سر اللغة وسحرها
(١) اللغة والعالم
سؤال طرحَه الفلاسفة على أنفسهم طرحًا صريحًا أو متضمَّنًا، وما يزالون يطرحونه إلى يومنا هذا، وهو هذا: إلى أيِّ حدٍّ نستطيع أن نستدلَّ طبيعة العالم الخارجي من طبيعة اللغة التي نتحدث بها عن ذلك العالَم؟ ها نحن أولاء قد أنشأنا لأنفسنا مجموعةً ضخمة من رموز — هي الكلمات — واتفقنا معًا على الطريقة التي نبني بها هذه الرموز فتكون جُمَلًا مفهومة ينطق بها المتكلم فيفهم عنه السامع؛ وواضح أن هذه المجموعة الرمزية الضخمة، وهي تختلف باختلاف الجماعات البشرية؛ إذ إن لكل جماعة منها لغتها الخاصة بها في عمليات التفاهم بين أبنائها، واضح أن هذه المجموعة الرمزية الضخمة — أعني اللغة — ليست هي نفسها الأشياء التي جاءت تلك الرموز لترمز إليها؛ فليست «كلمة» خبز هي الخبز نفسه الذي يُؤكَل، ولا «كلمة» الماء هي الماء الذي يروي الظمأ؛ فالرمز اللغوي شيء والمرموز إليه شيء آخر. وإذا ما تكاملت لدينا لغة للتفاهم، كان لدينا جانبان مختلفان هما: هذه اللغة من ناحية، ثم العالَم الخارجي الذي تتحدث عنه بهذه اللغة من ناحية أخرى. أقول إن هذه الثنائية بين رموز اللغة وبين أشياء العالم الخارجي المرموز إليها برموز اللغة، هي من الوضوح بحيث لم تكن تستدعي منَّا ذِكْرًا وتوضيحًا؛ ولكن ما ظنُّك وهذه الحقيقة الواضحة كثيرًا ما تحتاج إلى لَفْت الأنظار إليها، ثم هذه الأنظار لا تلتفت إلا بعد جهد شديد؟ فكأنما اللغة هواء شفاف لا يحجب الأشياء التي وراءه، فنحسب أن لا هواء بيننا وبين تلك الأشياء.
- (١) فريق يستدل خصائص العالم من خصائص اللغة؛ فإن كان تركيب الجملة — مثلًا — لا يكون إلا بتوافر جانبَين، هما: المسنَد إليه من جهة والمسنَد من جهة أخرى، فلا بد أن تكون أشياء العالم على هذا النحو من التأليف، فيكون لكل شيء جوهره من جهة والخصائص التي تطرأ على ذلك الجوهر من جهة أخرى، وكذلك إذا كان في اللغة كلمات مختلفة النوع، فلا بد أن تكون مسمياتها مختلفة أيضًا؛ فهنالك — مثلًا — أسماء جزئية وأسماء كلية، فلا بد أن يكون في العالم الخارجي ما يقابل هذه وتلك؛ ففيه كائنات جزئية، وفيه أيضًا كائنات كلية، وهذا هو بعينه ما دعَا «أفلاطون» إلى افتراض وجود عالم بأَسْره لهذه الكائنات الكلية — أسماه بعالم الأفكار أو بعالم المثل — إلى جانب عالمنا هذا المادي الذي كل ما فيه أفراد جزئية … هكذا تستطيع أن تمضيَ في مفردات اللغة وفي طرائق تركيبها، فتستدل من كل مفرد لغوي ومن كل تركيب ماذا ينبغي أن يكون مقابلًا له في عالم الأشياء؛ وفريق الفلاسفة الذين يرتكزون على طبيعة اللغة ليفهموا طبيعة العالم هم: أفلاطون، واسبينوزا وليبنتز، وهيجل، وبرادلي١ وسنرى أن عالِمَنا الفيلسوف جابر بن حيان هو من هذه الزمرة.
