فلسفة الكون
(١) مراحل الكون
ويستطرد ابن حيان في مخاطبة أصحاب مذهب الهيولى الواحد، فيقول عنهم إنهم قالوا: إنَّا نجد الماء يستحيل فيصير نارًا، فيكون الجوهر الحامل لكيفياته وحالاته هو نفسه الجوهر الحامل لكيفيات النار وحالاتها، فما جاز على الأول جاز على الثاني، والذي تغيَّر في الحالتَين هو الأعراض، فكذلك الهيولى القديم واحد، وهو حامل لكيفيات الماء وحالاته إن حدثَت فيه، وحاملٌ لكيفيات النار وحالاتها إن هي حدثت فيه. نقول إنهم إن قالوا ذلك قلنا: إن الماء ليس يستحيل دفعةً واحدة فيصير نارًا، بل هو يتدرج في ذلك، فيتحول أولًا إلى بخار، ثم يصير البخار هواء، ثم يتحول الهواء فيصير نارًا. فلو قال قائل: إن الماء يستحيل هواءً فيصير نارًا، لأهمل بذلك مرحلة البخار التي ينتقل خلالها من حالة الماء إلى حالة الهواء، فيصبح قوله غير معقول، وهكذا قولكم — يا أصحاب مذهب الهيولى — كان يكون معقولًا لو أنكم جعلتم الماء والنار يصدران عن هيولى بسيط أزلي على النحو المتدرج الذي أسلفناه، لكنكم لم تقولوا ذلك، بل قلتم: كان يجوز أن يكون الهيولى الذي استحوذت عليه طبيعة الماء وحالاته، تستحوذ عليه — بدلًا منها — طبيعة النار وحالاتها بغير استحالات متوسطة فيما بين الماء والنار، وهذا خلاف المعقول.
ويمضي ابن حيان في تفنيد دعوى أصحاب مذهب الهيولى، فيقول: إنهم إن زعموا أن الهيولى القديم — قبل أن يكتسيَ بالصور ويكتسب الطبائع — كان شيئًا له القوة على قبول حالات النار وكيفياتها بجانب من جوانب تلك القوة، وبجانب آخر يقبل حالات الماء وكيفياته، وبثالث يقبل حالات الهواء وكيفياته، وبرابع يقبل حالات الأرض وكيفياتها … إن زعموا ذلك عن الهيولى القديم كانوا بهذا الزعم قد أثبتوا للخليقة أربعة عناصر أزلية قديمة، وهي مختلفات القوى، وبطَل قولُهم: إن العنصر الأول واحد ليس بمختلف.
وتسألهم: هل يجوز انحلال الأشياء إلى الهيولى القديم كما تركَّبت منه؟ فإن قالوا: لا يجوز هذا، سألناهم: ولمَ لا يجوز؟ فإن قالوا: إن ذلك بطلان الأشياء ورجوعٌ بها إلى الأزليِّ البسيط الذي لا تركيب فيه، قلنا: وما ضرَّكم أن تقولوا إن الأشياء تعود إلى الأزلي البسيط الذي لا تركيب فيه ويبطل هذا العالم؟
ومما يدل على فساد قولهم بأن أول الخلق هيولى بسيط لا كيفَ فيه، أن الفلاسفة قد بيَّنوا لنا استحالةَ وجودِ جوهرٍ عطلٍ من الأفعال كلها — الطبيعية منها والصناعية — بحيث يكون ذلك الجوهر غيرَ ذي فعلٍ في نفسه أو في غيره؛ مع أن الهيولى التي زعم هؤلاء القوم أنه أزليٌّ بسيط، وأنه الجوهر الأول، هو في الحقيقة عطلٌ من الأفعال كلها — الطبيعية والصناعية — وهو أمر مستحيل على البرهان العقلي، كما أنه بالبداهة مستحيل أيضًا على الإثبات بطريق الإشارة.
