميع الصنائع أن الصانع
الدَّرِب
يحذق، وغير الدرب يعطل.»
٢٩
على أن جابرًا قد يذكر حقيقةً ما على أنها مستندة إلى تجربة أُجريت، على حين أن الخطأ
فيها واضح؛ كأن يقول مثلًا: «إن مَن أخذ ثورًا — وإن كان أحمر اللون فهو أجود — ثم أُدخل
بيتًا فطُرح له من ورق الحاشاشيا ثم سُدَّ عليه الباب الذي دخل منه، وفُتحت له في أعلاه
أربع
كوًى كما يدور البيت، فتُرك الثور حتى يموت ويعفن، تولَّد عنه زنبور النحل.»
٣٠ والخطأ العلمي هنا واضح، فحتى لو أعفيناه من خطأ القول إن حشرةً ما تتولَّد من
غيرِ طريقِ نَسْلِها الصحيح، على اعتبار أن هذه الحقيقة العلمية حقيقة كون الكائن الحي
يستحيل أن يتولَّد إلا عن كائن حي، ولا يتولَّد قط من غير الحي، أقول إننا لو أعفيناه
من
هذا الخطأ على اعتبار أن هذه الحقيقة العلمية ربما تكون قد كُشفت في عصر لاحق لعصره،
فكيف نعفيه من الخطأ المنهجي في تفضيله للثور الأحمر في أداء هذه التجربة؟
(٦) الاستنباط والاستقراء
لكننا من قراءة نصوصه استطعنا أن نتلمس مذهبه في خطوات السير في طريق البحث العلمي،
وهي خطوات تُطابق ما يتفق عليه معظمُ المشتغلين بالمنهج العلمي اليوم، وهي تتلخص في ثلاث
خطوات رئيسية؛ الأولى: أن يستوحيَ العالِمُ مشاهداتِه فرضًا يفرضه ليفسِّر الظاهرةَ المراد
تفسيرها، والثانية: أن يستنبط من هذا الفرض نتائجَ تترتب عليه من الوجهة النظرية الصرف،
والثالثة: أن يعود بهذه النتائج إلى الطبيعة ليرى هل تصدق أو لا تصدق على مشاهداته
الجديدة؛ فإن صدقَت تحوَّل الفرض إلى قانون علمي يركن إلى صوابه في التنبؤ بما عساه أن
يحدث في الطبيعة لو أن ظروفًا بعينها توافرت.
فطريق السير إذن هو هذا: مشاهدات تُوحي بفروض، ثم استنباط للنتائج التي يمكن توليدها
من تلك الفروض، ثم مراجعة هذه النتائج على الواقع. وعندئذٍ فإما أن نقبل الفروض التي
فرضناها أو نرفضها تبعًا لصدق نتائجها على الواقع؛ ولقد اصطلح رجال المنطق على أن
يُطلقوا كلمة «الاستقراء» على مرحلتَي المشاهدة الأولى والتطبيق الأخير؛ لأن في كليهما
لمسًا للوقائع العينية واستقراءً لها، كما اصطلحوا على أن يُطلقوا على مرحلة استنباط
النتائج التي يمكن توليدها من الفروض، اسمَ «الاستنباط»، وهو عملية تتم في الذهن؛ وهنالك
من العلوم ما هو استنباطي صرف كالرياضة، ومنها ما هو استنباطي استقرائي معًا كالعلوم
الطبيعية.
أما التفكير الاستنباطي الذي هو رياضي في طبيعته، فيعتمد على مفاهيم ذهنية يتسق بعضها
مع بعض، بغضِّ النظر عن مطابقتها أو عدم مطابقتها لواقع قائم في العالم الخارجي؛ وهو
ضربٌ
من التفكير لا مندوحة عنه في كل بحث علمي حتى لا يتقيد الباحث بحدود ما يقع له في خبرته
الحسية المباشرة؛ إذ ترى الباحث في تفكيره الاستنباطي العقلي الخالص، يُدير في ذهنه
الأمرَ من كافة وجوهه، فيربط فكرة بفكرة ويستخرج فكرة من فكرة وهكذا، حتى إذا ما اهتدى
بفضل هذه العمليات العقلية الداخلية إلى نتيجة يراها نافعة لو طُبِّقت، فعندئذٍ يخرج
إلى
العالم الطبيعي الخارجي ليختبرَ صدْقَ هذه النتيجة اختبارًا يعتمد على الواقع المحسوس؛
فإذا تبيَّن صدْقَها أصبحت قانونًا علميًّا أو نظرية علمية تستخدم في الجانب التطبيقي
من
حياة الإنسان العملية.
وكان التفكير الاستنباطي الصرف هو المنهج الوحيد الذي يُعتَدُّ به في العصور القديمة
والوسيطة؛ لأن التفكير عندئذٍ كان كلُّه قائمًا على أُسُس يفرضها العقل لنفسه فرضًا،
أو على
أُسُس يُوحي بها إلى الإنسان إيحاء، وما عليه في كلتا الحالتَين سوى أن يستنبط النتائج
من
تلك الفروض المسلَّم بصدقها؛ حتى جاءت النهضة الأوروبية وجاء معها العلم الطبيعي فعندئذٍ
أحسَّ رجال المنهج الفكري بضرورة إضافة منطق جديد يُضاف إلى المنطق الأرسطي الاستنباطي
الذي كان قد رُسِم ليسدَّ حاجة التفكير في عصره والعصر الذي تلاه؛ أحسَّ رجال المنهج
الفكري
إبَّان النهضة الأوروبية (القرن ١٦-١٧) بالحاجة الملحَّة إلى منهج استقرائي جديد يصلح
لمعالجة الظواهر الطبيعية على أساس المشاهدة وإجراء التجارب.
ثم اندمج المنهجان آخرَ الأمر في منهج واحد وجد أن لا مناص من اصطناعه في كل بحث علمي
منتج، فلا بد من ملاحظة خارجية أولًا، لنستوحيَها فروضًا نفرضها، ثم لا بد في الوقت نفسه
من طريق الاستنباط ننهجه داخل عقولنا لنولِّد من تلك الفروض التي فرضناها نتائج ننتفع
بها
في دنيا العمل والتطبيق.
أفليس من حقِّ عالِمِنا العربيِّ جابر بن حيان علينا، أن نسجل له بالفخر والإعجاب
منهجًا
فكريًّا رسمَه لنفسه في القرن الثامن وأوائل القرن التاسع الميلادي، وهو منهج لو كُتِب
بلغة
عصرنا ولو فُصِّل القولُ فيه قليلًا، لجاء وكأنه من نتاج العصر الحديث؛ ذلك لأنه منهج
اعتمد على الاستنباط والاستقراء معًا اعتمادًا واعيًا صريحًا، فاقرأ — مثلًا — هذه
الجملة الواحدة تجيء عرَضًا في حديثه ليصفَ بها منهجه: «… قد عملتُه بيدي وبعقلي من قبل،
وبحثتُ عنه حتى صحَّ وامتحنتُه فما كذب.»