- (٢)
وفريقٌ ثانٍ من الفلاسفة يذهب إلى أن الإنسان محالٌ عليه أن يجاوز بعلمه حدود كلمات اللغة إلى حيث العالم الخارجي في ذاته، وإن شئت أن تفهم وجهة نظر هذا الفريق فحاوِلْ أن تنقل إلى مَن شئت أمرًا تريد أن تُحيطَه به علمًا، كأن تقول له — مثلًا — «إن الورقة بيضاء» تجد أنك تشرح له كلمة بأخرى، وهذه بثالثة فرابعة وهلمَّ جرًّا، أي أنك ستظل مع زميلك حبيسَ الكلمات التي تتفاهمان بها، ولا وسيلة أمامكما تخرجان بها من سجن الكلمات إلى حيث «البياض» الخارجي الذي يصف الورقة، فما بالك إذا أردت لزميلك أن يعرف — مثلًا — أنك خائف أو حزين أو نشوان أو عاشق ولهان؟ مجاوزة اللغة هنا إلى الحقيقة المرموز إليها باللغة أمرٌ محال. وخلاصة الرأي عند هذا الفريق الثاني من الفلاسفة هي أن أي أن معرفة وكل معرفة — حتى المعرفة العلمية — إنما هي معرفة كلمات لغوية لا أكثر ولا أقل، ومن هذا الفريق أولئك الذين يُسمَّون بالاسميِّين في تاريخ الفلسفة، مثل وليم أوكام في العصور الوسطى (١٢٩٠–١٣٤٩ تقريبًا) ومثل «باركلي» في العصور الحديثة (١٦٨٥–١٧٥٣) ومثل طائفة من جماعة الوضعيين المنطقيين في الفلسفة المعاصرة.
- (٣)
وفريق ثالث من الفلاسفة يذهب إلى أن الإنسان في وسْعه أن يدرك حقيقة ما غير كلمات اللغة التي يتكلمها، ويعتقد هذا الفريق أن مثل هذه الحقيقة يستحيل على اللغة أن تعبر عنها، ومع ذلك ترى مدركيها يكتبون عنها ويتكلمون على الرغم من اعترافهم بأن الكتابة والكلام لا يجديان في نقلها إلى القارئ أو إلى السامع، اللهم إلا على سبيل الإيحاء، وهؤلاء هم المتصوفة والفلاسفة الذين يأخذون بالإدراك الحدسي مثل برجسون.
ولسنا في هذا المقام بصدد تحليل هذه الآراء الثلاثة في اللغة، ودلالتها أو عدم دلالتها على حقيقة الواقع الخارجي الذي هو من طبيعة غير طبيعة اللغة، ولكن الذي يعنينا هنا هو أن نضع جابرًا في موضعه من مذاهب الفلسفة اللغوية، فهو من القائلين بأن طبيعة اللغة بأحرفها وكلماتها وجملها تشفُّ عن طبائع الأشياء؛ فدراسة الاسم هي في الوقت نفسه دراسة للمسمَّى، كما سنرى تفصيلًا فيما بعد.
(٢) محاورة أقراطيلوس
كان من أهم الأسس التي اعتمد عليها جابر بن حيان في فهمه للطبيعة، أساس اللغة وتحليلها؛ فعن طريق معرفتنا بالحروف والكلمات وما لها من طبائع وخصائص، نعرف طبائع الأشياء وخصائصها، ولم تكن هذه الفكرة وليدة جابر، بل إن لها لجذورًا قديمة تضرب في أعماق الماضي حتى تَصِل إلى عصور السحر والكهانة؛ حيث لم تكن الكلمات والحروف رموزًا اصطلح عليها اتفاقًا، بل كان لها مشاركة في طبيعة الأشياء التي يُرمز إليها بها، وعن طريق الاسم تستطيع أن تفعل بالمسمَّى ما شئت مستعينًا بوسائل معينة.
فلئن كنَّا اليوم قد فرغنا تمامًا من مشكلة اللغة: أهي مجرد رموز متفق عليها اصطلاحًا، أم هي ذات طبيعة تشارك بها طبيعة الأشياء، فلم يكن الأمر كذلك فيما مضى، بل كان للموضوع وجهتان من النظر، سجَّلهما أفلاطون في محاورة «أقراطيلوس» بصفة خاصة، كما تعرَّض لهما في محاورات أخرى، مثل ثيتاتوس وطيماوس، وعلى الرغم من أن جابر بن حيان قد نسَّق الموضوع تنسيقًا فريدًا خاصًّا به، من وجهة النظر التي أخذ بها في أمر اللغة ودلالتها على الأشياء، إلا أننا لا نشك في أن التراث الفلسفي اليوناني قد كان معروفًا يؤثر في الفكر الإسلامي بطريق مباشر حينًا وغير مباشر حينًا آخر.
