هكذا تكلم عبد الله
(أ) لجأ الشاعر إلى مَنْفاه الداخلي، ورجع الشِّعْر إلى جوهره الحقيقي من الذات إلى الذات.
واستمرَّ البحث — خلال عقد الثمانينيَّات — عن الهوية، وعن دور الشاعر والكاتب الذي يرى نفسَه كالراقصِ على حبلٍ بين عالمَيْن — أو جحيمين كما سيقول في إحدَى قصائده المتأخرة — بين وطنٍ أصلي يشعر مع الزمن بالاغتراب عنه، ووطنٍ يرى بعينيه كيف تتحطم فيه «يوتوبيا» أحلامه الاشتراكية، وينظر إليه أهله بعد العُمر الطويل الذي قضاه معهم نظرتَهم إلى غريب أو أجنبي. ومع أنه قد حصل في منتصف الثمانينيات — كما عرفنا من قبل — على جائزة الفن من مدينة ليبزيج، مما أكَّد الاعتراف بقيمة إنتاجه وتميزه، فقد راح شِعْرُ المناجاة الأسيان يتدفَّق منه بالألمانية والعربية، وبالأخص في مجموعة قصائد سماها «الموت الغريب»، وضُمَّت إلى قصائد أخرى مختارة من دواوينه السَّابقة في منتخب، سماه «لو لم تكن دمشق» (١٩٩٢م، من ص٧٢ إلى ص٨٣).
لم تكُن هذه القصائد مجردَ تعبير عن الواقع السياسي والاجتماعي واليومي الخانق (كما في قصائد عميقة الدِّلالة على ذلك الواقع مثل رابسودية قاتمة، وتعلم المشي والقفص) التي تجدها مع قصيدتي «غربة» و«موت غريب» مع المختارات المنشورة في الصفحات الأخيرة من هذا الكتاب، بل كانت في صميمها مخاطبات ومناجيات للآخر الوحيد الذي بقِي له، وهو ذاته، غلب عليها طابع التأمُّل الفلسفي في حكمةِ الوجود والمعنى والمصير، والحب والموت والغربة والرحيل والوصول، والذات والآخر، والشوق للاتحاد بالكل دون الضياع والذوبان فيه … إلى آخر ذلك من الموضوعات والأسئلة الكبرى، التي اتجهت إليها رؤية جديدة وحكمة نضجت على نار التجربة والزمَن. والذي يهمنا الآن هو أن هذه القصائد الأخيرة — التي كتبت بين سنتي ١٩٨١م و١٩٩١م — تضم عددًا من القصائد التي جاءتْ على لسان عبد الله، وكانت أشبهَ بالطلائع المعلنة عن أحاديثه وتأملاته، ونصائحه الحكيمة التي سيضمُّها بعد ذلك ديوانه الأخير «هكذا تكلم عبد الله» (من هذه القصائد: الجذْر، الحبل، الإنسان الجديد، الجنون، الجسر).
لفت الديوان الأخير (١٩٩٥م) أنظارَ القراء والنقَّاد فورَ ظهوره، لا بسببِ الغلاف الأزرق البديع الذي نُثرت على أرضيَّته الألف باء العربية بحروف ذهبية ذات بريق لامع كبريق النجوم في سماء صيف صافية، ولا بسبب العنوان الذي يذكرنا لأول وَهْلة بعنوان كتاب نيتشه الشهير «هكذا تكلم زرادشت»، قبل أن نكتشف أنه لا تربطُه أية صلة من قريب أو بعيد، لا بزرادشت الإيراني القديم ولا بنيتشه فيلسوف الإنسان الأعلى، وإرادة القوة والعود الأبدي للشبيه (ربما باستثناء نوعٍ من الصوفية الدنيوية، أو الأرضية التي يشتركان فيها من بعيد، وبصور مختلفة مع روح التصوُّف الطبيعي والدنيوي الذي نجده في عصور ومذاهب مختلفة في الشرق والغرب)، بل لا تربطه صلةٌ موضوعية حميمة بمخاطبات ومواقف المتصوِّف الإسلامي الشهير، من القرن الخامس الهجري والعاشر الميلادي، وهو «النفَّري» الذي تأثر به عدد كبير من شعرائنا وأدبائنا العرب المعاصرين، ولم يأخُذْ شاعرنا منه سوى شكل الخطاب وصيغته، التي يبدأ بها قصائده «هكذا تكلم عبد الله أو وقال عبد الله»، كما يبدأ بها النفَّري مخاطباتِه. وإذا كان عبد الله لا يتوقَّف عن قوله ولا عن خطابه لآخر يحاوره باستمرار، فإننا سرعان ما نكتشفُ أن الأمر من البداية إلى النهاية لا يخرج عن كونه «مونولوجًا»، أو مناجاة تهمس بها ذات الشاعر لذاته، وتصبحُ فيها — على الرَّغم من الجدل الدائر بين قطبين أو طرفين — هي الأنا والآخر في وقتٍ واحد.
