علم الكيمياء
(١) جابر العلم
جَبَرَ الشيءَ يَجبُرُه فهو جابرُه، إذا أعاد تنظيمَ الشيء وأصلح فاسدَه وقوَّم بناءَه. ولقد قيل إن جابرًا سُمِّيَ باسمه هذا؛ لأنه هو الذي أعاد تنظيمَ العلم الطبيعي وأعاد بناءَه على نحو ما كان عليه عند أرسطو، قبل أن يُصيبَه الفساد بامتزاجه بالسحر في العصور الوسطى.
كان أرسطو أولَ مَن دعا في إصرار إلى أن تكون المشاهدةُ والتجربة أساسَ علْمِنا بالطبيعة، وذهب الزمن بالمعلِّم الأول، وبقيَت بعده آثارُه وذِكْراه، فلَقِيَ من العصور الوسطى إجلالًا هو به جدير، لكنَّ عواملَ كثيرةً فعلَت في عقول الناس فِعْلَها، حتى لقد تُنوسِيَ اللباب الذي من أجله كان شيخ الفلاسفة الأقدمين حقيقًا بالتقدير والتوقير، وبقيَت القشور دون لُبابها تحظَى بالنصيب الأوفر من إجلال الناس لمعلِّمهم الأول؛ فنشأت أرسطيَّة مزيَّفة سُلِّطت على العقول، وبعد أن كانت الفلسفة الأرسطية في روحها الحقيقية حافزًا إلى العلم الصحيح، أصبحت بديلتُها الزائفة حائلًا دون الوصول إلى ذلك العلم الصحيح، وقيدًا يُقيِّد أصحاب الفكر فلا يخلِّي بينهم وبين الحركة الطليقة الحرة، ولبثت الحال على هذا النحو في أوروبا حتى قامت النهضة في القرن السادس عشر.
(٢) الوجود بالقوة والوجود بالفعل
الوجود بالقوة والوجود بالفعل فكرتان ترتدان إلى أرسطو؛ وذلك أن أرسطو إذ ردَّ الوجود والموجودات إلى مبدأَين أساسيَّين هما: الهيولى والصورة، أي المادة التي منها يُصنَع الشيء والشكل الوظيفي الذي تكتسبه المادة لتصبح ذلك الشيء؛ فقد تصور المادة الأولية مستعدة أن تكون أي شيء، فهي تتلقَّى الصورة التي تنطبع بها لتتعيَّن بفضل تلك الصورة شيئًا فعليًّا معينًا؛ كقطعة الخشب غير المصنوع فيها استعداد أن تكون منضدة أو مقعدًا، حسب الصورة التي يخلعها عليها النجار، وإذن فقطعة الخشب فيها منضدة «بالقوة» وفيها مقعد «بالقوة»، لكنها تُصبح منضدة «بالفعل» أو مقعدًا «بالفعل» حين تتم صناعتها وتشكيلها.
وكلُّ فيلسوف يأخذ بفكرة قابلية تحوُّل الأشياء بعضها إلى بعض؛ فهو يأخذ تبعًا لذلك بفكرة الوجود بالقوة والوجود بالفعل؛ لأنك إذا قلت إن هذه الأرض قد تتحوَّل نباتًا، فقد قلت في الوقت نفسه إن النبات موجود في الأرض «بالقوة» وينتظر الظروف المواتية ليصبح نباتًا موجودًا «بالفعل»؛ وكذلك الرجل الذي سيخرج من طفل ما، موجود في الطفل «بالقوة» حتى إذا ما اكتمل الرجل تكوينًا، أصبح رجلًا موجودًا «بالفعل» وهكذا، والفكرة الأساسية عند عالِمِنا الفيلسوف جابر بن حيان هي أن العناصر يتحول بعضها إلى بعض — كما سنذكر تفصيلًا فيما بعد — فالنحاس — مثلًا — قد يتحول بتدبير المدبِّر ذهبًا، ومعنى ذلك أن الذهب كان موجودًا في النحاس «بالقوة» حتى إذا ما خرج منه أصبح الذهب موجودًا «بالفعل».
ولا يكون الشيء موجودًا بالفعل إلا إذا كان من قبل ذلك موجودًا بالقوة ثم ظهر؛ وهنا ينشأ هذا السؤال الهام: هل كل ما هو موجود بالقوة سيخرج حتمًا إلى وجود بالفعل، أم أن من بينه ما هو خارج، ومن بينه ما هو ممتنع الخروج، وما هو ممكن الخروج، فربما خرج إلى الفعل وربما لبث على كُمونِه؟
هذا سؤالٌ هامٌّ؛ لأنه يحدِّد مدى ما يستطيع العالِم أن يتناولَه بالتحويل في تجاربه العلمية، حتى لا يحاولَ المستحيل، وحتى لا ييأسَ مما هو ممكن؛ وقد أجاب ابن حيان عن السؤال إجابةً دقيقة شاملة موجزة؛ إذ يقول إن الأشياء انقسمَت قسمَين؛ فهي إما بسيطة وإما مركَّبة، على أن كلَّ ما نراه في الطبيعة من أشياء هو من قبيل المركَّبات، وتركيبها يكون على درجات؛ فمنها مركَّبٌ أول، ومنها مركَّبٌ ثانٍ، ومنها مركَّبٌ ثالثٌ أو مركَّبُ المركَّب.
