الفصل الأول
-
المنظر: طرقات لودان.
-
والوقت: بالنهار.
(وتُرَى جثة مدلاة من مقصلة البلدية.)
(وعن كثب عامل من عمال المجاري يعمل في مجرًى ضحل.)
(والناس يُقبِلون من كنيسة القديس بطرس، ومن بينهم آدم الصيدلي
ومانوري الجراح.)
مانوري
:
هلا رافقتني؟
آدم
:
بكل ترحيب.
مانوري
:
لا تغمزني في ذراعي، إنما كان يتكلم كأنه إله.
آدم
:
هل تعني جراندير؟
مانوري
:
نعم هو جراندير.
آدم
:
إنه ينهض بالأرواح.
مانوري
:
هل تظن ذلك؟ ثم ماذا؟
آدم
:
إن بلدًا صغيرًا كهذا من حسن حظه أن يكون به مثل هذا الرجل الذي
يتعهد الأرواح ويحيي؛ إني أقول ذلك وكأني أعني ما أقول!
مانوري
:
كلا، هناك أشياء وأشياء يا عزيزي آدم.
آدم
:
ماذا تعني بالأشياء يا مانوري؟
مانوري
:
لا تفتح فاك، هناك أشياء تُقال، وأشياء تُعمل.
آدم
:
من القسيس؟ أجل، لقد سمعت ذلك.
مانوري
:
عليك أن تشهد بعينَيْك.
(تُقبِل نينون من الكنيسة، وهي أرملة شابة، وتسير في
الطريق.)
آدم
:
لقد شهدت بعينَيْ رأسي.
مانوري
:
وكشفت عليها طبيًّا.
آدم
:
هل فعلت ذلك؟
مانوري
:
إن الترمُّل لا يكسب صاحبته هذا الرضى، ولا يجعلها تمشي هذه
المشية.
آدم
:
إنما تكسبها ذلك الزيارة.
مانوري
:
صدقت.
(وهنا يسيران قرب المقصلة.)
آدم
:
عجبًا إنه يتدلى.
مانوري
:
تُرى من كان هذا الأحمق؟
آدم
:
لقد علقوه ليلة الأمس.
مانوري
:
يا له من منظر يخطف اللب! ماذا بقي يا آدم؟
آدم
:
لست أفهمك.
مانوري
:
ماذا بقي بعد هذا أيها الرجل؟
آدم
:
آه … إن في رأسك فكرة.
مانوري
:
بل هل لديه١ فكرة؟ هذا هو المهم.
هيا بنا نتناول طعام الغداء.
(آدم ومانوري ينصرفان ويقبل من الكنيسة لويس ترنسانت
النائب العام وابنته فيليب.)
ترنسانت
:
ضمي ذراعَيْك يا بنيتي، إنك تشبهين الفلاحة في مشيتك.
فيليب
:
ومن يراني؟
ترنسانت
:
العالَم يراك، وإني أحب أن يرى فيك سيدة محترمة.
(يقتربان من المقصلة.)
فيليب
:
هل كان شابًّا أو شيخًا؟
ترنسانت
:
لا تنظري.
فيليب
:
إنك تريد أن تملأ رأسي بالتجارب الطيبة النافعة، يا أبتِ؛ ولذا
فإني أرجوك أن تخبرني، هل يكشف الموت عن الوجه القناع في
السماء؟
ترنسانت
:
هذا سؤال توجهينه إلى قسيس.
فيليب
:
إني آسفة، وإذن فلنتحدث في حركة ساقي أثناء الرقص وفي الزواج وفي
الحب، ولا نتحدث في الموت؛ فهو كريه الرائحة، أما الوسادة
فيفوح منها العطر.
ترنسانت
:
دَعْك من هذا الهراء، وامضي في المسير، وتنبهي في خطاك.
(ترنسانت وفيليب ينصرفان، ويخرج جان دارمنياك حاكم
المدينة وجيوم دي سيريزاي كبير القضاة من الكنيسة إلى الطريق
العام.)
دارمنياك
:
يبدو أن جراندير يؤمن أشد الإيمان أن قوى الخير — كالحزب السياسي
— بحاجة إلى زعيم.
دي سيريزاي
:
كانت تدور في رأسه أمثال هذه الأمور.
دارمنياك
:
تعني السياسة؟
مهما يكن من شيء فإنه من العجيب أن يصدر هذا الاصطلاح عن منبر
الكنيسة.
دي سيريزاي
:
وعجيب كذلك أن تصدر عن النكتة.
دارمنياك
:
أجل، لقد لحقني العار هذا الصباح عندما ضحكت ضحكة عالية، وهل هذا
أليق بحاكم المدينة من التثاؤب أثناء الخطبة، كما كنت أفعل قبل
قدوم جراندير إلى هنا؟
دي سيريزاي
:
هل صرفت العربة؟
دارمنياك
:
أجل، فقد آثرت أن نمشي، خبرني.
دي سيريزاي
:
ماذا تريد؟
دارمنياك
:
هذه بلدة صغيرة، هل تحتمل قسيسًا مثل جراندير؟ هذا الرجل
المتكبر! هل تسلك هذا الطريق؟
(دارمنياك ودي سيريزاي ينصرفان، والجمهور يختفي، ولم
يعد يخرج أحد من باب الكنيسة، ويظهر الأب أربان جراندير راعي كنيسة
القديس بطرس، ويخرج إلى الطريق. ويُفرِغ عامل المجاري جردلًا مليئًا
بالقاذورات فيلوث عباءة القسيس.)
عامل المجاري
:
آسف.
جراندير
:
لا عليك.
العامل
:
ولكني أخطأت، كيف يكون على الزي المقدس الأرجواني براز؟
جراندير
:
بُنَيَّ.
العامل
:
أبي؟
جراندير
:
إن ألفاظك تناسب مقامك.
العامل
:
وماذا كنت تقول؟
جراندير
:
غير ذلك.
العامل
:
ولكني يا سيدي رجل، رجل قذر آثم، وعملي في مجاري المدينة، فلماذا
تنتظر مني ألفاظًا نقية؟ غير أني أريد أن أرضيك مع هذا، إني يا
سيدي آسف لأني لطخت رداءك بإفراز الفقراء، هل هذا تعبير أفضل؟
جراندير
(ضاحكًا)
:
هذا يكفي.
العامل
:
ما أجمل هذا اليوم، الطقس حار.
جراندير
:
أجل وكيف تحتمل العمل هناك؟
العامل
:
كنت أشغل فكري بأمور أرقى.
جراندير
:
يسرني أن أسمع ذلك، وماذا كانت تلك الأمور؟
العامل
:
زوجتي وغذائي.
جراندير
:
لقد فهمت، أما الآن؟
العامل
:
لم تعد بي حاجة، وألفت الرائحة الكريهة، ولا يمكن لأحد أن يبلغ
الثالثة والأربعين من عمره دون أن يحدث له ذلك، ولو كنت رجلًا
من عامة الناس يا سيدي فربما أمكنني أن أفهمك.
جراندير
:
ولماذا لا تحاول؟
العامل
:
كل امرئ مجرى نفسه، إنه يحمل في جوفه مجاريه، والمزاريب تجري
خلاله لتلفظ الأقذار.
جراندير
:
ولكنها تحمل كذلك دم الحياة.
العامل
:
إنها مجرد سباكة، وهي المبادئ الصحية الأولى، لا تقاطعني، ما
الذي يسعد الإنسان؟ أن يأكل، ويجعل المجاري تموج، أن يجلس في
الشمس ويجعل القمامة تتخمر، أن يعود إلى بيته ويلتمس الراحة مع
زوجته في مجاريها، لماذا إذن أشعر بالخجل أو بالشذوذ
هنا؟
جراندير
:
بهذه الصورة ليس ثمة ما يدعو إلى ذلك، بل ربما كانت لك في هذا
العمل متعة.
العامل
:
من الواضح يا سيدي أن إفرازاتك الغالية لن تتدفق هنا كما تتساقط
من بين أصابع قدمي هذا المخلوق الضال طوال الليل.٢
جراندير
:
لا تسخر من هذا الشيء.
العامل
:
آسف.
جراندير
:
لقد كان رجلًا، شابًّا، في الثامنة عشرة من عمره، وقد أتوا به
ليركع على باب الكنيسة في طريقه إلى هذا المكان، واعترف لي
بخطاياه.
العامل
:
وما هي؟
جراندير
:
كونه حيًّا.
العامل
:
مدرك.
جراندير
:
وكان ذلك شيئًا إدًّا، ساقته رجولته إلى قوة الحواس، وبهذه
الحواس كان يعبد فتاة شابة ويقدسها كل التقديس، ولكنه أسرع في
التعلم، تعلم أن الذهب وحده هو الذي يحلي الجسم العاري، فسرق.
العامل
:
ومن أجل ذلك شُنِقَ؟
جراندير
:
لقد اعترف لي وحدي بشيء ما، ولم يرد أن يبلغ صوته الإله، إنما
كان رجلًا يتحدث إلى رجل، قال لي إنه عندما حلى الفتاة بدا له
الذهب بغير لون، عديم القيمة فوق جسمها الذهبي، وكانت تلك
توبته، متى ينزلونه من فوق المقصلة؟
العامل
:
غدًا، في جنح الظلام.
جراندير
:
أرجو أن تراقب إتمام هذا العمل في شيء من الحشمة.
