وطن في الغربة
(أ) يستحيل على أي قول أو فعل — بل يستحيل على الصمت نفسه — أن يخلو من السياسة. ومن رابع المستحيلات أن يخلوَ قول أو فعل أدبي من موقف أو وجهة نظر، مباشرة أو غير مباشرة، عمَّا يحدث في بلد الأديب، أو في العالم من أحداث تتصل بقضايا وأسئلة ومشكلات كبرى في حياة البشر، كالحرب والسلام، والحرية والاستعباد، والعدل والظلم والاضطهاد، والفقر والجوع … إلخ.
وقد آمن عادل قرشولي منذ البداية بأنه شاعر سياسي ملتزم، وإن كان قد حرص منذ البداية أيضًا على أن ينأَى بنفسه عن الأحداث السياسية التي تجري كل يوم، وعن الدخول في أي حزب سياسي علنيٍّ أو سري. شعر منذ الستينيات شعورًا عميقًا بأنه سياسي، كما أحس إحساسًا جارفًا بأن أي حدثٍ سياسي هام، ومن ثمَّ أي حدث إنساني يقع في بلده أو خارجها، يهزُّ وجدانه إلى الحدِّ الذي يجبره على تشكيل تجربته له في شكلٍ فنيٍّ.
ويتجلى هذا الموقف السياسي والإنساني العام — الذي لم يزل الشاعر ملتزمًا به التزامًا أساسيًّا — منذ بداية محاولاته لكتابة القصيدة الألمانية في أوائل الستينيات. يكفي أن نستشهد على هذا بإحدى قصائده المبكِّرة التي استجاب لها جمهور الشباب الذين استَمعوا إليها في إحدى الندوات، التي كان وما يزال حريصًا على قراءة مختاراتٍ من شعره فيها، وهي قصيدته «نداء من أجل فيتنام»:
ومن الواضح أن هذه القصيدة تحرِّض غير المكتَرثِين على أن يكترثُوا بما يدورُ حولَهم، وتدعو البرجوازي الصغير — الذي اعتاد في كلِّ مكان ألا يبالي بشيءٍ يخرج عن حُدود جسده ومصالِحه — تدعوه لأن يهتم بما يُرتكَب في العالم من مظالم، لن ينجيه الجمودُ واللامبالاةُ من الاحتراق بنارها بعدَ أجل قريب أو بعيد. والعجيب والجدير أيضًا بالذكر أن هذه القصيدة تحوَّلت في ذلك الحين إلى شعار رفَعَه المحتجُّون على حرب فيتنام في مظاهراتِهم الحاشدة، بل برزَتْ أبياتها على لافتة عُلِّقت داخل المحطة الرئيسية للسكة الحديدية في مدينة ليبزيج، كما قام بتلحينها أحدُ كبار الموسيقيين (يواخيم فير تسلاو)، وظهرت نوتتها الموسيقية في كتابٍ صدرَ في نفس المدينة سنة ١٩٦٨م. ومع أن الاتجاه لإدماج الأحداث السياسية الهامة وتضمينها في نسيج الشعر كان اتجاهًا شبه عام بين الشعراء عندنا وعندهم في تلك الفترة، فلا بدَّ من القول بأن ذلك كان أمرًا طبيعيًّا بالنسبة للشاعر الذي اشتعل كيانُه بالمبادئ الاشتراكية، والذي ذاق مرارةَ تجربة المنفى والجوع والاضطهاد، ولم يقف أبدًا لا في شعره، ولا في نثره، موقفَ المتفرج من القضايا والأحداث والمحن التي ألمَّت ببلاده العربية، مثل: مجزرة صابرا وشاتيلا، وحرب الخليج، وانتفاضة أطفال الحجارة.