(ب) فقدت هذه الذات — التي انقسَمتْ كالخلية الواحدة إلى ذاتين، وراحت تتأمل نفسها الأخرى في مرآتها — فقدت كل أمل في قدرة الكلمة على تغيير الواقع، وفي قدرة الواقع نفسِه على إحداث أي تغيير فيه. وأخذت الذات تراجع كُلَّ المفاهيم التي عاشت عليها وآمنت بها. حتى مفهوم الوطن فقَدَ اسمه المحدد، وتحوَّل إلى رغبة دائمة، وبحث لا ينتهي عن مكان يمكن أن تصل إليه الذات وتستريح فيه:
«أن أصِلَ مرةً أخرى لأيِّ مكان، أن أخلد للراحة مرةً أخرى، أن أكون مرةً أخرى هناك، حيث تعلم الذاكرة علم اليقين.»
ومن الصعب تحديد هذا المكان الذي يريدُ الشاعر أن يصل إليه، بعد أن عانى الكثيرَ وقاسى الكثير من الغربة في الوطن، ومن البحث عن وطن في الغربة. كان الفرق واضحًا بين الوطنين خلال تطور حياتِه وشعره، ابتداءً من «كحرير من دمشق»، الذي تفصل قصائدُه بينهما فصلًا واضحًا، إلى «عناق خطوط الطول» الذي حاول أن يوحِّد بينهما داخل ذاته، إلى «وطن في الغربة» اهتدى إليه ومدَّ — بفضل معجزة الحب — جذورَه فيه. لكنه الآن — في مخاطبات عبد الله لذاته — يتبيَّن استحالة الفصل بين الوطن الأصلي ووطن الغربة، كما يكف عن محاولة التوصُّل إلى مركب ثقافي أو حضاري يؤلِّف بينهما، إذ يمكن أن تتجاور الاختلافات والتناقضات والمقومات الخاصة بجانب بعضها، وتلقي الأضواء بعضَها على بعض، وتلغي الحواجزَ الغليظة التي تفرق بينهما.
أين إذن سيكون مكانه ومستقره؟
لا بدَّ أنه سيكون بينهما، في النقطة التي يقيم فيها الجسر الواصل بينهما بالتفاهُم والاحترام المتبادل، والأخوة والتجانس والسلام، في حضن حضارةٍ بشرية واحدة تضم مختلف الثقافات الفردية التي تتحاوَر مع بعضها حوارًا حيًّا لا ينقطع «ولا يكترث بالصيحات المشبوهة عن صِدام الحضارات، واللغو الفارغ المريب عن عولمةٍ تروج لها، وتفصِّلها على مقاسها قوةٌ أو قوى جشعة مهيمنة»:
(ﺟ) وبنية قصائد «هكذا تكلم عبد الله» تقوم على الجدلية التي يتلاقى فيها — كما يتصادم ويتصارع — السؤالُ والجواب، والفعل وردُّ الفعل، والإيجاب مع السلب، أو السلب مع الإيجاب. ومع أن ترتيب القصائد قد رُوعي فيه أن توضع القصيدة في مواجهةِ قصيدة أخرى نتوقَّع منها أن تمثل الطرف الآخر، في سياق الحوار الجدلي بين وجهتي نظر متقابلتين، فإننا لا نلمسُ الجدلية والتقابل الضدِّي بصفةٍ دائمة، إذ يحلُّ الاستطراد والتكامل أحيانًا محل التضاد والتعارض، كما يمكن أن تطوف بنا القصائد في عوالم وتجارب، ومناطق شديدة التنوع، وأن تضعَنا في مواضع الحيرة والشك، وعدم الفهم حيال الغموض الذي يلف بعضها في ضبابه، ويحيطها بما يسميه «جوته» ﺑ «السرِّ المكشوف» الذي ربما تستطيع البصيرةُ وحدها أن تنفذ إليه وتتعاطف معه.
