الفصل الثامن
قصائد مختارة
حتى الشوق الأخير
أنتمي للجذر.
هذا الجذر أين؟
أنتمي ﻟﻟ «بَيْن بيْن»
لاهثًا ما بين جُرحين إلى آخر شوق.
أدفع الصخرة نحو القمتين.
يشتهيني الماء حينًا،
تشتهيني النار حينًا،
وأنا محترق بالماء،
ظمآن إلى النيران
بين الخطوتين.
القدم المبتورة
يعبرني هذا الشرخ كسَهْمٍ،
من شوق الجرح لجرح الشوق.
لا ينصفني حتى دم قلبي،
ينساب كنهر دون شواطئ،
في غيبوبة هذا العشق.
لا يخصب مرج قبول في صحراء الغربة
إلا ويحاصره طوفان الرفض.
هل وطن هذا الجسد البض؟
هل قَيْد وجه دمشق؟
أتوتد في هذا الشرخ كمصلوب
من جرح الشوق لشوق الجرح،
تحت القدم المبتورة؟
لا أرض،
لا أرض!
(عن ديوان الخروج من الذات
الأحادية، دمشق، منشورات اتحاد
الكتاب العرب، ١٩٨٠م، ص٥-٦)
النورس
أقول أحبك، أنسى الترنح ما بين قطبين، أنسى بأني
وأني وأني، وأنسى الخريف الذي لفني بالتيبس.
أعرف أن الزمان يجف رويدًا رويدًا، بقلبي مثل سواقي
الطفولة،
مثل الوريد تخثَّر فيه التطلع نحو التطلع.
ألمح وجهي طفلًا عفيفًا، وألمح وجهك جنية جئتني من وراء
البحار،
ومن خلف كل التلال،
كأنك من حارتي جئتُ، من لهفتي جئت أمًّا وأختًا وابنة
عم،
وجئت كلون المرح،
أحبك قلت، وأطبقت كل شفاه الكلام.
وأطبقت قلبي وقلت أنام
قليلًا؛
لعلي أحط الرحال أخيرًا وأنت إلى جانبي في المنام،
ولكنني
أتشوق للشوق تلك المسافة بيني وبينك جرح،
وشرخ وصوت
اصطدام.
وتلك الشرارة بيني وبينك عمر ودوحة ذكرى ونبع فرح.
أقول: أحبك، أخشى عليك من الحب، أخشى على الروح أن
تستجيب
لصرخة طفلٍ عفيفٍ وراء البحار.
أقول: أحبك همسًا لذاتي،
وألمح سوسنة سيخ نار بصدري،
وألمح شرخًا حميمًا أضمده بالقصائد،
أجلد نفسي؛ لأني أحبك،
أقلع جذري، وأمشي وراءك،
مثل النوارس أمشي وأمشي بدون قوارب، دون بحار ودون
انتظار.
حوار مع الموت المعلن
يتقدَّم مني الموت،
أراه،
أقول له لا تتعجلْ،
ما زال لدي أمور لم أنجزها.
فيقول سينجزها غيرك يومًا، لست وحيدًا فوق الأرض.
أقول لدي نصوص لم أكتُبْها، فيقول: سيكتبها غيرك بعد
رحيلك في الفجر.
أقول أنا: لا يعرفني أحد غيري، فيقول: تعفَّفْ،
لا يوجد نصٌّ أصل، لا يوجد قول فصل،
فأقول: ولكني البحر؛ لأني القطرة في الموجة، لا موجة
دوني،
لا بحر.
فيقول بخبثٍ ملحوظ: نصفك إبليس والنصف ملاك،
فبأي النصفين الآن تُراك؟
فأقول:
ولا أعرف ما قلت.
في الحقيبة
حملت معي
على نعل الحذاء
أزقَّة الطفولة الضيقة،
المتمسكة
بجدائل الجبل الهرم.
وفوق العينين
عود النعناع الطري،
على حافة الساقية
تحت شجرة الزيتون.
وفي الشَّعْر
النسمات الحنون للأمسيات الدمشقية.
حملت معي
على الذراع العاري
آثار وَخَزات قوافل الشمس
المحملة بشوق أجدادي.
للفيء المنعش
في واحات يَسُودها السلام.
وفي الروح
حملت طهارة الأنبياء،
«كما ذكرتها الكتب»،
ووحشية الجبال الجرداء،
وحملت معي
على الشفتين.
من أمي الكآبة،
ومن أبي الظَّمَأ
نحو الينبوع الناري
للنساء جميعهن.
(لو لم تكن دمشق، ميونيخ، ١٩٩٢م، ص٧)
العمامة القديمة
١
ضعوا عن رأسي
هذه العمامة القديمة،
حطموا الأغلال في حكاياتكم
عن ألف ليلة وليلة.
مزِّقوا صورتي هذه
من مجلاتكم المصورة وكتب أطفالكم؛
فأنا لست «الحاج خالف بن عمر»،
ولا البدوي المتنقل على جمل،
ولا شيخ النفط ذا الأسنان المستعارة.