(ب) مع ذلك، فبالرغم من كلِّ الدعايات والمزاعم العالية الصوت باسم التضامُن الإنساني والأخوة البشرية، ومساندة الشعوب النامية في مساعيها للتحرُّر والاستقلال، كانت تتحرَّك تحت هذا السطح الرسميِّ البرَّاق — كالدود في العسل — ألوانٌ مختلفة من اضطهاد الأجانب في ألمانيا الديمقراطية السابقة. يروي لنا الشاعر كيف شارك في مظاهرة كبرى باسم الشعب وصرخ مع الجموع: «نحن الشعب»، ومع ذلك اضطر أن يقول لنفسه أو أن يجدَ من يقول له: نحن؟ كيف تقولُ نحن؟ أنت بالذات مُسْتَبْعَد. فالأجنبي يبقى أجنبيًّا، حتى لو حاولَ بكل كيانه أن يحيا حياةَ المواطن في البلد الغريب، وما قيمةُ أن أقول للشابِّ الذي يصيحُ حتى يشق حنجرته: «اخرجوا أيها الأجانب»؟! ما قيمة أن أقول له: لقد عشتُ يا بنيَّ في هذه المدينة عمرًا أطول من عمرك، وربما كنت أعرف أجدادك الألمان، مثل جوته، وهَيْني وكلايست، وهيجل، وباخ وغيرهم، خيرًا من معرفتك بهم؟! سوف يظل يصرخ مصوِّبًا نحوي رصاصَ كلماته: «اخرجوا أيها الأجانب!» وأحاولُ من جانبي أن ألتمس له الأعذار والمعاذير حتى لا أجنَّ؛ لجهلِه، وصغر سنه، وقلة خبرته، ونزعتِه الإقليمية، ومعاناته من البطالة، وتعرضه للبث الإعلامي الذي ينفث سوء الظن بالآخرين. آه! وكم وصفوني، ونادوا عليَّ بأسماء مختلفة: أنت يا حادي الجمال، يا تركي، يا ياباني، أو أنت أيها الأسود!
(ﺟ) «كابية يا صاحبي، هي كل النظريات،
لكن شجرة الحياة الذهبية خضراء.»
ربما لم يشعر أحد بصدق هذه العبارة، التي جاءت على لسان الشيطان في فاوست الأولى، مثلما شعر بها شاعرُنا المغترب الشاب، ولكي تخضرَّ شجرة حياته وشعره الذهبية الخضراء في الأرض الغريبة، ويدخل في حوار مع الوجوه الثلجية العابسة، ويتعايش مع ملل الحياة اليومية وكآبتها، ويكظم في نفسه ذكرياتِ طفولته الحلوة في الوطن البعيد الذي اضطهده واضطرَّه للهرب منه، ويدخل متاهة اللغة والأدب والثقافة الجديدة عليه، ويتعرف على سراديبها المُعتمة وأنفاقها العميقة، ويصمد في صراعِه مع وحوشها الضارية، ويداري السلطة الغبية الغاشمة التي تنهمر من عليائها الأوامرُ والتعليمات، ولا ترضى بغير الخضوع والخنوع والطاعة العمياء، كان عليه أن يصبِرَ ويصبر، ويقاوم ويتعلَّم، ويخطو كل يوم خطوة إلى الأمام، ثم ينتظر وينتظر؛ حتى تخضَّر شجرته الذهبية، وتمدَّ ظلال الجسور بينه وبين الآخرين.
وحدثت معجزة الحب، فتحققت معها معجزة الشعر، وبدأت الشجرة تخضر، وما زالتْ تزدهر وتثمر.
هل يمكن أن تكون هذه حياة؟ أليس في هذا إنكارٌ للذات وإلغاء للوجود؟ دعْ عنك أن تبقى ثمة فرصةٌ للحوار، أو للحب، أو للشعر والفكر، مع انقطاع كل فرصة للتعبير.
وتحتَّم عليه أن يتمرد ويثور، ولكي يتمرد ويثور تحتَّم عليه أن يتعلم ويتعلم. وأول ما كان عليه أن يتعلمه هو أن يستوطن اللغة الجديدة، أن يجِدَ فيها وطنه وبيته ويمدَّ فيها جذوره؛ حتى لا يجد نفسه — كما يقول بيتر فايس — بلا لغة، ولا يسقط في العيِّ والخرَس.
واستمرت الثورة مع المضيِّ قدمًا في التعلم. وتفتحت زهور الشجاعة والثقة بالنفس والاعتداد بالهوية من قلبِ دوامة الخطر؛ خطر أن تسقط القنبلة، أو تنهار السماء، اليوم أو غدًا، فوق الرأس.