(جراندير ينصرف.)
***
(دي سيريزاي – دارمنياك – ترنسانت)
دارمنياك
:
الحياة الريفية يا عزيزي ترنسانت.
ترنسانت
:
هل تشعر أن لها أثرًا سيئًا على فن الشعر؟
دارمنياك
:
اسأل دي سيريزاي.
دي سيريزاي
:
أنت باعتبارك النائب العمومي يا ترنسانت، وأنا باعتباري قاضيًا،
نشأنا ملتصقَيْن بالأرض بحكم عملنا، ولقد كنت دائمًا أعد الشعر
فنًّا رفيعًا.
ترنسانت
:
أؤكد لك أن الأفكار الصحيحة ترد على خاطري أثناء النظم، إن عقلي
— إن جاز لي أن أقول ذلك — محشو كله بالنبل.
دي سيريزاي
:
لماذا لم تُطلِعْ جراندير على المجموعة الأخيرة من مقطوعاتك
الشعرية؟
ترنسانت
:
القسيس؟
دي سيريزاي
:
إن حواسه الدنيوية غاية في النضج باعتباره قسيسًا، اجمع بعض
المختارات وقدِّمها إليه، فالرجل من العلماء الباحثين.
ترنسانت
:
حسنًا، إنني لا أبغي الثناء ولكني سوف أفعل ما تقول، أجل (ترنسانت ينصرف).
دارمنياك
:
مسكين ترنسانت، إنه يحب آلهة الشعر، ولكنها للأسف لا تحبه فيما
يبدو، أرجو أن يكون اقتراحك بشأن جراندير خاليًا من نية
السوء.
دي سيريزاي
:
خلوًّا تامًّا يا سيدي، إن ترنسانت شأنه شأن أي مؤلف، كلما ارتفع
مستوى قرائه خف عبء الشك على كواهل أصدقائه المقربين.
دارمنياك
:
لقد أتى جراندير لمقابلتي هذا الصباح، وكنت أتناول طعام الإفطار
في الحديقة، ولم يكن يعلم أن بوسعي مشاهدته وهو يتقدم نحوي،
كان مكشوف السريرة باسمًا، يتنفس الهواء بصورة ظاهرة، وقد توقف
ليشاهد الطواويس، ويداعب زهرة وكأنها بين يدَيْه سر المرأة
الخفي، وأخذ يضاحك ابن البستاني، ثم اعتدل ساعة من الزمان. إلى
أين يتسلق هذا الرجل الآخر على سلم شكوكه وضحكاته؟
دي سيريزاي
:
ربما تسنم ذروة مناصب الكنيسة.
دارمنياك
:
وما مصير الرجل الذي رأيت في الحديقة؟
(صمت.)
***
(جراندير مع نينون، والسرير غير مرتب، وفوق إحدى قوائمه
قلنسوة.)
نينون
:
خبرني.
جراندير
:
ماذا تريدينني أن أخبرك به؟ إن الألفاظ ليست إلا ألاعيب في
موقفنا هذا، لها رنين الموسيقى، وليس لها ومعنى.
نينون
:
لا تسخر مني، إنني لا أفهم قط، فلست امرأة ذكية.
جراندير
:
ما أشد تواضعك يا نينون! وذلك من رذائل النساء، وهو لا يؤدي إلى
نتيجة، عمَّ تسألين؟
نينون
:
لماذا تأتي إليَّ؟
جراندير
:
لو كنا في صالونك لكان هذا منك سؤالًا حكيمًا، أما ونحن …
نينون
:
إن بالمدينة فتيات رائعات الجمال.
جراندير
:
إنهن لم يطلبن العزاء في موت باكر لزوج غني يبيع الخمور، ذلك كان
الداعي إلى زيارتي الأولى لو تذكرين في يوم من أيام الثلاثاء
من بضعة أسابيع، وقد طلبتُ إليك أن تعتقدي بأن الله يحبك، وأنه
يرعاك رعاية أبدية، وأن تعتقدي أن السكتة القلبية التي أصابت
زوجك وهو يتناول العشاء عندما كانت دماؤه تتدفق مع خموره
الغزيرة، كانت عملًا من أعمال المحبة، وقلت لك إن كل شيء مهما
تعذَّر إدراكه هو عمل من أعمال المحبة، غير أنك لم تستطيعي
الإيمان بشيء من هذا، إن روحك ضيقة كعقلك يا نينون، فلجأت إلى
تصرف إنساني بحت، فبكيت، ولا بد من مسح الدموع وكيف يمكن ذلك
بغير تدليل؟
نينون
:
في ذلك اليوم لم أرَ فيك إلا رجلًا، ما هي حقيقة الأمر؟
جراندير
:
وددت لو أنَّ مثل هذه الكلمات لا تزال قوية الأثر في نفسي
(يعطر
منديله).
نينون
:
إنني لم أرَ فيك قط إلا رجلًا، فهل تريد أن تكون أكثر من
ذلك؟
جراندير
:
أكثر من ذلك بالتأكيد، أو أقل.
نينون
:
ولكن كيف تستطيع أن تكون رجلًا من رجال الدين دون أن تكون
رجلًا؟
جراندير
:
إنكِ يا عزيزتي تسألين أسئلة فوق سنك، وأبعد من تجربتك، إن فمك
…
(ناقوس يدق.)
نينون
:
لقد ملكتَ عليَّ نفسي.
جراندير
:
اذهبي الآن لتنامي، وقد كنتِ اليوم حيوانًا صغيرًا طيبًا.
فليكن لك في استرجاع الذكرى راحة وسلوى، واسعدي.
(جراندير ينصرف.)
***
(آدم ومانوري وبينهما مائدة.)
مانوري
:
هذا الرأس البشري يبعث في نفسي كثيرًا من التأمل يا عزيزي
آدم.
آدم
:
هذا موضوع مألوف.
مانوري
:
إن كل امرئ يحمل فوق كتفَيْه رأسًا — ليس في ذلك شك — ولكن عندما
يقع بين يديَّ رأس مفصولًا عن جذعه الغليظ أحس دائمًا بسمو في
الروح. تصور أن الرأس مقر التفكير.
آدم
:
فعلًا، وهذا حق.
مانوري
:
أليس من الجائز أن أجد في أثناء تشريح رأس عادي ذات يوم …
آدم
:
ماذا تجد يا مانوري؟ لا تتردد في إخباري.
مانوري
:
قد أقع على المعنى الدقيق للتفكير، أليس من الممكن أن يصل سن
مبضعي إلى الجانب المقدس في الإنسان، فيلقاه محفوظًا في كيس
بالغ في الصغر؟ لقد حلمت بهذه اللحظة ورأيت بنفسي. أرفع هذا
الجزيء الذي ألتقطه من المخيخ، ثم أكون على علم يا آدم.
آدم
:
ماذا تعلم يا مانوري؟
مانوري
:
تعالَ يا صديقي العزيز، إنما أنا أتكلم بمعنًى غاية في الشمول،
أعلم كل شيء، ويتكشف لي كل شيء.
آدم
:
رحماك اللهم.
مانوري
:
دعنا نحمل هذا الشيء إلى بيتك، ونقضي المساء في دراسته.
(يتجهان نحو الطريق العام.)
مانوري
:
إن كل الناس يتحدثون عن علاجك لمرض الحب الذي أُصيب به
الدوق.
آدم
:
نعم، وأحسب أننا تغلبنا عليه، ولكن لم يمضِ في الوقت ما يكفي
للتأكد.
مانوري
:
مركَّبك المعدني، هل يؤثر في قدرة الرجل؟
آدم
:
تأثيرًا بالغًا ولا مناص «للعلم» — كما كنت أقول للدوق متفكهًا —
من الاهتمام بالأسباب الأولية، وليس بوسعه أن يلتفت إلى مشاهدة
النتائج الهدامة العارضة.
مانوري
:
ولن يلتفت، كما نأمل.
آدم
:
هل وضعَتِ «السيدة التي لن نسميها»؟
مانوري
:
قبل الأوان، وكان جنينها يدعو إلى العجب، وُلِدَ وعلى رأسه
قلنسوة صغيرة.
آدم
:
إن ذلك لا يدعو إلى العجب مع هذا اللغط الشديد حول
السائق.
(يبلغان الشارع ويقترب منهما جراندير.)
مانوري
:
انظر، مَن القادم؟
آدم
:
قل إن شئتَ إنه رجل يمثِّل العالِم الذي لا يعبأ بشيء.
جراندير
:
عمتم مساءً، سيدي الجراح، وسيدي الصيدلي.
مانوري
:
عمت مساءً.
آدم
:
نعم يا سيدي.
جراندير
:
كان يومًا جميلًا.
مانوري
:
نعم.
آدم
:
أجل.
جراندير
:
أما الآن، فإنها سوف تمطر، أليس كذلك؟
آدم
:
إن السماء صحو.
مانوري
:
حقًّا.
جراندير
:
ولكن السحب قد تتجمع قبل حلول الليل.
آدم
:
فعلًا.
مانوري
:
فعلًا، ربما حدث ذلك.
جراندير
:
وتُظلِم كما تعلمان. ما عندك في هذا الجردل؟
مانوري
:
رأس إنسان.
جراندير
:
هل كان صديقًا؟
مانوري
:
كان مجرمًا.
آدم
:
لقد أنزل الجسم من المقصلة في الليلة الماضية.