٣١ فها هنا قد أجمل صاحبُنا كلَّ ما نريده نحن من الباحث العلمي في كلمات قلائل
رُتِّبت أدقَّ ما يكون الترتيب؛ فعملٌ باليد أولًا، وإعمالٌ للعقل فيما قد حصَّلَته اليد
ثانيًا،
حتى تنتهيَ منه إلى نظرية مفروضة، ثم امتحان تطبيقي ثالثًا للفرض العقلي الذي
فرضناه.
على أن الأمر عنده لا يقتصر على مثل هذه العبارات المقتضبة الموجزة المركَّزة يصف
بها
منهجه؛ بل إنه يفيض الكلام في ذلك إفاضةً كافية في مواضع كثيرة من كتُبه.
فانظر إليه — مثلًا — وهو يوضِّح لك كيف يمكن للعالِم أن يبدأ بالتعريف العقلي لمفهوم
ما، ثم يستنبط من هذا التعريف ما يريده من التفصيلات الخاصة بالعلم الذي يتعلق به ذلك
المفهوم المعرَّف، فيقول على سبيل المثال: إننا إذا ما بدأنا بتعريف «الإيقاع» بأنه
تأليفٌ عددي، استطعنا أن نستخرج من هذا التعريف سلسلةً من النتائج التي يلزم بعضها عن
بعض، والتي تضع لنا أُسُسَ العلم الموسيقي؛ فالنتيجة الأولى لهذا التعريف هي أنه ما دام
الإيقاع هو تأليف عددي فإنه لا بد أن يكون تأليفًا من حركة وسكون في مجال النطق والسمع؛
ومن تأليف المتحرك والساكن تنتج نتيجة هي: أن أوزان الألفاظ تكون كذا وكذا؛ أما في مجال
الموسيقى، فمن تعريفنا للإيقاع بأنه تأليف عددي، ينتج أن هذا التأليف إما أن يكون فردًا
في العدد أو زوجًا؛ والزوج والفرد يأتلفان معًا على أربع صور: زوج زوج، أو فرد فرد، أو
زوج فرد، أو فرد زوج، والعدد الفرد يكون مثل الواحد وأخواته، والزوج مثل الاثنين
وأخواتها، ويتولد عن ذلك أربع طرائق في الموسيقى، وهي التي يسمونها بالأسماء الآتية:
ثقيل الأول، وثاني الثقيل، والرمَل، والهزج؛ ثم إنهم ولَّدوا كلَّ واحد من هذه خفيفًا،
فصارت
ثمانية، وهي: خفيف ثقيل الأول، وخفيف ثقيل الثاني، وخفيف الرمل، وخفيف الهزج، ثم جُعل
لكل واحد من هذه نسبة في الأصابع، فكان خلف هذه في الأصابع، كخلف تلك في الحلق واللسان
والشفتَين؛ إذ إنه قد يحدث من هذه الطرائق بالأصابع ساكنٌ ومتحرك، كما حدث لنا في الحروف
ساكن ومتحرك، وبهذا تُصبح لكل طريقة من طرائق الموسيقى الأربع، أربع صور، وربما فرَّقوا
بينها بنقرة يسيرة فصارت ثمانية، أي أن مجموع الصور كلها يكون عندئذٍ ثمانية في أربعة،
أعني أنه يكون اثنتين وثلاثين طريقة … وهكذا — كما يقول جابر نفسه في نهاية تحليله
السابق — ينتج هذا كلُّه من تعريفنا للإيقاع بأنه تأليف عددي.
٣٢
إلى هذا الحد البعيد يمكن للمنهج الاستنباطي وحده أن يزوِّدَنا بحقائق العلوم، على
شرط
أن نبدأ بتعريفات سديدة خصبة؛ ولهذا ترى جابرًا يعني أكبر العناية بتعريف العلوم —
وسنبسط القول في ذلك في الفصل التالي — اعتقادًا منه أن التوفيق في تعريفِ أيِّ علم شئت،
يضمن لنا إلى حدٍّ بعيد توفيقًا في الحقائق التي نحصل عليها من ذلك العلم؛ فلا غرابة
بعد
هذا أن نراه يختص «حدود» العلوم (أي تعريفاتها) بكتاب مستقل، يقول عنه «يا ليت شِعْري
كيف
يتم عملٌ لمن لم يقرأ كتاب الحدود من كُتُبِنا؛ فاذا قرأتَه يا أخي، فلا تجعل قراءَتك
له مثل
قراءة سائر الكتب، بل ينبغي أن يكون قراءتك للكتب مرة في الشهر، وأما الحدود فينبغي أن
يُنظَر فيه كلَّ ساعة؛ وأن إعطاء الحد أعظم ما في الباب.»
٣٣
وأما عن الجانب الاستقرائي من المنهج العلمي — وهو جانب يكاد يُنسَب كله لمناطقة أوروبا
ابتداء من النهضة العلمية إبَّان القرنَين السادس عشر والسابع عشر — فقد سبق ابن حيان
إلى
الكتابة بما يكفي وحده أن يضع هذا العالم بين أئمة المنهج العلمي، فضلًا عن منزلته التي
اكتسبها بقضاياه العلمية نفسها.
فالاستقراء — على خلاف الاستنباط — ينصبُّ على أشياء الوجود الخارجي، ومداره هناك
هو
اتخاذ الحاضر شاهدًا على الغائب؛ فمن علمنا طبيعة الضوء — مثلًا — نستطيع أن نتوقع ظواهر
ضوئية معينة تحدث في المستقبل حين تتوافر ظروف معينة؛ ومن علمنا باتجاه الريح ومقدار
الضغط الجوي ودرجة الرطوبة في الهواء، نستطيع أن تتوقع شيئًا عن نزول المطر أو عدم
نزوله، وهكذا؛ وذلك أننا نُحلِّل الظواهر الذي تقع لنا في مشاهداتنا وتجاربنا تحليلًا
يربط
الجوانب المتلازمة في الوقوع ربطًا يُتيح لنا أن تتوقع حدوث بعضها إذا رأينا أن بعضها
الآخر قد حدث بالفعل.
فماذا يقول «جابر بن حيان» في المنهج الاستقرائي (دون أن تَرِدَ بالطبع كلمة «استقراء»
في سياقه)؟
يقول: إن المشاهدَ يتعلق بالغائب على ثلاثة أوجه، وهي: (أ) المجانسة. (ب) مجرى العادة.