وموضوع محاورة أقراطيلوس (أو أقراطلس) هو نشأة اللغة: هل الأسماء دالة على مسمياتها «بطبيعتها» وبحكم خصائص نابعة من الرمز اللغوي نفسه تجعله ملائمًا للشيء المرموز إليه به، أم أنها تكتسب قوتها الدلالية بحكم «الاتفاق» الذي يصطلح عليه الناس في عملية التفاهم؟ فإن كانت الأولى، كان لا مندوحة لنا عن اسم معين للشيء المعين، وإن كانت الثانية كان أمرُ الاختيار متروكًا لنا، وكان الأمر جزافًا.
يأخذ أقراطيلوس بوجهة النظر الأولى، ويأخذ هيرموجنيس — في المحاورة — بوجهة النظر الثانية، فيقول أقراطيلوس بأنه ما لم نُطلق على الشيء اسمه الصحيح الطبيعي الوحيد، فنحن بمثابة مَن لا يسميه إطلاقًا، حتى لو اتفق الناس جميعًا على اسم يختارونه له ويُطلقونه عليه، فيرد هيرموجنيس بأن أيَّ اسم يتفق أصحاب اللغة على إطلاقه على شيء ما كان اسمًا له، وليس في طبائع الأشياء ما يحتِّم اسمًا دون اسم سواه؛ ويُسأل سقراط عن رأيه في هذا النزاع، فيقول إنه ليس خبيرًا باللغة واستعمالها الصحيح، ولو أدلى في الأمر برأيٍ فسيكون رأيًا مستمدًّا من البداهة الفطرية.
والحق أن هذا الاختلاف في وجهة النظر إلى اللغة، إن هو إلا وجه من عدة وجوه لاختلاف أكبر وأوسع، يُقابَل فيه بين «الطبيعة» من ناحية و«الأوضاع الاجتماعية» من ناحية أخرى، وهو اختلاف شمل عصر «بركليس» في يونان القديمة شمولًا لم يكَد يترك مسألة إلا أدخلها في هذه المقابلة: أيستند الإنسان في حياته الأخلاقية والسياسية والفكرية إلى فطرة الطبع، فتحكمه قوانين الطبيعة كما تحكم كل شيء، أم يستند إلى تقاليد المجتمع وأوضاعه كائنة ما كانت؟
على أن الهدف الرئيسي للمحاورة ليس هو نشأة اللغة، بل هو المهمة التي تؤديها؛ فلو كانت اللغة تؤدي مهمَّتَها على الوجه الأكمل لوجب أن تلتزم قواعدَ وأصولًا، مع أننا لو أخذنا بوجهة النظر القائلة إن اسم الشيء هو ما يصطلح الاتفاق عليه جزافًا، لأدَّى بنا ذلك إلى موقف تُسلَب فيه اللغة من أصولها وقواعدها الثابتة، مما لا يتفق مع حقيقتها كما هي قائمة فعلًا.
لقد بدأ هيرموجنيس عَرْض رأيه — في المحاورة — في شيء من الإسراف، فبالغ في قوله إن اللغة جزافٌ واعتساف، قائلًا إنه لو أراد هو أن يُطلق اسمًا على شيء ما، أصبح هذا الاسم اسمًا للشيء عنده هو، حتى لو خالف به كلَّ المتحدثين باللغة؛ فلو أطلق اسم «حصان» على ما قد اتفق بقية الناس على تسميته «إنسانًا» لأصبحت كلمة «حصان» هي الاسم الصحيح في لغته هو الخاصة، كما أن اسم «إنسان» هو الاسم الصحيح للكائن نفسه عند سائر الناس.
وهنا تنشأ مسألة شائكة، وهي: الاسم جزء من جملة، والجملة من الجمل تكون إما صادقة وإما كاذبة؛ فهي صادقة إذا حكَت عن واقع حقيقي، وكاذبة إذا كانت على خلاف ذلك، لكننا إذا قلنا عن الجملة الواحدة أو عن الفكر المؤلَّف من عدة جمل إنه إما صادق وإما كاذب، فكذلك ينبغي أن تكون الحال بالنسبة إلى كل جزء من أجزاء الجملة؛ فكل جزء من أجزاء جملة صادقة لا بد أن يكون بدوره صادقًا، فكيف يكون الصدق أو الكذب بالنسبة إلى الكلمة الواحدة إلا إذا افترضنا بأن هنالك من الكلمات ما هو صحيح بطبيعته وما هو مغلوط بطبيعته؟ وإن سقراط لَيُدلي في هذا الموضع من المحاورة برأي سديد؛ إذ يقول: إن اللغة نشاط «اجتماعي» فهي في أساسها أداة للتفاهم بين عدة أفراد في مجتمع واحد؛ فلو أطلقتُ أنا وحدي اسمًا على شيء ما، ثم زعمت أنه الاسم الصحيح بالنسبة لي، على الرغم من اختلافه عمَّا قد تواضع الناس عليه في تسمية ذلك الشيء، لما أدَّت اللغةُ عندئذٍ مهمَّتَها الاجتماعية؛ وبهذا جاز لنا أن نقول عن اسم ما إنه باطل حين نقصد بالبطلان أنه يعوق عملية التفاهم.