فإذا كان هذا هكذا، انتهينا إلى الرأي الذي نأخذ به، وهو أن الأصل الأول هو الطبائع الأربع: الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة، فهذه لم تنفعل لشيء سبقها فيما عدا البارئ جل ثناؤه.
(٢) تقسيمات رباعية
من هذه الأصول الأربعة الأولى: الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة نشأَت أربعةُ عناصر؛ وذلك باجتماع تلك الأصول بعضها ببعض اثنين اثنين؛ فقد اجتمع الحار واليابس فنشأَت النار، واجتمع الحار والرطب فنشأ الهواء، واجتمع البارد واليابس فنشأَت الأرض، واجتمع البارد والرطب فنشأ الماء؛ على أن هذه العناصر الأربعة إنما يتفاوت ترتيبُها علوًّا وسفلًا على الوجه الآتي: فالنار أعلاها، ويتلوها الهواء، ثم الماء، وأخيرًا الأرض.
وفصول السنة أربعة تقابل تلك العناصر الأربعة؛ فالصيف يقابل النار، والربيع يقابل الهواء، والشتاء يقابل الماء، والخريف يقابل الأرض.
وفي بدن الإنسان أخلاطٌ أربعة تقابل العناصر الأربعة؛ فالصفراء تقابل النار وزمانها القيظ، والدم يقابل الهواء وزمانه الربيع، والبلغم يقابل الماء وزمانه الشتاء، والسوداء يقابلها الأرض وزمانها الخريف. وسيكون لتحديد الأزمان الملائمة لكلٍّ من هذه الأخلاط الأربعة شأنٌ في العلاج الطبي للأمراض التي تطرأ على هذا الجزء أو ذاك، كما سنرى عندما تتعرض لأهمية التحديد الزمني عند جابر، والتحديد الزمني للظاهرة إنما يتقرر بأوضاع النجوم في أفلاكها.
وللإنسان كذلك أعضاء رئيسية أربعة، هي: الدماغ والقلب والكبد والأنثيان (؟)، يقابل كلُّ عضو منها جانبًا خاصًّا من التقسيمات الرباعية السالفة الذكر؛ فالقلب في الأعضاء يقابل الصفراء في الأخلاط، ويقابل القَيظ في الفصول، ويقابل النار في العناصر، والنار بدورها مؤلَّفة من الحرارة واليبوسة وهما من البسائط الأولية، والدماغ في الأعضاء يقابل البلغم في الأخلاط، ويقابل الشتاء في الفصول، ويقابل الماء في العناصر، والماء بدَوره مؤلَّفٌ من البرودة والرطوبة وهما من البسائط الأولية، والكبد في الأعضاء يقابل الدم في الأخلاط، ويقابل الربيع في الفصول، ويقابل الهواء في العناصر، والهواء بدوره مؤلَّفٌ من الحرارة والرطوبة، وهما من البسائط الأولية، والأنثيان في الأعضاء يقابل السوداء في الأخلاط، ويقابل الخريف في الفصول، ويقابل الأرض في العناصر، والأرض بدورها مؤلَّفة من البرودة واليبوسة وهما من البسائط الأولية.
-
الحرارة فاعلة واليبوسة منفعلة = النار.
-
الحرارة فاعلة والرطوبة منفعلة = الهواء.
-
البرودة فاعلة واليبوسة منفعلة = الأرض.
-
البرودة فاعلة والرطوبة منفعلة = الماء.
