تصنيف العلوم
إنه لممَّا يتصل اتصالًا وثيقًا بالمنهج عند العالِم الفيلسوف أو عند الفيلسوف العالِم، أن يصنِّف العلوم تصنيفًا بين حدودها والعلاقة القائمة بينها، وإن الأمر هنا ليحتاج إلى نظرة واسعة شاملة تنظر إلى المعرفة الإنسانية جملة واحدة؛ فلئن كان المختص في علم واحد ملمًّا بأطراف علمه وحدوده، فهو لا يشمل بنظرته ما وراء هذا العلم المعين من علوم أخرى، لا بد أن تكون على صلة به بعيدة أو قريبة، ما دام العالَم عالَمًا واحدًا؛ ولعل هذا الفرق بين النظرة المحدودة بحدود علم واحد، والنظرة الشاملة للعلوم جميعًا في علاقاتها بعضها ببعض، أقول لعل هذا الفرق بين النظرتَين هو أبرز ما يميز نظرة العلم الصرف من نظرة الفلسفة؛ فالفلسفة دائمًا تعني بالتفكير العلمي في عصرها، أعني أنها لا تختلف عن العلم أصلًا وجوهرًا، وأما موضع الاختلاف بينهما فهو درجة التخصيص أو التعميم. فالعلم الواحد يختص بموضوع واحد، والفلسفة تُحلل لتَصِل إلى القاعدة العميقة التي تشترك فيها العلومُ كلُّها، وعنها تتفرع. وبديهي أن تكون هذه القاعدة المنشودة غاية في التعميم، ما دامت تغضُّ النظر عن الاختلافات النوعية جميعًا، وهي الاختلافات التي تفرِّق بين علم وعلم.
فلا تكاد تجد في تاريخ الفلسفة فليسوفًا لم يتناول علوم عصره بالتصنيف، ولئن اختلف الفلاسفة في تصنيفهم للعلوم، فذلك راجع — فضلًا عن اختلافاتهم في وجهة النظر — راجع إلى اختلاف العلوم نفسها عصرًا بعد عصر، فلا وجه للغرابة — إذن — أن نجد تصنيف جابر لعلوم عصره مشتملًا على جوانب لا نُقرُّها نحن اليوم بين العلوم المعترف بها في عصرنا.
رادف «ابن حيان» بين ثلاث كلمات فجعلها بمعنًى واحد، وهي: «العلم» و«العقل» و«النور»؛ ولو فهمنا كلمة «النور» بمعنى الإشراق العقلي الذي يُتيح للإنسان أن يُدرك حقيقة ما بعيانه العقلي المباشر، أي أنه يُدركها بحَدْسه الصادق ولقانته — وقد استعمل «ديكارت» كلمة «النور» في مسألة الإدراك بهذا المعنى، فهو استعمال مجازي قريب إلى الأذهان — أقول إننا لو فهمنا كلمة «النور» بمعنى «الحَدْس» الصادق المهتدي بطريق مباشر إلى الحقيقة المدرَكة، لكانت الكلمات الثلاثة المترادفة عنده هي: «الحدس» و«العقل» و«العلم»؛ ولهذه المرادفة مغزًى بعيد؛ إذ تدل على أن العلم عند ابن حيان عملية عرفانية صرف، تكشف عن حقائق موجودة قائمة، ولا تخلق ما ليس موجودًا ولا قائمًا؛ أو إن شئت فقُل إن العلم عنده عملية فيها إدراك ولكن ليس فيها إرادة ونزوع إلى فعل؛ أي أن العلم ليس من شأنه أن يغيِّر شيئًا، فالعالَم هناك بعناصره وكيفياته منذ الأزل؛ فكما تُنير مصباحًا في غرفة مظلمة فتكشف بضوء المصباح عن أثاث الغرفة دون أن تُضيفَ إليه شيئًا أو أن تغيِّر من أوضاعه شيئًا، فكذلك علم العالِم إزاء الكون وموجوداته؛ فهو «نور» يكشف لصاحبه عما هنالك وكفى؛ وهذا يقتضي أن يتساوى موقفان: موقف تكون الحقائق التي تنكشف لنا مما يمكن أن يتحول إلى فعل، وموقف آخر لا تكون الحقائق المكتشفة فيه مما ينفع في تغيير الأشياء.