(ﻫ) بعد غرس الجذر يأتي حوار المطر الهامس مع آذان الأشجار. يأتي مدُّ الجسر بين الأنا والآخر المحبوب في صبرٍ وهدوء، بعدما نضجت اللُّغة، واختمرت عصارة الكلمة الشِّعرية في الجذر والجذع والبراعِم، وتألَّقت الخضرة في الأغصان والأوراق، عندما لمسها شعاع الحب الذهبي:
وانهمرت القصائد تُقيم الجسور بين ذاته وذاته، وبينها وبين الآخر المحبوب، كأنها همسات المطر في سَمع الشَّجرة، أو لمسات لمسامِّ العالم في الظلمة أو غَبَش الفجر. وعندما دعا حبيبتَه — التي أصبحتْ زوجته — في قصيدة بعنوان «قلق» (وهي القصيدة التي يستهلُّ بها ديوانه: وطن في الغربة) أن تدثِّره بجلدها الدافئ؛ كانت هذه الدعوة في حقيقتِها تحديًا لكل رياح الغربة والقلق، واعترافًا بأنه قد وجد ذاته في هذا الآخر المحبوب، كما وجد الآخر ذاتَه فيه، وأنه لن يُعرض عاريًا في الواجهات الزجاجية للذين يطعمونه، ولن يَخشى بلطة تعليمات السلطة، ولن يشكو من اقتلاعِ الجذور بعد أن وجد الحب، فوجد معه الوطن وربيع الحياة، والشعر الأخضر الذهبي.
(و) هكذا كانت السنوات العشر لعقد الثمانينيَّات هي سنوات المنفى الداخلي. وعلى الرغم من النجاح الذي تحقق لشاعرنا فيها — ضمُّه إلى اتحاد الكتاب في جمهورية ألمانيا الديموقراطية، وحصوله على جائزةِ مدينة ليبزيج — فقد عكَف على مناجاته لذاته، وبحثِه عن وطن أو «موطن» في الغربة. هل يا تُرى سيَهْتدي إليه ويسكن فيه؟
تقدم كاتبان مرموقان — هما فولكر براون وهلموت ريشتر — باقتراح ضمِّه إلى اتحاد الكتاب بوصفه رفيقَ الطريق الذي يَشرُف الاتحاد بعضويته، وصاحب صوت فريد، واسم معروف في الشعر الألماني، والشعر العربي على السواء. ومع ذلك استمرَّت النظرة إليه كشاعر سوري مهاجر يكتب بلغتَيْن، لا كأديب منتمٍ للأدب الألماني نفسه. وبقيت مسافة البُعد بين «الهو» و«النحن» قائمةً؛ بالرغم من الثناء الذي انهالَ على شعره وشخصه، والتقدير لمشاركته الفعَّالة في الحياة الثقافية وفي مشكلات البلد الآخر، وتعاطفه مع شعبه، وتبنِّيه للكفاح في سبيل تحقيق المدينة الاشتراكية الفاضلة في الواقع. ظلَّ هو الأجنبيَّ، المهاجر، الناطق بلسانين، والكاتبَ بلغتين. ولم يعدم في بعض المواقف المتأزِّمة التي حاول فيها أن يرفع صوته، ويمارس حقه الطبيعي في النقد والاحتجاج على الفساد والاستبداد والكذب والظلم، لم يعدم من يصرُخ في وجهه: «أنت أجنبي، ولا داعيَ لأن تتدخل في شُئوننا.» أو من يقول له في غضب: «إذا كان هذا البلد لا يعجبك، فلماذا لا ترجع إلى بلدك؟»
لكن كيف يفعلُ هذا أو يفكِّر فيه بعد أن أصبحَ له وطن في ليبزيج، وضربَتْ شجرةُ شِعره وحبه بجذورها في تربةِ هذه المدينة؟!
إن ديوانه «وطن في الغربة» يضم مجموعةً من القصائد التي تحمل هذا العنوان: «مرثيات ليبزيج»، وفي أبياتِها ينطق أمله وخيبة أمله في وقتٍ واحد، معاناته من الاغتراب، وإصراره على المواطنة في البلد الذي جاءَ إليه بإرادته واختياره، وما يزال يعيش فيه ويشارك ويكتب ويعلم ويبدع، دون أن يخطرَ على باله لحظةً واحدة أن يتخلَّى عنه، حتى لا يتخلى عن نفسه، مهما لقِيَ من جفاء وجحود، ومهما طارده القلقُ طوال السنوات العشر خوفًا من سَحْب التصريح بإقامته الذي كان عليه أن يجدِّده سنويًّا، كما كان عليه ليضمن تجديده: أن يوقع على عقدٍ شديد الإجحاف مع الجامعة.