فبينَ المركباتِ الأربعة، النار والهواء والأرض والماء تقابلٌ بعضُه ناقص وبعضه تام؛ فبين النار والأرض تقابلٌ ناقص؛ لأنهما مشتركتان في اليبوسة ومختلفتان في أن النار حارة والأرض باردة؛ وكذلك بين الماء والهواء تقابلٌ ناقص؛ لأنهما مشتركتان في الرطوبة ومختلفتان في أن الماء بارد والهواء حار؛ أما الأرض والهواء فبينهما تقابلٌ تامٌّ؛ لأنهما مختلفان في كل شيء، فالأرض باردة والهواء حار، والأرض يابسة والهواء رطب، وكذلك بين النار والماء تقابلٌ تامٌّ؛ فالنار حارة والماء بارد، والنار يابسة والماء رطب. ونوضح هذا بالرسم الآتي:
(٣) الفلك وجرم الفلك
وبعدئذٍ يجيء ما يملأ ذلك الإطار، وأول ذلك هو الأركان الأربعة التي أسلفنا لك القول فيها، وهي: النار والهواء والماء والأرض، ولا يفوت جابرًا هنا أن ينبِّهَ إلى أن «الفَلَك» — أي الإطار الأوَّلي — ليس بذي مادة في ذاته، فهو كالمفاهيم الهندسية: الدائرة والخط والنقطة، كلُّها تصورات عقلية؛ فالدائرة هي ما يُحيط بغضِّ النظر عن الجرم الذي تحيط به، والخط طول بلا عرض ولا جسم بغضِّ النظر عن طبيعة الشيء الذي يمتدُّ خطًّا، والنقطة شيء يتصوره العقل لا الحواس؛ لأنها هي ما ليس له أبعاد، وليس فيما تحسُّه الحواس شيءٌ بغير أبعاد، فكما نقول عن الدائرة أنها تُحيط بلا جسم، فكذلك نقول عن الفلك — الذي هو الأوليات الأربعة — إنه هو الذي يحيط بالكون دون أن نذكر ماذا عسى أن تكون طبيعة هذا الكون المحوط.
وما نكاد نبدأ في تصوُّر هذا الجوهر كيف يتشكَّل ويتعيَّن في صور معلومة، حتى نرانا ملزَمين بالضرورة العقلية أن نفرض قيام ضروب من التشكُّل والتعيُّن، هي التي نسميها بالمقولات، والتي قسَّمها أرسطو إلى عشرة؛ فهل بوسعك أن تتصور شيئًا يتخذ شكلًا معينًا دون أن تفرض أنه لا بد أن يكون ذا كمٍّ معلوم، وذا كيف معلوم، وذا زمان يحدث فيه، وذا مكان يتخذ حيِّزه في أبعاده، وذا علاقات متصلة بسواه، وذا لواحق تتبعه، وذا وضع يتخذه، وذا فعل يصبُّه على غيره، وذا انفعال يتلقَّى به فعل غيره عليه؟ هذه إذن هي المقولات العشر التي تفرض نفسها على العقل فرضًا، إذا أراد هذا العقل أن يتصور أن شيئًا ما سيطرأ عليه تشكُّل وتعيُّن.
ويمضي ابن حيان في حديثه هذا فيقول: إننا إذ نقول عن الطبائع الأولية إنها لا توجد وعن الجوهر إنه لا يوجد، فما ذاك إلا لأن كلًّا منها لا يوجد منفردًا، ولا يُرى منفردًا؛ وإذا حسبنا أنه لا وزن له، فذلك للطافته ودقته؛ وأما أن نسمع فلاسفة يُعْدِمون هذه الأشياء وزنَها ووجودَها ورؤيتها فذلك قولٌ منهم بلَغ من الخطأ أقصاه.
وأما الكمية فهي الحاصرة المشتملة على كل ما نقوله عن المقدار العددي لشيء ما، وعن الأعداد بصفة مطلقة، كأن تقول: إن عددًا مساوٍ لعدد، أو إن عددًا مخالفٌ لعدد، مع تطبيق هذا التساوي والاختلاف العدديَّين على الأوزان والمكاييل وما إلى ذلك.