(ﺟ) الآثار. وسنوجز القول فيما يلي عن الاستقراء القائم على المجانسة، ثم نُعقِّب عليه
بذكر الاستقراء عن طريق العادة، ونأسف ألَّا نجدَ بين أيدينا ما قاله جابر عن الاستقراء
عن
طريق «الآثار».
٣٤
(٦-١) الاستدلال عن طريق المجانسة
يقول جابر في ذلك ما مؤدَّاه: إن الاستدلال بالمجانسة هو من قبيل حكمك على شيء ما
إذا
رأيت نموذجًا له؛ كأن ترى — مثلًا — حفنة من قبح لتستدل بها على بقية القمح ما
نوعها وما طبيعتها؛ على أن الاستدلال على هذا الوجه — فيما يقول جابر — ليس ثابتًا
ولا صحيحًا؛ ومع ذلك فقد اضطر إليه بعض العلماء اضطرارًا؛ لكن جابرًا يعترض على مثل
هذا المنهج في التفكير؛ لأن وجودَ النموذج لا يدل بذاته على وجود الكل الذي قيل
إنه متمثلٌ في النموذج المذكور. ومن أمثلة الأخطاء التي وقع فيها مَن استخدم هذا
المنهج، خطأ الطائفة التي قالت: إنه إذا كان في العالم نورٌ وظلمة وخير وشرٌّ وحسن
وقبيح، فإنه يجب أن يكون خارجَ هذا العالم أيضًا نورٌ وظلمة وخير وشرٌّ وحسن وقبيح؛ لأن
ما في هذا العالم من هذه الأشياء كلِّها هو بمثابة العيِّنة التي تدل على ما هو خافٍ
عنَّا
في عالم الغيب. يقول جابر: إن هذا الاستدلال لا يستقيم إلا إذا أثبتوا أولًا أن
ما في هذا العالم هو جزءٌ من كلٍّ، وأما إذا لم يُثبتوا ذلك امتنعت ضرورة النتيجة التي
انتهَوا إليها؛ أفلا يجوز أن يكون النور الذي في هذا العالَم هو كلُّ ما هنالك من نور،
والظلمة هي كل ما هنالك من ظلمة، وهكذا قُلْ في الخير والشر والحسن والقبيح؟ «ألا ترى
أن الأنموذج لا يثبت عند مَن دُفع إليه كمٌّ من ذلك الجوهر عند مَن أراه ذلك الأنموذج،
بل لا يثبت عنده بعلم يقين أن عنده من ذلك شيئًا غير ما أراه.»
٣٥
ولا يفوت جابرًا هنا أن يَعرُج بالحديث على كتُبِه — وهو كثيرًا ما يُفاخر بها —
فيجعلها مثلًا تطبيقيًّا توضيحيًّا لمبدأ الاستدلال بطريق المجانسة ومدى ما يعرِّض
صاحبه له من خطأ، فيقول: إن مَن لم يقرأ كتُبي كلَّها بكل ما فيها من تفصيلات وتعليقات،
مكتفيًا ببعضها دون بعضها الآخر، قَمينٌ أن يكوِّن فكرة خاطئة؛ فمَن قرأ كتابَين من كلِّ
فنٍّ
من فنون كتُبي هو أعلم ممن قرأ كتابًا واحدًا من كلٍّ منها.
٣٦
ويذكر جابرٌ اعتراضًا قد يُوجَّه إليه في قوله: إن الجزء لا يؤتمن في الحكم على الكل،
يذكر هذا الاعتراض ليردَّ عليه؛ فقد يعترض معترضٌ بقوله: إن الجزء والكل أمران
متضايفان لا يعقل أن يوجد أحدهما بغير الآخر؛ فمجرد قولك عن شيء إنه جزء يقتضي
بالضرورة أن يكون هناك الكل الذي يحتويه، وكذلك مجرد قولك عن شيء إنه كلٌّ يقتضي
بالضرورة أن له أجزاء تدخل فيه. لكن الاعتراض مردود بما يأتي: هذا كله صحيح على شرط
أن يثبت لنا أن النموذج المقدَّم هو جزء، ومن أين يجيئنا هذا اليقين إذا قُدِّم لنا
شيء ما أنه ليس هو الجنس كله، وليس جزءًا يندرج في جنس يضمُّه مع غيره من الأجزاء
التي تُجانسه؟
(٦-٢) الاستدلال المنبني على جَرْي العادة
هذا هو الاستدلال الاستقرائي الذي يَصِل به صاحبه إلى التعميم عن طريق مشاهدته لعدة
أمثلة يراها متشابهة في ناحية من نواحيها فيُعمِّم عليها الحكم تعميمًا يجعلها زمرة
واحدة؛ فكأنما يبني المستدلُّ تعميمَه في هذه الحالة على عادة يتعودها في مشاهداته؛ إذ
يتعود أن يرى صفتَين — مثلًا — مقترنتَين دائمًا، فيتوقع بعد ذلك إذا ما رأى إحداهما
أن يرى الأخرى. وبطبيعة الحال لا يكون هذا التوقع قائمًا إلا على أساس احتمالي؛ إذ
ليس هناك ما يمنع أن تجيءَ الحوادثُ على غير ما قد شَهِدها الإنسان في الماضي، وعلى غير
ما يتوقع لها أن تكون. وإنه لممَّا يستوقف النظر في هذا الصدد أن نرى تطابقًا تامًّا
بين ما يقوله جابر بن حيان في هذا الضرب من الاستدلال، وما قاله ديفد هيوم في
القرن الثامن عشر، مما يُعدُّ أبرزَ طابع في فلسفته؛ فكلاهما يُنبِّه إلى أن الاستدلال
الاستقرائي قائمٌ على أساس «العادة» وحدها، وبالتالي فهو استدلال احتمالي لا تُحتِّمه
الضرورة العقلية؛ فليس فيه بعبارة ابن حيان: «علم يقين واجب اضطراري برهاني أصلًا،
بل (فيه) علم إقناعي يبلغ إلى أن يكون أحرى وأولى وأجدر لا غير.»
