هكذا يريدوننا
(أ) في هذه الأيام التي ترتفع فيها موجاتُ التعصُّب المقيت بين الأفراد والشعوب، وتتمزق الكرة الأرضية بين شقَّيْ رحا التكتل والتوحد من ناحية، والتفرق والتجزؤ من ناحيةٍ أخرى، تتأكد الوظيفة الأزَلية للفكر والشعر والكتابة في إنقاذ الأرض والبشرية والسلام، ومساندة الحرية والحقِّ والعدل والتسامح والحوار. ويقف كثير من شعراء العالم وكتابه ومفكريه كالسدِّ المنيع في وجه الطوفان الكاسح، يقاومون بفكرهم وشعرِهم وكتابتهم، وأحيانًا بوجودهم الحيِّ ولحمهم العاري، سيولَ التزمت والكراهية والاضطهاد، وضيق الأفق والأحكام الجاهزة المغرضة، التي يتقاذفها الجميع ضد الجميع.
يبدأ الشاعر محاضرتَه بقراءة قصيدة تتضمنُ بين سطورها لمحاتٍ من سيرة حياته وفكره، على مدى ثلاثة عقود من الزمن في مدينة ليبزيج، كما تحدد مواقفه الثابتة — رغم كل التجارب المريرة أو بسببِها — من الحياة في البلد الذي اختار بإرادته الحرَّة أن يعيش فيه، وصمَّم على أن يكون الزواج بينهما عهدًا من الوفاء، والعرفان لا يفصِمُه إلا الموت. تلك هي قصيدة «وطن في الغربة» التي عَنْون بها آخر مجموعة شعرية ظهرت له بالألمانية — سنة ١٩٨٤م — في ألمانيا الشرقية السابقة.
لنقرأ معًا بعض المقاطع التي سيتناولها الشاعر في محاضرته بالتحليل، أثناء تعرُّضه للحديث عن الأحكام المسبقة، التي انغرست بذورها السَّامة في مخيلة الكثيرين من الألمان والغربيين عن الشرقيين بوجهٍ عام، والعرب بوجهٍ خاص، فحالتْ بينهم وبين الرؤية الصحيحة والحكم السليم اللذَيْن يقوم عليهما التسامح، والحوار المبني على الاحترام المتبادل:
(ﺟ) جاء الشاعر إلى هذه المدينة بأحلامٍ خضراء فوق جبينه، وصمَّم منذ البداية على عَدَم التخلي عن نفسه، ولا عن الناس الذين عاش معهم وما زال يعيش. شارك في حياتِها الاجتماعية والسياسية والثقافية مشاركةً فعالة، تبنَّى قضاياها وآمن زمنًا — قبل أن يجرِّده واقع التطبيق البائس من أوهامه — بمشروعها الاشتراكي اليوتوبي: «إذ أين أستطيع، إن لم يكن هنا، أن أنشر سجادة عَمَلي العريضة أمام التاريخ، وعلى طُرق الصداقة التي أُطلق عليها اسم السلام الحي؟ أين — إن لم يكن هنا — يمكنني أن أتدرَّب على المشية المنتصبة للبشرية، لأملأ قِدْر الكرةِ الأرضية باللَّبَن والنبيذ لا بالرصاص، ولكي أقول أخيرًا: لم تكن المعارك ضربًا من العبث، ولا كانت حزمةُ السهام التي رُشِقت في صدورها، أليس هذا جديرًا بأن يزن كل شيء؟»
كان زواجُه من هذا البلد وثقافته التي انطبَعَ بها زواج عمر ومصير. وقد اقتضت الأمانة والصدق أن يعترف بأن هذا الزواج عهد لا يُردُّ؛ إذ لا يمكن أن يكون المكان الذي عشنا فيه، وعاشت لنا فيه ذكريات، وتعلَّقنا به وبأهله ومعالمه بعلاقة حميمة، لا يمكن أن يكون قطارًا يهبط منه الإنسان في أي محطة يشاء. وكيف يفعل هذا مع بلد أصبح له وطنًا في الغربة، تعلَّم فيه وعَلَّم، وترك بصماته على حياته الثقافية، وأحبَّ وتزوج وصار له فيه أولاد وأحفاد؟
ومع ذلك فإن اعترافه — إذا جاز القول — اعتراف نقدي، ينطلقُ من الطموح لا من الواقع الذي جربه. أراد — كما فعل كثيرون غيره — أن يغرسَ بكلماته وأعماله سجادةً عريضة على طريقِ الصَّداقة، والسلام الحي بين الأفراد والشعوب والثقافات، بحيث يمشي عليها التاريخ بجلال وكبرياء. لكن الواقع القبيح كان يعاقبه كل يوم على حماسه وتفاؤله، فلم يبقَ أمامه إلا أن يتشبث بمبدأ الأمل ويرفع رايته، وأن يتمسك بكتفي المرأة التي أحبَّته وأحبها وتزوجها؛ حتى لا يسقط أو يُجَن. كما رفض في الوقت نفسه أن يغيبَ عن الساحة، أو يعتزل في برج زجاجي أو غرفة نظيفة مريحة.