والحق أن قد لبثتُ الفلسفة طوال العصر القديم والعصر الوسيط تنظر إلى الحقيقة من جانبها العرفاني الإدراكي الصرف، فيكفي الإنسان أن «يعرف» ما هنالك، بغضِّ النظر عن طبيعة هذه المعرفة من حيث علاقتها بجانب الإرادة الفاعلة النشيطة؛ حتى جاء عصر النهضة الأوروبية ونادَى «فرانسس بيكن» بدعوته القوية نحو أن يكون «العلم قوة» — وهذه عبارة بيكن — قاصدًا بذلك أن يقصر كلمة «العلم» بمعناها الصحيح على ما يزوِّد الإنسان بالقدرة على الفعل، وإذا لم يكن للمعرفة التي نحصِّلها أو نكشف عنها هذه القابلية، فليست هي عنده من العلم في شيء — وغنيٌّ عن البيان أن المدرسة البراجماتية المعاصرة تُعدُّ تلبيةً لدعوة بيكن هذه.
(١) تعريفات العلوم
(١-١) علم الدين
-
(أ)
التعريف من طريق التعليم:
هو صور يتحلَّى بها العقل ليستعملها فيما يرجو الانتفاع به بعد الموت. وليس يعترض على هذا طلبُ رئاسة الدنيا، ولا إعظام الناس له من أجلها، ولا الحيلة عليهم بإظهارها؛ لأن كل ذلك ليس هو لها بالذات، لكن بطريق العَرَض.
-
(ب)
تعريف علم الدين في ذاته:
هو الأفعال المأمور بإتيانها للصلاح فيما بعد الموت.
(١-٢) علم الدنيا
-
(أ)
هو الصور التي يقتنيها العقل والنفس لاجتلاب المنافع ودفع المضار قبل الموت؛ وإنما قلنا في هذا الحد: «يقتنيها العقل والنفس»؛ لأن من المنافع والمضار أشياءَ متعلقةً بالشهوة، وهي من خواص النفس؛ فعلم هذه مقصور على النفس؛ إذ كان العقل عدوًّا للشهوة، ومنها أشياء متعلقة بالرأي، فعلمها مقصور على العقل؛ فلذلك احتجنا في الحدِّ إليهما.
-
(ب)
هو جميع ما في عالم الكون من الحوادث، الضارة والنافعة، بأي وجه كان ذلك فيها.٤
(١-٣) العلم الشرعي
- (أ)
هو العلم المقصود به أفضل السياسات النافعة دينًا ودنيا، لما كان من منافع الدنيا نافعًا بعد الموت؛ وإنما خصصنا هذا النوع من منافع الدنيا؛ لأن ما لم يكن من منافعها هذه حاله، ولا تعلُّق له بالدين، فلا يدخل في هذا التعريف.
- (ب)
هو السنن المقصود بها سياسة العامة على وجه يصلحون فيه صلاحًا نافعًا في عاجل أمرهم وآجله.
(١-٤) العلم العقلي
- (أ)
هو علم ما غاب عن الحواس، وتحلَّى به العقل الجزئي من أحوال العلة الأولى وأحوال نفسه، وأحوال العقل الكلي والنفس الكلية والجزئية، فيما يُتعَجَّل به الفضيلة في عالم السكون، ويُتوصَّل به إلى عالم البقاء.
- (ب)
هو الجوهر البسيط القابل لصور الأشياء ذوات الصور والمعاني على حقائقها؛ كقبول المِرآة لما قابلها من الصور والأشكال ذوات الألوان والأصباغ.
(١-٥) علم الحروف
- (أ)
… … … …
- (ب)
هو الأشكال الدالَّة بالمواضعة على الأصوات المقطَّعة تقطيعًا يدل بنظمهِ على المعاني بالمواطأة عليها.
(١-٦) علم المعاني
- (أ)
هو العلم المحيط بمباحث الحروف الأربعة، أي الكلمات الأربعة، وهي: هل، ما، كيف، لِمَ (الهليَّة، والمائية، والكيفية، واللمِّيَّة) — أعني هو العلم الذي يحيط بالأشياء من حيث أصلها وصفاتها والهدف المقصود من وجودها.
- (ب)
هو الصور المقصود بالحروف إلى الدلالة عليها.
(١-٧) علم معاني الحروف الطبيعي٥
-
(أ)
هو العلم بالطبائع الخاصة التي تدل عليها حروف الكلمات؛ إذ إن كل كلمة دالة على طبيعة مسماها بالأحرف التي رُكِّبت منها.
-
(ب)
هو الإحاطة بالوسائل التي نستحدث بها كائنات ذوات طبائع معينة.
(١-٨) علم معاني الحروف الروحاني
-
(أ)
هو العلم بالأشكال المؤتلفة من النور والظلمة.
-
(ب)
الروح هو الشيء اللطيف الجاري مجرى الصورة الفاعلة.