فأما العناصر الأولية البسيطة فمحالٌ أن يخرج كلُّ ما فيها بالقوة إلى وجود بالفعل؛ وذلك لأن العنصرَ البسيط هو بحكم بساطته هذه غيرُ متناهٍ، وهو لذلك غيرُ فانٍ — فالذي يتناهى إلى حدود معينة ويجوز عليه الفساد والفناء هو المركَّب — فإذا كان أمر العنصر البسيط هو كما ذكرنا، فليس كلُّ ما فيه بالقوة خارجًا إلى الفعل؛ إذ لو حدث ذلك لصار إلى انتهاء، وقد قلنا إنه غيرُ متناهٍ.
فمتى يمتنع خروج كائن من كائن آخر؟ يجيب جابر بقوله: «إن الأشياء التي يمتنع ويعسر خروجها من القوة إلى الفعل على ضربين: إما أن يُرام من الأشياء ما ليس فيها بالقوة … وإما أن يرام من الأشياء ما فيها بالقوة ولكن عَسُرَ خروجه إلى الفعل … كالذي يروم خروجَ الماءِ من النار من أول وهلة: «فإن هذا (أي الماء) وإن كان لها (أي للنار) بالقوة ممتنع، إلا أنهم عملوه على ترتيب … فأما أن يكون ذلك من أول وهلة فلا؛ وكذلك القائم القاعد بالقوة، ولكن بعد تقضِّي زمان القعود وانتهائه بحركة القاعد للقيام، وحركة الإرادة، وأمثال ذلك».»
«وإذ قد بان ذلك، فإن في الأشياء كلِّها وجودًا للأشياء كلِّها، ولكن على وجوه من الاستخراج؛ فإن النار في الحجر كامنة لا تظهر، وهي له بالقوة؛ فإذا زُنِد أُورِيَ فظهرَت، وكذلك الشمع في النحل؛ ولو أخذنا مائةَ ألفِ نحلة أو ألفَ كوِّ نحل، ثم عصرناها وطبخناها ودبَّرناها تدبيرنا للعسل الذي فيه الشمع، لم يخرج منه دانق شمع، ولكن النحل إذا تغذَّى غذاءً معتدلًا، وعُملت له الكُوَى التي يأوي إليها، وعَمِل العسل، واجتُنيَ ذلك العسل، خرج منه الشمع.»
«فقد وضح من هذا القول أن التدبير على القصد المستقيم هو الذي يُخرج ما في قوى الأشياء — مما هو بالقوة إلى الفعل — فيما يَخرج هو بطبعه، وفيما لا يخرج حتى يُخرَج».
(٣) الإكسير
قلنا إنه كما جاز للطبيعة أن تحول الأشياء بعضها إلى بعض، فتتحول الأرض والماء نباتًا، ويتحول النبات في النحل شمعًا وعسلًا، ويتحول الرصاص في جوف الأرض ذهبًا وهكذا، فكذلك يمكن لعالم الكيمياء أن يُحاكيَ الطبيعة في صنيعها بتجارب يصطنعها فيؤدي بها نفس الذي تؤديه الطبيعة، ولكنه يؤديه في مدة أقصر؛ فإذا اهتدى العالم إلى الوسيلة التي يخرج بها شيئًا من شيء كانت تلك الوسيلة هي الإكسير.
فالأمر في معالجةِ شيء ما معالجةً تردُّه إلى ما يُراد ردُّه إليه، هو كالأمر في معالجة المريض، يُركَّب له الدواء الذي يردُّه من حالة المرض إلى حالة الصحة، بإضافة ما ينقصه أو بحذف ما قد زِيدَ عليه؛ وبهذه الإضافة أو الحذف نحصل على التوازن لما كان قد اختل توازنه، وبديهي أن يكون للدواء صفة مضادة للصفة التي جاوزت حدَّها نقصًا أو زيادة، فهو الذي يزيد ما قد نقص وينقص ما قد زاد، وهكذا يفعل عالِم الكيمياء إزاء المعدن الذي يريد تحويله، يعطيه «الدواء» الذي يُكسبه توازنًا من شأنه أن يجعل منه معدنًا آخر، هو المعدن المقصود؛ «فالدواء» في هذه الحالة هو ما يسمَّى بالإكسير.