جراندير
(بعد صمت)
:
لعلهم لم يتقاضوا منك ثمنًا غاليًا، لمصلحة «العلم».
مانوري
:
دفعت تسعة بنسات.
جراندير
:
معقول، وإنها لصفقة، أَرِني، ليس هذا الخل من نوع جيد.
آدم
:
صحيح، كنت ومانوري نتحدث عن المأزق الذي وقع فيه الإنسان بسببٍ
يتركز في هذا الجزء من جسمه.
جراندير
:
إني على يقين أنكما ذكرتما أشياء شائقة.
آدم
:
ذكر مانوري أن مقر التفكير ينحصر هنا.
جراندير
:
ما أصدق ذلك، وكنت تستطيع أن تقول ذلك يا آدم.
آدم
:
لقد قلت.
جراندير
:
ولا ينبغي أن نغفل النظر إلى هذا المزيج من الحماقة والقداسة عند
الإنسان مما لا نذكره إلا لغرض أسمى هو نشوته
الروحانية.
آدم
:
أطلب منك العفو.
جراندير
:
لك هذا، ولكني لا يجب أن أبقى هنا أتبادل معكم الآراء العميقة،
مهما اشتد إغراؤكم لي؛ ولذا استودعتكما الله يا سيدي الجراح
ويا سيدي الصيدلي.
(جراندير ينصرف والناقوس يدق.)
مانوري
:
لقد وقعتَ في شباكه يا آدم، لا تشغل نفسك قط مع رجل أريب.
آدم
:
كانت تفوح منه رائحة الأرملة، يا للقذارة.
مانوري
:
طبعًا، ولقد عاد توًّا من لدنها.
آدم
:
بعدما أدخَلَ على نفسه البهجة هذا الصباح حينما كانت الفتيات
يعترفن له بخطاياهن …
مانوري
:
بلغ بنفسه ذروتها في فراش الأرملة عصرًا …
آدم
:
ثم أتى إلينا يتثاءب في وجوهنا.
مانوري
:
هذا المساء …
آدم
:
هذا المساء سيقضيه في بيت عظيم، عند دارمنياك ودي سيريزاي، يطعم،
ويتسلى، وتتملقه النساء بضحكاتهن.
مانوري
:
يا لها من … إني آسف. ماذا كنت تريد أن تقول؟
آدم
:
كنت أريد أن أقول يا لها من «حياة».
مانوري
:
وهذا ما كنت أريد أن أقوله.
آدم
:
إننا لا نُدعى قط إلى أمثال هذه الأماكن.
مانوري
:
كثيرًا ما فكرت في ذلك.
آدم
:
وكيف تعزي نفسك؟
مانوري
:
بذكري أنني رجل شريف أقوم بعمل شريف.
آدم
:
وهل يكفيك هذا؟
مانوري
:
ماذا تعني؟
آدم
:
التقط الرأس وسر معي.
(يسيران في الطريق، ويدخلان بيتًا.)
***
(جراندير يدخل الكنيسة، ويركع عند المذبح،
ويصلي.)
جراندير
:
إلهي، إن ابنك المسكين يجب
أن يصل إلى نعمائك، إنني أتحدث وفوق كاهلي متاعب خمسة وثلاثين
عامًا، وهي أعوام مثقلة بالكبرياء والطموح، بحب النساء وحب
النفس، أعوام يلطخ صفوها الترف والزينة، وقت استنفدته في كوني
لا شيء، في كوني رجلًا.
إني أسجد لك خاشع القلب، مهدود القوى، وأسألك يا رب أن تنظر
إليَّ بالمحبة، وأضرع إليك يا إلهي أن تستجيب لدعائي، اهدني
الصراط المستقيم، أو أوجد لي مخرجًا.
(صمت.)
إلهي، ربي، إلهي، اعفُ عني. حررني. هذه الحاجات. ارحمني يا رب.
حررني. في الساعة الرابعة بعد ظهر الثلاثاء، حررني يا
إلهي.
(ينهض، ويصيح):
Rex tremendae majestatis,
qui
salvandos salvas gratis, salva
me,
salva me, fons
pietatis!
٣
***
(دي لاروشيوزاي؛ أسقف بواتييه
– رهبان من الفرانسيسكان والكرمل)
دي لارشبوزاي
:
كنت وحيدًا لعدة أيام خلت، ولعلكم تريدون أن تعرفوا إن كنت قد
بلغت نغمة ربي، ربما كان ذلك؛ لأني شديد الألم والنفور من
حماقة الإنسان وشره، وتسألونني هل هذه هي رحمة الله؟ وأجيب:
ربما كانت هي رحمته، دعني أحدثكم عن ظروف الوحي.
حبست نفسي في غرفتي سبعة أيام، أصوم وأصلي، فرأيت نفسي أداة
بسيطة لإرادة الله، وشعرت بسعادة ونشوة وخضوع حتى تمنيت ألا
أعود إليكم، ودعوت الله أن يصيب بدني بالذبول، ولا يترك إلا
صفاء الروح، غير أن إحساسي بالواجب كأسقف لكم أرغمني على أن
أتخلى عن هذه الجنة، فعدت إلى العالم. وأراد أحد قساوسة لودان،
واسمه جراندير، أن يقابلني، وهو من أبنائي، مثلكم جميعًا يا
أحبائي وأردت أن أمنحه حبي، لولا أن منديله كان معطرًا، ولو أن
هذا الرجل صفعني على وجهي لكان ذلك أقل إذلالًا لنفسي. إن
الصدمة التي وقعت على حواسي كانت من الفحش بحيث أصابني الفزع؛
عطور لرجل مذاق الماء عنده كان كالنار، وصوت الطيور في البستان
كصياح من لحقتهم لعنة الله، إنني مكدود، أزيلوا هذه الخواتم من
أصابعي.
ربما قابلتم وأنتم في طريقكم من الأبرشية إلى هذا المكان طفلًا
يبسم لكم، أو اجتذبت أنظاركم زهرة، أو رائحة العشب الجديد على
جانب الطريق، هل بعثتْ فيكم هذه الأشياء إحساسًا غير السرور؟
وربما ضل أحدكم طريقه وهداه إليه رجل غريب، فهل رأيتم في عمله
هذا شيئًا غير الشفقة؟
دعوني أقول لكم هذا، ليست هناك براءة إطلاقًا؛ ارتابوا في الخير
الذي يصدر عن الناس، والفظوا الشفقة.
لأن كل متعة ظاهرة إقرار للذات، وإقرار الذات عند الإنسان هو
غلبة الشيطان. عندما نشر هذا المنديل في وجهي هذا الصباح وقعت
عيني عليه وكأني في رؤيا، رأيته علمًا ضخمًا يرفرف فوق العالم،
تفوح منه الرائحة الكريهة، ويلف كنيستنا المحبوبة ويغمرها
بالعار وحب الشهوات؛ إننا في خطر.
أبعدوني عن هذا المكان، أبعدوني.
(دي لارشبوزاي يُساق بعيدًا، ويبقى الأب باري والأب
رانجير وحدهما.)
رانجير
:
كيف تسير الأمور في ركنك من هذا العالم؟
باري
:
إني مشغول جدًّا.
رانجير
:
هل هو معكم؟
باري
:
بغير انقطاع.
رانجير
:
هل نستطيع أن نسميه؟
باري
:
إن أردت، إنه الشيطان.
رانجير
:
وكيف تسير المعركة؟
باري
:
لن أَيْئَس.
رانجير
:
يبدو عليك الإجهاد.
باري
:
المعركة مستمرة ليلًا ونهارًا.
رانجير
:
إن روحك مضيئة.
باري
:
لم تتحطم على أية حال، ولكن شينون لا تظفر الآن بلحظة هدوء، كنت
منذ بضعة أيام أقوم بمراسم عقد زواج، وكان كل شيء يسير على ما
يرام: كان أمامي زوجان شابان، جاهلان فيما حسبت، لكنهما
طاهران، ولم يَدُرْ بخلدي عنهما غير ذلك، وبلغت مباركتي لهما،
وكنت على وشك أن أدفع بهما إلى العالَم زوجًا وزوجة، حينما حدث
اضطراب عند الباب الغربي؛ ذلك أن بقرة قد اقتحمت الكنيسة وكانت
تحاول أن تشق طريقها وسط المصلين، وعرفت الحقيقة في الحال
بطبيعة الأمر.
رانجير
:
عرفت أنها هو؟
باري
:
أفصح يا رانجير، وسمِّه (ويصيح) إنه الشيطان!
رانجير
:
إنك لا تُخدع قط.
باري
:
وقبل أن أستطيع التصرف، خرج٤ من البقرة إلى أم العروس، فارتمت على الأرض في شبه
صرع، ثم كان اضطراب مريع بطبيعة الحال، ولكني بدأت في «إخراج
الشيطان» في الحال، وهناك زوجان لن يتخليا عن حفل زفافهما على
عجل.
رانجير
:
وكيف انتهى الأمر؟
باري
:
صاحت الروح في الكنيسة وكأنها ريح عاتية، وظهر على جبين الفتاة
شيء يلطخه ويشبه الطين الأسود، وظنت أنها وقعت، ولكني كنت أكثر
منها علمًا بطبيعة الحال، ولم يكن ذلك كل ما في الأمر، فقد
جاءني الزوج بعد يومين وقال لي إنه وجد نفسه عاجزًا كل العجز
عن أداء واجبه الضروري، لقد مسه الشيطان كالعادة كما تعلم، وقد
شرعت أبحث في الأسرة كلها.
