وصية من محتضر
يا صمتُ، يا صمتَ المقابر في شوارعها الحزينهْ،
أعوي، أصيح، أصيح في لهفٍ فأسمع في السكينهْ
ما تنثر الظلماءُ من ثلجٍ وقار،
تُصدي عليه خطًى وحيداتٌ، وتبتلع المدينهْ
أصداءَهن، كأن وحشًا من حديد، من حجارِ
سفَّ الحياة فلا حياةَ من المساء إلى النهارِ
أين العراق؟ وأين شمس ضُحاه تحملها سفينهْ
في ماء دجلة أو بُوَيبَ؟ وأين أصداء الغناء
خفقت كأجنحة الحمام على السنابل والنخيل
من كل بيتٍ في العراء،
من كل رابية تدثرها أزاهيرُ السهول؟
إن مِتُّ يا وطني فقبرٌ في مقابرك الكئيبهْ
أقصى مناي، وإن سلمتُ فإن كوخًا في الحقول
هو ما أريد من الحياة. فدى صحاراك الرحيبهْ
أرباضُ لندن والدروب، ولا أصابتك المصيبْه!
•••
أنا قد أموت غدًا، فإن الداء يَقْرِضُ — غيرَ وانٍ —
حبلًا يشد إلى الحياة حطامَ جسمٍ مثل دارِ
نخرت جوانبَها الرياحُ وسَقْفَها سيلُ القطار.
يا إخوتي المتناثرين من الجنوب إلى الشمال،
بين المعابر والسهول وبين عالية الجبال،
أبناءَ شعبي في قراه وفي مدائنه الحبيبهْ!
لا تكفروا نِعَمَ العراق …
خير البلاد سكنتموها بين خضراءٍ وماءِ،
الشمس، نور الله، تغمرها بصيف أو شتاءِ،
لا تبتغوا عنها سواها
هي جنة فحذارِ من أفعى تدِبُّ على ثراها
أنا مَيِّتٌ، لا يكذب الموتى، وأكفر بالمعاني
إن كان غير القلب منبعها
فيا ألقَ النهارِ،
اغمر بعسجدك العراق، فإنَّ من طين العراق
جسدي، ومن ماءِ العراق …
٢ / ١ / ١٩٦٣