ونكتفي في هذه الفقرة بذكر وجه واحد من أوجه التحويل الذي يقوم به الكيموي، وهو تحويل المعادن بعضها إلى بعض، فعلى أيِّ أساس يكون ذلك، وكيف؟
والقائمة الآتية تبيِّن لكل معدن صفتَيه الظاهرتَين وصفتَيه الباطنتَين:
اسم المعدن | صفتاه الظاهرتان | صفتاه الباطنتان |
---|---|---|
الذهب | حار، رطب | بارد، يابس |
الفضة | بارد، يابس | حار، رطب |
النحاس | حار، يابس (أقل يبوسة من الحديد) | بارد، رطب |
الحديد | حار، يابس جدًّا (صلب) | بارد، رطب (رخو) |
الرصاص | بارد، يابس (قليل اليبوسة جدًّا) | حار، رطب (صلب) |
الزيبق | بارد، رطب (رخو) | حار، يابس (صلب) |
القصدير | بارد، رطب (رخو) | حار، يابس (صلب) |
ومعنى هذا أن كلَّ معدن يشتمل في جوفه على معدن آخر يناقضه في صفاته؛ فالفضة من داخل هي نفسها الذهب من خارج؛ فلو أخرجنا ما هو مكنون في باطن الفضة إلى ظاهرها ودسسنا ظاهرها في باطنها، كان لنا بذلك معدن الذهب؛ فإذا أراد الكيمويُّ تحويلَ الفضة إلى ذهب، كان عليه أولًا أن يُزيحَ برودتها الظاهرة لتخرج بدلَها الحرارةُ الكامنة، ثم يزيح — ثانيًا — يبوستها الظاهرة لتخرج بدلها الرطوبة الكامنة، حتى إذا ما اجتمع في الظاهر حرارة ورطوبة معًا كان ما بين أيدينا ذهبًا.
ولو أجرَى الكيموي تجاربه على قطعة من الحديد — مثلًا — ظاهرها حرارة ويبوسة شديدة، فله أن يُزيحَ اليبوسة وحدها إلى الداخل لتخرج مكانها الرطوبة، وبذلك يصبح الظاهر حرارة ورطوبة؛ أي أن المعدن يصبح ذهبًا؛ أو أن يزيح الحرارة الظاهرة إلى الداخل لتخرج مكانها البرودة الكامنة، وبذلك يصبح الظاهر برودة ويبوسة، أي أن المعدن يصبح فضة؛ أو أن يزيح الحرارة واليبوسة الظاهرَين كليهما، ليخرج مكانهما البرودةُ والرطوبة الكامنان فيكون الناتج زئبقًا (أو قصديرًا حسب درجة الليونة، أي درجة الرطوبة التي تظهر).
وبنفس الطريقة يمكن ردُّ أيِّ معدن إلى أيِّ معدن آخر، وبصفة خاصة يمكن ردُّ أيِّ معدن إلى ذهب؛ إذ ما علينا لكي نحوِّلَ معدنًا ما إلى ذهب إلا أن نجعل الكيفيتَين الظاهرتَين هما: الحرارة والرطوبة؛ فإن كان المعدن المراد تحويله نحاسًا — وظاهر النحاس حرارة ويبوسة — كان أمامنا كيفية واحدة هي التي نحتاج إلى دسِّها في الداخل ليخرج ضدها من الداخل فيحل محلها؛ فالنحاس والذهب يشتركان في الحرارة، ويختلفان في أن الذهب رطب والنحاس يابس، فإذا أخرجنا للنحاس رطوبته الدفينة فيه كان ذهبًا.
أما إن كان المعدن المراد تحويله رصاصًا، فها هنا نجد التضادَّ بين الرصاص والذهب في الكيفيتَين معًا؛ فالرصاص بارد والذهب حار، والرصاص يابس والذهب رطب، فعندئذٍ علينا أن نُعالجَ الصفتين جميعًا، فنُدخلهما إلى الباطن، ليخرج مكانهما الضدان وبذلك يصير الرصاص ذهبًا، وهكذا.
«إن الأصل في ذلك أن تعلم أولًا أن من هذه الأجسام ما ينبغي أن تُبطِنَ عنصرَيه الظاهرَين وتُظهرَ عنصرَيه الباطنَين حتى يكملَ ويصيرَ جسمًا غير فاسد على ما يراد من ذلك — وهو سرُّهم — وبعض هذه الأجسام ينبغي أن يُستخرج له عنصر من باطنه فيظهر، ويُبطن فيه ضد ذلك العنصر، ونحن نذكر ذلك لتعرفه.»
«إن الأسرب (= الرصاص) باردٌ يابس في ظاهره رخوٌ جدًّا، وهو حارٌّ رطب في باطنه صلب؛ ومعنى رخو وصلب أن كلَّ جسم خلقه الله تعالى باطنُه مخالفٌ لظاهره في اللين والقساحة؛ والدليل على ذلك أنه إذا قُلبت طبائعه فرجع ظاهرُه باطنًا وباطنُه ظاهرًا إن كان رطبًا قَسَحَ، وإن كان قاسحًا ترطَّب؛ فهذا ما في الأسرب من الكلام.»
«وأما القلعي (= القصدير) فإن أصله المتركب عليه أولًا الأربع طبائع: فظاهره باردٌ رطب رخو، وباطنه حارٌّ يابس صلب … فإذا أبطنت ظاهره، وأظهرت باطنه قَسَحَ فصار حديدًا …»
«وأما الذهب فحارٌّ رطب في ظاهره بارد يابس في باطنه، فرُدَّ جميعَ الأجساد إلى هذا الطبع؛ فإنه طبع معتدل …»
«وأما الفضة فأصلها الأول ذهب، ولكن أعجزَها البردُ واليبس فأبطنت في باطنها الذهب فظهر الطبع الذي غلب فصار ظاهرها فضة وباطنها ذهبًا؛ فإن أردت ردَّها ذهبًا فأبطن برودتها فإن حرارتها تظهر، ثم أبطن بعد ذلك اليبس فإن الرطوبة تظهر وتصير ذهبًا؛ فهذا ما في الأجسام كلها من التدابير والسلام.»