(١-٩) العلم النوراني
- (أ)
هو العلم بحقيقة النور الفائض على الكل.
- (ب)
النور هو الجوهر الذي يُكسِب جميعَ الأشياء بياضًا مشرقًا بالممازجة، بحسب قبول تلك الأشياء، على اختلافها في القبول.
(١-١٠) العلم الظلماني
- (أ)
هو العلم بما هو ضد للنور، وكيفية تضاده، وعلة ذلك التضاد؛ ولا نقول هو العلم بطبيعة ذلك الضد؛ لأن العلم بأحد الضدَّين هو في الوقت نفسه علم بالآخر في الجملة.
- (ب) الظلمة هي عدم النور من الأشياء العادمة له أو العادمة لأثره، وهي الأشياء التي يقال لها ظلمانية، وأما الأشياء القابلة للنور فيقال لها نورانية.٦
(١-١١) علم الحرارة
- (أ)
هو العلم بالحرارة في جوهرها وفي أثرها وفي سبب حدوثها.
- (ب) الحرارة هي غليان الهيولَى، وهي حركتها في الجهات كلها.٧
(١-١٢) علم البرودة
- (أ)
هو العلم بها من حيث جوهرها وأثرها وسبب وجودها.
- (ب) البرودة هي حركة الهيولَى من محيطها إلى مركزها.٨
(١-١٣) علم الرطوبة
- (أ)
هو العلم بجوهرها وخاصتها وسبب حدوثها؛ ولم نَقُل هنا هو العلم بأثرها؛ لأن الرطوبة منفعلة لا فاعلة.
- (ب)
الرطوبة هي مادة الحرارة في حركتها، وغذاؤها المحيي لها.
(١-١٤) علم اليبوسة
-
(أ)
هي العلم بجوهرها وخاصتها وسبب حدوثها؛ ولم نَقُل هنا أيضًا إنه العلم بأثرها؛ لأن اليبوسة — كالرطوبة — منفعلة لا فاعلة.
-
(ب)
اليبوسة هي المفرِّقة بين الأشياء المجتمعة تفريقًا طبيعيًّا؛ وإنما قلنا تفريقًا طبيعيًّا لئلا يلتبس عليك بتفريق الصناعة؛ لأنَّا قد نقطع الشيء بالسكين فنُفرِّق بين أجزائه، وليس السكين يبوسة؛ ففي مثل هذه الحالة يكون التفريق منسوبًا إلى الصناعة لا إلى الطبيعة.
(١-١٥) العلم الفلسفي
- (أ)
هو العلم بحقائق الموجودات المعلومة.
- (ب)
الفلسفة هي العلم بأمور الطبيعة وعِلَلها القريبة والبعيدة.
(١-١٦) العلم الإلهي
- (أ)
هو العلم بالعلة الأولى وما كان عنها بغير واسطة، أو بوسيط واحد فقط.
- (ب) هو علم ما بعد الطبيعة من النفس الناطقة والعقل والعلة الأولى وخواصها.٩
(١-١٧) علم الشرع
- (أ)
هو العلم بالسنن النافعة — إذا استُعملَت على حقائقها فيما بعد الموت وقبله — من الأشياء النافعة فيما بعد الموت.
- (ب)
… … … …
(١-١٨) علم الظاهر
- (أ)
هو العلم بالسنن كما يُدركها عامة الناس في الطبيعة والعقول والنفوس.
- (ب)
هو علم أولئك الذين يؤلفون عامة الناس.
(١-١٩) علم الباطن
- (أ)
هو العلم بعِلَل السنن وأغراضها التي تليق بالعقول الإلهية.
- (ب)
هو الغرض المستور المراد بالظاهر.
إلى هنا انتهينا من فروع علم الدين، وننتقل إلى علم الدنيا وفروعه — راجع فقرة ٢.
(١-٢٠) علم الدنيا
-
(أ)
هو العلم بالنافع والضار، وما جلب المنافع منها أو أعان فيه، ودفَع المضار منها أو أعان على ما تدفع به.١٠
-
(ب)
… … … …
(١-٢١) علم الدنيا الشريف
- (أ)
هو العلم بما أغنى الإنسانَ عن جميع الناس في قوام حياته الجيدة.
وهو العلم بالإكسير.
- (ب)
الشريف هو المستغني عن غيره فيما تحتاج إليه الأشياء بعضها إلى بعض.
(١-٢٢) علم الدنيا الوضيع
- (أ)
هو العلم بما يوصل إلى اللذات والمنافع وحفظ الحياة قبل الموت؛ فهو العلم بما يحتاج إليه الناس في منافع دنياهم.