ومع ذلك يمكن القول بوجهٍ عام: إن عبد الله يمثِّل الذات الحكمية التي تُعلِّم وتوجِّه وتُراجِع وتقيِّم، وتشجع وتعزِّي وتلوم وتعاتب، وتقوم أيضًا بتعرية جميع الأقنعة. كل ذلك من خلال الصدق المطلق، ومن منظور الدليل المحنَّك الذي رأى وعرف، وراح يهدي نفسَه بنفسه إلى طريق الوصول للعالم، والآخر، والحياة، والنور، والحب، كما يساعد الآخر — الذي هو هو ذاته — على العلوِّ والارتفاع فوق الصغائر والإساءات، وفوق مَرارة الواقع الذي سقطت أقنعته، وخاب الأمل فيه، وغادره كل وهمٍ تعلَّق به، بل فوق الموت نفسه الذي ينصحُنا وينصح نفسه بأن نرحب به ونعيش. وإذا كنا نلتقي في كثيرٍ من القصائد بذاتٍ أخرى تردُّ على عبد الله، فتشرح أو تبرر وتوافق أو تعترض، وتذكِّر بقسوة الزمن والواقع والظروف التي حالتْ بينها — كما تقول عبارة نيتشه الشهيرة — وبين أن تصير ذاتها، فينبغي ألا ننسى أن هذه الذات الأخرى لا تجدُ نفسَها إلا في ذات عبد الله، كما لا يجد عبد الله نفسه إلا فيها. وتلك هي الحكمة الأساسية التي تقوم على وحدة الذات والآخر وعِناقهما وتداخل نسيجهما، مثل تداخل قوس قزح مع قوس قزح.
وتبدأ مناجاة الذات لذاتها — على لسانِ عبد الله — بالهموم والعذابات الكبرى التي شغلتها في حياتها وعبرت عنها في شعرها. وأول هذه الهموم وأفدَحُها هو هم الوطن الذي يحق لكل إنسان ويتحتم عليه أن يمدَّ فيه جذرَه. لهذا يتكلم عبد الله بصيغة الأمر الجازمة الحاسمة: اغرس جذرًا تؤسس وطنًا؛ لأن مَن لا وطن له في وطنٍ ما، لا جذر له، ومن لا جذر له لا يحمل ثمرة، ومن لا يحمل ثمرة فهو وحيد مهجور مثل الفرع اليابس.
ويردُّ عبد الله بلسان عبد الله، أو ترد الذات الأخرى على الذات التي تجد نفسَها فيها، فتقول: مكان يحويك، زمن يحملك، قوس قزح يغزل في داخلك ويتعانق مع قوس قزح، هناك فحسب تكون حياة.
ولا تلبث المناجاة أن تقلِّب جمرات الهواجس والشكوك في أعماق الذات التي ما فتِئَت ترقص على حبل، عن يمينها الغربة وعن شمالها الغربة، لا الشرق فيها شرق، ولا الغرب فيها غرب، وهي تواصل الرقص، وتنتظر كالقارب الذي نكَّس شراعه، أو الشاطئ الذي ما زال ينتظر في صمت. الغربة ليست عنها بغريبة؛ لأنها تعشش في الجذر، وهي لا تملك إلا الشوقَ إلى المطلق يدعوها في ليلاتِ الوحدة خلف تُخوم جبال سبعة. ويذكرها عبد الله أو تذكر نفسها بأن الوطن الأصلي هناك، وأنه أقرب إليها — على الرغم من مسافة البعد — من قرب اليد لليد، والحدَقة للعين، والطفل لصدر الأم.
وأول الطريق لقهر الغربة هو الحفاظ على الهوية، والصمود في وجه الذل والإهانة ممَّن قدموا له الطعام والشراب بيدٍ لا تعرف الحبَّ، ثم صرخوا فيه لينصرف خارجًا إلى العمل: «دع الحبة التي يلقونها عند قدميك، وحلِّق جائعًا مع الطيور الصغيرة» «كن كالشجرة المُشتاقة لمقدم الربيع، تلتفُّ عارية بالريح الثلجية، وتقاوم الموت.»
إن الوطن هناك، مهما اضطهده ذات يوم، شمسه الأليفة مختبئة في العيون العَطْشى التي تتابعه وترعاه، وفي جرحه القديم المرِّ الذي يطلب منه عبد الله أن ينثر عليه البلسم ليندمل ويطيب. والوطن تحت قدميه في البلد الغريب الذي آوى إليه بإرادته واختياره الحر. وما عليه إلا أن يمدَّ يده للآخر، أن يأخذ يدَه المرتعشة من البرد في يدِه، أن يعطيه كرسيًّا، ويمدَّ له مائدة ويعيره أذنيه عندما يتكلم.
لا خلاصَ من الغربة إلا من خلال هذا الآخر الكامن فيه — عليه أن يبحث عنه في داخلِه، وعلى ذلك الآخر أن يبحثَ عن نفسه فيه، الآخر هو أنتَ وأنت هو، والجسر الواصلُ بينكما هو وحده الحياة — وأنت الذي تبحثُ فيه عنه، وهو الذي يبحث عنه فيك، عليك أن تبقى أنت أنت، وعليه أن يبقى هو هو، وعليكما معًا أن تحافظا على الجسر الذي يربطُ بينكما؛ إذ ما قيمة الحياة وأي ثمن تساويه لو تحطم هذا الجسر؟!