رانجير
:
إن مثل هذا الأمر لا بُدَّ أن يأتي بعدد كبير من الناس إلى
شينون.
باري
:
ألوف من الناس.
رانجير
:
الناس يزداد اهتمامهم اليوم بالشر.
باري
:
لقد عاون ذلك بالتأكيد على زيادة عدد زوار حرم كنيستي بعدما أخذ
يهبط بشكل مؤسف، إنهم يقصدون صورة نوتردام دي ريكفرانس (أو
الشفاء).
رانجير
:
وأنت تعلم بطبيعة الحال كيف حدث ذلك.
باري
:
بالتأكيد إنهم جميعًا يؤمون لودان الآن؛ إن شخص جراندير هذا،
الذي أزعج الأسقف، هو المسئول عن هذا، إنه يروِّج لمركزه بشكل
مشين.
رانجير
:
إن في أشكال عمل المعجزات طرزًا كما أن لقبعات السيدات
طرزها.
باري
:
هذا حق، غير أن في الشر ثباتًا تطمئن له النفس، لا بُدَّ لي أن
أنصرف.
رانجير
:
لأمر هام؟
باري
:
لا بُدَّ لي من زيارة مزرعة، إنهم يقولون إن شيئًا يتكلم من خلال
الحبل السري لإحدى الطفلات، والطفلة ذاتها الآن تتبادل مع هذا
الشيء الحديث، وقد قيل لي إن الصوتَيْن قد بثا معًا مذهبًا
عجيبًا في انتهاك حرمة المقدسات.
(ينصرف رانجير وباري في طريقَيْن منفصلَيْن.)
***
(جراندير وحيدًا، وبيده بضع صفحات من قصائد الشعر
ويتقدم إليه ترنسانت.)
ترنسانت
:
فضل منك أن تزورني يا أبي جراندير.
جراندير
:
عفوًا لقد عدت ومعي قصائدك.
ترنسانت
:
حسنًا، إن دارمنياك يرى أن أي قصور إنما يعود إلى الحياة في
الريف.
جراندير
:
إنك تدوِّن هذه القصائد عند عودتك من مكتبك.
ترنسانت
:
كل يوم.
جراندير
:
وسط روائح الطهو.
ترنسانت
:
إنها تقذف بي بعيدًا.
جراندير
:
ووسط ضجيج الحياة العائلية.
ترنسانت
:
إنها تقطع عليَّ سلسلة التفكير.
جراندير
:
ولذا فمن الطبيعي أن تصدر عنك … هذه.
ترنسانت
:
خلصني من شقائي؛ إني بحاجة إلى رأي مخلص.
جراندير
:
أنت رجل لك مكانتك في هذه البلد يا ترنسانت، والرجال الذين
يشغلون المناصب العامة لا يتوقعون الإخلاص.
ترنسانت
:
حدثني باعتباري شاعرًا لا باعتباري نائبًا عامًّا.
جراندير
:
حسنًا إن شعرك …
(فيليب ترنسانت تدخل.)
ترنسانت
:
ما بك؟
فيليب
:
أريد أدواتي للخياطة يا أبت.
ترنسانت
:
خذيها من فضلك. (إلى
جراندير): هذه كبرى بناتي، فيليب، ماذا كنت
تقول؟
جراندير
:
كنت أهم بالقول إن مبتكراتك — هذه الصفحات — لها قيمة كبرى، يبدو
أنها ملاحظات أدبية ذات طابع غير مألوف.
ترنسانت
:
حقًّا؟
جراندير
(لفيليب)
:
ألا تظنين ذلك؟ إنني أتحدث عن شعر أبيك.
ترنسانت
:
إنها تجهل هذه الأمور كل الجهل، وأنت تعلم أنها كأمثالها من
الفتيات الصغيرات كل ما يهمهن الرقص والموسيقى والضحك، أما
الأمور الرفيعة فليست لها قيمة.
جراندير
:
يجب أن تتعلم.
ترنسانت
:
يتعذر وجود شخص ملائم في هذه المدينة، اللهم إلا …
جراندير
(إلى فيليب)
:
هل تتكلمين اللاتينية؟
فيليب
:
قليلًا.
جراندير
:
لا يكفي.
ترنسانت
:
اللهم إلا …
جراندير
:
إنها لغة دقيقة تمكنك من التعبير تمامًا عما تعني، وهذا نادرًا
في هذه الأيام، ألا توافقينني؟
فيليب
:
بلى، إنه نادر.
ترنسانت
:
اللهم إلا أن تعهدت أنت أيها الأب جراندير بالتعليم.
جراندير
:
تعليم ابنتك؟
ترنسانت
:
نعم.
جراندير
:
أنا رجل مشغول.
ترنسانت
:
يوم واحد فقط في الأسبوع، ساعات قلائل في تذوق الأمور الرفيعة،
ويمكن أن يتم ذلك بالمحادثة، وربما بقراءة شعر لاتيني
مناسب.
جراندير
:
حسنًا.
ترنسانت
:
هل يكون ذلك يوم الثلاثاء؟
جراندير
:
كلا ليس يوم الثلاثاء، اليوم التالي.
***
(آدم ومانوري يجلسان في الصيدلية تحت تمثال محشو
ومثانات مدلاة، وينعكس الضوء خلال زجاجات تحتوي على مخلوقات
مشوهة.)
آدم
(يقرأ في كتاب صغير)
:
في الساعة الخامسة والنصف يوم الثلاثاء خرج من بيت
الأرملة.
مانوري
:
الرجل كالآلة، ولكنه مع ذلك مشوق، هل يمكن أن ترتبط الاستجابة
الجنسية بالزمن؟
آدم
:
في الساعة السابعة والنصف شُوهد وهو يتحدث علانية مع دارمنياك،
والموضوع مشكوك فيه، وإن كان جراندير قد شُوهد وهو يضحك مرتين
مستهترًا، وتناول العشاء وحده، وفي وقت متأخر عن العادة، في
التاسعة، وظل الضوء مشتعلًا في حجرته حتى بعد منتصف
الليل.
مانوري
:
أظن ذلك ممكنًا: إذا قلتُ للمرأة في منتصف الخامسة يوم الثلاثاء
سوف آتيك لأمتعك ثم … واظبت على ذلك بضعة أسابيع لم تعد بي
حاجة إلى أن أقول لها إني سأفعل ذلك، فتوقعها لي يغني عن قولي،
يوم الثلاثاء، في منتصف الخامسة، ثم تحدث الظواهر الفسيولوجية
المعروفة، إن هذا الموضوع يصلح للبحث، لا بُدَّ لي أن
أفكر.
آدم
(يقلب صفحة من الكتاب)
:
اكْتُشِفَ في الفجر جاثيًا على ركبتَيْه أمام المذبح، وكان
مسترخيًا طول الصباح، ثم تناول وجبة في الساعة الثانية والربع،
تناول قطعًا من الخبز الحلو بالقشدة ثم قطعة من الجبن القديم
مع النبيذ، وفي الساعة الثالثة دخل بيت ترنسانت لتعليم ابنته
فيليب.
مانوري
:
ما أشد فطنتك يا آدم؟
آدم
:
هل تُراني كذلك الآن؟
مانوري
:
لقد نطقت بكلمة «تعليم» بطريقة مصطنعة تدل على معنًى آخر.
آدم
:
شكرًا لك.
مانوري
:
ولكن سامحني يا صديقي العزيز إن أنا سألتك شيئًا ما، كيف نتابع
الموضوع؟ إن ملاحظاتك عن تحركات جراندير تدعو إلى العجب، غير
أن هذه التحركات قد تكون من عادات أي رجل، ويستحيل علينا أن
ندينه بمثل هذا الدليل.
آدم
:
أعطني الوقت يا مانوري، قطعًا إننا لن نكشف عنه بتتبع عاداته،
ولكن الشهوة تشده من أنفه، ولا بد للشهوة من شريك، فهل هي
الأرملة نيون؟ أم هل هي فيليب ترنسانت؟ أم هي غير هذه وتلك؟
ومن يدري؟ ولكن الوقت آتٍ، صبرًا.
***
(الأخت جان دي زانج وحيدة، جاثية.)
جان
:
إنني أهب نفسي في خشوع لخدمتك، لقد خلقتني امرأة صغيرة في
تكويني البدني وفي روحي، وكل ما أملك كذلك خيال ضيق، من أجل
هذا بحكمتك العظيمة يا رب حمَّلتني هذا العبء الناتئ على ظهري
يذكرني يومًا بعد يوم بما ينبغي لي حمله، إلهي، إني أجد عسرًا
في التقلب على فراشي؛ ولذلك فإني في ساعات الفجر — ساعات اليأس
— أتذكر ما حملتني — الصليب — على الطريق الطويل.
لقد أكسبت حياتي معنًى عند تعييني في هذا البيت — بيت أرسولين —
وسوف أحاول أن أرشد الأخوات في هذا المكان، وسوف أؤدي واجبي
كما أراه.
(صمت.)