هذه مقالة بأَسْرها نقلناها لك بنصِّها عن جابر بن حيان؛ لأنها في صناعته أساسٌ ومحور؛ فالأساس — كما ترى — هو أن الطبائع الرئيسية لشتى المعادن — بل للكائنات كافة — هي أربع: الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة؛ فلو عرفتَ طبْعَ الشيء الذي تريد أن تحصل عليه، كان في وسعك أن تلتمسَه بتحويل طبائع المادة التي بين يديك حتى ترتدَّ إلى الطبع المقصود؛ وهو كلام بعيد عما تألفه آذانُنا اليوم؛ لكننا لو أردنا أن نسبغ عليه من الألوان ما يقرِّبه إلى مفاهيمنا العلمية اليوم — وليس هذا بالأمر الضروري في تاريخ الفكر؛ فليس عالِم الأمس مسئولًا أمام عالِم اليوم مهما يكن بينهما من اختلاف بعيد، لكنه لولا عالِم الأمس لما كان عالِم اليوم — أقول برغم ذلك إننا لو أردنا أن نسبغ على نظرية جابر — وهي نظرية العلم القديم كله — لونًا يقرِّبها إلى عقولنا اليوم، لما كان علينا إلا أن نتذكر أساس النظرية الطبيعية في عصرنا الراهن، وهو أن كل ما تحويه الطبيعة من أشياء مركَّب من ذرات، ومهما اختلفت هذه الذرَّات في أوزانها، فمادتها الخامة مؤلَّفة من ثلاثة أصول: الإلكترونات، والبروتونات، والنيوترونات؛ أما الأولى فمشحونة بشحنة كهربية سالبة، وأما الثانية فمشحونة بشحنة كهربية موجبة؛ وأما الثالثة فمتعادلة كهربيًّا. ومن هذه الأصول الثلاثة يتألف كلُّ شيء، حتى ليجوز من الوجهة النظرية أن تحول العناصر بعضها إلى بعض إذا عرفت كيف تزيد هنا وتنقص هناك من هذه الأصول الأولية، حتى تحصل على النِّسَب المطلوبة التي منها يتكوَّن الشيء المقصود؛ فلو كان ابن حبان قد تكلَّم بلغة الحرارة والبرودة، وعلماء هذا العصر يتكلمون بلغة الكهارب السالبة والموجبة، فقد يكون الفرقُ أقربَ مما تتوهم، إذا ترجمنا الحرارة إلى معناها الحقيقي، وهو الحركة، فالحرارة حركة سريعة في الذرَّات، والبرودة حركة بطيئة؛ فإذا كانت الحرارة والبرودة — أو إن شئت فقُل إذا كانت درجات الحرارة المتفاوتة هي في الحقيقة درجات من الحركة متفاوتة، ثم إذا كانت هذه الحركة بدرجاتها المتفاوتة هي طاقة — إن لم تكن الطاقة الكهربية بذاتها — فيمكن تحويلها إلى طاقة كهربية، إذن فيكاد يتشابه القولان في الطبيعة: القول الذي يقول إن الأصول الأولية للأشياء حركة بدرجاتها المتفاوتة؛ والقول الذي يقول إنها كهرباء — ولم نذكر الرطوبة واليبوسة من الطبائع الأربع التي أخذ بها جابر؛ لأنهما صفتان منفعلتان، أي أنهما تتفرعان عن الصفتَين الفاعلتَين اللتين هما: الحرارة والبرودة.
ولا يقتصر الإكسير — تحويل الكائنات — على المعادن عند جابر، بل إن الأمر عنده لَيمتدُّ إلى الكائنات جميعًا؛ فلا فرق بين ردِّ النحاس إلى ذهب، وبين ردِّ المريض إلى إنسان سليم البدن، فكلتا الحالتين تحويلٌ للطبائع الفاسدة القائمة إلى طبائع سليمة؛ ومن هنا كانت العلاقة وثيقة بين الكيمياء والطب؛ فالأولى معالجة المعادن الخسيسة لتردَّ معدنًا نفيسًا، والثاني معالجة الأبدان المريضة لترتدَّ صحيحة، وأساس العمل في الحالتَين واحد، هو ما يُطلَق عليه اسم «الإكسير».
وسأذكر فيما يلي شيئًا مما يرويه جابر عن نفسه فيما كان يؤديه في تطبيب المرضى:
«وحق سيدي لقد خلصت به (أي بالإكسير) من هذه العلة أكثر من ألف نفس، فكان هذا ظاهرًا بين الناس جميعًا في يوم واحد فقط.»