هكذا امتزج الرجاء باليأس بالغضب في قصائد هذه المرثيات. كم حاولتِ الأنا الشاعرة أن تواجه صمت الآخر، وتَباعده، وتعاليَه في بعض الأحيان بأن تمدَّ له يدَ الأخوة والتعاطف، وتبدي استعدادها لمشاركته في حَمل همومه:
(ﺣ) نعم، لقد صمم على الحياة في هذه المدينة التي جعلها وطنًا له؛ رغم إحساسه أحيانًا بالاغتراب، ورغم تأزُّمه وتمزُّقِه بما يراه، ويلمسه من تناقضات الواقع الذي يُعايشه ويشارك فيه. وهو في سبيل هذه المحاولات الدائبة لغَرْس الجذور في الوطن الآخر لا يتردَّد، حتى عن أن يزجر أشواقَه لوطن الطفولة، وأن يكبت «نداءات» الوطَن المتكررة في الصحو والمنام بالعَودة إليه، هذه العودة التي ستبدو بغير شك — وسط المعارك التي يخوضُها لتثبيت وجوده في الوطن الآخر — أشبهَ بالفرار أو الهروب. من أجمل ما يصوِّر ذلك: قصيدتُه التي جعل عنوانها «أورفيوس»:
إن محاولاته للتعايش مع الوطن الجديد والحضارة الجديدة قد كلَّفَتْه الثمن الغالي. وأغلى ثمن هو أن يمرَّ بأزمة هوية يطحنُه فيها الشعور بأنه «لا هو هنا ولا هناك»، أو يعذِّبه الوعي بأنه وقع في الشَّرخ أو الصدع أو الجرح الفاصل بين العالمين، وأخيرًا الإحساس في عمقِ ليلِ الأزمة أو فوق ذروتها، بأنه قد تخلَّى عن نفسه كما تتخلَّى الشجرةُ الخضراء عن أوراقها، وأنه بذَل كل ما في طاقته؛ ليمدَّ جسرًا بينه وبين الآخر فلم يزِدْه هذا — في بعض تجاربه على الأقل — إلا بعدًا عنه أو نفيًا له.
(ز) في هذا الملاذ وجد وطنه في الغربة، عرف صدقَ الكلمة التي قالها له أبوه العجوز الحكيم قبل موته: «سيكون الحب وحده هو وطنك.»
في هذا الوطن، الذي يتشبث فيه «بكتفَي امرأة شقراء يحبها»، سيجد كل ما يجعل للإنسان وطنًا: الأصدقاء، والأماكن، والذكريات. لقد سقط سقطة «إيكاروس» على الأرض التي أحبها، ولم يشأ أبدًا — برغم الإحباط والأوهام الخادعة والآمال الخائبة — أن يغادرَها أو يموت على أرض سواها:
وهنا هي ليبزيج التي يشتاق إليها حين يكون في دمشق، ويشتاق إلى دمشق حين يكون فيها:
«بلداي الاثنان وأنا، مرتبطان برابطةِ الزواج، حتى يفرِّق الموت بيننا.»
وهنا تتعانق خطوط الطول، ويُزف دفءُ الشمس إلى برد الثلج، ويزدهر عالم يوتوبي، ولكنه واقعي فريد؛ لأنه عالم إنساني يحيا فيه الغريبُ ويشعر بإنسانيته، برَغمِ الصَّدْع أو الجرح الذي يُدميه، وبرغمِ العذاب الذي يقاسيه لكي يمدَّ الجسور بين شاطئَيْن، ويغرس الجذور في بلدين ولغتين وتراثين وحضارتين.
