الفصل الثاني
-
المكان: كنيسة القديس بطرس.
-
الزمان: في المساء.
(يُرى جراندير عند المذبح، وفيليب جاثية عند قدمَيْه، جراندير
يرفع صينية، ثم يقول):
جراندير
:
Benedic, + Domine, hunc annuum, quem nos in tuo
nomine benedicimus, + ut quae eum gestaverit,
fidelitatem integram suo sponso tenens, in pace et
voluntate tua permaneat, atque in mutua caritate
semper vivat, Per Christum Dominum
nostrum.١
فيليب
:
آمين.
(جراندير يرش الماء المقدس على الخاتم، ثم يلتقط الخاتم
من فوق الصينية، يهبط ويجثو إلى جوار فيليب.)
جراندير
:
بهذا الخاتم أرتبط بك برباط الزواج، وهذا الذهب وهذه الفضة
أهبهما لك، وبجسدي أعبدك، وبكل ما عندي في الدنيا من طيبات
أمهرك.
(يضع جراندير الخاتم على إبهام فيليب قائلًا):
جراندير
:
باسم الآب (ثم على الإصبع الآخر
ويقول) وباسم الابن (ثم على الإصبع الثالث ويقول) وباسم الروح
القدس (وأخيرًا على الإصبع الرابع
ويقول) آمين.
(وعلى هذا الإصبع يترك الخاتم.)
(جراندير يعتلي سلم المذبح.)
جراندير
:
Confirma hoc, Deus, quod operatus es in
nobis.
فيليب
:
A templo sancto tuo, quod est in
Jerusalem.
جراندير
:
Kyrie eleison.
فيليب
:
Christe eleison.
جراندير
:
Kyrie eleison.٢
Pater nostor.٣ (يتحدثان.)
(ثم ينخفض همس صوتَيْهما تدريجًا حتى الصمت.)
***
(في الشارع.)
(يُرى عامل المجاري جالسًا على راحته، ممسكًا بقفص يحوي
طائرًا. جراندير وفيليب يقبلان من الكنيسة.)
فيليب
:
يجب أن تخرج إلى ضوء الشمس، ويجب أن تُدَقَّ الأجراس معلنة
للعالم أمرنا، ولا يجب أن نكون في الليل، وفي مثل هذا الهدوء.
يا إلهي. قبلني يا زوجي.
(يتبادلان قبلة ثم يتحدث عامل المجاري.)
العامل
:
وهكذا انتهى الأمر، إني رأيتكما تدخلان الكنيسة.
جراندير
:
انتهى الأمر، وانتهى على خير، هل الطائر يغني؟
العامل
:
ليس في قدرته، إنه بغير لسان.
جراندير
:
هل تحمله حبًّا فيه؟
العامل
:
لا يرد هذا الخاطر إلا على رجل طيب، أو على رجل فاقد الأمل. كلا،
إنني أحمله لكي يموت، وأحيا؛ إنه مخلِّص. من مخلصك؟
جراندير
:
إنك …
العامل
:
أتريد أن تسبني؟
جراندير
:
نعم.
العامل
:
آسف. هل تعرف الحفر التي تقع في طرق المدينة؟ حيث تبعث حتى
محبوبتك هذه ما يملأ جرادلي؟ في بعض الأيام تنبعث من هذه الحفر
السموم؛ ولذا فإني أقترب منها دائمًا ومعي هذا الطائر فوق عمود
أمامي، ولقد مات الكثير قبل هذا الطائر من رائحة الأبخرة
العفنة، فإذا حدث هذا عرفت أن المكان لا يلائمني، ولذا فإني
أطلق المجاري تنصرف يومًا أو يومَيْن، وأنفق الوقت في صيد
فريسة أخرى أحبسها هنا. إنك تفهم ما أعني.
(صمت.)
جراندير
:
لقد وضعت ثقتي في هذه البنية، وهي ليست فريسة.
العامل
:
الأمر كما قلت.
جراندير
:
استمع إليَّ، حتى في هذه الساعة اليائسة لا بُدَّ أن تعترف بأن
ما يدور بين الكائنات البشرية هو أكثر من تلك الحركات التي
تمدك كما تمد المغاسل بالعمل.
العامل
:
لست أجادل.
جراندير
:
هناك طريق للخلاص يجده كل منا في الآخر.
العامل
:
هل أنت تحاول أن تقنعني؟
جراندير
:
أود ذلك.
العامل
:
وما حكايتك؟ هل هذا الحفل الصغير الذي أقمته هناك أمدك بهذه
الحيلة؟
جراندير
:
لقد أمدني بالأمل.
العامل
:
الأمل في أي شيء؟
جراندير
:
الأمل في أن أصل إلى الله عن طريق مخلوق، الأمل في أن الطريق —
التي يسير فيها المرء وحيدًا فتكون طريق اليأس — يمكن أن تُضاء
بحب امرأة، ولقد آمنت بأنه يمكنني بهذا العمل اليسير الذي
ألزمت به نفسي، والذي قمت به من كل قلبي، أن أصل إلى الله عن
طريق السعادة.
العامل
:
ما هي هذه الكلمة الأخيرة التي نطقت بها؟
جراندير
:
السعادة.
العامل
:
لا أعرف لها معنًى، لا بُدَّ أنك صغتها لهذه المناسبة. لقد بدت
تباشير الصباح.
فيليب
:
لا بد أن أنصرف.
العامل
:
نعم، ويجب أن يجدوا الفراش خاليًا، كما يجب ألا يجدوه مليئًا
أكثر مما ينبغي.