«وكانت لي جارية فأكلَت زرنيخًا أصفر — وهي لا تعلم — مقدار أوقية، فيما ذكرَت، فلم أجد لها دواء بعد أن لم أترك شيئًا مما ينفع السموم إلا عالجتُها به، فسقيتُها منه وزنَ حبةٍ بعسل وماء، فما وصل إلى جوفها حتى رمَت به بأَسْره وقامت على رسمها الأول …»
(٤) الخواص والموازين
ويضرب مثلًا على «المشروب» فيقول: إن السقمونيا يُخرج الصفراء، كما يضرب المثل على خواص «النظر»، فيقول: إن الأفعى البلُّوطيَّ الرأس إذا رأى الزمرد الخالص عميَ وسالَت عينُه لوقتها وحيَّا سريعًا؛ وأفاع بوادي الخَرْلُخْ إذا رأَت أنفسها ماتت وإذا رآها الناس ماتوا، وكذلك جميع الحيوان؛ والصنَّاجة — وهي الدابة العظمى — لها عينان كأعظم ما يكون من الخلجان، يكون مقدارُ كلِّ عين منها ومدارُ حماليقها نحو فرسخ، فتعمد هذه الأفاعي لتقتلها خاصة، فتوافي هذا الوادي من بلاد دواخل التبَّت، فترفع أحداقها إلى أدمغتها حتى لا تنظر إليها، فتقصدها هذه الأفاعي لتنهشها، فتقابلها بأعينها وهي صافية فتنظر إلى صورتها فتموت، فتأكلها تلك الدابة؛ ولقد خُبِّرتُ أن وزن الأفعى منها نحو خمسين ألف رطل.
ويمضي ابن حيان في كلامه عن الخاصيِّ فيقول: إن «الشيء اليسير منه هو الفاعل على مثل الشيء الكثير منه، ولكن القول في الكمية على مقدار ذلك، كوزنِ الحبَّةِ من المغناطيس تجذب اليسير من الحديد، وكالرطل يجذب على قدره؛ والأكثر فيه القوة التي يجذب بها ما جذَب الأصغرُ لقلة كميته ودخولها في كميته، وليس ذلك في الأصغر لقلته، وأن ليس كمية الأكثر داخلة في كمية الأقل.» هذا نصٌّ نافذ ومفيد، وهو يحتاج إلى بعض التوضيح لالتواء عبارته اللفظية؛ فمؤداه أن العنصر المعين ذو فعل معين لا يتغير من حيث نوع الفعل بتغيُّر الكمية التي تأخذها منه؛ فالمغناطيس — مثلًا — يجذب الحديد، ولا فرق في ذلك بين مغناطيس كثير ومغناطيس قليل؛ فالفعل واحد في نوعه، وكل الفرق هو أن المغناطيس الكثير يجذب قطعة كبيرة من الحديد، والقليل يجذب قطعة صغيرة، على أن الكثير يفعل فعلَ القليل أيضًا، والعكس غير صحيح، أي أن القليل لا يفعل فعلَ الكثير.
- (١)
سريع الزوال، ويسمَّى حالًا.
- (٢)
بطيء الزوال، ويسمَّى هيئة.
- (٣)
ذاتي فيما هو فيه.
فالتحديدات السالفة مقصود بها النوع الثالث، أي ما يكون ذاتيًّا في الشيء، وليس المقصود بها حال الشيء ولا هيئته.
«الخاصية تابعة لعملها … لأن الخواص لا تتفق في جوهرَين مختلفَين بوزن واحد، ولكنها إذا اتفقت في جوهرَين أو جواهر عدة كان حدُّها مثل الجوهر الأول سواء في الكيفية وجميع الحدود؛ لأنه من الممتنع وجودُ جوهرَين حَدُّهما حدَّان مفردان يقال عليهما خاصية واحدة … لأن المستحدَّين بحدٍّ واحد متفقان في الجوهرية والعرضية.»
- (أ)
فالخاصية تابعة لعملها.
- (ب)
الخاصية الواحدة (أي العمل الواحد) لا يكون في شيئَين مختلفَين.
- (جـ)
إذا اتفق شيئان في خاصية واحدة (أي في عمل واحد) كانَا في الحقيقة شيئًا واحدًا من حيث جوهرهما.
- (د)
إذا كان لشيئين تعريفان مختلفان، فمحال أن يتَّحدَا في فعل واحد.
- (هـ)
إذا كان لشيئين تعريفٌ واحد، كان الشيئان متفقَين في الخصائص، أي فيما يُحدثانِه من أثر.
تلك لمحات عن خصائص الأشياء وحدودها، وعلى أساس هذه الخصائص تنبني موازين الأشياء، وميزان الشيء هو الحكم عليه لا من حيث كيفُه بل من حيث مقدارُه؛ وبغير معرفة المقادير، ينسدُّ طريق العمل أمام العالِم الذي يتناول الأشياء بتدبيره وتصريفه.
ولعل فكرة «الميزان» أن تكون أدقَّ وأعسر وأهم فكرة لجابر بن حيان، وسأحاول هنا عرْضَها عرضًا مبسطًا أتخلَّص فيه من التفصيلات التي تُعقِّد الفهم ولا تفيد كثيرًا في رسم الصورة العامة التي نحاول أن نقدمها عن جابر.