٣٧
ويمضي جابر بن حيان في الحديث عن الاستدلال الاستقرائي فيقول ما معناه: إن
الناس يُكثرون من استخدام هذا الاستدلال ويستندون عليه في أمورهم أكثر مما يستندون
إلى أيِّ ضربٍ آخر من ضروب الاستدلال؛ لأنه قياس واستقراء للنظائر واستشهاد بها على
الأمر المطلوب إقامة الحجة على صوابه؛ وليس هذا الضرب من الاستدلال المبني على
الشواهد ما يُطلق عليه في المصطلح المنطقي ﺑ «البرهان»؛ إذ البرهان لا يكون إلا في حالة
الاستنباط الذي نولِّد به النتيجة مقدماتها توليدًا يجعلها صريحة بعد أن كانت مضمرة
في المقدمات؛ فإذا كانت المقدمات صحيحة لزم بالضرورة أن تكون النتيجة صحيحة كذلك؛
فالاستقراء والبرهان ضربان متعارضان: الأول احتمالي والثاني يقيني، الأول يتفاوت قوةً
وضعفًا «بحسب كثرة النظائر والأمثال المتشابهة وقِلَّتها والثاني لا تفاوت فيه بين قوة
وضعف؛ لأنه لا تفاوت في درجات اليقين». ويقول ابن حيان: إن قومًا قد ظنوا أن الاستقراء
يمكن أن يكون مؤديًا إلى علم برهاني يقيني؛ وذلك إذا اطردت النظائر المتشابهة
اطرادًا لا يشذُّ فيه مَثَلٌ واحد.
٣٨
ولهذا يرى «ابن حيان» أنه جدير بالقول المفصَّل، لا يختلط أمرُه في عقول الباحثين،
فيقول:
٣٩ إن أضعف استدلال من هذا القبيل هو ذلك الذي لم يوجد له إلا واحدٌ نقيس
عليه حكمَنا العام؛ «كرجل قال مثلًا: إن امرأة ستلد غلامًا؛ فسألناه عن الدليل من أين
عَلِم ذلك؟ فأجابنا قال: من حيث إنها ولدَت في العام الأول غلامًا؛ ولم تكن المرأة
ولدت إلا ولدًا واحدًا فقط …» هذه هي أضعف حالات الاستقراء. وأما أقوى حالاته فهي
تلك التي نجد جميع ما في الوجود مطردًا فيها على مثال واحد، ولا نجد أبدًا ما
يخالف؛ كرجل قال: «إن ليلتنا هذه ستنكشف عن يوم يتبعها ويكون بعقبها؛ فسألناه من
أين علم ذلك فأجاب بأن قال: من قِبَل أني لم أجد ليلة إلا وانكشفت عن يوم.»
٤٠ تلكما هما أضعف الحالات وأقواها بين حالات التدرج في القوة والضعف
«وأما ما بين هذين فقوية وضعيفة في الدلالة بحسب كثرة النظائر وقِلَّتها، وليس في هذا
الباب علمُ يقين واجب»، فإذا جاز لنا أن نستشهد في أمثال هذه الحالات بحيث نحكم
بالحاضر على الغائب، فما ذاك إلا «لما في النفس من الظن والحسبان، فإن الأمور ينبغي
أن تجريَ على نظام ومشابهة ومماثلة؛ فإنك تجد أكثر الناس يُجْرُون أمورَهم على هذا
الحسبان والظن، ويكاد أن يكون ذلك يقينًا، حتى إنه لو حدث في يوم ما من السنة حادثٌ
لترجو حدوث مثل ذلك الحادث بعينه في ذلك اليوم من السنة الأخرى؛ فإن حدث في ذلك
اليوم بعينه من هذه السنة مثل ذلك الحادث تأكَّد عندهم ذلك أن سيحدث مثله في السنة
الثالثة؛ وإن حدث في السنة الثالثة أيضًا، حتى إذا حدث ذلك مثلًا عشر مرار في عشر
سنين، لم يشكُّوا البتة في حدوثه في كل سنة تكون من بعد، وإذا كان هذا مقدار ما يقع
في النفس من هذا المعنى، فما ترى يكون فيما لم يُشاهَدْ قط إلا على ذلك الوجه.»
٤١ كالمثل الذي أسلفناه لاستدلال المستدل بأن ليلتنا هذه ستنفرج عن يوم،
هذا ما يقوله ابن حيان. ولا بد هنا من تنبيه القارئ بقوة إلى نقطتَين وردتَا في كلامه
هذا، يُقرُّ بأنه من رجال المنهج العلمي في العصور الحديثة؛ أولاهما إشارته إلى
مَيْل النفس البشرية التي توقع تكرار الحادثة التي حدثت، فكأنما الاستدلال الاستقرائي
مبنيٌّ على استعداد فطري في طبيعة الإنسان؛ وإنك لترى هذا المبدأ نفسه عند جون
ستيوارت مل؛ والنقطة الثانية هي كون درجة احتمال التوقع تزداد كلما زاد تكرار
الحدوث، وهي نظرية لها اليوم تفصيلات كثيرة ولا يتسع المقام هنا للإطناب في الشرح
والتعليق.
ويضرب لنا جابر مثلًا على استخدام الطريقة الاستقرائية السالف ذكرها — وهي
الطريقة التي يُوصَلُ فيها إلى التعميم عن طريق اختبار عدد من الأمثلة الفردية
المنتمية إلى النوع الذي نُعمِّم الحكم على جميع أفراده — أقول إن جابرًا يضرب لنا
مثلًا على استخدام هذه الطريقة في البحوث العلمية التي وقعَت فعلًا في تاريخ العلم،
والمثل الذي يضربه هو جالينوس
٤٢ فيقول عنه: إن جالينوس مع تمكُّنِه من العلم، وتدرُّبِه في النظر، قد أخذ
المقدمات التي بنَى عليها علمَه، من الأمثلة الفردية التي وقعَت له في خبرته، ثم جعل
هاتيك المقدمات بمثابة المبادئ الأولية العقلية التي يلزم قبولها؛ حتى إنه قال في
كتابه البرهان: إن من المقدمات الأوَّلية في العقل أنه إذا كان الصيف يتبعه الخريف
لا محالة، فإنه لم يكن إلا بعد خروج الربيع، ويريد جالينوس بهذا أن يقول: إن تسلسل
الأحداث كما يقع في المشاهدة حينًا بعد حين، يُصبح قانونًا مطردًا يمكن الحكم على
أساسه، حكمًا لا يتقيد بزمان؛ وها هنا يستطرد جابر في الحديث موجِّهًا النقد إلى
جالينوس على نحو يشهد لجابر بدقة علمية منهجية ليس بعدها دقة؛ إذ يقول: «وأنا أحسب
أن هذه المقدمة (مقدمة أن الخريف إذا كان يعقب الصيف حتمًا، فما ذلك إلا لأن الصيف
قد سبقه ربيع) ليست بصحيحة دون أن يصحَّ أن الأزمان لم تزَل ولا تزال على مثل ما هي
عليه؛ فإذا لم يصح ذلك فإنه لا يؤمن أن يكون صيف لا يعقبه خريف ولم يتقدمه ربيع.»