فيليب
(إلى جراندير)
:
حدثني.
العامل
:
قلها.
جراندير
:
أحبك يا فيليب.
(فيليب تنصرف.)
العامل
:
بمناسبة الحديث عن الحب، إنَّ أمورًا عجيبة جدًّا تحدث في دير
الراهبات.
جراندير
:
هكذا قيل لي.
العامل
:
الظاهر أن هؤلاء السيدات المجنونات يلوحن باسمك.
جراندير
:
يجب أن نشفق عليهن.
العامل
:
وهل يشفقن عليك؟ هذا هو السؤال.
جراندير
:
ماذا تعني؟ إنهن مخدوعات.
العامل
:
في أي حال كنت — منذ بضع لحظات — مع هذه الفتاة؟
جراندير
:
كنت سليم العقل، وكنت على علم بما كنت أفعل. قد تسخر مني يا بني،
إن شئت، إلا أن ما قد يبدو لك عملًا لا معنى له، أعني زواج
قسيس لا يصح له الزواج، له عندي معنًى. إن المنفردين
والمتكبرين يحتاجون أحيانًا إلى الإفادة من بعض الوسائل
البسيطة، وأنا كذلك قد لهوت بالبريئات قبل اليوم. إن حطة مقامك
قد رفعتك إلى مكانة عالية غير مقدسة، فمن هذا المستوى المرتفع
كن رحيمًا عاقلًا، وأشفق بي، أشفق بي.
العامل
:
ليكن ذلك. وأرجو أن يشفق بك كذلك النساء الطيبات في بيت
القديس أرسولا.
***
(النهار.)
(جان على ركبتَيْها، باري ورانجير ومنيون
يواجهونها.)
باري
:
Exorcise te, immundisime spititus, omnis
incursio adversarii, omne phantasma, omins legio, in
nomine Domini nostri Jesus Christi, eradicare et
effugare ab hoc plosmate Dei.٤
(رانجير ومنيون يتقدمان، رانجير يرش الماء المقدس،
ومنيون يعد الرداء المقدس، إسموديوس
٥ في صوت عميق يتكلم على لسان جان.)
إسموديوس
:
إنكم تضيعون وقتكم أيها السادة، إنكم تبللون السيدة، ولكنكم لا
تمسوني.
باري
(إلى منيون)
:
أعطني هذا الأثر.
(منيون يسلم باري صندوقًا صغيرًا يُوضع على ظهر
جان.)
Adjure te, serpens antique, per judisem vivorum
et mortuorum …
٦
إسموديوس
:
عفوًا.
باري
:
… per factorum tuun, per factorum mundi
…
٧
إسموديوس
:
يؤسفني أن أقاطعك.
باري
:
ماذا تريد أن تقول؟
إسموديوس
:
لست أفهم كلمة مما تقول. أنا شيطان كافر بالله. هذه اللاتينية —
وأظن أنك تتحدث بها — لغة أجنبية بالنسبة إليَّ.
باري
:
العادة أن نقوم بإخراج الشيطان باللاتينية.
إسموديوس
:
إنك ضيق العقل، ألا يمكن أن نستمر في حديثنا السابق، الذي شاقني
كثيرًا، عن النشاط الجنسي للقساوسة؟
باري
:
لا يمكن بالتأكيد.
إسموديوس
:
هل صحيح أن الرجال في أبرشيتك … (ضحكات
جنونية) … هل صحيح أنهم ينحنون؟٨ دعني أهمس.
جان
:
يا إلهي! أخرج هذا الشيء مني.
إسموديوس
:
صه، أيتها المرأة إنك تعترضين مناقشة دينية.
جان
:
أبي، ساعدني.
باري
:
بنيتي، إني أفعل كل ما أستطيع.
(باري ينتحي جانبًا مع رانجير ومنيون، ويوجه باري
الحديث إلى رانجير.)
باري
:
إن الملعون يعتقد أني هُزمت.
إسموديوس
:
أنت مهزوم.
باري
:
يظهر أنه يكمن في هذه اللحظة في المصران الأسفل، هل آدم ومانوري
هنا؟
رانجير
:
إنهما في الانتظار، هنا في الداخل.
باري
:
أرجو أن تطلب إليهما أن يستعدا وقدِّس الماء في خلال ذلك.
(يخرج رانجير من خلال الباب الصغير المنخفض، ويلتفت
باري إلى جان.)
باري
:
أختي العزيزة، لا بُدَّ من إجراء عنيف.
جان
:
ماذا تعني يا أبي؟
باري
:
لا بد من إخراج الشيطان منك بالقوة.
جان
:
هل هناك طريق آخر غير عملية إخراج الشيطان؟
باري
:
ها ها، يقولون إن الشيطان لا يسكن إلا في الأبرياء، ويبدو أن هذا
القول صدق في هذه الحالة. نعم يا بنتي، هناك طريق آخر. (يصيح) هل تسمعني يا
إسموديوس؟
إسموديوس
(هل هو صوت جان؟)
:
الرحمة، الرحمة.
باري
(يصيح)
:
كلام فارغ.
(صمت.)
(رانجير يخرج من الحجرة الداخلية.)
باري
:
إنك تبدو شاحب اللون جدًّا يا ولدي. إن استخدام أمثال هذه الطرق
في وظيفتنا يغمك. انتظر حتى تمارسها بمقدار ما مارستها. مهما
يكن من أمر، لا بُدَّ أن تساير الكنيسة الزمان. (إلى جان) تعالي يا أختي
العزيزة من خلال هذا الباب الضيق، هنا يكون خلاصك، إنها تبدو
كالطفلة، أليس كذلك؟ ومنظرها يؤثر في الشعور، أو …م. تقدمي،
هيا، حسنًا، حسنًا، بضع خطوات أخرى. (جان تتقدم نحو الباب الضيق.)