وخشية أن يختلط أمر «الميزان» في الأفهام، بسبب تعدُّدِ معاني هذه الكلمة، قال ابن حيان منبِّهًا: إن هنالك نوعَين من الميزان؛ فهو إما ميزان للطبائع، وإما ميزان وزنيٌّ؛ فأما ميزان الطبائع فهو العلم الذي نعلم به كم من الطبع الفلاني (الحرارة، البرودة، اليبوسة، الرطوبة) موجود في الكائن الفلاني؛ هل تغلب عليه الحرارة أو البرودة، واليبوسة أو الرطوبة؟ فإن كانت الحرارة غالبة عرفنا أن البرودة فيه مستكنة مستبطنة، وإن كانت البرودة غالبة عرفنا أن الحرارة فيه هي المستكنة المستبطنة، وكذلك قُل في صفتَي اليبوسة والرطوبة؛ وما دمنا قد عرفنا أيَّ الطبائع قد غلَب فظهر، وأيها قد انكمش فاختفى، فإن طريق العمل ينفتح أمامنا لإجراء التجارب التي نحوِّل بها الجسم على أيِّ نحوٍ أردنا، فنقلِّل من حرارته لنزيد في برودته، أو نقلِّل من صلابته لنزيد من ليونته، وهكذا؛ وسنذكر بعد قليل لمحة من وزن هذه الطبائع بمقادير كمية متفاوتة كيف يكون.
هذا هو ميزان الطبائع، وأما «الميزان الوزني» فهو أن يكون مقدارُ الوزنَين في الميزان مقدارًا واحدًا؛ على أن «للميزان الوزني» معنًى آخر، وهو أن يتماثل الشكلان؛ فإن كان أحدهما مدورًا كان الآخر مدورًا كذلك، أو مسطحًا كان مسطحًا.
ويسوق لنا جابر مثلًا كيف نصنع «الميزان الوزني»، وكيف نستخدمه، وفي أيِّ البحوث العلمية نستخدمه، وسأُثبت هنا قولَه بنصِّه لدلالته أولًا على دقته التجريبية، وثانيًا على سداد منهجه للوصول إلى نتائج علمية في موضوع كالوزن النوعي للمعادن، وما أشبهه بعالِم اليوم؛ إذ يُثبت تجاربه فيصف أجهزته التي استعان بها، ثم يصف الطريقة التي استخدمها بها، بالإضافة إلى النتائج التي يُوصل إليها. قال جابر في استخراج الوزن النوعي للذهب والفضة:
وبعد أن استطردنا قليلًا في الحديث عن المعاني المختلفة «للميزان» نعود إلى «ميزان الطبائع» لنفصِّل فيه القول تفصيلًا لا نستوعب به كلَّ شيء، لكنه يكفي لتقديم فكرة عن هذا الركن الهام من كيمياء جابر بن حيان.
لقد سبق لنا أن ذكرنا — عند الحديث عن الحروف وأوزانها — أن تحليلَ الاسمِ دالٌّ على طبيعة المسمَّى؛ فتحليل كلمة «ذهب» — مثلًا — دالٌّ على طبيعة الذهب العينيِّ الذي سُمِّيَ بذلك الاسم؛ لكن كيف يكون تحليلنا للاسم لنستدلَّ به على طبيعة مسماه؟
-
أ، ب، ﺟ، د المراتب.
-
ﻫ، و، ز، ح الدَّرَج.
-
ط، ي، ك، ل الدقائق.
-
م، ن، س، ع الثواني.
-
ف، ص، ق، ر الثوالث.
-
ش، ت، ث، خ الروابع.
-
ذ، ض، ظ، ع الخوامس.
على أن كل هذا التقسيم يتكرر بأَسْره أربع مرات، تُسمَّى أولاها بالمرتبة الأولى، وثانيتها بالمرتبة الثانية، وثالثتها بالمرتبة الثالثة، ورابعتها بالمرتبة الرابعة؛ وفي كل مرتبة من هذه المراتب الأربع تقسم الحروف أربع مجموعات، كل مجموعة منها سبعة أحرف، لتقابل الطبائع الأربع: الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة.
-
فالحرارة يقابلها دائمًا: أ ﻫ ط م ف ش ذ.
-
والبرودة يقابلها دائمًا: ب و ي ن ص ت ض.
-
واليبوسة يقابلها دائمًا: ج ز ك س ق ث ظ.
-
والرطوبة يقابلها دائمًا: د ح ل ع ر خ غ.
وما دامت هذه المجموعات مقسمة على هذا النحو، تتكرر أربع مرات، هي المراتب الأربع، فمعنى هذا هو أن الحرف الواحد، مثل حرف «ذ» — مثلًا — تختلف قيمته باختلاف موضعه؛ لأن موضعه قد يكون في مرتبة أولى، فتكون له قيمة معينة، وقد يكون في مرتبة ثانية فتكون له قيمة أخرى، وقد يكون في مرتبة ثالثة فتكون له قيمة ثالثة، وقد يكون في مرتبة رابعة فتكون له قيمة رابعة.