(ط) لكن الاهتداء إلى الوطن والسكن فيه وإليه، لا يعني بأي حالٍ من الأحوال أن ينكفئ الشاعر على نفسِه داخل جدرانه الأربعة الخرساء، ولا أن يقنع بحياة البرجوازي الصغير الذي خُتم على جبينه بخَاتم اللامبالاة، ووقف عاجزَ الحيلة في طوابير الخانعين أو اليائسين. وهو لا يعني أيضًا أن يرضَى بالسكوت على الكذب والظلم والصمت المنتشر حوله كالوَباء. لقد صمَّم على أن يرفع صوته النقدي، حتى لو اصطَدَم بسوء الفهم من بعض أقرانه والمستمعين إليه، بل حتى لو جاهره أحدُهم بالعبارة الوقحة: «إن كانت الأحوال عندنا لا تعجبك، فلماذا لا ترجع إلى وطنك؟» ولقد آثر ألا يتحول إلى شيطان أخرس، وصمَّم على أن يستجيب لنداء تراثِه الساري في دمه، ولا يسكت عن الحق. وها هو ذا يقول في قصيدة معبرة عن أزمته في السنوات العصيبة التي سبقت قيامَ الوحدة الألمانية ضمن مجموعة قصائده «مرثيات ليبزيج»، التي سبقت الإشارة إليها تحت عنوان «واحد لم يسكت»:
(ي) مضى الشاعر يدافع عن مبادئه ومُثُله، ويرفع صوته احتجاجًا على الأحوال السيئة في ظل التطبيق الفاشل للاشتراكية، ويواصل مشاركة الناس العاديين آلامَهم وهمومهم، كما يواصل في الوقت نفسه الدفاعَ عن وجوده وبقائه في مجتمع «اليوتوبيا»، الذي لجأ إليه باختياره، ثم جرَّب بعد ذلك قسوةَ خيبة الأمل فيه، وضرورة التحرر من كثيرٍ من أوهامه السابقة، وإن بقي على انتمائه إليه، والتزامه برُوح مبادئه ومُثُله بالرغم من سُوء الحظ الذي أصابها على أيدي الموظفين البيروقراطيين، والمنظِّرين والدعاة الدجالين أو الجلَّادين.
واضطر الشاعر أن يدخل باختياره في سجن الصمت، وفي منفاه الدَّاخلي، بعد تجاهل صوته، والسكوت عن صُراخه إلى حدِّ الاستنكار، في بعض الأحيان، لتعاطُفه ومشاعر حبه، وأخوته للآخر الذي يشاركه العيش في مجتمعٍ واحد ومدينةٍ واحدة. ومن الطبيعي أن يجنح في بعض ما كتبه خلال الأزمة من شعرٍ إلى التأمل الفلسفي، والنظر من أعلى لعلَّه يتجاوز أزمة الذات، ولا يختنق في سجنِها أو منفاها الاختياري، ولكنه ظل على وعيِه وإيمانِه بأن الشِّعرَ هو الذي يبقى، وبأن الكتابة هي الضمان الوحيد لإثباتِ الوجود، وظل إرسال حمامات كلماته فوق سطوح المدن النَّائمة هي الرسالة التي لا يكف عن إبلاغها، ما بقي على قيد الحياة:
(ك) اسمَعْه وهو يقول في أحد أحاديثه التي ترجع إلى عام ١٩٨٦م:
والواضح من العبارات السابقة أن وظيفةَ الشعر هنا قد انسحبت إلى الباطن، وربما تكون قد كفكفَتْ من طموحها القديم لتغيير العالم أو الواقع، الذي لا تغيره الكلمة بسهولة كما يأمل الكتَّاب والشعراء منذ القدم. وهذا الاتجاه إلى الذات أو عالم الباطن لا يَعني التقوقع أو الانكفاء، أو الكف عن الفعل والتواصل، ولا يتنافى على الإطلاق مع الحِفَاظ على علاقته الأمينة الخالية من الكَذِب أو المُداراة أو المداهنة، بالمجتمع الذي اختار الحياة فيه، ولم يصده سقوط أقنعته عن مواصلة المشاركة الفعالة في بنائه. وهو كذلك لا يتنافى مع الحفاظ على «الرسالة» الأبديَّة للكلمة في الإبلاغ والتنبيه والتنبؤ، والتحذير والتبشير أيضًا بالمستقبل الأفضل والأعدل والأكمل، مع الحرص على الدَّوام — ورغم انتقاله من مخاطبةِ الآخر إلى مناجاة الذات — على دورِه الجوهري في إقامة الجسور بين الشاطئَيْن البعيدَيْن.
ذلك — في تقديري المتواضع — هو الطابعُ الذي ما يزال غالبًا على شعره، على الرغم من غلبةِ الاتجاه للمناجاة الذاتيَّة على إنتاجه خلال السنوات العشر الأخيرة، وبالأخصِّ في آخر دواوينه الذي تجدُه في هذا الكتاب، وهو: «هكذا تكلَّم عبد الله».