لتوجهك قوة الخير، لا تتقدمي كثيرًا بعد هذا. كفى.
(جان تقف بالباب تحدق في الحجرة الصغيرة المظلمة. ثم
تُرى وهي تناضل بين يدي باري، وكأنها حيوان يعوي.)
باري
(في قوة وفي وثوق)
:
ساعدني يا رانجير.
(يتقدم رانجير نحو باري، ويمسكان المرأة معًا.)
جان
:
كلا، كلا؛ إني لم أقصد ذلك.
باري
:
فات الأوان يا إسموديوس، هل تنتظر الرحمة الآن، بعد سبابك
وألفاظك القذرة في حق الله؟
جان
:
أبي، أبي باري، أنا التي أكلمك الآن، الأخت جان التي تنتمي إلى الملائكة.٩
باري
:
أي إسموديوس، لقد تحدثتَ بأصوات عديدة.
جان
:
بل هي أنا يا أبي، أنا الأم المحبوبة في هذا الدير العزيز، حامية
الأطفال الصغار.
باري
:
صه أيها الحيوان! دعنا ندخلها هنا يا رانجير، هل أنت مستعد يا
آدم؟
آدم
(من الداخل)
:
على أتم استعداد.
(باري ورانجير يحملان المرأة المناضلة إلى الغرفة،
ويغلق الباب محدثًا صوتًا، ويبقى منيون وحيدًا وهو يجثو على ركبته
ويشرع في الصلاة.)
(تصدر عن جان صيحة من داخل الغرفة، ثم تتحول الصيحة إلى
نحيب وضحك، فيعلو صوت منيون في الصلاة. صوته فارغ، منفعل، ضعيف، يصعد
ثم يتلاشى.)
***
(يتحرك إلى المقدمة دارمنياك ودي سيريزاي
وجراندير.)
دي سيريزاي
:
الظاهر أن الشيطان قد خرج من المرأة في تمام الساعة
الثانية.
دارمنياك
:
وماذا تم بشأن الأُخريات؟
دي سيريزاي
:
إن الآباء منشغلون الآن بهن.
دارمنياك
:
بنفس الطريقة؟
دي سيريزاي
:
كلا، يظهر أن هناك طرقًا أخرى طبيعية لإخراج الشيطان قد أثبتت
نجاحًا بعد الرئيسة، قليل من الماء المقدس — يُستعمل من الظاهر
— وبضع دعوات، ثم تنصرف الشياطين.
دارمنياك
:
نرجو إذن أن يسود الهدوء.
دي سيريزاي
:
لست أدري.
دارمنياك
:
ألا تستطيع القيام بشيء لو عاد الأمر؟ باعتبارك قاضيًا، من رأيي
أن هذا السلوك نوع من أنواع الإخلال بالنظام.
دي سيريزاي
:
لقد قابلت باري ورانجير منذ أيام وسألتهما عن شرعية الوسائل التي
لجئوا إليها فأغلق باب الدير بعد ذلك في وجهي، إنني أوقع نفسي
في مركز حرج إن أنا استخدمت القوة ضد القسيس، وقد طلبا إليَّ
أن أحضر مساءلة الأخت جان، وأنا في طريقي إلى هناك
الآن.
دارمنياك
(إلى جراندير)
:
هل تعلم أن اسمك يُقحم دائمًا في هذا الموضوع؟
جراندير
:
نعم أعلم ذلك.
دارمنياك
:
أليس من الخير أن تتخذ خطوات لتبريء نفسك؟
دي سيريزاي
:
هل أسأت إلى هذه المرأة بأية وسيلة؟
جراندير
:
لست أدري كيف يكون ذلك ممكنًا، إذ إنني لم أرَها قط.
دي سيريزاي
:
إذن فلماذا آثرت أن تقول إنك الحافز الشيطاني لها؟
جراندير
:
إنك تبدو خائفًا يا سيريزاي، سامحني.
دارمنياك
:
إنما أنت الذي ينبغي أن تخاف، أيها الأب، كانت هناك قضية منذ بضع
سنوات … إنني لا أذكر اسمه.
جراندير
:
أنا أذكره، ذلك الشيطان المسكين، وقد كانت هناك عدة قضايا يا
سيدي.
دارمنياك
:
أنت في خطر.
جراندير
:
من الموت؟ ولكن لن يكون ذلك بالتأكيد على أساس قصة سخيفة كالتي
تروي في الدير؛ إن الموت يا سيدي يجب أن يكون أعظم من ذلك،
وأكثر دلالة، لرجل من شاكلتي.
دارمنياك
:
كيف انتهت حياة أولئك الرجال الآخرين؟
جراندير
:
شدوهم إلى قوائم خشبية وأحرقوهم، ولكنهم كانوا رجالًا مغمورين
يثيرون السخرية، كانوا مادة تستحق هذه التضحية، وذلك كل ما في
الأمر.
دي سيريزاي
:
سأقدم لك أنا ودارمنياك كل ما نستطيع من معونة أيها الأب.