- (ب)
الوضيع هو المحتاج إلى غيره حاجةً تقتضي تفضيله عليه.
والصنائع هي الآلات الموصلة إلى استغناء الإنسان بنفسه عمن سواه في المكاسب من جهة غير معتادة.
وعلم الدنيا الشريف محتاجٌ في تحقيقه إلى علم الدنيا الوضيع؛ لأن هذا الأخير هو الوسائل الموصلة إلى أهدافه ذاك.
(١-٢٣) علم الإكسير
- (أ)
هو العلم بالشيء الذي تُجرَى عليه التجارب، وهو الذي يصبغ جوهرًا ما من الجواهر الذائبة الخسيسة، ويحوِّله إلى جوهر ذائب شريف.
- (ب)
… … … …
(١-٢٤) علم العقاقير
- (أ)
هو العلم بالأحجار والمعادن المحتاج إليها في بلوغ الإكسير والوصول إليه.
- (ب)
العقاقير هي الأجسام التي تُجرَى عليها التجارب.
(١-٢٥) علم التدابير
- (أ)
هو العلم بالأفعال المغيِّرة لأعراض ما حلَّت فيه إلى أعراض أُخَر أشرف منها وأسوق إلى تمام الإكسير.
- (ب)
التدابير هي الأفعال المقصود بها بلوغ المراد لنفسه من الصنعة.
(١-٢٦) علم الحجر
- (أ)
هو العلم بالشيء الذي يُراد تبديل أغراضه ليصير إكسيرًا.
- (ب)
الحجر هو الجوهر المطلوب منه الغنَى عن الغير من وجه شريف غير معتاد.
(١-٢٧) علم العقاقير الداخلة في تدبير هذا الحجر
- (أ)
هو العلم بالجواهر المعدنية ذوات الخواص التي تغيِّر أعراض هذا الحجر المراد تغيُّرها.
- (ب)
… … … …
(١-٢٨) العلم الجواني
- (أ)
هو العلم بالشيء الذي تُجرى التجارب عليه من داخل، ليتحول من حالة إلى حالة.
- (ب)
الجواني هو ما تقع عليه التجربة من جوانب الشيء مجتمعة بقصد الوصول إلى غاية ما يمكن الوصول إليه.
(١-٢٩) العلم البراني
- (أ)
هو العلم بالتجارب التي تُجرى على الشيء في ظاهره.
- (ب)
البراني هو الشيء إذا نُظرَ إلى جوانبه مفردًا بعضها عن بعض في أول الأمر، وهو لا يُوصلنا إلى آخر ما يمكن للصنعة أن تصل إليه. وفي هذه الحالة نكون على علم بما سيئول إليه أمره قبل أن يصير إليه.
(١-٣٠) علم الأحمر الجواني
- (أ)
هو العلم بما يصبغ الفضة ذهبًا على صورة كاملة.
- (ب)
الصبغ الأحمر هو ما كان غائصًا منه في الأجسام الذائبة، وهو إما أحمر وإما أصفر وإما مسكيًّا بين الصفرة والحمرة.
(١-٣١) علم الأبيض الجواني
- (أ)
هو العلم بما يصبغ النحاس فضة على صورة كاملة.
- (ب)
الصبغ الأبيض هو الغائص في الأجساد الذائبة وهو إما أبيض خالص، وإما أغبر، وإما أحمر كَمِد.
(١-٣٢) علم الأحمر البراني
-
(أ)
هو العلم بما يصبغ الفضة ذهبًا على صورة ناقصة.
-
(ب)
… … … …
(١-٣٣) علم الأبيض البراني
-
(أ)
هو العلم بما يصبغ النحاس فضة على صورة ناقصة.
-
(ب)
… … … …
(١-٣٤) علم الإكسير الأحمر
- (أ)
هو العلم بما يصبغ الفضة ذهبًا بحكم طبيعته.
- (ب)
الإكسير التام هو الصابغ للجوهر الذائب صبغًا ثابتًا وذلك بتحويله من نوع إلى نوع أشرف منه.
(١-٣٥) علم الإكسير الأبيض
- (أ)
هو العلم بما يصبغ النحاس أو الرصاص فضة بحكم طبيعته.
- (ب)
الإكسير الأبيض التام هو الصابغ للنحاس فضة بيضاء جامعة لخواص الفضة بأسرها.
(١-٣٦) علم العقاقير البسيطة
-
(أ)
هو العلم بما لم يدخله تدبير الصنعة.
-
(ب)
… … … …
(١-٣٧) علم العقاقير المركبة
-
(أ)
هو العلم بما دخله تدبير الصنعة.