على أن هذا الرأي يُبطل أن تكون الأسماء من وضْعِ فردٍ واحدٍ يضعها لاستعماله الخاص، لكنه لا يُبطل أن تكون الأسماء من وضعِ جماعة بعينها، وأنه لا فرق بين اتفاق واتفاق، فلا فرق بين لغة اليونان ولغة الهمج، ما دامت كلٌّ منهما اتفاقًا يسري بين أبنائها؛ وإن تعدُّدَ اللغات في شعوب الأرض لهو وحده دليلٌ كافٍ على أن اللغة إن لم تكن مقصورةً على اصطلاح الفرد الواحد بينه وبين نفسه، فهي اصطلاح تصطلح عليه كلُّ جماعة على حدة.
لكنه إذا كانت أسماء الأشياء مرهونة بأي اتفاق شاءت الجماعة أن تتواضع عليه، فليس الأمر كذلك بالنسبة لحقائق الأشياء ذاتها. نعم إن بروتاجوراس قد ذهب إلى أن حقيقة أي شيء هي أمر نسبي يختلف من شخص إلى شخص حسب طريقة إدراك الشخص المعين للشيء، لكننا نغضُّ النظر الآن عن مثل هذا الرأي، ونقرِّر أن حقائق الأشياء ثابتة، وليست هي بالأمر المرهون باتفاق الناس واصطلاحهم؛ لكن أليست ضروب الفاعلية الإنسانية هي من بين الأشياء؟ وإن كانت كذلك، ألَا يكون لها «طبيعة» خاصة بها و«حقيقة» ثابتة لها؟ إننا إذا أردنا أداء فعل معين يحقِّق هدفًا معينًا، لم يكن لنا الاختيار في طريقة أدائه ولا في الأداة التي نستخدمها في فعله؛ بل يتحتَّم علينا أن نراعيَ طبيعة الشيء الذي نصبُّ عليه الفعل، كما نراعي نوع الأداة المستخدمة؛ فشقُّ الخشب مثلًا له طريقة خاصة وأداة خاصة، وهكذا؛ لكن «الكلام» عن الأشياء، وإطلاق «أسماء» على الأشياء هو ضربٌ من الفاعلية ولا شك؛ وإذن فليس هو متروكًا لنزواتنا وأهوائنا، بل هو ملزم باصطناع طريق خاص وأداة خاصة، فإذا أسمينا شيئًا، تحتَّم علينا أن نراعيَ طبيعة ذلك الشيء وأن نراعيَ في الوقت نفسه طبيعة الأداة — أي الاسم الذي نُطلقه — حتى تتفق الطبيعتان معًا.
إن المادة الخامة التي نصوغ منها الكلمات هي الحروف والمقاطع، فلتكن هذه المادة الخامة ما تكون، ما دامت تُمكِّننا من صياغة الكلمة التي تصلح أداةً للشيء الذي تسميه؛ فالأمر هنا شبيهٌ بالنجار يصنع مغزلًا لغزَّال، فعليه وهو يَنجُر الخشب أن يضعَ نُصْبَ عينَيه طبيعةَ الغزل لكي تجيء الأداة صالحة لها، وله أن يتخذ أيَّ مادة يختار، ما دام هذا الهدف نُصْب عينَيه، وكذلك الأمر في اللغة؛ فواضعها له الحق في اختيار ما شاء من الحروف والمقاطع، ما دام يضع نُصْب عينَيه طبيعة الأشياء التي تُوضع اللغة لها؛ وهذا يفسِّر تعدُّدَ اللغات، مع اشتراكها جميعًا في كونها لغاتٍ طبيعيةً تتفق مع طبائع الأشياء، كما يفسر تفاوت اللغات في قوة الأداء، فأكملها هي أقربها إلى مسايرة الأشياء على طبائعها الحقيقية، وإذن فقد كان أقراطيلوس على صواب في وجهة نظره عن اللغة، وكان هيرموجنيس على خطأ.