جراندير
:
هل أستطيع أن أتحدث إلى أحدكما في هذا الأمر بصراحة؟ عندما قدمت
إلى هنا هذا الصباح سمعت القصص تُحكى في الطرقات العامة،
فضحكت، وظننت أنكما تضحكان كذلك، هل من الحق أن الشيطان
يلبسها؟
دي سيريزاي
:
لا يُستدل على ذلك مما شهدت، وسوف أرى المرأة اليوم كما قلت لكم،
وسأخبركم بما يحدث، ولكنك لم تجب عن سؤالي: لماذا آثرتك
أنت؟
جراندير
:
النساء المعتزلات يهبن أنفسهن لله، ولكن يبقى في نفوسهن شيء يلح
في أن يُوهب للرجل، ومن الممكن أن تهبه من طهرت قلوبهن حقًّا
على شكل صدقة، أما مع ضعاف القلوب فالأمر ليس بهذه السهولة.
والأمر يدعو إلى الأسى، وهو مؤسف جدًّا في الحقيقة إذا تدبرته:
تصور أن تتيقظ بالليل بحلم بريء جدًّا، حلم عن طفولتك أو عن
صديق لم تره منذ سنوات، أو عن مرأى وجبة طيبة. هذه خطيئة؛ ولذا
فعليك أن تتناول سوطك الصغير وتضرب به جسدك، وهذا هو ما نسميه
تدريب النفس. ولكن الألم نوع من الحس، وفي دوامته، تدور صور من
الفزع والشهوة. والظاهر أن أختي المحبوبة في يسوع قد ركزت
عقلها فيَّ، وليس لذلك سبب يا سيريزاي، منديل يسقط، أو مذكرة
تُسطر، أو لغط يدور على الألسن؛ إن أيًّا من هذه الأشياء يُوجد
في بيداء الجسم والعقل بسبب الدعاء المستمر يبعث الأمل، ومع
الأمل يأتي الحب، ومع الحب — كما نعلم جميعًا — تأتي الكراهية،
وهكذا فإني أملك على هذه المرأة نفسها. اللهم ساعدها في فزعها
وشقاوتها. اللهم ساعدها.
(إلى دارمنياك) ولنتحدث الآن
يا سيدي في الأمر الذي من أجله أتيت: عندي الرسوم الجديدة
لبيتك الصغير، فهل تأتي لمشاهدتها؟ وقد راجعت وعدلت التصميم
وجعلته خلوًا من كل تافه كما شئت.
(جراندير ودارمنياك ينصرفان، ويحدق فيهما سيريزاي لحظة،
ثم يتحرك ليدخل …)
***
(غرفة مرتفعة السقف، مؤثثة بسريرَيْن صغيرَيْن، تشغل
جان أحدهما، وباري ورانجير ومنيون حاضرون، وكذلك آدم ومانوري، ويُرى
كاتب يقوم بالتسجيل.)
باري
:
لا بد من أسئلة أخرى أوجهها إليك يا أختي العزيزة في
المسيح.
جان
:
وما تلك يا أبي؟
باري
:
هل تذكرين أول مرة اتجهت فيها أفكارك إلى هذه الرذائل؟
جان
:
أذكر ذلك جيدًا.
باري
:
خبرينا.
جان
:
كنت أسير في الحديقة، ثم توقفت، وقد شهدت ملقًى عند قدمَيَّ عود
عضاة؛ فتملكني غضب آثم لأني في ذلك الصباح عينه كان عندي ما
دعاني إلى إنذار أختَيْن لإهمالهما واجباتهما في الحديقة،
والتقطت هذا العود النابي غاضبة، ولا بد أنه كان شائكًا؛ لأن
الدم تدفق من جسدي، ولما شهدت الدم امتلأت نفسي رقة.
رانجير
:
ولكن هذا الإيحاء ربما نشأ عن مصدر آخر.
باري
:
ومع ذلك (ينظر إلى الكاتب) هل
أنت تسجل ذلك؟
جان
:
كانت هناك مناسبة أخرى.
باري
:
خبرينا.
جان
:
انقضى بعد ذلك يوم أو يومان، وكان صباحًا جميلًا، بعدما قضيت
ليلة من النوم الذي لم يراودني فيه حلم، وعلى عتبة غرفتي وجدت
باقة من الورد، التقطت الورود وشبكتها في حزامي، وفجأة شعرت
بهزة عنيفة في ذراعي اليمنى، واستولت عليَّ معرفة عميقة بالحب،
ألحت عليَّ خلال صلواتي وتعذر عليَّ أن أركز عقلي في أي شيء،
فقد امتلأ كله بصورة رجل انطبعت في نفسي انطباعًا باطنيًّا
عميقًا.
باري
:
هل تعرفين من بعث بتلك الزهور؟
جان
(بعد صمت طويل، وفي هدوء)
:
جراندير، جراندير.
باري
:
ما وظيفته؟
جان
:
قسيس.
باري
:
من أية كنيسة؟
جان
:
كنيسة القديس بطرس.
(يلتفت باري ليحدق في دي سيرايزاي في صمت.)
دي سيريزاي
(في هدوء)
:
هذا لا شيء.
(باري يلتفت ثانيةً إلى جان.)
باري
:
هذا لا يقنعنا يا أختي العزيزة، وإذا بقينا كذلك بغير اقتناع
فلستُ بحاجة إلى أن أذكرك أنك ستواجهين اللعنة إلى
الأبد.
(جان ترتمي فجأة على السرير وتنهق كالخنزير الصغير.
أسنانها تصطك وتعبث بنظام السرير المرتب، ويتراجع الرجال عنها، ثم
تعتدل في جلستها وتحدق فيهم.)
باري
(في عجلة شديدة)
:
تكلمي … تكلمي.
جان
:
حل … المساء … وغربت شمس النهار.