وما أكثرَ ما وُوجه في الندوات التي يُدعى إليها لقراءةِ شعره، بهذا السؤال: إذا كانت الأحوال عندنا لا تعجبك، فلماذا لا ترجع إلى وطنِك؟ وهو سؤال كان يجيبُ عليه مؤكدًا أنه لا يعتبر أن حياته في ألمانيا الشَّرقية هي حياة في المنفى، أو أنه يعيش فيها لأسباب سياسية؛ فهو يحمل جواز سفر سوري، ويزور وطنه الأصلي مرةً على الأقل كل عام؛ ليشارك في المهرجانات المسرحية والندوات الشعرية التي تُقام في دمشق. ومع ذلك؛ فإن رجوعه لم يكن بالبساطة التي يتصوَّرها السائل، ولم يخطر على باله أن ينتقلَ إلى ألمانيا الغربية التي كان في استطاعته أن يعبر إليها دون حاجة لاختراق الحواجز، أو القفز فوق السور المخيف والأسلاك الشائكة. لم يفعل شيئًا من ذلك؛ لأنه ارتبط بهذا البلد بروابطِ العمل والزواج والأولاد والأحفاد والأصدقاء والذِّكريات واللحظات التي تُعشِّش تحت الجلد، ولا يستطيع العشب أن يغطِّيَها.
عاش الشاعر في هذا البلد — حتى اليوم الذي ألقَى فيه تلك المحاضرة — ما يقربُ من ثلاثين سنة، عاش في قلقٍ دائم، مهددًا بسحب التصريحِ بإقامته في أي وقت، إذا لم تجدد له الجامعة عقدَ العمل (إذ نص القانون الخاص بالأجانب، الذي صدر بألمانيا الشرقية، في الثامن والعشرين من شهر يونيو سنة ١٩٧٩م، على أن الإقامة يمكن أن تُحدد زمانيًّا ومكانيًّا، وأن تُمنع أو تلغى دون حاجةٍ لإبداء الأسبابِ)، لكن هذا القلق الذي ظلَّ مُسلَّطًا كالسيف فوق رقبتِه، لم يجعله يسكت على الظلم والكذب الذي كان يراه ويعانيه كلَّ يوم، كما لم يكن على استعدادٍ لأن يشتري بالكذب يومًا واحدًا، يمدُّ له بعد انتهاء مدة إقامته.
(د) ويتطرَّق الشاعر لظاهرة العداء للأجانب، فيُقدِّم أمثلة مؤلمة تكشفُ عن أبعاد هذا الخطر الداهم، ثم يطرح هذا السؤال المرعب: كم من الوقت سيمضي قبل أن تعلَّق على واجهاتِ المحالِّ العامة هذه اللافتة الملعونة: «ممنوع للكلاب والأجانب». مُنعت ابنة شقيقه، المولودة في برلين، من اللعب في الفترة الأخيرة مع أترابها من الأطفال الذين اعتادت أن تلعب معهم، إذ فُوجئت بصوتٍ خشن يقول لها: إن الألعاب مقصورة على الألمان. وتهجَّم أحدهم على السلة التي كانت تحملها سيدة عربية في السوبر ماركت، وأفرغها من قطع الخبز التي كانت تعتزم شراءها؛ بحجَّة أنها لا تحمل معها بطاقةَ هوية، مع أن العاملين في المحل الذي تتسوَّق منه يعرفونها جيدًا، بالإضافة إلى أنها تسكن بجواره وتتردَّد عليه منذ وقتٍ طويل. وبالقرب من مسكن للطلاب يقيم به بعض الأجانب مع زملائهم، عُلِّقت لافتة نُقشَتْ عليها هذه الكلمات: «الديموقراطية للألمان وحدهم»، ثم أضيفت إليها بعد ذلك علامة استفهام (ربما أراد بها صاحبها أن يعيد الذين كتبوها التفكيرَ في عبارتهم الاستفزازية، ولا يتصوروا أنها حقيقة جازمةٌ لا تقبل المناقشة). وفي مقهى فندق مشهور بمدينة برلين طلَبَ الشاعر قهوة، فسألته النادلة — ربما بعد أن لاحظت ملامحه الأجنبية — إن كان من نُزلاء الفندق؟ ولما أجاب بالسلب؛ رفضت أن تلبي طلبه. وجلس على كرسي في قاعة الاستقبال لينفِّس قليلًا عن غضبه، فشاهد ثلاثةَ رجال، رجح أن يكونوا من الألمان الغربيين يتجهون إلى المقهى، ويتناولون المشروباتِ على راحتهم، وتشجع فقام إليهم، وسألهم إن كانوا من نزلاء الفندق، فاكتشفَ من كلامهم أنهم ليسوا من نُزلائه، ولا من الألمان، وإنما هم من الهولنديين.
ويواصل الشاعر كلامَه فيقول: إن هذه المشاعر العدائية ليست جديدة، وإنما كانت دائمًا كامنةً تحت السطح، حتى أظهرتها الظروف السياسية الأخيرة، ثم يتذكر ما حدَثَ له قبل عدة سنوات، عندما أطلَّ من نافذة مسكنِه في ليلة عيد الميلاد، فرأى كتابةً على زجاج سيارته. وعندما نزل من بيته؛ ليتبينَ حقيقة الأمر وجد هذه الكلمات: «اخرجوا أيها الأجانب»، فكانت هدية عيد ميلاد لم يحسب لها أيَّ حساب.