إلهي، إلهي، لقد وجدت مشقة كبرى في الصلاة منذ كنت فتاة صغيرة،
ولطالما تمنيت أن يكون في باطني صوت آخر أعظم من صوتي أحمدك
به. بنعمتك يا رب أتيت إلى هذا المكان صغيرة. اللهم ارحم
ابنتك. اللهم ابعث في نفسها الأمل. ولكني مع ذلك سوف أكنس
البلاط، وأرتب الفراش جيدًا، وأنظف الأعمدة بإتقان. (صمت) رحماك اللهم. (صمت) سوف أجد طريقًا، أجل،
سوف أجد طريقًا إليك، سوف آتيك، وتضمني بين ذراعَيْك
المقدستَيْن، وسوف تسيل بيننا الدماء، فتوحد بيننا. إن طهارتي
لك (صمت) (في لفظ حاسم)
أتوسل إليك يا إلهي أن تزيل عني حدبتي حتى أستطيع أن أستلقي
على ظهري دون أن يتدلى رأسي. (صمت) هناك طريق لا بُدَّ لي أن ألتمسه،
اللهم اجعل نور محبتك الأبدية … (ثم
تهمس) آمين.
(تنهض الأخت جان ثم تنصرف.)
***
(جراندير، وفيليب تُرى وهي تقرأ.)
فيليب
:
Foeda est in coitu et
brevis
Voluptas, et
taedet
Vereris statis
peractae.
٥
جراندير
:
ترجمي أولًا بأول، وسطرًا بسطر.
فيليب
:
المتعة في الحب …
جراندير
:
في الشهوة.
فيليب
:
المتعة في الشهوة قذرة وقصيرة الأمد، والمرض …
جراندير
:
الملل.
فيليب
:
والملل يعقب الرغبة.
جراندير
:
استمري.
فيليب
:
non ergo ut pecudes libidinosae caeci protinus
irruamus illuc (nam languescit amor peritque
flamma).٦
(تتوقف.)
لسنا كالحيوانات نندفع إليها؛ فإن الحب بذلك يموت، والشعلة
تنطفئ.
جراندير
:
هذه ترجمة نثرية، وإن تكن صادقة. سلميني الكتاب. (يقوم بالترجمة):
في وقت الفراغ الدائم
استلقِ في صمت،
وقبِّل الزمان ليمضي،
هكذا، هكذا،
فلا ملل ولا خجل،
في هذه الآونة، في الحاضر وفي المستقبل،
تكون المتعة كلها،
ليست لها نهاية،
وإنما هي بداية أبدية.
لماذا تبكين يا بنيتي؟
فيليب
:
لم تكن صحتي جيدة.
جراندير
:
هل تجدين هذه الدروس القصيرة ثقيلة عليك؟
فيليب
:
كلا، كلا، إنني أحب …٧ إنني أستمتع بها كثيرًا.
جراندير
:
إننا لم نؤدِّ منها غير ستة، وقد فكرت في استمرارها حتى أواخر
العام.
فيليب
:
بطبيعة الحال، حسبما تريد.
جراندير
:
حسبما تريدين أنت يا فيليب، إنها لمنفعتك.
فيليب
:
إنني توَّاقة جدًّا لكي أفهم كل شيء.
جراندير
:
كل شيء؟
فيليب
:
إن في باطني كامرأة دوافع لا بُدَّ لي من إدراكها إن كان لا
بُدَّ من مقاومتها.
جراندير
:
أي دوافع يا فيليب؟
فيليب
:
ميول …
جراندير
:
استمري.
فيليب
:
ميول نحو الخطيئة.
(صمت.)
***
(يقف دارمنياك على أعلى قمة من حصون المدينة، مجلس
الولاية منعقد، تُرى على البعد أشباح لويس الثالث عشر ملك فرنسا
وريشيليو.)
ريشيليو
:
الأمر سهل الإدراك يا سيدي، الورقة التي لديك مقلوبة، إنَّ الحكم
الذاتي للمدن الريفية الصغيرة في فرنسا لا بُدَّ أن ينتهي،
والخطوة الأولى هي هدم جميع أنواع الحصون.
(جراندير يقترب — من أسفل — من دارمنياك.)
دارمنياك
:
إذن فالدور على هذه المدينة.
جراندير
:
هل لا بُدَّ أن ينهار كل شيء؟
دارمنياك
:
هذا ما يريدون، إنها حيلة بطبيعة الحال، ريشيليو يجلس مع الملك
في باريس، ويهمس في أذنَيْه.
ريشيليو
:
لا بُدَّ أن تتحرر فرنسا في داخلها إن أرادت أن تقرر مصيرها
بنفسها.
دارمنياك
:
إن الريفيين من الجُهال الماكرين من أمثالنا لا تجاوز أبصارهم
أسوار المدينة؛ ولذا جاءتنا الأوامر من الكردينال لتحطيمها، هل
يوسع ذلك من أفق أنظارنا؟
ريشيليو
:
إن الرجال من أمثال صديقك دارمنياك يا سيدي قصار النظر، ولاؤهم
لمدينهم وليس لفرنسا.
جراندير
:
هل عللوا هذا الأمر؟
دارمنياك
:
عندما يكون الرجل مشغوفًا بالسلطة مثل ريشيليو يستطيع أن يبرر
أعماله بالسخافات.
ريشيليو
:
إن أمثال هذه الحصون تهيئ الفرص لثورة البروتستانت.
دارمنياك
:
انظر، إنَّها مدينة قديمة. إنَّ هذه الأسوار لا تصد تيار الهواء
فحسب. وتلك البروج ليست لمجرد الزينة. ومن تلك القلعة كنت
أحاول أن أدير مملكتي الصغيرة بحكمة معقولة؛ لأني أحب
المكان.
جراندير
:
يجب أن ترفض هدمها، وهل سوف يعارض الأمر حكام آخرون في
الأقاليم؟
دارمنياك
:
أشك في ذلك.
جراندير
:
وهل سوف نعارض نحن؟
دارمنياك
:
نحن؟
جراندير
:
دعني أعاونك في هذا الأمر يا سيدي.
دارمنياك
:
هل أنت جاد؟ إن إلى جانب الملك في باريس رجلًا من رجال الكنيسة،
وأنت باعتبارك رجلًا آخر من رجال الكنيسة إلى جواري هنا، هل
تريد كذلك أن تستغل هذا الموضوع لأغراضك الخاصة؟
جراندير
:
إن الصراع يجذبني يا سيدي، والمقاومة مُلزمة لي.
دارمنياك
:
إنهم يستطيعون تحطيمك.
جراندير
:
حقًّا إني ضعيف، ولكن الصراع لا يكون بين قوتَيْن متكافئتَين؛ إن
الأمر عندئذ يكون نفيًا. يسود السلام. وإذن فلتسمح لي أن
أعاونك بكل ما لديَّ من حماسة الفشل.
دارمنياك
:
لا تبتسم، إنهم يستطيعون تحطيمك.
(دي لوباردمنت، مندوب الملك، يقف أسفل ريشيليو والملك،
ريشيليو يتحدث إليه.)
ريشيليو
:
إن دارمنياك حاكم لودان قد رفض أن يطيع الأمر. اذهب إلى المدينة،
وقد أديت لي من قبل خدمات. انتظر، هناك رجل اسمه جراندير؛ إنه
قسيس، أجل، هناك رجل يُسمى جراندير، أذكر ذلك.
(دي لوباردمنت ينصرف.)
صوت امرأة مختفية
:
Lux aeterna luceat eis, Domine, cum Sanctis
tuis in aeternum, quia puis
est.
Requiem aeternam dona eis, Domine, et Lux
perpetua Luceat eis.٨
***
(الأخت جان ديزانج، الأخت كلير من أتباع سنت جون، الأخت
لويز من أتباع يسوع، الأخت جبرائيل من المؤمنات بالتجسيد؛
يدخلن.)
جان
:
كانت خسارتنا فادحة أيتها الأخوات، كان الكاهن موسو رجلًا عجوزًا
طيبًا.
كلير
:
هي إرادة الله.
لويز
:
إرادة الله.
جان
:
هذا ما تعلمناه، لكن موته — برغم ذلك — يخلق لنا مشكلة؛ فنحن في
حاجة إلى مدير، ومن الحق أن الرجل شغل هذا المنصب بجدارة لعدة
سنوات، بيد أن حياة الآثمين مستمرة قطعًا، ولا بد لنا من
معرِّف للتائبين منهم.
لويز
:
وهل وقع اختيارك على أحد يا أمي؟
جان
:
الله يختار لنا.
كلير
:
سوف ندعو الله.
جان
:
فلتفعلي ذلك، هناك … (تصيبها نوبة
سعال)، لا تمسوا ظهري، (سكون، وإجهاد) هناك رجل
اسمه جراندير، إنه شاب، لم أرَه قط، ولكن الله كثيرًا ما أودعه
أفكاري أخيرًا، أقصد …
(صمت.)
كلير
:
ما الأمر؟
جان
:
كلير؟
كلير
:
لماذا تحدقين فيَّ هكذا؟ هل قدمت إساءة؟
جان
(ترى الفتاة)
:
كلا، كلا، أقصد أن أكتب إلى هذا الرجل الطيب وأطلب إليه أن يكون
مديرًا لنا، جراندير، جراندير، إنَّه الوحي كما تعلمن، لقد
احتل أفكاري، جراندير.
كلير
:
إنها إرادة الله.
لويز
:
إرادة الله.
جان
(تضحك ضحكًا جافًّا مفاجئًا)
:
إنني أكاد أموت من الإجهاد.