باري
:
ثم ماذا؟
جان
:
وعقدتُ شعري إلى الخلف، ومسحت وجهي، عدت إلى طفولتي، إيه؟ مسكينة
يا جان، أصبحت امرأة نامية، خُلقت ﻟ… ﻟ…
باري
:
استمري.
جان
:
ثم أتاني.
باري
:
سمِّه.
جان
(في الحال)
:
جراندير، جراندير، دخل الليث الجميل الذهبي غرفتي باسمًا.
باري
:
وهل كان وحيدًا؟
جان
:
كلا، كان معه ست من مخلوقاته.
باري
:
ثم ماذا؟
جان
:
ضمني في رفق بين ذراعَيْه وحملني إلى المعبد، وأخذ كل واحد من
مخلوقاته إحدى أخواتي المحبوبات.
باري
:
ثم ماذا حدث؟
جان
(باسمة)
:
أوه، تصور معبدنا الصغير، على بساطته وخلوه من الزينة، لقد كان
في تلك الليلة مكانًا للترف والحرارة المعطرة. دعني أخبركم،
لقد امتلأ بالضحك والموسيقى، وكان فيه المخمل، والحرير،
والمعادن، وخشب أرضه لم يكن ممسوحًا. لم يكن البتة نظيفًا، نعم
وكان هناك طعام، لحم حيواني عظيم ونبيذ، ثقيل، كفاكهة الشرق،
وكنت قرأت عن ذلك كله، وقد أتخمنا أنفسنا إلى درجة
قصوى.
دي سيريزاي
:
إنما هذه صورة ساذجة للجحيم.
باري
:
أوش، استمري.
جان
:
لقد نسيت، كنا في أزياء جميلة، وكان ردائي عليَّ كأنه جزء من
جسدي، وأخيرًا لما تعريت وقعت بين الأشواك. نعم كانت الأشواك
منتثرة فوق الأرض، ووقعت بينها. تعالَ إليَّ (تشير إلى باري الذي ينحني نحوها
وتهمس ثم تضحك).
باري
(مكتئبًا)
:
تقول إنها وأخواتها قد أرغمن على أن يكوِّن من أنفسهن مذبحًا
فاحشًا، وقد توجهوا إليهن بالعبادة.
جان
:
مرة ثانية.
(تهمس مرة ثانية، ثم تضحك.)
باري
:
تقول إن الجن كانت ترعى جراندير، وإن أخواتها المحبوبات كن
يغوينها، إنكم تفهمون ما أعني أيها السادة.
(جان تجذب باري إليها مرة أخرى، وتهمس في خبل وتصبح
كلماتها مسموعة بالتدريج.)
جان
:
… وهكذا قهرنا الله من عقر داره، وفر مفزوعًا من الإحساسات التي
أودعتها في الرجال يد أخرى، ولما تحررنا منه، احتفلنا برحيله
مرة أخرى. (ترتمي على
ظهرها) إن الله — بالنسبة إلى شخصٍ عرف ما
عرفتُ — قد انتهى. وقد وجدت راحة النفس.
(صمت. منيون يخر على ركبتَيْه ويصلي، ويمسك باري دي
سيريزاي من ذراعه، ويبتعدان عن جان والآخرين وهما يتكلمان.)
باري
:
كانت امرأة بريئة.
دي سيريزاي
:
إنه لم يكن الشيطان، فقد كانت تتكلم بصوتها، وهو صوت امرأة
بائسة، وهذا هو كل ما في الأمر.
باري
:
ولكنها لجأت إلى الخيال المنحط واللغة القذرة في اعترافات أخرى،
ولا يمكن أن يصدر ذلك عن امرأة من نساء الدير بغير عون. إنها
تلميذة.
دي سيريزاي
:
لجراندير؟
باري
:
نعم له.
دي سيريزاي
:
ولكن الرجل يقسم أنه لم يزر المكان قط من قبل.
باري
:
لم يزرها بشخصه.
دي سيريزاي
:
لا بد من وسيلة نثبت بها ما تقول، هل تسمح لرجالي بدخول البيت؟
إنهم سيقومون بالمباحث على مستوى رجال الشرطة.
باري
:
هل تريد الإثبات؟ ذكر ثلاث من الأخوات أنهن مارسن الاتصال بالجن
وفقدن بكارتهن، وقد فحصهن مانوري، ولم يجد واحدة منهن
بكرًا.
دي سيريزاي
:
أبي العزيز، لست أريد أن أسيء إلى إحساسك، ولكنا جميعًا نعلم
الاتصال العاطفي الذي يتم بين الشابات في هذه الأماكن.١٠
باري
:
أنت لا تريد أن تقتنع.
دي سيريزاي
:
بل أريد، وبكل شدة، أن أقتنع بهذا أو بذاك.
(دي سيريزاي ينصرف، باري يتلفت، ومانوري وآدم
يقتربان.)
آدم
:
ماذا جرى؟
مانوري
:
أمور تفتن البصر.
آدم
:
غير عادية.
مانوري
:
يجب أن أقول ذلك، لا يمكن أن يكون الجحيم مملًّا كما يصوره بعض
الناس، ها ها، ماذا ترى؟
آدم
:
هذه الأمور!
مانوري
:
أقول لك الحق إني أعتقد أننا لو عالجنا هذه القضية في كتاب خاص
نطبعه وجدنا له سوقًا رائجة. هل نكتب هذا الكتاب؟
آدم
:
دعنا نفعل ذلك.
(يقتربان من باري.)
باري
:
هل فحصتها؟
مانوري
:
نعم، وسأقدم لك تقريري فيما بعد.