(٣) الحروف وطبائع الأشياء
- الحرارة: أ ﻫ ط م ف ش ذ.
- البرودة: ب و ي ن ص ت ض.
- اليبوسة: ج ز ك س ق ث ظ.
- الرطوبة: د ح ل ع ر خ غ.٦
على أن هذا تقسيم كيفي للطبائع من جهة وللحروف التي تقابلها من جهة أخرى، ولكنه لا بد إلى جانبه من معرفة كمية للمقادير التي تتفاوت بها هذه الكيفيات في تركيبها للأشياء، وما يقابلها من دلالات كمية للحروف المختلفة، فما كل حرف ككل حرف آخر في قوته، ونترك التفصيل في هذه النقطة الآن لنعود إليها عند الحديث على نظريات ابن حيان في علم الكمياء.
ولا أحسبني أُسرِف في التأويل والتخريج إذا قلت إن هذا المنهج بعينه هو الطابع المميز لإحدى مدارس المنطق المعاصرة، وهي مدرسة برتراند رِسل المعروفة باسم «الذَّرِّية المنطقية»، وخلاصتها أن العالم الطبيعي من ناحية يقابله عالَم اللغة من ناحية أخرى، وأنه إذا كان علم الطبيعة الذرِّي قد فتَّت الأشياءَ وحلَّلها إلى ذرَّات، كل ذرَّة منها مكوَّنة من كهارب، فعِلْم المنطق الذرِّي هو الذي يقابله في عالَم اللغة، وإذن فالطريق الصواب هو أن يفتِّت اللغة ويحلِّلها إلى ذرَّات بسيطة، يستحيل تحليلها إلى ما هو أبسط منها على الرغم من أن كل ذرَّة منها قد تكون مؤلَّفة من أكثر من مقوم واحد، وهذه الذرات المنطقية هي ما يسمونه بالقضايا البسيطة أو القضايا الذرية. لكن حذار أن نفهم كلمة «الذرَّة» وكلمة «الذرِّي» هنا بالمعنى المادي، وإلا لفاتنا فهمُ الطبيعة والمنطق المعاصرَين، كما يفوتنا أيضًا فهمُ جابر على حدٍّ سواء؛ إنما الذرَّة والذرِّية هنا معناهما لا مادي؛ فالذرَّة في علم الطبيعة الحديث قوامها طاقة، وكذلك القضايا الذرية في منطق برتراند رِسل لا يُوصل إليها إلا بالتجريد، فهي لا تَرِد في الحديث والكتابة أبدًا؛ لأن كل ما يَرِد في الحديث والكتابة قضايا مركَّبة يمكن تحليلها بالعقل وحده إلى البسائط التي منها تتكوَّن، وكذلك الأمر في فلسفة جابر بن حيان؛ فهو ذريٌّ بالمعنى الحديث لكلمة الذرَّة وكلمة الذريَّة، لا بمعنى الذرَّة عند ديمقريطس مثلًا، وهو المعنى الذي يجعل من الذرَّة جسمًا ذا حيِّز وأبعاد؛ فيكفي أن تتذكَّر أن جابرًا يَحِلُّ الطبيعة إلى كيفيات أربع: الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة، وأن هذه الكيفيات أمور مجردة لا وجودَ للواحدة منها في الطبيعة وجودًا مفردًا. أقول إنه يكفي ذلك لتعلُّم أنه حين يردُّ الطبيعة إلى بسائطها فلا يرتد إلى بسائط مادية بالمعنى الضيق لهذه الكلمة، وكذلك حين يُحلل اللغة التي هي القسيم المقابل للطبيعة، فإنما يُحللها إلى أحرف، والحرف الواحد — كما أسلفنا — مستحيل على النطق وهو مفرد وحده، ولا وجود له من الناحية اللغوية إلا على سبيل التجريد العقلي.
(٤) ميزان الحروف
ويلاحِظ جابر أن اللغة كما هي قائمة لا تجعل الأسماء وفاق المعاني وبقدر عددها؛ إذ يزيد فيها مقدار المعاني على مقدار الأسماء زيادة كبيرة.