نعم، كيف تصبح حياتك لو تعمَّد الآخر أن يحطم هذا الجسر؟ ألم تجرب كيف عاملك بجَفاء، وكيف اختزل وجودَك الإنساني والشعري في صيغ وكليشيهات باردة جوفاء، سماك الأجنبي والمهاجر واللاجئ، وأبَى عليك أن تجد نفسك فيه، كما رفض أن يبحث عن نفسه فيك؟
لا بأس في هذا ولا ضَيْر. إن عبد الله يتشبث بالجسر ويدعوك للتشبُّثِ به، يوصيك أن تصير كما كنتَ، حين لم يكن لك وجود إلا في الآخر، يعلمك أن تصبح ذاتًا بحق، لا قوام لها ولا بقاء إلا بالذات الأخرى، وفيها ومنها إليها.
(د) هذه الذات الأخرى التي وجدْتَ نفسك فيها كما وجدت نفسها فيك، التي أغنَتْك بثرائها عن فقر القلوب الأخرى، وظلَّلَتْك بشعرها الناعم كالحرير الدمشقي عندما افتقدت الظل في الهجير، ومنحَتْك الدفء في الثلج والصقيع، وطرقت بابها بلا خوف حين قرَعَ غراب الوحشة والفراق نافذتك، واحتوتك ببسمتها ومدت لك شفتيها بالندى الأخضر، حين عبست الوجوه الثلجية، وعاهدت نفسك أن تأخذ وجهها معك وبين جفونك، في صحوك ومنامك طول العمر، وحتى آخر لحظة. هذه النعناعة الذهبية الشقراء — كما سميتها — هي جسرك الذهبي إلى العالم والأرض والحياة والإنسان. بفضلها ستنسى غربتك، ولن تحفرها في جلدك، ستقاوم وتسترد الثقة فيما تقول وتفعل، وتنسى اليدَ التي امتدت إليك بالإساءة، وتعنون الألمَ بالفرح والفرح بالألم، وستنتظر المطرَ فترقص على حَبْلك بين مطر ومطر، لا بين جحيم وجحيم، كزهرة عباد الشمس متحديًا الهواء الخانق. وسوف تشد النعناعة على يدك بحنانِ الزوجة والأم والأخت وابنة العم والحبيبة، فتكسر بنفسك شرنَقتَك العمياء وتخرج منها؛ بحثًا عن الظلال الرطيبة في وهَج الشمس، وتمدُّ جسورك من خط طول إلى خط طول، ويجد قاربك الوحيد مرساه على شواطئ العالم، وفي قلب المخلوقات.
عندئذٍ تدخل في «الماوراء الأرضي»، الذي دخَلَ فيه اسبينوزا وجوته ونيتشه والنفري، والمتصوفون الطبيعيون، أو الأرضيون، كأنك ديونيزيوس أو تموز جديد يهبط في الهاوية الأعمق للحقيقة، في النبع الأعمق للحياة ليبعث من وسط اللجَّة كالنجم الطاهر في وهج الفجر. ستكون نهرًا يذوب فيك المطر، وشجرة تنضج فيك العُصارة، وتطرح الثمر، وسوف تتوحد بالكائنات، وتتوحد الكائنات فيك، تنفذ إلى مسامها وتنفذ في مسامك، تكون الماء والسمكة والموجة والزيتونة، وتغني مع البلبل للأشجار وتطرق بالأحلام الخضراء نوافذَ هذا العالم، ثم تسكن هذا العالم فلا تهجرُه ولا يهجرك، تتنشَّق روائحه بكل حواسِّك، وتستقر في لحظته الأبدية التي تتنفسُها بكل مسامك، تدخل فيها لتحتضنَ نفسك ومسبحة صلواتك، ثم تخرج من شرنَقتِها لترفرف في الحياة كالفراشة الإنسان، أو الإنسان الفراشة، نحو النورِ الساطع والزهر النديِّ، بعد أن جرَّبت وتقبلت وتخليت عن التدخل في مجرى الحياة، وتحررت من أوهامك السَّابقة بتغيير الواقع والناس، لكنك أبدًا لم تتخلَّ عن دورك في أن تكون جسرًا ممتدًّا من خط طول إلى خط طول جسرًا يصلُ إلى قلب العالم وإلى قلب الإنسان — بنيتِه من كلماتك وأشعارك، وما زلت تبنيه — لكن هل وصلك هذا الجسر مع الآخر ووصَله بك، أم حالتْ دون لقائكِما أفكارٌ خاطئة وأحكام مسبقة تحصَّن وراءها وتحجَّر في قيودها وأغلالها، وعششت في عقله وفي رؤيته لك، منذ العصور القديمة والوسيطة إلى يومِنا الحاضر؟