٤٣ ومراد جابر بهذا القول هو أن تعاقُبَ الفصول في المشاهدة وحدها لا يضمن
لنا سلامة الحكم العام بتعاقبها دائمًا، إلا إذا كان في رءوسنا فرضٌ سابق مضمر، وهو
أن الزمن أزلي لم تكن له بداية ولن تكون له نهاية، وهذا الفرض بطبيعة الحال ليس
مستمدًّا من المشاهدة، وإنما هو أوليٌّ في العقل؛ وبغير هذا الفرض السابق، لا يجوز
الحكم الحتمي اليقيني الضروري بأن هذا الصيف سيسبقه خريف؛ إذ قد يكون هذا الصيف هو
آخر الزمان، كما أنه لا يجوز الحكم بأن صيفًا ما في الماضي قد جاء حتمًا بعد ربيع؛
إذ ربما كان ذلك الصيف أول الزمان ولم يسبقه شيء.
وما يصدقُ على هذا المثل يصدق على أمثلة أخرى كثيرة، فهل يجوز منهجيًّا
— مثلًا — أن أحكم على عالم الأفلاك بأنه هكذا كان دائمًا، ما دمتُ أنا وآبائي وجميع
القدماء
لم يزالوا يرونه مطردًا على هذه الصورة التي نراها، «فقد رصد المنجمون قبل ألوف
السنين، فوجدوه على مثال واحد في أعظامه (= أبعاده وأحجامه) وحركاته.»
٤٤ كلا، لا يجوز لنا ذلك إلا على سبيل الاحتمال المرجَّح لا على سبيل
الضرورة واليقين؛ إذ مَن أدرانا ألا يكون هذا الكون مسبوقًا بحالة تختلف عن الحالة
المشاهدة، بل مَن أدرانا ألا يكون الكون مسبوقًا بشيء على الإطلاق؟ وخذ مثلًا آخر: هل
يجوز لنا من الوجهة المنهجية أن نقول إنه ما دام الآدميون هم على الصورة التي
نراها، فمحال على إنسان أن يجيء على غير هذه الصورة؟ كلَّا، فليس هذا الحكم في وسعنا
ما دامت خبرتُنا مقصورةً على بعض العالم دون بعضه، وعلى فترة محدودة من الزمن دون
بقية الزمن «فإنه قد يمكن أن يكون موجودات «مخالف» حكمها في أشياء حكم ما شهدنا
وعلِمْنا؛ إذ كان التقصير عن إدراك جميع الموجودات لازمًا لكل واحد منا».
٤٥
وبعد هذه الأمثلة التي يسوقها جابر، ينتهي بنا إلى المبدأ العام، وهو أنه: «ليس
لأحد أن يدَّعيَ بحق أنه ليس في الغائب إلا مثل ما شاهد، أو في الماضي والمستقبل إلا
مثل ما في الآن؛ إذ كان مقصِّرًا جزئيًّا، متناهيَ المدة والإحساس؛ وكذلك لا ينبغي أن
يستدل الإنسان على أن العالم لم يزَل (= أزلي) من أنه لم يُدرك أحدٌ من الناس ابتداءَ
كونه؛ ولا على أنه لم يكن رجل إلا عن امرأة ورجل؛ لأنه لم يدرك الأمر إلا كذلك، من
قِبَل أنه يمكن أن يكون وجود الناس متأخرًا عن ابتداء كون العالم، وأن يكون كون
الإنسان الأول مخالفًا لما عليه الأمر في تكوين سائر الناس …»
٤٦
وأحسب أن جابرًا قد صور بهذه الفقرة السالفة حدودَ المنهج التجريبي أدقَّ تصوير،
فمن المشاهَد لا يجوز الحكم على ما لم يُشاهَد إلا على سبيل الاحتمال، لا على سبيل
اليقين؛ لكنه إذا لم يكن من الجائز القطع بوجود الغائب على أساس الحاضر المشاهَد،
فكذلك ليس من الجائز إنكارُ وجود الغائب ما دام هذا الغائب لم يقع في نطاق الخبرة
والمشاهدة؛ وإلا لانحصر الإنسان في حدود حسِّه هو، أو في حدود ما تناهى إليه خبرُه؛
ولَزِمه أن يُنكر وجودَ أشياء كثيرة وهي موجودة؛ ففي العالم بلدان وأمم لم يحسَّ أهلها
بالتمساح قط، إذا أخبرهم مخبرٌ بأن ثمة حيوانًا يحرِّك لحيته العليا عند المضغ، وجب
عليهم أن يُنكروا الخبر ما داموا لم يشهدوا حيوانًا كهذا، كلَّا «فليس لأحد أن يدفع
ويمنع وجود ما لم يشاهد مثله، بل إنما ينبغي له أن يتوقف عن ذلك حتى يشهد البرهان
بوجوده أو عدمه.»
٤٧ وأما أن يحكم الإنسان بعدم وجود شيء ما دام لم يَرِد عليه أو يُخبَر به،
وأن يحكم ببطلان ما يُخبَر به ما دام لم يقع له في مشاهداته المباشرة، «فجهل بطريق
الاستدلال — على ما قدَّرنا — واضح.»
٤٨
إن الدهريين لَيستندون في إنكارهم لخلق العالَم إلى أن أحدًا من الناس لم يشاهد قط
عالَمًا بُدِئ بتكوينه، حتى يجوز لنا القول بأن عالَمَنا هذا قد كان له بداية؛ لكننا
— على أساس المنهج الاستدلالي الذي شرحناه — نسألهم بدورنا؛ أولًا: لماذا لا يكون
الإنسان قد خُلق بعد خَلْق الكون بدهر طويل، بحيث لم يُتَح له أن يشهد البدء؟ وإذا سلمنا
بذلك فهل يحق للإنسان أن يحكم بقِدَم وجود بَدْء للخلق ما دام مثل هذا البدء لم يقع في
خبرته المباشرة؟ وثانيًا: افرض أن هنالك مدينةً أو قصرًا لا يذكر أحدٌ متى بُنيَت تلك
المدينة أو متى بُنيَ ذلك القصر، أفنقول — إذن — إن المدينة أو القصر ليس لها أو له
أول على غرار ما يقول الدهريون عن قِدَم العالَم؟ فإذا قال الدهريُّ إنه في حالة المدينة
أو القصر لا يقول بالقِدَم، لأنه قد شاهد المدن والقصور تُبنَى ابتداء، فليس عليه من
حرج أن يقيس على ما يرى، فرَدُّنا عليه هو: على أيِّ أساس تحكم بأن ما يُشبه ما قد رأيته
يكون عندك صوابًا مع أنك لم تشهده، وما ليس يُشبه ما قد رأيته يكون عندك خطأ؟ إنك في
كلتا الحالتين لم تشاهد هذا الذي حكمت عليه بحكم ما، ووجود شبيهه في خبرتك أو عدم
وجوده — إن دل على احتمال — فهو لا يدل على صدق ضروري لازم واجب يقيني
محتوم.