(٤) خمسة فروض لتركيب الكائنات
- (١)
أن تكون كيفية الشيء مناسبة لكميته، وأن يكون جوهرُه قد حمل ما حمله من الصفات في دفعة واحدة؛ فلا زيادة قد طرأت عليه بعد ذلك ولا نقصان، وأن يكون زمانُ حدوثه معادلًا لمكانه … فإذا توافرت في شيء هذه الشروط، فما أقلَّ ما يكون انحلاله وفساده، فهو لا يَبْلى ولا يُزيله شيء، حتى يُهلكَه بارئه؛ ذلك لأنه إذا توافرت هذه الشروط في شيء ما، كان الشيءُ طبيعيًّا في تكوينه، وليس مصنوعًا؛ وفرقٌ كبير بين الشيء يصنعه الخالق عز وجل، وبينه إذ يجيء من صنعة الإنسان؛ فالشيء على صنعة الله يكون متكافئَ الكم والكيف، متعادلَ الزمان والمكان، حاملًا لصفاته كلها في غير اعتساف ولا تصنُّع. قُل هذا في النبات وفي الأحجار وفي الحيوان على حدٍّ سواء.
- (٢)
أن تكون كيفية الشيء مخالفة مباينة لكميته، وأن تكون الصفات التي يحملها جوهرُه قد جاءته على دفعات، فأخذ يزداد صفة بعد صفة على مرِّ الزمن، وأن يكون بين زمانه ومكانه تنافر … وفي مثل هذه الحالة يكون الشيءُ معرَّضًا للفساد والتغيُّر والتحوُّل من لون إلى لون ومن مقدار إلى مقدار؛ ذلك لأن الشيء المركَّب على هذا النحو المتنافر يكون مصيرُه إلى انحلال، سواء كان نباتًا أو حجرًا أو حيوانًا؛ فالتنافر في الكائن الحي — مثلًا — معناه العلة والمرض، وبالتالي قِصَر العمر؛ وقد تدبُّ فيه العلة وهو بعدُ جنين، أو تدبُّ فيه في مرحلة تالية من العمر، حسب نوع التنافر الذي يكون بين عناصر تكوينه.
- (٣)
أن تكون كيفية الشيء مناسبة لكميته، وأن تكون الطبائع المحمولة على جوهره قد حُمِلت عليه دفعة واحدة، أي أنه يكون طبيعيًّا في طريقةِ تكوينِه وصفاته، لكن زمان حدوثه يجيء غيرَ متَّسق مع مكان حدوثه … في مثل هذه الحالة يكون عدم الصلاحية كائنًا في الزمان أو في المكان؛ فإن كان في الزمان صار الكائن قلقًا غيرَ مستقر؛ لأنه ليس في زمانه المناسب، وإن كان في المكان وجب أن يغيَّر مكانه إلى مكان أنسب لطبيعته. إنه لا جدوى في أن يكون الشيءُ سليمَ التكوين في ذاته، ثم يُوضع في جوٍّ لا يُلائمه أو يُوضع في زمان لا يناسبه.
- (٤)
أن تكون كميةُ الشيء مخالفةً لكيفيته، إلا أن جوهرَه قد حمَل طبائعَه دفعةً واحدة، وجاء زمانه موافقًا لمكانه … في مثل هذه الحالة يكون التكوين من حيث الخصائص والزمان والمكان لا عيبَ فيه، لكن العيب إنما يكون في حجم الشيء أو في مقداره بالنسبة لتلك الكيفيات، فعندئذٍ لا نستطيع أن نحدِّد له حدودًا معينة معلومة؛ كأمساخ الحيوان تزيد في الحجم أو تنقص بنسبة يتعذر ضبطُها.
- (٥)
أن تكون كمية الشيء مخالفة لكيفيته، وأن يكون جوهره قد حمل طبائعه على دفعات متتالية على مر الزمن، غير أن زمانَ حدوثِه يجيء موافقًا لمكان حدوثه … في هذه الحالة يكون الشيء مصطنعًا متكلَّفًا مرقَّعًا ملفَّقًا؛ لأن طبائعه ستُزاد له طبعًا بعد طبع على غير ما يلزم بالضرورة عن حقيقة جوهره؛ فلا يُجدي أن يكون متناسبَ المكان والزمان؛ إذ إن تركيبَه باطلٌ وفسادَه محقَّق.