تلك أمثلة وحالات قدَّمها كمواطن أجنبي؛ ليبين مدى تأثيرها على سائر الأجانب، ومدى تأكيدها لسلطان الأحكام المسبقة، وخطرها على علاقات التعايش والتسامح بين الأفراد والشعوب والحضارات. فكيف تظهر هذه الأحكام، وكيف تُفلت من عِقالها بين الحينِ والحين؟
(ﻫ) يحلل عالم النفس الاجتماعي «ألكزندر ميتشرليش» نشأة الأحكام المسبقة، وأساليب استخدامها في كتابه «على الطريق إلى المجتمع غير الأبوي»، ويقرر بحق أن كل محاولة للتعرف على مدى تأثير الأحكام المسبقة ستظلُّ محاولةً قاصرة، وأقل بكثيرٍ من الواقع الحقيقي. ويضيف الشاعر بعض أفكاره حول هذا الموضوع، فيبين كيف يتمكن الحكم المُسبَق من إنسان بالرغم من أن تجربته الشخصية تخالفُه تمام المخالفة، وكيف نخدع أنفسنا بهذا الحكم أو ننخدع عن طريقه؛ فالحكم المسبق مرتبطٌ على الدوام بنوعٍ من الاستعداد للقيام بردِّ فعل متطابق مع ذلك الحكم الذي يثيره ويوجهه. وهذا الاستعداد للقيام بردِّ الفعل يتعامل مع موضوعِه، وكأنه معروفٌ لصاحبه عن خبرة شخصية، بينما هي مملًى من الحكم المسبق ذاته، حتى ولو كانت الخبرة والتجربة الشخصية تتناقضُ معه (أي مع الحكم)، ويروي الشاعر مثلَيْن بسيطين على ذلك، نكتفي بتقديم واحدٍ منهما.
فقد نظَّم بعض الطلبة العرب العاملين في أحدِ المصانع بمدينة ليبزيج، تظاهرةً يعلنون بها تضامنهم مع زملائهم. وكان بين هؤلاء الطلبة شاب عربي له شعر أشقَر وعينان زرقاوان. وأراد رئيس العمال أن يستدعيَه، فسأل أحد زملائه عن اسمه، ولما أجاب الزميل بأن اسمه هو «عبد المجيد» تملكَتْه الدهشة، وصاح مناديًا على الشاب: «ها! أنت يا أسود! تعال هنا» كان من الصعبِ عليه فيما يبدو أن ينطقَ بالاسم المعقد. وهنا تدخل الحكم المسبق أو استخرجه هو من لاوعيِه الباطن؛ ليعفيه من النطق بالاسم. فالطالب عربي، ولهذا يلزم كذلك أن يكونَ أسود، على الرغم من أن رئيس العمال نفسَه طالما داعبَه قبل ذلك؛ بسببِ شعره الأشقر.
من هذا المثل البسيط يتضح كيف يوجِّه الحكمُ المسبق ردودَ أفعالنا وجهةً معينة، تكون في الغالب نحو التخريب والتدمير. وهذا على وجه التحديد هو الذي يعتمد عليه الغوغائيُّون المحرضون على كراهية الأجانب والخوف منهم، ومن كل ما هو أجنبي أو غريب. ولما كانت الأحكام المسبقة تعبر عن جانبٍ مهمٍّ من جوانب الخضوع والطاعة التي تكمن جذورها الخفية في أعماق اللاوعي، فإن أولئك المحرِّضين يبرَعُون في تحريك الآليات التي تظهر هذا الجانب اللاواعي، في صورة الواقع الحقيقي.
يقول اسبينوزا في كتابه «الأخلاق»: «إن الإنسان الذي يتصور أن الشيء الذي يكرَهُه سوف يُدمَّر، سيجد في ذلك شعورًا باللذة». والتحليل النفسي والاجتماعي الحديث يعبِّر عما يقوله اسبينوزا بصورةٍ أخرى؛ فعندما يُلصَق حكم مسبق بموضوع معين — أو شخص، أو فئةٍ من الناس، أو شعب بأسرِه — فإن هذا الموضوع يُحاط بهالةٍ من الغَرابة السحرية الخطيرة التي يصعُب التنبؤ بتأثيرها وعواقبها. بذلك يتيح الحكم المسبق للدوافع العدوانية الضاغطة فرصةَ الإرضاء أو الإشباع. ويُسقط الإنسان إحساسَه الشخصي بالإحباط، أو بالذنب على غيره، وتنشأ الأحكام المسبقة التي تنشط وتنتشر بصورةٍ جماعيةٍ؛ من خلال إحساسات متفق عليها ضد موضوعات متَّفق عليها. ومن ثمَّ يصبح الموضوع الذي أُلصق به الحكم المسبق في متناول قبضات مشاعر الكراهية والعدوان الساعية للتنفيسِ عن نفسها. وكلنا يعلم كيف استُغلَّت أمثال هذه المشاعر في ظل الأنظمة الفاشية، والشمولية والدكتاتورية، على اختلاف صورها، منذ الحرب العالمية الثانية، حتى الوقت الحاضر، وكيف كلَّفت ملايين الناس أرواحهم، كما نرى ونسمع كل يومٍ عن تصاعد الكراهية في أوروبا ضد الأجانب، وعن شحن وسائل الإعلام الموجهة والمغرضة للأوروبيين والغربيين بالعَداء نحو العرب والمسلمين، ولصق الكلمةِ التي تدل على العربي، وعلى الفلسطيني بوجهٍ خاص، بصفةِ الإرهابي الذي يخبِّئُ الخنجر تحت جلبابِه أو عباءته، دون أن يتذكَّروا لحظة واحدة أن هذا الإرهابي كما يسمُّونه هو في الحقيقة رافضٌ ومقاوم للاحتلال والإذلال، والاغتصاب اليومي لأرضه وبيته ووُجوده ومستقبله.