(صمت. في هدوء) هذا حل رائع
عملي، إنه يستطيع أن يرشدنا إلى طريقة تربية الأطفال الذين
يُوضعون تحت رعايتنا، وسوف يرعى حاجاتنا الروحانية (تضحك مرة أخرى)، ويستطيع
أن يصنف هذه المشكلات الدينية المتقدمة اللعينة التي تحيرني
يومًا بعد يوم، نعم إنه اختيار موفق. اتركوني وحدي.
(الأخوات ينصرفن، وتنادي جان كلير لكي تعود.)
جان
:
كلير!
كلير
:
نعم.
جان
:
يقولون إنَّ عينيَّ جميلتان، هل هذا صحيح؟
كلير
:
أجل يا أمي.
جان
:
أجمل من أن أغمضها حتى في حالة النوم على ما يظهر. انصرفي مع
الأخريات.
(جان وحيدة.)
جان
:
كان صباحًا صائفًا، والأطفال يلعبون. فتى وفتاة. والمراكب
الشراعية المصنوعة من الورق تطفو فوق البركة، وقد أشرقت الشمس
حامية فوق الرءوس في ذلك اليوم، وربض الأطفال يحدق بعضهم في
أعين بعض عبر صفحة الماء؛ هل كان ذلك حبًّا؟ صوت إيقاع؛ إنه
ضفدع فوق الصخر، إنه ينق. هذا صبي رأسه مائل إلى جانب يبتسم،
وصوتٌ رقيق يهمس فوق الماء. انظري. تحدثي إلى أخيك يا جان، هيا
بنا يا أخي جرين، اقفز. تحدثي إليه يا جان (تضحك ثم تصمت) سامحني
لضحكي يا رب، ولكنك لم تزودني بقوة الدفاع، أليس هذا صحيحًا يا
رب؟
(جان تتجه إلى النافذة وتفتحها، وتحدق ببصرها خلال
النافذة.)
***
(ترى الشارع، ودكانًا في السوق، وترى الناس يغدون
ويروحون، يشترون ويبيعون، وترى أطفالًا، وتمر عربة نقل، وتسمع أغنية،
ويسير جراندير وسط الزحام، وهو في حُلته الكهنوتية، رائع، ذهبي اللون
في ضوء النهار الذي أخذ في الزوال، خطوه سريع، واثق من نفسه،
نشوان.)
(جان تصيح.)
(ولا يسمع الجمهور صياحها، غير أن جراندير يتوقف عن
المسير ويتلفت حواليه، ويتفرس وجوه المارة، متعجبًا أي رجل أو امرأة
منهم انفعل فصدرت عنه صيحة الألم التي طرقت أذنه وسط هذا الاضطراب،
ويُرى جراندير وهو يصعد سلمًا. وجان تكتب، تخط بسرعة وبحدة خطًّا
مزخرفًا.)
(الطريق العام، يُرى آدم ومانوري وسط الزحام، ثم
يتقدمان.)
مانوري
:
أول ما ينبغي عمله أن نكتب عريضة.
آدم
:
عريضة اتهام ضد جراندير؟
مانوري
:
بالضبط، إننا نعرف دعارته.
آدم
:
بل نجاسته.
مانوري
:
وقلة ورعه.
آدم
:
وهل هذا يكفي؟
مانوري
:
لا بُدَّ أن يكفي.
آدم
:
مؤقتًا.
مانوري
:
ونقدم الصحيفة للأسقف.
آدم
:
لا بُدَّ من إجادة الصياغة.
مانوري
:
طبعًا، نصوغها في لغة سليمة، لائقة للتداول …
آدم
:
طرأت لي الآن فكرة.
مانوري
:
ما هي؟
آدم
:
ما أكثر نقدنا نحن أبناء الطبقة الوسطى، لا لشيء إلا لأننا نحب
أن تكون المواقف لطيفة مقبولة. آسف. استمر. ماذا نقول في
العريضة؟
مانوري
:
نقول؟ (يتوقف) إنما
نقرر.
آدم
:
ذلك لا يهم.
مانوري
:
كلا، بل هي الوسيلة.
آدم
:
يجب أن تكون الغاية نصب أعيننا.
مانوري
:
دائمًا.
(ينصرفان.)
***
(كرسي اعتراف، جراندير وفيليب يتهامسان أثناء الحديث
كله.)
جراندير
:
متى كان آخر اعتراف لك يا بنيتي؟
فيليب
:
منذ أسبوع، يا أبي.
جراندير
:
ماذا تريدين أن تبوحي لي به؟
فيليب
:
أبي لقد أذنبت، وعانيت من الزهو بنفسي.
جراندير
:
يجب أن نكون دائمًا على حذر.
فيليب
:
بالأمس أكملت بعض أشغال الإبرة، وكنت بذلك في نشوة.
جراندير
:
إن الله يسمح لنا بالرضى عن العمل الذي نؤديه.
فيليب
:
وارتكبت الخطأ عن طريق الغضب.
جراندير
:
خبريني.
فيليب
:
أغاظتني أختي، وودت لو كانت في مكان آخر.
جراندير
:
أنت من ذلك في حِل، هل من شيء آخر؟ (صمت) هيا، غيرك في الانتظار.
فيليب
:
ساورتني شكوك دنسة.
جراندير
:
ما طبيعتها؟
فيليب
:
عن رجل.
جراندير
:
بنيتي …
فيليب
:
في الساعات الأولى من الصباح … وكان فراشي حارًّا إلى درجة
الاختناق … طلبت إليهم أن يزيلوا الستائر المخملية … إن أفكاري
فاسدة … ولكنها مع ذلك رقيقة … جسدي … أبي … جسدي … أردت أن
يلامس.
جراندير
:
وهل حاولت أن تقمعي هذه الأفكار؟
فيليب
:
نعم.
جراندير
:
وهل تراودك هذه الأفكار؟
فيليب
:
كلا، فقد دعوت الله.
جراندير
:
وهل تريدين من ذلك الخلاص؟ (صمت) أجيبيني يا بنيتي.
فيليب
:
كلا، إني أريده أن يأخذني — بل يمتلكني — بل يهدني هدًّا. إني
أحبك. قصدت أن أقول إني أحب الله! أحبه!
(يخرج جراندير من المقصورة، وتغلبه الرأفة، وبعد لحظة
يزيح الستار وتُرى فيليب، ويقفان وجهًا لوجه.)
***
(دي لارشبوزاي، آدم ومانوري أمامه في خضوع.)
دي لارشبوزاي
:
لقد نظرت في العريضة التي قدمتماها ضد القسيس جراندير، إننا نعرف
أنه رجل خطر ليس عنده تقوى أو ورع. منذ بضعة أشهر عانينا
بأنفسنا الإهانة والذلة بمحضره، غير أن هذه مسألة لا تهم. ما
شكواكما؟
مانوري
:
نشعر يا مولاي الأسقف أنَّ جراندير يجب أن يُحرم من ممارسة أعمال
الكهنوت.
دي لارشبوزاي
:
ما عملك؟
مانوري
:
أنا جراح.
دي لارشبوزاي
:
هل يسرك أن أعطيك دروسًا في عملك؟
مانوري
:
إني دائمًا على استعداد لأن أتلقى النصيحة.
دي لارشبوزاي
:
لا تتكلم كما يتكلم الغافلون، هذه العريضة القذرة سيئة العبارة
لا تخبرني بشيء لا أعلمه عن الرجل، كل ما أجد هنا تهم غامضة
هستيرية عن أرامل وحيدات وعذارى عاشقات ولست على استعداد لأن
أدير شئون هذه الأسقفية على مستوى محاكم الشرطة.
آدم
:
إن له أصدقاء أقوياء.
دي لارشبوزاي
:
كف عن الهمس، ماذا تقول؟
آدم
:
: إن جراندير يحميه أصدقاؤه.
دي لارشبوزاي
:
ما أسماؤهم؟
مانوري
(لآدم ينبهه بوكزة بكوعه)
:
استمر …
آدم
:
دارمنياك ودي سيريزاي وغيرهما.
دي لارشبوزاي
:
إنني أقبل نواياكم المعقولة التي ساقتكم إلى هذا المكان، وعلم
الله — برغم هذا — أنني إن كنت لا أثق في أحد فهو المواطن
الطيب الذي يتجاوز واجبه المدني؛ إن دوافعه هي في العادة الحقد
أو المال، ولكني لا أقبل آراءكم أو نصيحتكم أو حتى محضركم لحظة
واحدة بعد هذا.
(آدم ومانوري ينصرفان.)
دي لارشبوزاي
(لمساعده)
:
إن حماية الكنيسة من المبدأ الديمقراطي الذي يبيح لكل فرد أن
تكون له كلمة أمر حيوي، ربما كان صدقًا ما قال هذان الرجلان،
ولكن ينبغي ألا يُسمح لهما بالظن أنهما يؤثران في أحكامنا بأية
حال.
***
(جان وحيدة. بيدها كتاب الصلوات. بالليل. تدخل عليها
كلير.)
كلير
:
سلمونا هذا عن الباب.
(جان تتناول الخطاب من كلير، وتفضه، ثم تقرأ.)
جان
:
لقد رفض.