٢
كنت مقيدًا إلى الجمل
لأربعمائة عامٍ متصلة،
مسجونًا في الصحاري
لأربعمائة عام.
مسدودة كانت جميع نوافذ الضوء،
في بيتي المنسوج من شعر الغنم،
طوال أربعمائة عام.
وعلى مدى أربعمائة عام
كان عرقي يتحول بقدرة ساحر إلى ذهب
يعرض في واجهات أولئك
الذين كان عليَّ أن أطعمهم.
٣
لكن لماذا لا تسمونني الكندي،
أو الرازي أو ابن رشد؟
أولئك الذين حملوا إليكم ذات يوم
نورَ التقدم.
أو تسمونني على الأقل
عادل قرشولي؟
لماذا لا تزالون تحلمون بالحريم
باسمي أنا؟
لقد مزَّقت أختي من زمنٍ طويل
عن وجهها حجاب أمي الأسود؛
فلماذا لا تزالون ترفعونه عاليًا كأنه رايتي،
وتلونون وجهي بألوانه؟
٤
كلا
لم يعد وطني هو الحمام التركي فحسب،
الذي استحم فيه الخلفاء والباشوات وإذا شئتم علي بابا
والأربعون حرامي.
طفلٌ هو اليوم وطني في موكب العصر،
صحيح أنه ما يزال يقف بإحدى قدميه،
في القرون الوسطى.
(وأنا أعرف هذا أيضًا)
لكنه يقف بقدم أخرى،
في فجر يومٍ جديد،
تتساقط عنه أسنانه اللبنية،
ويخرج
من نفق البؤس الذي يبدو بلا مخرج.
إنه يقف
على خشبة العالم المضاءة بنورٍ ساطع.
٥
ضعوا إذًا عن رأسي
هذه العمامة القديمة،
فكوا أسري وتعالَوا
انظروا إليَّ كما أنا هناك،
حيث يتدفَّق العرق الملحي من الجباه،
في الشمس الصاعدة عند السدِّ.
لنفحمكم
حيث الشمعة لا تريد أن تضاء،
إلا في ليلة الحب،
حيث القطار الحديدي يمدُّ لسان الدخان
للجمل،
وحيث العاصفة تحتضن؛
لتكسر قيود القهر؛
لتنفض الغبار المتراكم؛
لتطفئ أفران التضخم الفكري.
وماذا عساي أن أبحث عنه، إن لم يكن هذا
تحت الظلال المنعشة في غابات النخيل
الشامخة؟
(لو لم تكن دمشق، ص٢٣-٢٤)
زيتونة وسنديانة
زوجان متباينان
في ذاتي،
نمو حَذر
نحو الآخر.
آه أيها الشوق!
لا تخنق البراعم في الضلوع
المتشابكة الأغصان،
زيتونة عجوز
سخية بهدايا الزيتون،
مستودع للشموس
مطار أخضر لحمامة نوح،
أظفارها عنيدة،
تتمسك بأرض ظمأى
مغروزة بالصبار.
آه أيها الشَّوقُ!
لا تخنق البراعم في الضلوع
المتشابكة الأغصان.
هيا إلى السنديانة
المبتلَّة برِداء لا نهائي من مطر
أغصان متكاثفة بلا جذع.
سطح لحبنا
ومن ثقب الباب تتلصص الشمس
أحيانًا.
(وطن في الغربة، هالِه وليبزيج، ١٩٨٤م، ص٧١)
موت غريب
مقتلع من جذوري،
متنامٍ مع موت غريب
أنزع نفسي من نفسي،
ليلة
بعد ليلة.
•••
قبر مفتوح
جلدي الرقيق،
برودة النظَرات الشريرة
تتسلل بلا عائق
داخلة خارجة.
•••
مستديرًا للخلف،
أنطلق
في النهار القادم.
غربة
صماء هي زرقة سماء الحمام،
مسموم هو النبيذ،
واليد الممدودة من حجر.
•••
والبلد
البعيد والقريب
يعلمنا منذ كنَّا في رحم الأم
أن نحفظ عن ظهر قلبٍ
كلمتَي:
الابتعاد،
والغربة.
قفص
غرفةٌ
بلا نوافذ،
من يسكنون فيها
ينظمون العالم
وفق منظورهم.
تعلُّم المشي
القدم تقفُ مرة أخرى
على الأرض.
القدم الأخرى تتبعها،
والقدمان تقفان متجاورتين.
•••
قدم تسبقُ الأخرى
تتساءل وتتساءل
خلال دَغَل كثيف
من الأسئلَة.
(القصائد الأربع الأخيرة عن مجموعة
قصائد «موت غريب» من ديوانه «لو لم
تكن دمشق»، ميونيخ، الطبعة الثالثة،
١٩٩٩م، ص٧٣–٨٣)