(و) هل نحن حقًّا عاجزون عن مواجهة سطوة الأحكام المسبقة؟ لو صحَّ هذا لكانت مصيبة مميتة. إن الدساتيرَ الحديثة في كل الدول التي تصف نفسها أو تُوصف بأنها دول ديموقراطية تنص صراحةً على عكسِ المفهوم السائد من الأحكام المسبقة، كما يشيع اليوم عَبْر أجهزة الإعلام الجبَّارة، أعني أنها تنصُّ على الحرية والتسامح نحو الأجانب، ولكن السؤال هو: إلى أيِّ حدٍّ يلتزم مواطنو هذه الدولِ، وممثلو السلطة فيها من الناحية العملية والسلوكية بالواجباتِ التي تنص عليها دساتيرُهم عن الحرية والتسامح والحقوق المدنية … إلخ؟ إن الحكم المسبق — وهو بطبيعته حكمٌ خاطئ أو مغرض — يقوم دائمًا على الجَهل، كما يمكن في كثيرٍ من الأحيان أن يثيرَه الإحساس بالإحباط والتخوُّف من الآخر وسوء الظن به، فضلًا عن ضيق الأفق، وسيطرة النزعات العصبية أو الإقليمية أو العنصرية أو الطائفية … إلخ. إنه — أي الحكم المسبق أو المتحيِّز — يضعُ الحقائق الفعلية خلف قناعٍ، ويشوهها عن عمد، كما يوجهه ويحفز عليه وينفخ فيه النارَ منطقٌ زائف مغلوط، يحتاج دائمًا إلى كشفِه وتسليط ضوء الوعي عليه، حتى لا يقع التعايش السِّلمي. وواقع حياة الناس بعضهم مع بعضٍ ضحيةُ هذا التزييف والتشويه القاتل الذي يمكن، بل يحدث كثيرًا، أن تترتب عليه كُبرى المصائب.
ما السبيل إذن للتخلص من الأحكام المسبقة والارتفاع فوقَها؟ السبيل الوحيد هو قدرة الفرد على الشعور بواقع الآخر والتعاطُف معه، واستعداده للخروج من مخابئِ سُوء الظن وأوهام الدفاع عن النَّفس التي يتحصَّن وراءها؛ لكي يلتقي بالآخر ويحاورَه ويفهمه، ويضع نفسه داخلَ ظروفه وأحواله. وهنا يمكن للأدَب والثقافة، بوجهٍ عام، أن تؤدِّيَ دورًا لا يُستهان به في هَدْم الأحكام المسبقة، والتقريب بين الأفراد والشعوب تحت سقف المودة والسلام والاحترام، والاعتراف المتبادل. ولا شكَّ أن ما نطلق عليه اسم «الأدب العالمي» — الذي كان جوته أولَ من بشَّر به، وأعلن في أحاديثه الشهيرة مع إكرمان أنه يمثِّلُه ويمارسه بالفعل — قد قام وما زال يقوم بدوره في تشييدِ بناء الإنسانيَّة المتحابة، والأخوة العالمية المستندة إلى تعدد الآداب، وتنوع الثقافات، وتفاعلها في إطار حضارةٍ كونية واحدة. ولا شك أيضًا أن الخصوصيات التي يتميَّز بها كل أدب قومي، بسبب مادته نفسها والمخاطب الذي يتوجه إليه، هي الأقدَر من غيرها على اكتشاف الآخر، أو الغريب والأجنبي عنا، بحيث نرى وجهه الإنساني، ونمزِّق عنه القشرةَ التي شوهته، أو ما زالت تشوِّهُه بفعل الصراعات المحتدمة على المصالحِ المتعارضة. إن الأدب هو الذي يقدِّم لنا وجه الآخر بملامحه الحقيقية، وهو الذي يجعلنا نسمع صوته ونحس نبَضاتِ قلبه وآلام جسده ونفسه. والإنسان الذي نقتربُ منه إلى هذه الدرجة يصعُب علينا بعدَ ذلك أن نلصق عليه لافتةَ الحُكم المسبق، أو نحفر عليه وشمَ التحيُّز الأسود. ولما كان الأدباء نوعًا من البشر لا يستطيعُ — بحكم طبيعته، والهدف من عمله وحياته — أن يتخلَّى بسهولة عن «يوتوبياه»، أو حلمه بالمدينة البشرية الفاضلة والعادلة، وإذا كان هذا الحلم قد فشِل حتى الآن في أن يصبحَ حقيقة، أو يقترب خطوة واحدة من الحقيقة (بعد أن أصبحت كرتنا الأرضية ساحةً مخيفة بجوس فيها الاضطراب والتعصب، والعنصرية والإرهاب، والصراع على القوة والسيطرة، بجانب أشباحِ الجوع والفقر والظلم، والتزمُّت والأحكام