بل إنه كذلك ليتفق مع فلاسفة التحليل المعاصرين في حقيقة بالغة الأهمية، ألا وهي أن رجل الفكر العلمي والفلسفي لا يعنيه من اللغة إلا ما كان منها ذا قسيم مقابل في جانب الطبيعة الخارجية، أعني أن يكون مخبرًا بخبر ما عن شيء ما في العالَم الخارجي؛ وذلك لأن من اللغة تركيبات ينطق بها صاحبها لا ليُنبئ سامعه بنبأ عن أشياء الدنيا المشتركة بينهما، بل ليعبِّر له عن حالة وجدانية تضطرب بها نفسُه من داخل؛ كأن يتوجع أو يتمنَّى أو أن يأمر وينهَى. والحق أن رجال المنطق العقلي منذ نشأَ هذا المنطق لم يَفُتْهم أن يضعوا هذه الحدود التي تفرِّق بين ما هو فكر وما ليس هو بفكر، حين قالوا إن وحدة الفكر هي «القضية» والقضية هي ما يجوز أن يُقضى فيها بحكم عليها إما بأنها صادقة وإما بأنها كاذبة؛ وبطبيعة الحال لا يكون الصدق أو الكذب ذا معنى مفهوم إلا إذا وصف به نبأ يقرر به صاحبه تقريرًا ما عن شيء ما، أما إذا تمنَّى أو أمَر أو نَهى أو صرخ صرخةَ ألم أو ضحك ضحكة مسرور، فليس هذا مما يقال عنه إنه صدق أو كذب. وبعبارة مختصرة، لا يكون الكلام تفكيرًا علميًّا وفلسفيًّا إلا إذا كان أحكامًا على أمور الواقع، وأما ما كان منه تعبيرًا عن ذات النفس من داخل فهو أدب وفن وليس علمًا ولا فلسفة.
نعود فنقول إنه لو بلغت اللغة حدَّ كمالِها المنطقي، لجاءت كلماتُها مساوية لأشياء العالم الخارجي، ثم لجاءت أحرف الكلمات مقابلة لطبائع تلك الأشياء — ونحن نتكلم الآن بلسان ابن حيان — فلا زيادة فيها ولا نقصان؛ لكن الذي يحدث فعلًا في اللغة القائمة المتداولة هو أنها بعيدة عن هذا الكمال، فكلمات زادت حروفها عن الأصل المطلوب، وكلمات أخرى نقصت حروفها عن الأصل المطلوب، وإذن فالخطوة الأولى التي يتحتم علينا البدء بها، إذا أردنا أن نستشفَّ طبائع الأشياء الخارجية من أسمائها في اللغة، هي أن نُسقط الزوائد من الكلمة إن كان فيها زوائد، أو أن نُضيفَ النواقص إن كان فيها ما هو محذوف.
لكننا لكي نحذف أو نضيف، ينبغي أولًا أن نستوثق من أصول الكلمات ما هي، ومن الأحرف الزائدة ما هي؛ فأما الأحرف الزائدة فهي عشرة، وهي: الهمزة، واللام، والياء، والواو، والميم، والتاء، والنون، والسين، والألف، والهاء — وهي حروف يجمعها قولك: «اليوم تنساه».
«وأما الرباعي فإنه ينقسم على خمسة أنواع، وهي: إما فَعْلَل كقولك جعفر، وإما فِعْلِل كقولك زِبْرِج، وإما فُعْلُل كقولك صُبْرُج، وإما فِعْلَل كقولك دِرْهَم، وإما فِعَلْل كقولك قِمَطْر، فهذا في الرباعي.»
- (١)
مرتبة: أ ب ج د.
- (٢)
درجة: ﻫ و ز ح.
- (٣)
دقيقة: ط ي ك ل.
- (٤)
ثانية: م ن س ع.
- (٥)
ثالثة: ف ص ق ر.
- (٦)
رابعة: ش ت ث خ.
- (٧)
خامسة: ذ ض ظ غ.
-
فالحرارة يقابلها: أ ﻫ ط م ف ش ذ.
-
والبرودة يقابلها: ب و ي ن ص ت ض.
-
واليبوسة يقابلها: ج ز ك س ق ث ظ.
-
والرطوبة يقابها: د ح ل ع ر خ غ.
وستكون لنا عودة إلى هذه الكيفيات عندما نتحدث عن الطبيعة ومقوماتها في الفصلَين التاليَين.