باري
:
هل يمكنك حتى آنئذ أن تذكر لي شيئًا يعينني على المضي؟
مانوري
:
إنني كرجل صاحب مهنة …
آدم
:
: إنه يتحدث عني.
مانوري
:
لا أريد أن ألتزم بشيء.
باري
:
حتى …
مانوري
:
حسنًا، دعني أقول لك ذلك، كانت هناك أمور تدور في الخفاء.
باري
:
لا تخفف اللفظ، كانت هناك فاحشة.
مانوري
:
ذلك أقرب ما تكون.
باري
:
الشهوة، لقد نالوا منها.
آدم
:
أظن ذلك.
باري
:
شكرًا سيدي، ذلك كل ما أريد، انظروا.
(يسود الصمت، جراندير يسير على مبعدة، ينصرف باري
ومانوري وآدم، جراندير يقترب، تهرع إليه فيليب.)
فيليب
:
قالوا: إنَّك كنت في بيت الحاكم.
جراندير
:
إنني قادم من هناك لتوي، ما الأمر؟
فيليب
:
أريد أن أعرف، هل كنت قلقة في الليلة الماضية؟ كان لا بُدَّ لي
أن أتركك قبل أن تشرق شمس الصباح، وقد انصرفت في هدوء بقدر ما
استطعت، فهل أزعجتك؟ يهمني أن أعرف.
جراندير
:
لست أذكر، لماذا يهمك ذلك؟
فيليب
:
إنك لا تذكر.
(تضحك ضحكة مفاجئة مذهلة جافة.)
جراندير
:
سيري معي إلى الكنيسة.
فيليب
:
لا.
جراندير
:
حسنًا جدًّا.
فيليب
:
ليست بي حاجة إلى كرسي الاعتراف لأقول ما أريد أن أنبئك به؛ إني
حامل.
(صمت.)
جراندير
:
هكذا انتهى الأمر.
فيليب
:
أنا مذعورة.
جراندير
:
بالطبع، كيف يكون لي طفل؟
فيليب
:
أنا مذعورة جدًّا.
جراندير
:
كانت في حبنا جرأة شديدة، أليس كذلك يا فيليب؟ في خلال ليالي
الصيف جميعًا، لشد ما كان بعدنا عن الخوف في كل مرة اختلطنا
معًا، كنا نضحك ونحن نثير في أنفسنا الروح الحيواني، هل
تذكرين؟ والآن يلتهمنا هذا الحيوان!
فيليب
:
أَعِنِّي.
جراندير
:
وكان كل منا خلاصًا للآخر، هل كنت حقًّا أعتقد في إمكان
ذلك؟
فيليب
:
إنني أحبك.
جراندير
:
نعم لقد آمنت بذلك، وأذكر أنني تركتك ذات يوم، وكنت بارعة بدرجة
غير عادية.
فيليب
:
يا إلهي!
جراندير
:
وقد امتلأتُ بتلك الثقة البذيئة التي تعقب الوصال الكامل، وطرأ
لي وأنا منصرف — نعم طرأ لي وأنا في وقاري — أن الجسم يمكن أن
يجاوز الغرض منه، يمكن أن يبلغ من الطُّهر ما يجعله معبودًا
إلى أقصى حدود الخيال. كل شيء جائز، وكل شيء حق. ومثل هذا
الكمال يؤدي إلى فهم حالة الوجود الممقوتة.
فيليب
:
لامسني.
جراندير
:
ولكن إلى أي شيء صار الجسم؟ هل هو كالبيضة، هل أمسى مصدرًا للملل
وللنفور والاشمئزاز. إلى هذا انتهى؟
فيليب
:
وأين الحب؟
جراندير
:
نعم، أين هو؟ اذهبي إلى أبيك، أخبريه بالحقيقة، ودعيه يجد لك
رجلًا طيبًا، إنهم موجودون.
فيليب
:
أَعِنِّي.
جراندير
:
كيف أستطيع معونتك؟ خذي يدي، هذه هي، كأنك تمسين ميتًا، أليس
كذلك؟ رافقتك السلامة يا فيليب.
(جراندير ينصرف.)
***
(الصيدلية. آدم ومانوري والأب منيون)
(الأب باري يصيح صيحة جافة وهو يظهر في أعلى السلم، يقبل وكأنه
مخمور ويتفرق الآخرون مذعورين.)
باري
:
منعوني من دخول الدير هذا المساء، منعني حراس مسلحون.
منيون
:
يا إلهي، يا إلهي، ماذا جرى؟
باري
:
أصدر كبير الأساقفة أمرًا شرعيًّا يحرِّم إخراج الشياطين ويحرم
التحري بعد اليوم.
منيون
:
إطلاقًا!
باري
:
فعل ذلك استجابة لرجاء دي سيريزاي ودارمنياك، وما هو أدهى من ذلك
أن الطبيب الخاص لكبير الأساقفة — ذلك الرجل الأحمق الذي يؤمن
بحكم العقل — استولى على النساء بغير علمي، فحصهن، وأبدى رأيه
بأنه ليس هناك تلبُّس حقيقي.
منيون
:
وماذا عسانا فاعلون؟ عجبًا، ماذا عسانا فاعلون؟
(باري يهبط إلى الغرفة.)
باري
:
يرى دي سيريزاي ذلك عملًا من أعمال العدالة، وهو لا يدرك أن
أمثال هذه الأمور تقع مباشرة في أيدي الشيطان، فإنك إن ساورك
شك معقول في ارتكاب خطيئة إنسانية، خف الشيطان إلى الإغواء.
(يصيح مكدودًا) لا
يمكن أن يكون في ارتكاب الإثم شك معقول؛ إما كل شيء أو لا
شيء.