إن من حق جابر علينا أن نسجل له هنا بهذا الذي أوردناه عنه في موضوع الاستقراء،
من أنه يؤدي إلى الحكم الاحتمالي فقط دون اليقين، سبقًا لرجال المنهج العلمي في
العصور الحديثة، الذين أوشكوا اليوم — منذ «ديفد هيوم» — أن يكونوا على إجماع في
هذا؛ حتى لقد أصبح من أبرز الخصائص التي تُميِّز العلم اليوم أنه احتماليُّ النتائج ما
دام قائمًا على أُسُس استقرائية؛ وإن رجال المنطق اليوم ليصطلحون على تسمية هذه
المشكلة كلها ﺑ «مشكلة الاستقراء»، ومؤداها: كيف نوفِّق بين أن يكون منهج العلم
استقرائيًّا، وأن تكون قضاياه مقبولة الصدق؟
(٧) المنهج الرياضي في البحث العلمي
إنه إذا كانت المشاهدة الاستقرائية وحدها غير مؤدية إلى يقين؛ وجب علينا أن نلتمس
مصدرًا آخر لليقين إذا أردناه؛ ومصدره — عند جابر — هو المبادئ العقلية التي تُدرَك
بالعيان العقلي المباشر، ثم ترتَّب عليها النتائج المستنبطة منها؛ فأما المبادئ العقلية
فلا برهان على صِدْقها لأنها مدرَكة إدراكًا مباشرًا، وأما النتائج فصِدْقُها مضمون ما
دام
استنباطها من تلك المبادئ سليمًا.
يقول جابر ما نصه: «إنه ينبغي أن تعلم أولًا موضع الأوائل والثواني في العقل، كيف
هي،
حتى لا تشكَّ في شيء منها، ولا تطالب في الأوائل بدليل، وتستوفي الثاني منها بدلالته.»
٤٩ وإن هذا النص القصير الموجز ليرسم حدودَ المنهج الرياضي في تركيز واضح؛
ولَسْنا نقصر «المنهج الرياضي» على العلوم الرياضية وحدها، بل إنه منهج يُنتهَج في أي
بحث
علمي آخر ما دام الباحث ينشد يقينَ النتائج ولا يكتفي بالنتائج الظنية؛ وهو منهج يُوصي
به
فلاسفة كثيرون، وعلى رأسهم ديكارت في تاريخ الفكر الأوروبي الحديث؛ فلو شئت تلخيصًا للمنهج
الديكارتي كله، لما وجدت خيرًا من هذا النص الموجز الذي أسلفناه عن جابر بن
حيان.
يفرق جابر في النص المذكور بين ما أسماه «بالأوائل» وما أسماه «بالثواني» في العقل؛
أما الأوائل فهي بطبيعة كونها أوَّلة في العقل لا تكون مستنبطة من سواها، وإلا لما كانت
أوَّلة ولسبقها غيرها، هو هذا الذي استنبطناها منه؛ ولذلك فلا يُطلب على صدْق «الأوائل»
برهانٌ سوى حَدْسِها حَدْسًا صادقًا ومباشرًا، أو رؤيتها بالعيان العقلي رؤية مباشرة؛
وأما
«الثواني» فهي التي تأتي بعد ذلك عن طريق الاستنباط من «الأوائل»؛ وهذه الثواني هي التي
يطلب عليها الدليل، ودليلها هو أن يردَّها الباحث إلى الأوائل التي جاءت الثواني منها
نتائج لازمة عنها؛ فهكذا تكون الرياضة — كالهندسة مثلًا — إذ تبدأ بمسلَّمات مفروضة
الصدق، ولا يُطلب على صدْقها برهان، ثم تستنبط منها «النظريات» التي يكون دليل صدقها
هو
إرجاعها إلى المسلَّمات الأولية التي منها جاءت.
وإن رجال المنهج العلمي ليختلفون — وما يزالون يختلفون إلى يومنا هذا — أيُّ المنهجين
أولى في البحث العلمي: الاستقراء الذي قصاراه نتائج محتملة الصدق، أم الاستنباط الذي
يضمن اليقين في النتائج؟ على شرط أن تكون مقدماته يقينية، ولا تكون المقدمات كذلك إلا
إذا جاءت عن غير طريق الملاحظة الخارجية، أي أنها تجيء عن طريق الإدراكِ الحدسيِّ المباشر
من الداخل، أم أنه لا بد من الجمع بين هذا وذاك: فنلاحظ ظواهر الطبيعة أولًا، ثم نحدس
بالعيان العقلي فرضًا نفرضه لتفسير ما قد لاحظناه، ثم نركن إلى الاستنباط في استخراج
ما
يلزم عن ذلك الفرض لزومًا عقليًّا؟ … إن لكلٍّ من هذه الاتجاهات مَن يناصره؛ ﻓ «فرانسس
بيكن»
(١٥٦١–١٦٢٦م) مثلًا نصيرٌ للملاحظة الخارجية وحدها؛ و«ديكارت» (١٥٩٦–١٦٥٠م) نصيرٌ للاستنباط
العقلي وحده، و«جون ديوي» (١٨٥٩–١٩٥٢م) نصيرٌ للجمع بين الملاحظة الخارجية والاستنباط
معًا.
وها هو ذا عالِمنا العربي جابر بن حيان — فيما نرى — يضطرُّ إلى الاستنباط والاستقراء
معًا في منهجه، وإن يَكُن — فيما أظن — لا يجمع بينهما في عملية منهجية واحدة؛ إذ يجعل
لهذا موضعه ولذاك موضعه، فبينما تراه يؤكد ضرورة الملاحظة الخارجية في تجاربه العلمية
—
كما أسلفنا القول في ذلك — تراه من ناحية أخرى يبني مذهبَه العلميَّ كلَّه على أساسٍ
لو حلَّلتَه
لوجدتَه هو المنهج الرياضي الاستنباطي بعينه: فحدوسٌ أولية يراها العقل رؤية مباشرة (أو
يُوحي بها إلى نبيٍّ ثم يتوارثها الخلفاء الشرعيون من بعده) ثم نتائج تلزم عن تلك
الحدوس.