المغرضة … إلخ)، فليس معنى هذا الفشل أن نلعنَ الحلم نفسه، أو أن نتخلَّى عنه. لقد حلمت الإنسانيةُ دائمًا بالسلام والتواصل. والأدباء الحقيقيون هم الذين علَّموها على الدوام أن تحلم هذا الحلم، وما زالوا يواصلون السير أمامَهم ومعهم على طريقِ الأمل الصعب. أجل، لا خيارَ أمام البشر اليوم، ولا بديلَ عن الحياة والعمل مع بعضهم ولبعضهم إلا ببديلٍ واحد هو: خراب الأرض، وفناء الجنس البشري. صحيح أن الهُوَّة الفاصلة بين الحلم والواقع مظلمة ونازفة الجروح، وعميقة القرار، لكن مهمة الكاتب والكتابة هي أن تعلم الناس كيف يعملون على بناء الجِسر الواصل بينهما، ولن يُقام هذا الجسر حتى يتعلموا كيف يتواصلون مع بعضهم، كأفراد وشعوب وحضارات، ولن يتواصلوا حتى يتخلَّصوا من الأحكام المسبقة التي تعشِّش تحت جلودهم، وتحول بينهم وبين التلاقي والتحاور على أرضٍ مشتركة، هي في النهاية أرضنا وأرض الجميع التي أصبحتِ اليوم مهدَّدةً بالاندثار بأكثر من خطر، وأكثر من سبب، ربما يكون هذا كلامًا مكرورًا إلى حدِّ الملل، ولا جديد فيه، لكن الحاجةَ الملحة والمحنة القائمة لا تمنعُ من تكراره على كل قلم وكل لسان، والصراخ به بأعلى الأصوات ودقِّ كل الطبول والأجراس.
(ز) هذا الشاعر الذي ظلَّ طوال حياته — على حد تعبيره في ديوانه الأخير — ينظر للآخر ويتمعَّن فيه ببطء، بل يتعاطف معه، ويمد له جسور المحبة والتواصل، ويفرد ذراعَيْه كجناحي طائر وحيد وحزين ليضيئا الشرق والغرب، ويجمعا شتات خطوط الطول؛ لتتعانق في صدره وشعره ونثره. ولم يتردد — كما عرفنا من محاضرته السابقة — عن مواجهة عدوانية الآخر الألماني نحو الأجانب، وحثِّه على التخلُّص من أحكامه المسبقة — ماذا يفعل هذا الشاعر، وهو يشهد الآثار الوحشية المدمرة لهذه الأحكام على بلاده وأهله — هذه الأحكام التي يرفع الآخر الغربي — الأوروبي والأمريكي — لافتاتِها، ويبثُّها ليل نهار من وسائل اتصاله الكاسحة، وتموِّلها وتحركها جهات معروفة تقلب بها نيران أحقادِها وأطماعها في أرضنا ومواردنا وحاضِرنا ومستقبلنا، بل وفي تاريخنا وتراثنا الماضي نفسه — لا شكَّ أن هذه الأحكام ليست شيئًا جديدًا ولا مفاجئًا — فربما انغرسَتْ بذورُها السامة في الوعي واللاوعي الغربي منذ العصور الوسطى، بل ربما منذ أن صاغ أرسطو نظريتَه المتعالية في المقارنة بين شعوب الشمال — ومنهم الإغريق الأذكياءُ الأحرار — وشعوب الجنوب والشرق الذي يمشون كالقَطيع وراء الطاغية والمستبد الأوحد. لكنها اليوم حملات ضارِية تقتحم جيوشها الكهرومغناطيسية كلَّ الأبواب، وتنفذ من كلِّ الجدران، وتعمل عملَها الخفيَّ والمعلن في أدمغة الأفراد والنظم والدول، والقوى المهيمنة؛ لتدبير العدوان تلوَ العدوان على وجودنا وثرواتنا وحقوقنا وكرامتنا. وعندما يتم العدوان بالفعل، ينفتح الجرح الذي طالما انبثقَتْ منه أشعاره، وارتفع صوت ندائه وشجوه وشجنه، فيقول شعرًا في «الرابسودية الفلسطينية» على أثر الغزو الصهيوني الوحشي للبنان، ومذبحة صابرا وشاتيلا التي لم يقلِّلْ مرُّ السنين من بشاعتها وفظاعتها، ثم يقوله نثرًا في العديد من المقالات التي تنشرُها كبريات الصحف في ليبزيج، وفي الأحاديث التي تجري معه في كثيرٍ من الصُّحف الأجنبية والعربية عن «سيناريو حرب الخليج»، أو تمثيليتها السقيمة اللئيمة التي أُلِّفت وغزلت خيوطها وخطوطها في كلٍّ من واشنطون، وتل أبيب.