منيون
:
طبعًا! طبعًا! ليس للعدالة شأن بالخلاص. اجلس، اجلس.
باري
:
إن عمل حياتي يهدده أسقف كبير فاسد، وطبيب متحرر، وقانوني
جاهل.
آه أيها السادة، سوف يسعد الجحيم هذه الليلة.
(صمت.)
مانوري
:
هل قُضي علينا إذن؟
آدم
:
يظهر ذلك.
مانوري
:
انتهى كل شيء.
آدم
:
رباه.
مانوري
:
يا للأسف.
منيون
:
دعنا نصلي.
آدم
:
ماذا قلت؟
منيون
:
دعنا نصلي.
آدم
:
من أجل ماذا؟
منيون
:
دعني أفكر …
آدم
:
لقد أصبت.
منيون
:
أعرف ذلك.
آدم
:
ثم ماذا؟
منيون
:
دعنا ندعو الله أن يصيب كبير الأساقفة برؤيا شيطانية …
باري
(لمانوري)
:
سوف أعود إلى أبرشيتي.
منيون
(لآدم)
:
… رؤيا شيطانية مفزعة …
باري
(لمانوري)
:
عندي عمل هناك.
منيون
(لآدم)
:
وهو كذلك رجل عجوز، ربما استطعنا أن نروعه حتى يموت.
باري
:
الزم الصمت يا منيون، إنما أنت تهذي.
منيون
:
لا تتخل عنا.
باري
:
لا مناص من ذلك.
منيون
:
من الطبيعي أن تضايقك هذه النكسة، ولكننا سوف نجد منها
مخرجًا.
باري
:
كلا، فإن أمر كبير الأساقفة يجعل الشر مستحيلًا في هذا المكان في
الوقت الحاضر، ولكن الأمر لا ينطبق في أبرشيتي، وثق أن الشيطان
يدق الطبول هناك داعيًا، ولا بد أن أجيب الدعوة.
منيون
:
سوف نفتقدك كثيرًا جدًّا.
باري
:
إن همسة واحدة من الجحيم تردني إليكم يا صديقي العزيز.
***
(دارمنياك وسيريزاي على المائدة، يقترب منهما جراندير
بشكل رسمي.)
جراندير
:
أعتقد أنه لا بُدَّ لي من أن أشكرك يا سيريزاي؛ لأنك عملت على
إيقاف هذا الاضطهاد، إنني أفعل ذلك الآن.
دي سيريزاي
:
فعلت ذلك نيابة عنك أيها الأب، غير أني لم أفعله من أجلك وحدك؛
إن السرك المقام في الدير قد بدأ يجتذب في المدينة قدرًا
كبيرًا من الانتباه الذي لا نرحب به، ومن واجبي أن أحتفظ بشيء
من النظام في المكان.
دارمنياك
:
إنك لا تسهل الأمور لأصدقائك يا جراندير، لقد أخبرني ترنسانت
بقصة ابنته. عندك العاهرات، لماذا فعلت ذلك؟
جراندير
:
كان ذلك إحدى الطرق.
دارمنياك
:
الطرق إلى ماذا؟
جراندير
:
كل أمور الدنيا لها غرض واحد لرجل مثلي، السياسة، والسلطة،
والحواس، والثراء، والفخر، والنفوذ، إنني أنتقي منها بنفس
العناية التي تنتقي بها أنت يا سيدي سلاحك، ولكن هدفي مختلف،
إنني أريد أن أصوبه إلى نفسي.
دارمنياك
:
لكي تجهز على نفسك؟
جراندير
:
فإني في حاجة شديدة إلى الاتحاد بالله، إنَّ العيش قد اعتصر مني
الحاجة إلى الحياة، وقد آلت قدرة الحواس عندي إلى الإنهاك
المطلق. إنما أنا رجل ميت مرغم على العيش.
دارمنياك
:
إنك تنفرني، إنما هذا مرض.
جراندير
:
كلا يا سيدي، إنما هو المعنى والغرض.
دارمنياك
:
لست ممن يجادلون بسفسطة، ولكن قل لي إنني أرى أن القضاء على
النفس بشكل قاطع ظاهر ليس من الأمور المحللة، ولكن أليس خلق
ظروف موتك — وهو ما تفعل أنت فيما يظهر — كذلك من
الإثم؟
جراندير
:
اترك لي شيئًا من الأمل.
دارمنياك
:
الأمل في أن يبتسم الله من جهودك في خلق عدو يبلغ به الشر أن
ينزلك، ومن ثم يرفعك — إلى أعلى.
جراندير
:
نعم.
دارمنياك
:
بين يديَّ خطاب من باريس، إنه يسعدك، إنك في تأييدك لموقفي فيما
يتعلق بالحصون خلقت عدوًا ممتازًا. ريشيليو، إن الملك يقف حتى
الآن إلى جانبي ضد الكاردينال، ولكن الملك لو فشل أو تردد
انهارت هذه المدينة. وربما حَقَّقتَ أمنيتك لأنك مشتبك في
الأمر اشتباكًا عميقًا، ولكني — برغم ذلك — سوف أستمر في
حمايتك مما أعتقد أنه طريق مروع جدًّا، وفلسفة جد
كافرة.
جراندير
:
هذا ما أبغي يا سيدي، لا تكف يدك عني. فكر في حقيقة الأمر. إنني
أبلغ نهاية نهار طويل. أشعر بالدفء والشبع والاطمئنان، وأقصد
بيتي، وفي طريقي ألمح غريبًا في الجانب الآخر من الشارع، وربما
كان طفلًا. وأحيي صديقًا. وأرقد متطلعًا إلى وجه امرأة نائمة.