فليس الفرق بين المنهجين — في حقيقة الأمر — فرقًا سطحيًّا وكفى، بل إنه ليضرب بجذوره
إلى أعماق الفلسفة التي يصطنعها الباحث العلمي عن الكون: أهو يسير على اطرادات يجيء فيها
تعاقُب الأحداث أمرًا واقعًا لكنه لا يهدف إلى شيء، أم أنه يسير على خطة عقلية تستهدف
غاية معلومة؟ فإن كانت الأولى فما على العالِم إلا أن يُلاحظ تعاقُبَ الأحداث المطردة
ويسجِّل
ملاحظاتِه فتكون هي قوانين الطبيعة؛ وإن كانت الثانية فالأمر أمرُ تحليل عقلي يرتدُّ
بنا
إلى المبدأ الأول الذي عنه صدرَت الظواهرُ كلُّها؛ فها هنا في هذه الحالة الثانية تكون
العلاقة السببية بين الظواهر علاقة ضرورية، بمعنى أن المسبَّب يكون كامنًا في السبب
بالقوة، ثم يخرج إلى الظهور بالفعل خروجَ النتيجة العقلية من مقدمتها الملزمة لها، لا
مجرد ظهور اللاحق الذي يلحق سابقه دون أن تكون بينهما أية رابطة باطنية داخلية تجعل
طبيعة اللاحق منبثقة من طبيعة السابق.
ولستُ أشكُّ في أن فلسفة جابر الكونية هي فلسفة عقلية تربط الأشياء بالروابط السببية
الضرورية، التي يكشف عنها التحليل العقلي؛ فالسببية عنده هي سببية الكمون أو هي سببية
المحايثة — كما تُسمَّى أحيانًا — هي السببية التي لا تجعل تلاحُقَ السبب والمسبَّب أمرًا
عارضًا قد يكون وقد لا يكون، بل تجعله أمرًا ضروريًّا محتومًا؛ ما دام المسبَّب كان
موجودًا في سببه بالقوة قبل ظهوره بالفعل، فكأنما السبب يَلِد مسببَه ولادة طبيعية. يقول
جابر: «إن في الأشياء كلها وجودًا للأشياء كلها، ولكن على وجوه من الإخراج.»
٥٠ وأظن أن دلالة هذه الجملة واضحة في أن الكونَ كلَّه مترابطٌ في وحدة واحدة؛
فإذا رأيناه يتخذ ظواهر متعددة، فهذه الظواهر يرتدُّ بعضها إلى بعض ويخرج بعضها من بعض؛
والكل في النهاية يرجع إلى أصل واحد كان يحمل كل شيء في جوفه بالقوة ثم ظهر منه كلُّ
شيء
بالفعل. والعقل — دون مشاهدة الحواس — هو بالطبع ما يُدرك هذه الرابطة بين الأشياء
المختلفة في ظاهرها، المتحدة في أصلها ومصدرها؛ على أن الأشياء يخرج بعضها من بعض على
صورة طبيعية أحيانًا، وعلى صورة مصطنعة مدبَّرة من الإنسان أحيانًا أخرى، وهذه الحالة
الثانية هي مجال العلم؛ أي أن التجارب العلمية في إخراج الأشياء بعضها من بعض إنما
تُحاكي الطبيعة فيما تؤديه من هذا الإخراج؛ فيقول جابر في ذلك: «التدبير على القصد
المستقيم (= التجربة العلمية السليمة) هو الذي يُخرج ما في قُوى الأشياء، مما هو لها
بالقوة، إلى الفعل، فيما يخرج هو بطبعه، وفيما لا يخرج حتى يُخرج.»
٥١
الاستنباط العقلي إذن ضروري لكي نستعين به على إدراك الروابط الضرورية بين الأشياء؛
لكن الاستقراء أيضًا ضروري لكي نستعين بمنهجه على إجراء التجارب التي نحاكي بها الطبيعة
في
إخراج شيء من شيء؛ فكيف نجمع بين المنهجَين؟
إن لجابر عبارة وردت في كتابه: «الأحجار على رأي بليناس»
٥٢ أراها — مع شيء من الاجتهاد في التأويل — تَصِف لنا كيف يكون الجمع بين
المنهجَين في الطريقة العلمية، وهذه العبارة هي: «ينبغي أن تُفرِد ما أخرجه لك الهجاء،
عما
أخرجه لك الحدس، لتطلب مثل ما أخرجه الحدس بالإضافة إلى الصورة، ليصيرَ لك الشكلان شكلًا
واحدًا.» فما معنى ذلك؟
إن أحد المبادئ المنهجية عند ابن حيان مبدأ سنفيض القول فيه فيما بعد،
٥٣ وهو أن اسمَ الشيءِ دالٌّ بحروفه على طبيعة ذلك الشيء، وإذن فمن أحرف الهجاء
التي منها تتركب أسماء الأشياء، تستطيع أن تستدلَّ على طبائع الأشياء التي على أساسها
تَجري تجاربك العلمية في إخراج الأشياء بعضها من بعض، وهذا هو جانب واحد من البحث، وأما
الجانب الثاني فهو أن تستلهم الحدس العقلي ماذا عسى أن تكون طبيعة شيء معين تريد معرفة
تركيبه؛ فبالحدس العقلي وما ينبني عليه من استنباطات عقلية صرف، يمكنك أن تعرف — مثلًا
— طبيعة النحاس أو الذهب، دون أن تلجأ إلى ملاحظة خارجية لخصائص هذَين المعدنَين؛ وبهذا
تتكامل عندك نتيجتان عما تريد العلم به: إحداهما جاءت عن طريق البحث في اسم هذا الشيء
الذي تريد أن تُحيط به علمًا، وما تدل عليه الأحرف المكنونة لهذا الاسم، والأخرى جاءت
عن
طريق التفكير العقلي الباطني الخالص. فإذا تطابقت النتيجتان كان بها، وإلا فإذا اختلفتَا
فعليك أن تُكمل النتيجة التي جاءت عن طريق البحث الظاهري بما قد دلَّت عليه النتيجة التي
جاءت عن طريق التفكير الباطني؛ أي أن الأولوية لحكم العقل، فهو معيارنا الأخير في
استقامة الأحكام التي تجيء عن طريق البحث في الظواهر بالملاحظة الخارجية.
فمهما يكن من قيمة البحث في الظواهر، فلا مناص لنا من الرجوع آخر الأمر إلى ما يحكم
به العيان العقلي لنهتديَ به سواء السبيل؛ وهذا العيان العقلي لا يكون لك ولي من أفراد
الناس، بل يكون بادئَ ذي بَدْء وحيًا يُوحَى به إلى نبيٍّ ثم يُتوارَث؛ وبغير هذا السند
نظل
تتخبط أين يكون الحق وأين يكون الباطل، فالشكوك — في رأي جابر — لا تنجاب «إلا بالعيان
وبإقامة البرهان … وإقامة البرهان لا تكون إلا بالعيان … والعيان من أفعال الأنبياء.»
٥٤ وهذه هو بعينه ما يقوله حين يقول أيضًا: «فو الله ما لي في هذه الكتب إلا
تأليفها، والباقي علمُ النبيِّ.»