(ﺣ) في مقالٍ شجاعٍ وصريحٍ — نشرته جريدةُ الشعب في ليبزيج في ملحقها الأدبي والثقافي في اليوم السابع عشر من شهر مارس سنة ١٩٩١م — عن تمثيلية حرب الخليج، يسلط الشاعر — بعد انتهاء الهجوم البرِّي بقليل — الأضواء الكاشفة على بعض زواياها الخفية التي لا يعرفُها إلا العربي. فقد سكتت الأسلحة أخيرًا، وبدأ أدعياء السلام المنتصرون ينادون من كل الجهات داعين لنظامٍ عالميٍّ جديد يفرضون عليه سلامَهم هم — ولم لا، وقد تحطم الجيش العراقي الذي صوَّرُوا للناس أنه رابع جيوش العالم، وانقشَع غبار المعركة — التي وصفها جنود الحلفاء، بأنها عملية صيد للبطِّ — عن عشرات قليلة من الضحايا في صفوف المنتصرين، وعشرات الألوف، التي بلغت الخمسين أو المائة ألف ضحية، من المهزومين. لم يضغط صدام على الزر الذي تنطلق منه أسلحة الدمار الشامل المزعومة لإبادة اليهود — كما تخوف من ذلك أدباء كثيرون في الغرب — ولم ينجح في الظهور بمظهر هتلر ثان، كما صورته الاستعارات الصحفية والمبالغات الإعلامية. لقد كان، وما يزال، كارثةً على شعبه، وعلى المنطقة بأكملها — حتى عندما كان الرؤساء الذين حاربوه وهزموه، لا يزالون يجاملونه ويسلحونه — ومع ذلك فليس هو الكارثة الوحيدة، لا في المنطقة ولا في العالم.
واختفاؤه من على سطح الأرض — سواء بفرض الموت السياسي أو الطبيعي عليه — لن يجلبَ نعمة السلام المنتظر لا على العرب ولا على اليهود (وذلك من وجهة نظر الشعوب لا الحكام). إن الكاتب نفسه قد تمنى اختفاءَ صدام، وما يزال يتمناه، فقد أمر باغتيال عدد من أعزِّ أصدقائه، وقضى على الآلاف من أهلِه الأكراد بالغازات السامَّة، واضطر نحو مليون من أنبغ أبناء العراق — من شعراء ومفكِّرين وفنانين تشكيليين وكتاب قصة ومسرح — إلى الحياة في المنفى. ولكن الكاتب لم يكن ليوافق بضميرٍ مستريحٍ على أن يكون ثمنُ اختفائه هو هذا العدد الفلكي من الضحايا، لا سيما أن هذه التمثيلية الدامية لم تستطعْ أن تحلَّ مشكلة واحدة من المشكلات التي تُعاني منها شعوب المنطقة. أجل، لقد كانت الحقيقة هي أول ضحايا هذه الحرب المدبرة والمدمرة.
قيل بعد الهجوم البري لتحرير الكويت: كل شيءٍ قد انتهى، لكن هل انتهى حقًّا؟ وما الذي انتهى بالضبط؟ وما الجدوى الآن من إثبات أن هذه الحرب كان من الممكن تجنُّبُها، لا سيما أن الهجوم البري قد نُفِّذ، على الرغم من إعلان العراق استعداده للانسحاب بلا قيدٍ ولا شرط، وقبل ساعتين بالتحديد من موعد انعقادِ مجلسِ الأمن، في الساعة الرابعة من اليوم نفسه؛ للنظر في حل المشكلة بالطرق السلمية؟ مع أن العالم كله قد سمع بأنَّ الموضوع برمَّته يتم تحت إشراف المنظمة الدولية، وبتوجيهٍ منها، ثم ما فائدة القولِ الآن بأن الأمر في هذه الحرب لم تكُنْ له صلة لا بالقانون الدولي، ولا بالأخلاق، ولا بحقوق الإنسان، ولا بأمن المنطقة، ولا حتى بتحرير الكويت؟!
إن شرطي العالم والقوة رقم واحد فيه قد أعطى نفسَه شيكًا على بياض، كتب عليه رقم واحد، وأمامه ما شاء من أصفار يحصلها الآن — ومنذ عشر سنوات — من بترول أرض الخليج، ومن قوت أهاليه ومستقبلِهم. وهو يقف في كل لحظة على أُهبة الاستعداد؛ لشن حربه العسكرية أو الاقتصادية أو السياسية على كلِّ من يُفكِّر من العالم الثالث أو الرابع أو الخامس، في مقاومته، أو الخروج على طاعته.
هي لعبةٌ، أو تمثيلية، أو سيناريو ألَّفه — أو بالأحرى أُلِّف له — وقام هو بتنفيذه كما اختار بنفسه أول ممثل يطأ بقدمه خشبةَ المسرح، وتولى بنفسه إسقاطه من عليها. والمهم في الأمر أن اللعبة ما تزال مستمرة، سواء بذلك الممثل الغبي الذي كان أول من سقطَ على الخشبة، أو بغيره. والأهم من ذلك أن الشرطي الأول — مع المؤلف الحقيقي لتمثيليته المتكرِّرة — هو الذي يحدد مسار الحدث المسرحي، ويجمع حصيلة شباك التذاكر. والشعوب؟! يمكنها أن تصفِّق وأن تهتفَ، أن تضحك وتبكي أيضًا. يمكنها كذلك، بل هي مضطرَّة أن تساهم في نفقات العرض بالتبرُّعات أو بتحمل أعباء ضرائب جديدة. أما التمثيلية نفسها فلا يجوزُ لها ولا لحكوماتها أن توقفها أو تغيرها؛ لأنه هو المتحكِّم الأول والأخير في تحديد توقيتها ومسارها، وأحداثها وشخصياتها.