(٥) الحيوان والنبات والحجر
هذه هي الموجودات الثلاثة المتركبة من الأربعة المركبة «وهذه الأربعة المركبة مقصود بها النار والهواء والماء والأرض، وهي مركبة من البسائط الأولية الأربعة: الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة».
(أ) الحيوان | (ب) الإنسان | ||||
---|---|---|---|---|---|
المكان
|
الزمان
|
المكان
|
العقل |
الزمان
|
|
النفس | النفس | ||||
الجوهر | الجوهر | ||||
الحرارة | الحرارة | ||||
البرودة | البرودة | ||||
اليبوسة | اليبوسة | ||||
الرطوبة | الرطوبة |
- (أ)
متحجر، منسحق، غير ذائب.
- (ب)
متحجر، غير منسحق، غير ذائب.
- (جـ)
متحجر، غير منسحق، ذائب.
- (د)
متحجر، منسحق، ذائب.
- (هـ)
غير متحجر، غير منسحق، غير ذائب.
- (و)
غير متحجر، غير منسحق، ذائب.
- (ز)
غير متحجر، منسحق، غير ذائب.
- (ﺣ)
غير متحجر، منسحق، ذائب.
ويعتقد جابر أن المركبات الثلاثة: الحيوان والنبات والحجر، تتفاوت صعوبةُ تكوينِها على هذا الترتيب نفسه؛ فالحيوان أسهلها والنبات وسطٌ بين السهولة والصعوبة والحجر أصعبها جميعًا.
(٦) بنية الكون٢٧
إنه ينبغي أن نتصور دائرةً لا نهاية لآخرها، ذات صلة مباشرة بأول طبقة من طبقات الأشياء الداخلة فيها؛ فهذه الدائرة هي ما يسميه الفلاسفة بالعلة الأولى، وهي علة فاعلة تتصف بأنها قادرة على العقل، وأنها عاقلة، وأنها لا تعقل إلا الصواب والخير والعدل، وما فيه للنفس فرح وراحة وأمثال ذلك، إلى ما لا آخر له مما تُوصف به هذه الدائرة … ولو قلنا هذا المعنى بعبارة أقرب إلى أفهامنا، كانت العلة الأولى لا متناهية، فاعلة، تُدرك الحق، وتفعل الخير، وتخلق الجمال، فهي عاقلة لا بمجرد قابليتها واستعدادها، بل هي عاقلة بالفعل، والعقل عندها مدارُه قِيَمُ الحقِّ والخير والجمال؛ فالحق في أنها لا تُدرك إلا الصواب، والخير في أنها لا ترى ولا تفعل إلا الخير والعدل، والجمال في أنها لا تفعل إلا ما يعود على النفس بالنشوة والفرحة والراحة.
ودون هذه الدائرة دائرةٌ أخرى لها الإدراك العقلي لكن ليس لها القدرة على الفعل، فهي تعلم ولا تعمل، هي تتصور الأمورَ كلَّها؛ باطنَها وظاهرها، جليلَها ودقيقها، عامَّها وخاصَّها، لكنها لا تخلق ولا تحرِّك.
وفي جوف هذه الدائرة الثانية دائرةٌ ثالثة، وهي — على خلاف الثانية — تعمل ولا تعلم، فهي فاعلة قادرة، لكنها جاهلة؛ فالدائرة الثالثة تساوي الأولى في فعلها وفي قدرتها، لكنها تختلف عنها في أنها جاهلة والأولى عاقلة، وتختلف الثالثة عن الثانية في الوجهين معًا: العلم والفعل؛ فالثانية ذات علم والثالثة جاهلة، والثانية عاطلة عن الفعل والثالثة فاعلة؛ وهذه الدائرة هي النفس.