٥٥
(٨) من أخلاق العلماء
لقد نثر ابن حيان في غضون مؤلفاته مبادئَ يراها لازمةً لكل مَن يتصدَّى للبحث العلمي،
فهي — إذا شئت — المنهج الخلقي للعلماء؛ ومن هذه المبادئ إنصاف الخصوم، والإنصاف يقتضي
كذلك أن يُنصف الباحث نفسه إزاء خصومه، فليس من الإنصاف الكامل أن تُوَفِّيَ خصومك حقوقهم
ثم
تُفرِّط في حق نفسك عندهم؛ لأن المسألة بينك وبينهم مسألةُ حقٍّ يُراد بلوغه؛ فإذا كنت
بصدد
خصم علمي في فكرة بعينها، فواجبك أن تعرضَ حججَه كلَّها، حجة حجة، لا تترك منها شيئًا
وأنت
عامد، ولا تضيف إليها من عندك شيئًا وأنت عامد؛ ثم تذكر عن كل حجة ما لها وما عليها من
وجهة نظرك. يقول ابن حيان: «إن العالِم إذا كان منصفًا فإنه ليس يُنزل في الأقسام شيئًا
إلا ذكره، واحتج عليه وله، وأخذ حقَّه من خصومه، ووفَّاهم حقوقهم، وإلا فقد وقعَ العناد
حماقة وجهلًا.»
٥٦
ومن المبادئ الخلقية للعالِم أن يكون مثابرًا دءوبًا غير يائس من الكشف عن الحقيقة
المنشودة؛ فما أكثر ما يقتضي البحث عناءً شديدًا قد لا يحتمله الباحث، فينفضَّ عنه في
قنوط؛ لكن الذي يريد الإحاطة بعلم ما من جميع فروعه إحاطةً تُتيح له أن يتكلم في أصوله،
وجبت عليه — كما يقول جابر — المثابرة التي لا تعرف إلى اليأس سبيلًا. ويستشهد جابر من
هذا السياق بالآية الكريمة:
وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ
إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ
وهو يوجِّه الخطاب إلى مولاه فيقول: «وقد سمعت ما جاء به النبي
ﷺ في القنوط، وأُحذِّرك
أن تصير إلى هذه الحال فتندم حين لا ينفعك الندم، والله أعلم بأمرك … وحق سيدي عليه
السلام إن لم تقبل لتكوننَّ مثل رعاع العامة السفلة الأجناد، لعنهم الله أكثر مما قد
لعنهم.»
٥٧
ويؤكد جابر لقارئه أنه لا نجاح في عمل علمي إلا إذا كان مسبوقًا بعلم؛ فالتحصيل
النظري أولًا ثم التجربة والتطبيق ثانيًا. نعم إن هذا التحصيل الكامل قد يقتضي تعبًا
وجهدًا، لكنه لا مناص من ذلك إذا أُريد الوصول. يقول: «اتعب أولًا تعبًا واحدًا، واجمع،
وانظر، واعلم، ثم اعمل؛ فإنك لا تَصِل أولًا، ثم تَصِل إلى ما تريد.»
٥٨
ومبدأ آخر يُوصي به ابن حيان، وهو — فيما أرى — أدخلُ في المبادئ التربوية منه في
مبادئ المنهج العلمي في إجراء البحوث، لكنه على كل حال طابعٌ يميز جابر ويصوِّر لنا شخصيته
تصويرًا واضحًا؛ ألا وهو التكتُّم والتخفِّي، فواجب العلماء — في رأيه — أن يتكتموا علمهم،
فلا يكشفوه إلا في الظروف الملائمة وإلا للأشخاص الذين يستحقونه ويطيقونه ويستطيعون
حَمْلَه بما يتفق وكرامته؛ لأنك إذا صببتَ في إنسان علمًا أكثر مما يُطيق، كنت كمَن يضع
في
إناء أكثر مما يسع فيذهب الأمر هباءً، لا بل إنك لتزهق ذلك الإنسان وتحرقه بما تُحمِّله
إياه من علم يعجز عن حَمْله: «ولولا أنني أُمِرت أن أعطيَ الناس بقدر استحقاقهم لكشفتُ
من نور
الحكمة ما يكون معه الشفاء الأقصى؛ ولكنى أُمِرت بذلك لما فيه من الحكمة؛ لأن العلم —
يا
أخي — لا يحمله الإنسان إلا على قدر طاقته وإلا أحرقه، كما لا يقدر الإناء والحيوان أن
يحمل إلا بقدر طاقته وملْئه، وإلا فاض، ورجع بالذل والعجز.»
٥٩
روى الجلدكي في شرح المكتسب عن جابر بن حيان روايةً
٦٠ تبيِّن وجهةَ نظر ابن حيان في وجوب تكتُّم العالِم حتى يصادف الظروف المواتية؛
وذلك أن تلميذًا أراد التعلُّم والأخذ عنه، فماطلَه جابر وراوغَه. فلما أصرَّ التلميذ
ولم
يتحول عن طلبته، قال جابر: «إنما أردتُ أن أختبرك وأعلم حقيقة مكان الإدراك منك، ولتكن
من أهل هذا العلم على حذرٍ ممن يأخذه عنك. واعلم أن من المفترض علينا كتمان هذا العلم،
وتحريم إذاعته لغير المستحق من بني نوعنا، وألَّا نكتمَه عن أهله؛ لأن وضعَ الأشياء في
محالِّها من الأمور الواجبة، ولأن في إذاعته خرابَ العالم، وفي كتمانه عن أهله تضييعًا
لهم.»
ونختم حديثنا عن منهج «ابن حيان» بموجز لهذا المنهج يضغطه في عشر نقط،
٦١ هي:
- (١)
على صاحب التجربة العلمية أن يعرف علَّةَ قيامه بالتجربة التي
يُجريها.
- (٢)
على صاحب التجربة العلمية أن يفهم الإرشادات فهمًا جيدًا.
- (٣)
ينبغي اجتناب ما هو مستحيل وما هو عقيم.
- (٤)
تجب العناية باختيار الزمن الملائم والفصل المناسب من فصول العام (في هذه
الفقرة إشارة إلى اعتراف جابر بتأثير النجوم ومواضعها في البحوث العلمية
كما سَيِردُ ذكرُ ذلك مفصلًا في هذا الكتاب).
- (٥)
يحسن أن يكون المعمل في مكان معزول.
- (٦)
يجب أن يتخذ الكيموي أصدقاءَه ممن يثق فيهم.
- (٧)
ولا بد أن يكون لديه الفراغ الذي يُمكِّنه من إجراء تجاربه.
- (٨)
وأن يكون صبورًا كتومًا.
- (٩)
وأن يكون دءوبًا.
- (١٠)
وألَّا تخدعَه الظواهرُ فيتسرع في الوصول بتجاربه إلى نتائجها.