ليس هناك حرب عادلة وأخرى ظالمة. الحربُ هي الحرب. ولا بدَّ في هذا الزمن المجنون — زمن القنابل النووية والأسلحة الكيماوية والبيولوجية — لا بد من إدانتها والحيلولةِ دون وقوعها أيًّا كانت دوافعها وأسبابها، إذ يستحيل أن تكون هذه الدوافع والأسباب عادلة أو مقدسة. وعلى الألمان — الذين يتمتعون بسمعةٍ طيبةٍ في العالم العربي، ولا يرزحون تحت عبءِ تاريخٍ استعماري — عليهم أن يتحملوا مسئوليتهم، ويقوموا بدورهم في إيجاد حلٍّ سلمي دائم وعادل للصراعات المحتدمة في المنطقة العربية، التي اصطُلح خطأً على تسميتها بالشرق الأوسط.
لم تنته التمثيلية المكشوفة، ولم يُسدل الستار بعد. والشاعر الذي ما فتئ — كما سبق القول — ينظر للآخر ويتعاطفُ معه، ويتمعن فيه ببطء، هو نفسه الذي ما يزال يحاول مدَّ جسور التواصل والتفاهم والاحترام المتبادل، والحوار العاقل البنَّاء بين البلاد واللغات والحضارات — وهو ما يزال يردد — كما جاءَ في قصيدة المتجول، من ديوانه الأول «كحرير من دمشق»: «المودة تجلب للربيع ابتسامتَه، للجائع طحينَه، وللعطشان عزاءً وماء، تجلب له كنز السعادة، كنز السعادة، وما يزال صوته كشاعرٍ يحمل نبرةَ الأنبياء ورسالتهم الخالدة. هل سيسمَعُه البشر الذي ينطق صوته بعذابهم؟ وهل سيسقط المطر الخير كما يتمنَّى، أم تستمر اللعبة الدامية — خصوصًا على خشبتنا — دون أن ينتبه الجمهور، ويقاوما ويوقف العرض؟» «أعلم تمامًا أن محاولتي كشاعر لتغيير شيءٍ في هذا العالم محاولة محدودة جدًّا. ومع ذلك يمكن أن تتسبب في وقتٍ من الأوقات في ارتفاع موجة عالية». هذا ما قاله الشاعر في أحد أحاديثه. وأعتقد أن كل من يشاركه الإيمان بقيمةِ الكلمة (الفعل) التي يوجِّهها ضمير فني، وإنساني صادق ونزيه — يمكن أن يشاركه هذا التفاؤل، ويرفع معه راية الأمل.
(ط) حاصر الوحش الإسرائيلي بيروت (١٩٨٢م)، وقفت جيوشه ودباباته ومدافعه — كالهولي الإغريقية المجنحة، والطاهش المخيف في الحكايات الخرافية اليمنية — على أسوار المدينة المنكوبة لتمنَعَ الدخول إليها، أو الخروج منها — لا، بل لتجبر أبناء فلسطين الذين لجئُوا إليها — بعد مطاردات لم تهدأْ كلابها المسعورة التي لاحقَتْهم من الناصرة إلى نابلس، ومن نابلس إلى إربد، ومن إربد إلى صور، ومن صور إلى بيروت؛ لتجبرهم على الخروج من آخر معاقلهم، لكن إلى أين؟
تورَّمت سماء بيروت بدخان الحرائق، وتلبَّدت فوقَها سحب الرعب، ودوَّتْ طلقات الرصاص، وانفجارات القنابل، لتصنع الجحيم — في الوقت الذي راحت فيه أيادي الحقد والغدر تنسجُ خيوطَ أفظَعِ جريمة، وأبشع مجزرة في النصف الأخير من القرن العشرين — على كثرة الجرائم والمجازر التي ارتُكبت فيه أخذت الأيدي القذرة تنسج من بعيد، وتركت التنفيذ — ويا للعار! — لأيادٍ عربيَّة راحت تحفر أبشعَ قبر جماعي لنفوس وأجساد عربية حية. تلك هي محرقة صبرا وشاتيلا التي دبرها النازيُّون الجدد، وتهون بالقياس إليها محارق النازيين القدامى. خطط لها الإرهاب الإسرائيلي، ونفَّذَها الإرهاب الكتائبي (راجع تفاصيلها المخيفة في رواية بهاء طاهر الرائعة: الحب في المنفى).
ماذا يفعل الجِذر العربي الضارب في أرض الساكسون البعيدة، وقد زلزلَتْه محنة الأهل وشرخته، وجرحته أوجاع أبناء الوطن؟ هل يملك إلا أن يطلق صرخاته الخرساء، وينزف دماءه الشعرية لتصبَّ في الجرح الفلسطيني النازف أبدًا في كل قلب عربي؟ وماذا يملك شاعرٌ مغترب أمام سيل الصور المروعة والمرعبة التي تنشر في الصحف، وتُبَثُّ على الشاشات، وترجُّ حتى ضمائر الذين خرس صوت ضميرهم، ودُفن تحت طبقات وطبقات من التبلُّد والتعالي واللامبالاة والغطرسة؟
ها هو الشاعر يطلق صرخته، أو يسجل صوتَ الصرخة الخرساء:
«أي عيون أطلقتْ هذه الصرخة الخرساء، أهي زوجة أم أمٌّ؟ ومن الذي بقي على قيد الحياة؟ ويختلط عليه الأمر فيتساءل: أم أنني أنا الذي أصرُخ؟ ويستمر الحصار. وتمرُّ الأيام بطيئة وثقيلة كخطوات تنِّين يفحُّ الحريق والخراب.