كلير
:
الأب جراندير؟
جان
(تقرأ بصوت مرتفع)
:
أختي العزيزة، يؤسفني أشد الأسف أن أجدني مضطرًّا إلى رفض دعوتك
لكي أكون مديرًا لبيتك، إن ضغط الأعمال التي أؤديها في المدينة
لا يسمح لي بالوقت الذي يمكنني من تكريس وقتي لمصلحة إخوتك،
وإني أقدر أجمل التقدير كل ما ذكرت عن صفاتي و… (جان تمزق الخطاب من أعلاه إلى أسفله
وتضمه إلى جسدها.)
جان
:
شكرًا لك يا أختي.
(كلير تنصرف. جان وحيدة.)
جان
:
ما هذا اللغز المقدس؟ دعني أرى. (تضحك) كنت على وشك أن أتجه إلى الله في هذا
الأمر. إنها العادة، هي العادة، غير أن ذلك لا يجدي. كلا. لا
بُدَّ أن أتجه إلى «الرجل». (ثم تهمس
باسم «جراندير».)
تيقظ،٩ لقد انبثق الفجر على غيرك من قبلك، انظر إلى
النافذة الرمادية الصغيرة ثم تقلب. إنها ترقد إلى جوارك، وهي
في وضع قد يكون للصلاة أو للوصال، ومن فمها تفوح رائحة النبيذ
والبحر، وجلدها ناعم كالحرير، بلله العرق، وروائح جسدها
الطبيعية قد بددت بالليل روائح النهار الطيبة.
(فيليب تُشاهد وهي تتبادل الحب عارية مع جراندير، وهما
يُريان في وضع الملامسة المعروفة أثناء الانفعال بالشهوة خلال ما تردد
جان من كلمات.)
جان
:
انظر إليها،١٠ ماذا تحس؟ بالأسى؟ لا بُدَّ أن يكون بالأسى؛ إنك
رجل وهي الآن تمد ذراعَيْها فوق رأسها. ألا تتأثر؟! ليس هذا من
فنون العاهرات مهما زعمت. إنها ترفع ساقَيْها، وتلفهما، وتضع
أصبعًا على شفتَيك وفمها على إصبعها. إنها تهمس. لقد تعلمتْ
هذه الكلمات. إنها تعيد الدرس فقط. هذه القذارة هي الحب عندها،
والحديث عنه من الإيمان. (تضحك ضحكة
مفاجئة) ما هذا الذي فَعَلْتَ، تمد جسدك لكي
تمسك بالفراش المتساقط، هل تريد أن تغطي عريك؟ وهل في هذا
الأمر خجل؟ (صمت ثم في
تعجب) يا للعجب! وتستطيع كذلك أن تضحك؟! إن
ذلك أمر لم أكن أعرفه: الألم، والنسيان، وفقدان العقل،
والجنون. هذا ما حسبت أن يكون في فراشك، أما الضحك … إنكما
تبدوان في سن الشباب، أهدوء مرة أخرى؟ إن الفتاة ثقيلة على
ذراعَيْك. لقد تثاءبت، وتلقيت رعشة بدنها. إنك ترتعد رغمًا
عنك. انظر إلى الشمس، إنها تبدد الضباب في الحقول. وسوف يغمرك
النهار. انهل ما استطعت، لينهل كلاهما ما استطاعا. الآن،
(تبكي) هذا الجنون.
هذا التمزيق. هذا اللحم على لوحة الجزار. أين أنت؟ الحب؟ الحب؟
ماذا تكون؟ الآن، الآن، الآن.
(جان ترتمي على ركبتَيْها، متشنجة، وقد اختفى عن العيان
جراندير وفيليب.)
جان
(مختنقة في صوت فتي)
:
يا إلهي، هل هذا هو الأمر، هل هذه هي الحكاية؟
(ظلام.)
***
(دارمنياك – دي سيريزاي – دي لوباردمنت)
دي لوباردمنت
:
ليس الأمر موضوع اتفاق، إنما أنا هنا كمندوب خاص للملك، ولكني
غير مخول للمفاوضة. إني آسف يا دارمنياك.
دارمنياك
:
تعلم يا لوباردمنت أن الرجال الراشدين في هذه البلاد بدءوا يملون
إلى حد ما ظهور أشخاص يزعمون حق الأبوة لمصلحتنا كما يقولون.
قد يُنظر إلى فرنسا على أنها أشبه بالمرأة تتصف بالخضوع،
ولكنها ليست طفلة.
لوباردمنت
:
إنني أميل إلى الاتفاق معك في الرأي، ولكني لست هنا للجدل، إنما
أحمل رسالة.
دارمنياك
:
أمرًا، دكوا الحصون.
لوباردمنت
:
تلك هي الرسالة، أي رد أعود به؟
دارمنياك
:
إني أرفض.
لوباردمنت
:
عندي إحساس عجيب.
دارمنياك
:
بالخوف؟
لوباردمنت
:
كلا، كلا، إنكم في هذا القرار قد وقعتم تحت تأثير، وإن وراء
عنادك ضغطًا.
دارمنياك
:
القرار مني وحدي، باعتباري حاكم المدينة.
(جراندير يقترب.)
دارمنياك
:
هل تعرف الأب جراندير؟
لوباردمنت
:
سمعت عنه.
دارمنياك
:
هذا هو.
لوباردمنت
(ملتفتًا)
:
أيها الأب، ألا تستطيع أن تمد نفوذك إلى الحاكم في موضوع دك
الحصون؟ وليس عندي شك في أنَّك تريد فضَّ الأمر باعتبارك رجلًا
من رجال السلام.
جراندير
:
نعم إنني أريد ذلك باعتباري من رجال السلام، أما باعتباري من
رجال المبادئ فإني أوثر أن تبقى أسوار المدينة قائمة.
لوباردمنت
:
إذن فالظاهر أني أقف وحدي في هذا الموضوع، وإذا عدلتَ عن رأيك —
وأنا شديد الرجاء في ذلك — فسأعود إلى لودان بعد بضعة
أيام.
(لوباردمنت ينصرف.)
دارمنياك
:
انظر إليه يا جراندير.
جراندير
:
رجل صغير الحجم يثير الضحك.
دارمنياك
:
إننا جميعًا يا صديقي العزيز خياليون، إننا نتصور أن الذي يغير
حياتنا رسول مجنح يمتطي جوادًا أسود، ولكنه في أكثر الأحيان
رجل رث صغير الحجم، يتعثر في الطريق.
***
(في الدير، جان والأب منيون، وهو رجل عجوز غافل، يسيران
معًا.)
جان
:
إننا جميعًا جد سعداء أيها الأب منيون لقبولك، وإنا نتطلع إلى أن
نراك مديرنا لعدة سنوات مقبلة.
منيون
:
أنتِ كريمة جدًّا يا بنيتي، إنك تتصفين بالبساطة والصراحة
اللذَين يمسان قلب رجل عجوز مثلي.
جان
:
المشكلات كثيرة في مكان مثل هذا، وسوف أحتاج إلى نصيحتك
وإرشادك.
منيون
:
أنا تحت تصرفك دائمًا.
جان
:
إن كل الأخوات هنا مثلًا شابات، وأعتقد أنك توافق على أن الشباب
أكثر عرضة للإغراء من الشيخوخة.
منيون
:
هذا حق، أذكر عندما كنت شابًّا …
جان
:
وأنا نفسي …
منيون
:
ماذا تريدين أن تقولي؟
جان
:
كنت أريد أن أقول إني أنا نفسي عانيت منذ عهد قريب جدًّا من رؤًى
شيطانية.
منيون
:
إن من يعيش قريبًا جدًّا من الله يقع للشيطان فريسة بالطبيعة،
ولكني لا أنزعج كثيرًا بشأنها.
جان
:
أستطيع أن أتحدث عن ذلك نهارًا، أما في المساء …
منيون
:
من الحقائق المعروفة يا عزيزتي أن الروح تكون في أضعف حالاتها في
ساعات الفجر.
جان
:
وقد استطعت أن أقاوم الرؤى، بعد عدة ساعات من الصلاة عدت إلى
نفسي، غير أن الزيارات …
منيون
:
أي زيارات؟
جان
:
لقد أتاني بالليل سلفك الكاهن موسو، ووقف إلى جوار سريري.
منيون
:
ألم تكن هذه زيارة محبة يا بنيتي، لقد كان موسو رجلًا طيبًا وكنت
مشغوفة به.
هل تحدث إليك؟
جان
:
نعم.
منيون
:
ماذا قال؟
جان
:
كلامًا قذرًا.
منيون
:
ما هو؟
جان
:
كلام قذر، فحش من القول فيه سخرية، وازدراء وإيذاء.
منيون
:
أختي الحبيبة …
جان
:
لم يأتيني بشخصه.
منيون
:
ماذا تعنين؟
جان
:
جاءني شخصًا آخر، رجلًا آخر.
منيون
:
وهل تعرفين هذا الرجل؟
جان
:
نعم.
منيون
:
من هو؟
جان
:
جراندير، الأب جراندير.
(صمت.)
منيون
:
عزيزتي، هل تدركين خطورة ما تقولين؟
جان
(هادئة)
:
نعم، ساعدني يا أبي.
***
(جراندير فوق المنبر.)
جراندير
:
إن بعض الفجار يجوسون خلال المدينة ويتحدثون ضدي، وأنا أعرفهم،
وأنتم تعرفونهم؛ إذا قلت لكم إن الجراحة والصيدلة يسيران
متكاتفَيْن، يولدان الدود داخل السور، يقدمان شهادة زور، إنهما
يتجسسان، ويتسللان، ويضحكان في سخرية. ولقد كان أول من أخطأ
رجل اسمه آدم، وهو الذي تسبب في القتل، لماذا يتابعان خطاي؟
لست عليلًا!