(١) المرتبة الأولى | ||||||||||||
مرتبة | درهم ودانق | ب | درهم ودانق | ج | درهم ودانق | د | درهم ودانق | |||||
درجة | ﻫ | نصف درهم | و | نصف درهم | ز | نصف درهم | ح | نصف درهم | ||||
دقيقة | ط | دانقان ونصف | ي | دانقان ونصف | ك | دانقان ونصف | ل | دانقان ونصف | ||||
ثانية |
الحرارة
|
م | دانقان |
البرودة
|
ن | دانقان |
اليبوسة
|
س | دانقان |
الرطوبة
|
ع | دانقان |
ثالثة | ف | دانق ونصف | ص | دانق ونصف | ق | دانق ونصف | ر | دانق ونصف | ||||
رابعة | ش | دانق | ب | دانق | ث | دانق | خ | دانق | ||||
خامسة | ذ | قيراط | ض | قيراط | ظ | قيراط | غ | قيراط |
(٢) المرتبة الثانية | ||||||||||||
مرتبة | أ | درهم | ب | درهم | ج | درهم | د | درهم | ||||
درجة | ﻫ | درهم | و | درهم | ز | درهم | ح | درهم | ||||
دقيقة | ط | درهم | ي | درهم | ك | درهم | ل | درهم | ||||
ثانية |
الحرارة
|
م | درهم |
البرودة
|
ن | درهم |
اليبوسة
|
س | درهم |
الرطوبة
|
ع | درهم |
ثالثة | ف | دانق | ص | دانق | ق | دانق | ر | دانق | ||||
رابعة | ش | درهم | ت | درهم | ث | درهم | خ | درهم | ||||
خامسة | ذ | دانق | ض | دانق | ظ | دانق | غ | دانق |
(٣) المرتبة الثالثة | ||||||||||||
مرتبة | أ | ٥ درهم | ب | ٥ درهم | ج | ٥ درهم | د | ٥ درهم | ||||
٥ دانق | ٥ دانق | ٥ دانق | ٥ دانق | |||||||||
درجة | ﻫ | درهم | و | درهم | ز | درهم | ح | درهم | ||||
دقيقة | ط | ٢ درهم | ي | ٢ درهم | ك | ٢ درهم | ل | ٢ درهم | ||||
١ قيراط | ١ قيراط | ١ قيراط | ١ قيراط | |||||||||
ثانية |
الحرارة
|
م | ١ درهم |
البرودة
|
ن | ١ درهم |
اليبوسة
|
س | ١ درهم |
الرطوبة
|
ع | ١ درهم |
٤ دانق | ٤ دانق | ٤ دانق | ٤ دانق | |||||||||
ثالثة | ف | ١ درهم | ص | ١ درهم | ق | ١ درهم | ر | ١ درهم | ||||
دانق | دانق | دانق | دانق | |||||||||
رابعة | ش | ٥ دانق | ت | ٥ دانق | ث | ٥ دانق | خ | ٥ دانق | ||||
خامسة | ذ | دانق | ض | دانق | ظ | دانق | غ | دانق |
(٤) المرتبة الرابعة | ||||||||||||
مرتبة | أ | ٩ درهم | ب | ٩ درهم | ج | ٩ درهم | د | ٩ درهم | ||||
٢ دانق | ٢ دانق | ٢ دانق | ٢ دانق | |||||||||
درجة | ﻫ | ٤ درهم | و | ٤ درهم | ز | ٤ درهم | ح | ٤ درهم | ||||
دقيقة | ط | درهم | ي | درهم | ك | درهم | ل | درهم | ||||
ثانية | م | ٢ درهم | ن | ٣ درهم | س | ٢ درهم | ع | ٢ درهم | ||||
الحرارة
|
٤ دانق |
البرودة
|
٤ دانق |
اليبوسة
|
٤ دانق |
الرطوبة
|
٤ دانق | |||||
ثالثة | ف | ٢ درهم | ص | ٢ درهم | ق | ٢ درهم | ر | ٢ درهم | ||||
رابعة | ش | ١ درهم | ت | ١ درهم | ث | ١ درهم | خ | ١ درهم | ||||
٢ دانق | ٢ دانق | ٢ دانق | ٢ دانق | |||||||||
خامسة | ز | ٤ دانق | ض | ٤ دانق | ظ | ٤ دانق | غ | ٤ دانق |
وعلى سبيل التطبيق الموضِّح لاستخدام هذه القوائم، نقول: افرض أن الكلمة التي تريد وزْنَها هي كلمة «ذهب»، فانظر في حرف «ذ» أين يقع من الكلمة؟ تجده يقع في مرتبة أولى، فراجع قائمة المرتبة الأولى تجد حرف «ذ» يساوي قيراطًا؛ وانتقل إلى الحرف الثاني من الكلمة وهو «ﻫ» فراجع قائمة المرتبة الثانية تجد حرف «ﻫ» يساوي درهمًا ونصف درهم؛ ثم انتقل إلى الحرف الثالث من الكلمة، وهو «ب»، فراجع قائمة المرتبة الثالثة تجد حرف «ب» فيها يساوي خمسةَ دراهم وخمسةَ دوانيق، وإذن فكلمة «ذهب» تزن: قيراط + درهم ونصف درهم + خمسة دراهم وخمسة دوانيق.
خُذ مثلًا آخر، كلمة «فضة»؛ فابدأ بحذف الأحرف الزوائد، وهي: التاء، فيبقى لك منها «ف ض ض» (فضَّ) «الفاء» مرتبة أولى تساوي دانقًا ونصفًا، «والضاد» مرتبة ثانية تساوي دانقًا ونصفًا، والضاد مرتبة ثالثة تساوي دانقَين ونصفًا؛ اجمع هذه المقادير يكن لك وزن الفضة.
هذه صورة مبسطة غاية التبسيط لطريقة الحساب التي يُوزَن بها شيء ما، تمهيدًا لتحويله إلى شيء آخر، أو لتحويل شيء آخر إليه — لا فرق في هذا بين جماد ونبات وحيوان.