(٥) اختلاف اللغات
إذا كانت الكلمة من كلمات اللغة دالة بذاتها على طبيعة مسماها، بحيث يكفي أن تحسب حساب حروفها لتعرف ممَّ يتركَّب ذلك المسمَّى، فإن سؤالًا ينشأ لنا على الفور، وهو ما يأتي: إن لغات الناس المختلفة شعوبهم مختلفة، فليس اللسان العربي هو اللسان الناطق وحده على هذه الأرض، بل إن هنالك إلى جانبه لسانًا للفُرس وآخر للروم وهلمَّ جرًّا، فأي الكلمات في هذه اللغات المتباينة يكون هو الدال على طبيعة المسمَّى؟
ويمضي جابر بعد ذلك يعرض على قارئه أسماءَ الأحجار الرئيسية بلغات مختلفة، فيقول: «إنَّا نجد الأحجار السبعة التي هي قانون الصنعة يعبَّر عنها باللغة العربية أنها الذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص والزيبق والأسرب؛ ووجدنا يعبَّر عنها باللسان الرومي ما يوجب نقضَ الأول أو نقض بعضه وائتلافه مع بعض في حروف وأشخاص لا في أنواع وأجناس؛ وذلك أني وجدتها يعبَّر عنها بأن يقال للذهب رصافي، وللفضة اسمي، وللنحاس هركما، وللحديد سيداريا، وللرصاص قسدروا، وللزيبق برسري، وللأسرب رو. وهذه بينها وبين العربي بَون ليس باليسير؛ إما لطول كلامها وكثرة حروفها، وإما لاختلاف مواقع الحروف بين نطق العرب بالسين والرومي بها، ولعِلَل أُخَر مما جانس ما ذكرناه؛ ووجدت هذه الأحجار باللسان الإسكندراني تخالف الاثنين — أعني العربي والرومي — أيضًا؛ وكان هذا أزيد في إيقاع الشك في نفوس المبتدئين والمتعلمين؛ وذلك أني وجدتهم يسمون الذهب قربا، والفضة كوما، والنحاس جوما، والحديد ملكا، والرصاص سلسا، والزيبق خبتا، والأسرب قدرا؛ ووجدت هذه أيضًا ربما وافقت الشيء من ذلك في الخاص لا في العام، ووجدت الفارسي أيضًا يخالف الثلاثة بأسرها؛ وذلك أني وجدتهم يدعون الذهب زر، والفضة سيم، والنحاس رو، والحديد آهن، والرصاص أرزيز كلهي، والزيبق جيبا، والأسرب أرزيز …» (هذه الكلمة الأخيرة غير واضحة في المخطوط).
«ولنَعُد الآن إلى غرضنا الذي كنَّا به وأقول: إني وجدت الحميري أيضًا أشدَّ خلفًا لسائر اللغات مما تقدم؛ وذلك أني وجدت الذهب في لغتهم — على ما علَّمني الشيخ — يُدعَى أوهسمو، والفضة هلحدوا، والنحاس بوسقدر، والحديد بلهوكت، والرصاص سملاخو، والزيبق حوارستق، والأسرب خسحد عزا، فيا ليت شِعْري كيف يصل العالم من كتب الفلاسفة في علم الموازين إلى إيضاح هذا الخلف؟ …»
لقد أوردت هذا النص الطويل لأبيِّن به كيف أن جابرًا لم يغفل عن مشكلة تعدُّد اللغات، ولأبيِّن في الوقت نفسه منهجَه العلمي في تقصِّي الأمور؛ فقد أراد أن يعلم إلى أيِّ حدٍّ تتشابه اللغات المختلفة وإلى أيِّ حدٍّ تتباين في تسميتها للشيء الواحد المعين كالذهب مثلًا، فاستعرض العربية والرومية والإسكندرانية والفارسية والحميرية؛ بل إنه بالنسبة إلى هذه الأخيرة لمَّا لم يجد أحدًا يعرفها راح يسعى حتى وجد الشيخ الذي قصَّ علينا قصته.
وقد انتهى البحث بجابر إلى أحد حلَّين: أولهما هو: «أن تمتحن الأدوية والعقاقير في العربي، ثم في الفارسي، ولسان لسان مما ذكرناه … فأيها صحَّ فالْزَمْه في سائر تدبيراتك». والحل الآخر هو أن يعمل في كلِّ عمل بلسانه.