-
(ب)
… … … …
(١-٣٨) علم البسيط الغبيط
-
(أ)
هو العلم بما كان على خِلْقته الأولى التي هو بها هو هو.
-
(ب)
البسيط الغبيط هو ما لا تدبير فيه من تدابير الصنعة.
(١-٣٩) علم الأركان
- (أ)
هو العلم بالعناصر التي إذا دُبِّرت تدبيرًا يجمعها ما تكوَّن الإكسير.
- (ب)
الشيء المركَّب هو ما دخله التدبير مع غيره.
تلك هي صنوف العلم — الديني والدنيوي — عند جابر بن حيان، وحدودها التي تميِّزها بعضها من بعض، ونستطيع أن نلخص الأمر تلخيصًا نضع به النقاط البارزة أمام أنظارنا، فنقول إنه — أولًا — يفرِّق بين ما هو علم ديني وما هو علم دنيوي على أساس زمن الانتفاع بالثمرة؛ فإن كان هذا الانتفاع بعد الموت كان علمًا دينيًّا، وإن كان قبل الموت كان علمًا دنيويًّا.
وثانيًا — هو يميِّز في علوم الدين بين علم يقوم على النص قيامًا مباشرًا، وعندئذٍ إما أن تأخذ النص بظاهره وإما أن تأخذه بتأويلاته الخفية الباطنة، وعلم يقوم على الأحكام العقلية التي يُقاس فيها موضوع الحكم على شيء سواه؛ وها هنا لا بد لنا من منطق يدقِّق النظر في الكلمات والجمل؛ لأن العقل مداره قضايا وأحكام، وهذه مؤلَّفة من كلمات، والكلمات مؤلَّفة من أحرف.
وثالثًا — يجعل جابر علم الصنعة (أي علم الكيمياء) قطب الرحَى في علوم الدنيا، وكأنما هو يقسِّمه قسمين: نظري وعملي؛ فالنظري منه هو الذي يقصر عليه اسم «علم الصنعة»، وأما العملي فهو الذي يسميه «علم الصنائع» ويقصد بها الوسائل التجريبية التي لا بد منها في علم الصنعة؛ ولب اللباب في علم الصنعة هذا (= علم الكيمياء) هو أن نَصِل إلى المادة الصابغة التي تُحيل الفضة ذهبًا أو تُحيل النحاس فضة وهكذا.
•••
(١) علم الطب. (٢) علم الصنعة. (٣) علم الخواص. (٤) علم الطلسمات. (٥) علم استخدام الكواكب العلوية. (٦) علم الطبيعة. (٧) علم الصور وهو علم تكوين الكائنات. ويفيض ابن حيان القول في كل علم من هذه العلوم السبعة المختلفة، ليبيِّن في كل علم منها أقسامه الفرعية ووسائله وأهدافه وما إلى ذلك.
ويقول كذلك إن الأعضاء الرئيسية في الإنسان أربعة: الدماغ والقلب والكبد والأنثيان (؟)، والأخلاط في بدن الإنسان أربعة أنواع: البلغم ويقابل الدماغ، والصفراء وتقابل الكبد، والدم ويقابل القلب، والسوداء وتقابل الأنثيَين (؟).
وهذه العلل بدورها تقابل العناصر الرئيسية الأربعة: الماء، والنار، والهواء، والأرض؛ فالماء للدماغ، والنار للقلب، والهواء للكبد، والأرض للأنثيَين (؟).
والعناصر الأربعة بدورها تقابل الكيفيات الأربع: الرطوبة للماء، والحرارة للنار، والبرودة للهواء، واليبوسة للأرض؛ على أن هذه الكيفيات الأربع هي في الحقيقة مركبات، كلٌّ منها مركَّب من عنصرين أساسيَّين على الوجه الآتي:
-
البرودة + الرطوبة = ماء.
-
الحرارة + اليبوسة = نار.
-
الحرارة + الرطوبة = هواء.
-
البرودة + اليبوسة = أرض.
وصحة الجسم هي في اعتدال هذه الأشياء كلها في مزاج متزن.
وهكذا يتناول جابر أجزاء الجسم التي ذكرها أول الأمر مجملة فيُحلِّلها إلى أقسام والأقسام إلى أقسام فرعية وهكذا.
وبمثل هذه الإفاضة يتحدث عن بقية العلوم السبعة: علم الصنعة، وعلم الخواص، وعلم الطلسمات، وعلم استخدام الكواكب العلوية، وعلم الطبيعة، وعلم الصور، مما سيرد ذكرُه في مواضعها المناسبة في هذا الكتاب.