النار تطلب بيروت لآخر رقصةٍ، وعلى الحد الفاصل بين شظايا القنابل وطلقات الرصاص، صرخةُ فزَعٍ لطفل وعين يقظة لبندقية، وبين موت وموت، تقفون الآن يا أهلي هناك وأحبابي، فيما أرجو أحياء … نعم، تقفون وقفة جذع الشجرة التي تغني أغنيةَ المهد لورقة الخريف، وتبشر بمقدم الربيع وهي شامخةُ القامة ما تزال.»
ويرد الشاعر — على لسان أحد الناجين القليلين من المجزَرة — على المتشدقين في أجهزة الإعلام بمحارق اليهود، والمتسوِّلين بها الشفقة والعملات الصعبة، أولئك الذين يحشون بنادق كلماتهم العُدوانية بحروف «آوشفيتس»، أو غيره من معسكرات الاعتقال النازية، فيقول لهم:
ويتذكر قصيدة كتبها شاعر نمسوي شريف وشجاع، لم يمنعه أصلُه اليهودي من أن يقولَ كلمة حق نطق بها ضميره المأزوم، بعد أن رأى وسمع وشاهد أخبار مذبحة سابقة في أيام النكسة الستَّة، وذلك هو إريش فريد الذي كتب يقول:
يتذكر شاعرنا هذه الأبيات — أو هذه الماسات الناصعة بنور الحقيقة والنابضة بغضبة الضمير الحيِّ — فيصلُ خيوطه الشعرية بخيوطها، ويرد على مزاعم الضحايا المضطهَدِين المحاصرين بالأعداء، الذين هم في الواقع جلادون أقسَى وأكثر وحشيةً من أقسى الوحوش فيقول:
وينتهي الحصار، ويخرج الفدائيون إلى منافيَ أخرى مؤقتة، لكن ليل بيروت، الذي بدَّده صباح التحرير، يظلُّ يفرخ الكوابيس في مخيلة الأطفال الناجين من محرقة النازيين الجدد:
(ي) وكبر الأطفال الذين يحمِلون البنادق والحجارة، استردُّوا جزءًا ضئيلًا من الأرض التي ما تزال مهدَّدة من قبل الغاصب، وما يزال القسم الأكبر منها محتلًّا بجيوشه وآلاته الحربية الضخمة، التي يهديها له الشرطي الأكبر والأوحد في العالم. وجنود الغاصب يضطهدون الطفل الفلسطيني، ويلاحقونه من بلدٍ إلى بلد، ومن قبرٍ جماعي إلى قبرٍ جماعي. وينظر الشاعر إلى أحدِ هؤلاء الجنود، فيتذكر الحقل والبيت المسلوب:
وكيف لأطفالٍ لا تملك من أسبابِ المقاومة والدفاع عن النفس سوى لحمِها العاري، وقطع حجارتِها التي تواجهُ بها دبابات الأعداء وصواريخهم، كيف لهم أن يلعبوا مع أطفال وضعَ آباؤهم في أيديهم السكاكين؟
(ك) وتمرُّ الأيام والشهور والسنين. وتشتعل نار انتفاضة الأقصى بوَقود الغضب من استمرار الاحتلال والعدوان الوحشي، والسخط على الوُعود الكاذبة والتصفيات الغادرة والمفاوضات المهينة، وطول انتظار السلام «العادل والدائم» داخلَ سجن كبير يحاصر بالجوع سكَّانه، وتُهدم بيوتهم وتُسرق أرضُهم، وتُقتلع جُذورُهم، ويتحوَّل الوطن إلى ذكرى بعيدة، وحلمٍ يبدو كالمستحيل. وبعد أن يتآمر صمتُ العالم على عَذَابهم وتعذيب أعدائهم لهم، ينطق الأطفال والصبية والشباب اليائسون بالكلمة الوحيدة، التي سمحت لهم بها لغة العالم الأخرس، يلجئُون إلى كلمة الحجر:
ولا يملك القارئ في النهاية إلا أن يسأل: كيف تتحوَّلُ الكلمة الشعرية والأدبية بدورها إلى فعل يغضبُ ويقاوم ويغير؟ متى تتعلم من أطفال الحجارة، وتُعيد النظر في شكلها ومضمونها والهدف منها، وتستعيد قدرتها على الإنقاذ والإيقاظ من كُهوف الركود والتبلد والهوان؟ ومتى تتخلَّص من تجاربها العبثِيَّة والنرجسية المتهافتة، وتجرب أن تساعد متلقِّيها على الإجابة الضرورية على السؤال الكبير الوحيد، في مواجهة الذين يقتلعون جُذورَها، ويدمرون بيوتنا، ويحطمون جسورنا، ويشوهون تاريخنا، ويسرقون حاضرَنا ومستقبلنا: هل نوجد أو لا نوجد؟
سوف نوجد حَتْمًا ونزدهر، وننتزع الاحترامَ من الآخرين يوم نتعلم ونتكلم لغةَ الفعل، لغة الجذر والجسر والحجر، لغة الشعر الذي يبقى ويعمر؛ لأنه يؤثر ويغير.