وأن جابرًا ليسوق في هذا الصدد ملاحظاتٍ تدلُّ على إلمامه بالنظرية الذرِّيَّة القديمة التي أخذ بها ديمقريطس وأتباعه؛ ولو نظرنا إلى ملاحظاته تلك على أنها تعبِّر عن رأيه في طبيعة التفاعل الكيموي لألفيناها جديرةً بالذكر، بل لوجدناها على درجة مذهلة من الدقة والوضوح.
يقول جابر ما معناه: إنه حين يتَّحد الزيبق والكبريت ليكونَا عنصرًا واحدًا، فالظن هو أنهما يتغيَّران تغيُّرًا جوهريًّا أثناء تفاعلهما، وأن شيئًا جديدًا ينشأ عن ذلك التفاعل، لكن الأمر على حقيقته هو غير ذلك؛ ذلك أن الزيبق والكبريت كلَيهما يحتفظان بطبيعتهما؛ وكل الذي حدث هو أن أجزاءَ كلٍّ منهما قد طرأ عليها من التهذيب ما قرَّبها من أجزاء الآخر تقريبًا جعلهما يبدوان للعين كأنما هما متجانسان؛ لكننا لو أُوتِينا الجهاز العلمي الملائم الذي نفصل به أجزاء أحدهما عن أجزاء الآخر، لتبيَّن أن كلًّا منهما قد ظلَّ محتفظًا بطبيعته الأصلية الثابتة، فلم يطرأ عليه تحوُّلٌ ولا تغيُّر، فمثلُ هذا التغيُّر والتحوُّل محالٌ عند الفلاسفة الطبيعيِّين.
(٥) تكوين الحيوان
- (١) مذهب يجعل التكوين قائمًا على أساسٍ آليٍّ؛ وذلك بتكوين الأجزاء، ثم حلِّها وتركيبها على النحو المراد.٤٤
- (٢) ومذهب يلجأ إلى طريقة التعفين؛ وذلك بأن يُوضع المثال المراد التكوين على صورته في جوف دائرة مصنوعة من نحاس وملْؤها ماء؛ ثم توضع دائرة النحاس في دائرة من الطين، إلى آخر تفصيلات التجربة.٤٥
- (٣) ومذهب يرى أن روح الكائن الحي لا يتولَّد إلا من الهواء؛ وأصحاب هذا الرأي يجعلون المثال المراد التكوين على صورته في دائرة معدنية مثقوبة ثقوبًا كثيرة، وتكون فارغة، ثم يضعونها في دائرة نحاسية مملوءة ماء، وتوضع هذه الأخيرة بدورها في دائرة من طين، وتُوقَد عليها النار … إلخ.٤٦
- (٤) ومذهب يقول إنه لا تكوين إلا بالمنيِّ داخل الصنم؛ فيوضع منيُّ الحيوان المطلوبة صورته في جسم من طين؛ فإذا أريد — مثلًا — صنْعُ إنسانٍ ذي جناح، وضعْنا منيَّ الطائر صاحب ذلك الجناح في العجينة المصنوعة … إلخ.٤٧
- (٥)
- (٦) وطائفة ترى أنه يكون باستخدام دم الجنس المراد التكوين على مثاله.٥٠
ويفيض جابر القول في صنوف الحيوان كيف تُصنع، مما لا نرى موجبًا لذكره مفصَّلًا؛ وحسبنا أن نُشيرَ إلى أن التقسيم الرباعي هو دائمًا أساس الصناعة عنده؛ فالحيوان — كغيره من الكائنات — منه ما تغلب عليه الحرارة ومنه ما تغلب عليه البرودة؛ فما تغلب عليه الحرارة يكون ذكيًّا سريعًا، وما تغلب عليه البرودة يكون بطيئًا بليدًا؛ ويمكن تصنيف الحيوان على الفئات الأربع المعروفة: النار والهواء والماء والأرض؛ فمنها ما هو في طبيعته أقرب إلى طبيعة النار، ومنها ما هو أقرب إلى طبيعة الهواء، وهلمَّ جرًّا.
ويضع جابر قاعدة عامة لتكوين الحيوان وانحلاله، وهي: «أن ما يتولَّد من شيء ما، يكون هذا الشيء قوامه»؛ فلو وُضع في طبيعة تُضادُّ طبيعته هلَك. ويتناول جابر عددًا كبيرًا من صنوف الحيوان فيصف لكل حيوان أنسب ظروف لتوليده؛ فالحيات تتولد من الشَّعر الموضوع في زجاج؛ والعقارب من التراب وعكر الدِّبْس؛ والزنابير من اللحم كثير التخريم، أعني اللحم الميت، والدود من اللحم الذبيح، والبق من ثخين الخل، والذباب من الأشياء الحلوة، وهكذا … ملاحظات يجمعها جابر، ولو كان أدقَّ تحليلًا لملاحظاته، لَردَّ هذه الظروف التي يتولَّد فيها هذا الحيوان أو ذاك إلى عواملها الأولية؛ فكأني به قد اكتفى بتسجيل المشاهدات الشعبية السائدة بين عامة الناس، فلم يتميز منهم بدقة العلماء.
(والأسرب هو القصدير).
(نفس المرجع المذكور، ص٣٥٠).