إن كانوا هنا في هذا المكان المقدس فليجابهوني ويعلنوا كراهيتهم
لي، ويقدموا لها الأسباب. لست أخشى أن أتحدث صراحةً عما
يحاولون كشفه سرًّا. ليقفوا أمامي إن كانوا في هذه الكنيسة.
(صمت) كلا، إنهم في
جحر تحت الأرض يحفرون لكي يخرجوا على سطح الأرض مزيدًا من السم
يصيبوننا جميعًا به. إنهم يستقطرون المرارة في الأنابيب،
فيكشفون عن الشهوة وعن الحسد، ويشقون الجروح بسن
المبضع.
(وفي خلال ذلك يقترب دي لوباردمنت من اثنين من
المساعدين ويصغي، ثم يتابع المسير.)
أيها الأبناء، ما كان ينبغي لي أن أتحدث إليكم من هذا المكان،
وما كان ينبغي لي أن أتحدث إليكم في مرارة باعتباري راعيًا
لكم، فهل هم يثيرون في نفسي الغضب؟ يقول الرب: إنهم يثيرون
أنفسهم حتى تضطرب وجوههم.
***
(الصيدلية. آدم ومانوري)
آدم
:
لقد جاوزت العاشرة، هل تتصور ذلك؟
مانوري
:
دار بيننا حديث ممتع.
آدم
:
وهل وصلنا إلى نقطة ما؟
مانوري
:
إن أحدًا بالباب.
آدم
:
مستحيل.
مانوري
:
إنه موجود.
(آدم يفتح الباب، يرى لوباردمنت واقفًا.)
آدم
:
إننا لا نؤدي عملًا. أغلق الباب.
لوباردمنت
:
اسمي جين دي مارتان، بارون دي لوباردمنت، وأنا مندوب الملك الخاص
إلى لودان.
آدم
:
هل أستطيع أن أقدم إليك المساعدة؟
لوباردمنت
:
أرجو ذلك.
(يدخل لوباردمنت المحل.)
لوباردمنت
:
إنني في زيارة للمدينة للقيام ببحث معين.
مانوري
(في حذر)
:
كلانا رجل أمين.
لوباردمنت
:
أعلم ذلك، ومن أجل هذا قصدت هذا المكان، وكثيرًا ما وجدت في مثل
هذه الحالات أنه ربما كان هناك في المدينة رجلان لم يلحقهما
الفساد، وهما في العادة صديقان حميمان من أرباب المهن ومن
الطبقة الوسطى، عصب الأمة. اهتمامهما بالوطن شديد. محبان
للبلاد. فقدا أبناءً في الحروب. زواجهما سعيد. يستطيعان أن
يسدا نفقات العيش برغم الضرائب. يعيشان حياة تقشف ولكنهما
يحبان أن يكون ما لديهما جميلًا.
هل أصبت القول يا سادتي؟
آدم
:
منتهى الصواب.
لوباردمنت
:
حسنًا، أريد أن تخبراني بكل ما تعلمان عن رجل اسمه جراندير، الأب
جراندير الذي يتبع كنيسة القديس بطرس.
آدم
:
وأخيرًا يا صديقي مانوري!
***
(جراندير وفيليب في مكان منعزل.)
فيليب
:
لا بد أن أنصرف الآن.
جراندير
:
نعم.
فيليب
:
لا أحب أن أسير في الطرقات ليلًا، فالكلاب تنبح، استمع! إنها
تنبح الآن.
جراندير
:
كم أود أن أرافقك. كنت أحب … أوه، أين اللفظ؟ يعوزني
اللفظ.
فيليب
:
ماذا تريد؟
جراندير
:
أقبلي، برفق. أريد أن أخبرك …
فيليب
:
ماذا؟
جراندير
:
تعلمين أن الغزل …
فيليب
:
ماذا؟
جراندير
:
أريد أن أخبرك يا فيليب أن بين الملابس المُلقاة على الأرض
والملاءات الملطخة، والدروس، والأجهزة، والجراحة؛ بين هذا كله
عاطفة يحسها القلب.
فيليب
:
أعرف ذلك، إنه الحب، الحب البشري.
(صمت.)
جراندير
:
هل هذا هو تفسيرك له؟
فيليب
:
أظن ذلك.
جراندير
:
هل أنا أحبك؟
فيليب
:
أعتقد ذلك.
جراندير
:
إذن أي نوع من أنواع الراحة أستطيع أن أقدم إليك؟
(صمت.)
فيليب
:
إنني فتاة ساذجة أرى العالم وأرى نفسي كما تعلمت. أنا ممعنة في
الإثم، ولكن حبي لله لم يتخلَّ عني. يقول «الناس» إن من يكون
في مثل موقفنا عليه أن يقابل ربه، وأعتقد في صدق ذلك، ولن أخشى
أن أبوح بما في نفسي لله وأنت بجانبي، حتى في حالة ارتكابنا
الخطيئة؛ لأني أعتقد أن الله طيب، حكيم، رءوف دائمًا.
(صمت.)
جراندير
:
إنك تخجلينني.
***
(الصيدلية. دي لوباردمنت ومانوري وآدم، وقد انضم إليهم الأب
منيون)
منيون
:
لم أستطع أن أحصل على أكثر من ذلك من رئيسة الدير، ولا أستطيع أن
أثبت شيئًا، وقد تكون مجرد امرأة هستيرية.
آدم
:
وهل يهم ذلك؟
منيون
:
كم أود أن تكون هناك يا مانوري باعتبارك جراحًا، وأنت يا آدم
باعتبارك صيدليًّا.
لوباردمنت
:
وهل يمكنني أن أحضر باعتباري طرفًا محايدًا؟
منيون
:
بالتأكيد إن كان الأمر واقعًا، فكلما كثر عدد الحاضرين … (يتوقف).
لوباردمنت
:
هل كنت تريد أن تقول كلما كثر عدد الحاضرين تضاعف المرح؟
منيون
:
لقد بعثت برسالة إلى الأب باري في شينون، فهو خبيرنا المخلص
العظيم في مثل هذه الأمور.
مانوري
:
يسعدني جدًّا أن أقدم إليكم المشورة الطبية يا أبي.
آدم
:
وسوف أبدي الرأي في أية ظواهر كيماوية أو بيولوجية.
منيون
:
إنها بالفعل تشكو تضخمًا في بطنها مصحوبًا بتقلصات عضلية
حادة.
آدم
:
مدهش!
مانوري
:
ليست هذه حالة شاذة، إنه الإحساس بالحمل الكاذب، وقد عرفت ذلك من
قبل، ولا شأن للشيطان في ذلك، هل تهب الريح؟
لوباردمنت
:
لا جدوى من التخمين، وعما قريب ينبلج الصباح.
***
(ساعة الفجر، جان تصلي إلى جوار فراشها البسيط.)
جان
:
أدعوك يا رب أن تجعلني امرأة طاهرة، اللهم ارعَ أبي وأمي
العزيزَين، وحافظ على كلبي كابتن الذي أحبني، ولم يفهم لماذا
تركته كل هذا الزمن الذي مضى … إلهي، إنني أحب أن أؤدي لك
صلاةً رسمية، ولكني لا أستطيع ذلك إلا من الكتاب في الكنيسة.
(صمت) أحبني
(صمت) أحبني، اللهم
آمين.
(تنهض جان وتخرج من الغرفة إلى مكان منطلق فسيح حيث يقف
دي لوباردمنت ومانوري وآدم ومنيون ورانجير وباري وتقترب منهم
جان.)
باري
:
دعوني أعالج هذه الحالة، عمي صباحًا أيتها الأخت، هل أنت في صحة
جيدة؟
جان
:
في صحة جيدة جدًّا، أشكرك أيها الأب.
باري
:
حسنًا جدًّا، اركعي.
(جان تركع، ويتوجه إليها باري.)
باري
(يصيح فجأة)
:
هل أنتم هنا؟١١ هل أنتم هنا؟ (صمت، ثم
يتوجه الخطاب إلى الآخرين) إنهم لا يجيبون في
الحال إطلاقًا؛ فهم يخشون أن يلتزموا أمرًا. (إلى جان) تعالي، صرحي بما
في نفسك، باسم سيدنا يسوع المسيح. (تطرح جان رأسها الأعوج إلى الوراء فجأة ويخرج من
فمها الفاغر المشوه موجات من الضحك الذي يشبه ضحك
الرجال.)
باري
(مطمئن النفس. إلى الآخرين)
:
إنَّهم دائمًا يلجئون إلى هذه الحيلة.
جان
(في صوت عميق كصوت الرجال)
:
نحن هنا، نحن هنا مقيمون.
باري
:
سؤال واحد.
جان
:
بوه.
باري
:
لا تكونوا وقحين، سؤال واحد: كيف استطعتم التسلل إلى هذه المرأة
المسكينة؟
جان
(في صوت عميق)
:
إنها خدمات طيبة يقدمها صديق.
باري
:
ما اسمه؟
باري
:
هذا اسمك، ما اسم صديقك؟
(جان تترنح على ركبتَيْها، تصيح صيحات مختنقة، تتكون
منها في النهاية كلمة.)
جان
:
جراندير! جراندير! جراندير!
(ضحك عميق كئيب.)
(ستار)