وبعد تصوُّرِنا لهذه الدوائر التي يحتوي بعضُها على بعض: الدائرة الأولى وفي جوفها دائرة العقل، وفي جوف هذه دائرة النفس، وفي جوف هذه دائرة الجوهر، لنتصور أيضًا أن الزمان والمكان قائمانِ في جوانب هذه الدائرة الأخيرة، وفي جوفها — أعني في جوف دائرة الجوهر — فلنتصور دائرةً أخرى، هي دائرة العناصر البسائط، وهي الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة. أما كيف تُرتَّب هذه العناصر داخل دائرة الجوهر فأمرٌ مختلف عليه؛ فطائفة تقول إن دائرة الجوهر تنقسم بخطَّين متقاطعَين إلى أربعة أرباع فيكون كلُّ ربع منها مقامًا لواحد من العناصر الأربعة، كما يتضح من الرسم الآتي:
وطائفة ثانية تذهب إلى أن دائرة الجوهر تضمُّ في جوفها أربعَ دوائر منفصلٌ بعضُها عن بعض، وكلُّ دائرة منها تمثِّل واحدًا من العناصر الأربعة كما يتضح من الرسم الآتي:
وطائفة ثالثة تقول إن داخل دائرة الجوهر دوائر، الأوسع منها تضمُّ في جوفها الأضيق، وهكذا، بحيث تكون أوسعها دائرة الحرارة — وهي أحد العنصرَين الفاعلَين: الحرارة والبرودة — وتليها دائرةُ العنصر الذي هو منفعل الحرارة، وأعني به اليبوسة، ثم تليها دائرة ثالثة هي دائرة العنصر الفاعل الثاني، وهو البرودة، وأخيرًا تجيء دائرة رابعة للعنصر المنفعل للبرودة، وهو الرطوبة؛ وبهذا تكون الصورة على النحو الآتي:
وفي داخل دائرة الرطوبة دائرةٌ أخيرة قيل عنها إنها خلاء، وقيل إنها ليست خلاء، ويفضِّل جابر أن يختار لها الفرض الأول.
وأما النفس التي هي الدائرة الثالثة بعد دائرة المبدأ الأول ودائرة العقل، فإنها قد تشبَّثَت بالدائرة التي دونها، وهي دائرة الجوهر تشبُّثًا جعلهما شيئًا واحدًا مرئيًّا، وهو أول ما انفعل من أشياء، ويعدُّ بدءًا للعالم المحسوس.
هكذا تكون بنية الكون كما يتصورها جابر بن حيان: دوائر يحوي بعضُها بعضًا؛ فدائرة العلة الأولى تتلوها من الداخل دائرة العقل، وهذه تتلوها من الداخل دائرة النفس، وهذه تتلوها من الداخل دائرة الجوهر، وهذه تتلوها من الداخل دوائر للعناصر الأربعة، وأخيرًا تجيء دائرة خلاء، ولقد اتخذ الكون شكلَ الدائرة؛ لأن الدائرة أكمل الأشكال الهندسية، وما جاء على صورتها يكون قليلَ الآفات وغير هالك إلا أن يشاء الله صانعه أن يُهلكَه، وهو الذي فوق العلة الأولى وتحت مركز الدائرة الصغرى من هذا العالم؛ ولذلك كان هو الأول والآخر.
ولا أحسبني بحاجة إلى ذكْر الشَّبَه التام بين هذا التصور للعالَم وبين الصورة التي تصورها أفلوطين — مؤسس الأفلاطونية الحديثة في الإسكندرية إبَّان القرن الثالث الميلادي — فمن الله الواحد انبثق العقل، ومن العقل انبثقَت نفس العالم، وهي ليست مجسدة ولا قابلة للانقسام، ولهذه النفس مَيْلان؛ فتميل علوًّا إلى الواحد الأسمى، وتميل سفلًا إلى عالم الطبيعة، ومن امتزاجها بالجوهر وما ينحصر فيه من عناصر أربعة تكوَّنت الكائنات الحسية.