إنني أرى هذه الأشياء في عجب وفي أمل، ثم أسأل نفسي: هل يمكن
أن يكون ذلك هو الوسيلة إلى غايتي؟ بيد أن ذلك يُنكر
عليَّ.
(يخفي جراندير فجأة وجهه بين راحتَيْه.)
يا إلهي! يا إلهي! إن كل شيء يخيب رجائي.
دارمنياك
:
هل أنت خائف يا جراندير؟
جراندير
:
نعم، نعم، نعم، أنا مخذول.
***
(حديقة الدير. جان وكلير تجلسان على دكة لويز وجبرائيل
على الأرض عند قدمَيْهما. أختان مجهولتان تقفان قريبًا. صمت
رهيب.)
لويز
:
ماذا عسانا فاعلون يا أمي؟
جان
:
فاعلون؟
لويز
:
إن الناس يسحبون أطفالهم منا.
جان
:
ومن يلومهم على ذلك؟
كلير
:
ليس من يعين. علينا أن نقوم بكل أعمال البيت بأنفسنا، وهو شاق
جدًّا.
جان
(تضحك فجأة)
:
لماذا لا تطلبين إلى الشياطين أن يعيروك يدًا؟
كلير
:
أماه.
جبرائيل
:
لقد قمت ببعض الغسيل وبعض الحياكة، لعلك لا تعترضين يا
أمي.
جان
:
أنت فتاة عاقلة، إذا كان الجحيم يتخلى عن المعونة فعلى المرء أن
يلجأ إلى العمل الشاق، أليس كذلك؟
جبرائيل
:
أعرف أنك لم تحبي لنا قط أن نقوم بالأعمال الوضيعة.
جان
:
قلت: إنَّ ذلك يهبط بالنساء اللائي ينخرطن في سلك مهنتنا (تضحك).
ألم أقل ذلك؟
جبرائيل
:
أجل.
(صمت.)
لويز
:
أماه …
جان
:
نعم بنيتي؟
لويز
:
لماذا حرم كبير الأساقفة على الأب باري أن يأتي لزيارتنا بعد
ذلك؟
جان
:
لأنه قيل لكبير الأساقفة إننا نساء حمقاوات مخدوعات.
لويز
:
أماه …
جان
:
نعم؟
لويز
:
هل أذنبنا؟
جان
:
بما فعلنا؟
لويز
:
نعم، هل سخرنا من الله؟
جان
:
لم أقصد ذلك.
ولكننا سخرنا من «الإنسان»، وهذا أمر آخر! إنه مخلوق عجيب، يدعو
إلى السخرية، وربما لم يُخلق إلا من أجل ذلك، شامخ برأسه منتشٍ
بعمله، مما يدعو إلى الاستخفاف به، مستغرق في اختراع معبودات
زائفة يبرر بها وجوده، فيصم أذنَيْه عن الضحك، ولا يرى
بعينَيْه شيئًا إلا نفسه؛ فهو أعمى عن شارات السخرية التي
يُلَوِّح بها في وجهه.
وهكذا يسير مخمورًا؛ أعمى وأصم. خير موضوع للتفكه العملي، وهنا
يا إخوتي يجد الأبناء التعسين من أمثالي مجالًا لأداء أدوارهم.
إننا لا نسخر من أبينا المحبوب في السماء. إننا نحتفظ بضحكاتنا
نوجهها إلى أبنائه التعسين المذنبين الذين يرتفعون عن مستواهم
ويعتقدون أن لهم هدفًا آخر في هذه الدنيا غير الموت. بعد أوهام
السلطة تأتي أوهام الحب. عندما يعجز الإنسان عن التحطيم يبدأ
في العقيدة بأنه يستطيع الخلاص بالتسلل إلى زميل له في
الإنسانية، وهكذا يخلد نفسه. إنه لا يفتأ يكرر قوله: أحبني،
أحبني، أعزني، احمني، أنقذني. إنه يقول ذلك للجنس البشري كله،
ولا يقولون ذلك لله قط، وربما كان هؤلاء أشد ما يدعو إلى
السخرية وأكثر من يستحق الازدراء؛ لأنَّهم لا يُدركون مجد
الفناء، هدف الإنسان العزلة والموت.
هيا بنا ندخل.
***
(فوق الحصون. في المساء.)
(دارمنياك ودي سيريزاي يدخلان من جهتَيْن مختلفَتين،
متلفعين وقاية من المطر، ويصيحان ليُسْمَع صوتهما خلال الريح
العاصفة.)
دي سيريزاي
:
دارمنياك، أنت هنا؟
دارمنياك
:
لقد سقط الفارس عند المدخل، ووجدوا هذه الأوراق مبعثرة.
دي سيريزاي
:
ماذا تحوي؟
دارمنياك
:
لقد تراجع الملك في كلامه، وانتصر ريشيليو، ولا بد من دك حصون
المدينة، وسوف تصبح مكانًا صغيرًا، ولن يتجاوز نفوذي سلطان
التاجر.
(يظهر جراندير بعيدًا من أسفل.)
دارمنياك
:
هل هذا هو القسيس؟
دي سيريزاي
:
نعم هو (يصيح)
جراندير!
دارمنياك
:
إنه سوف يعاني (يصيح)
جراندير!
جراندير
:
ما هو الأمر؟
دارمنياك
:
لقد تحرك الكاردينال ضدنا.
دي سيريزاي
:
فقد الملك أعصابه.
دارمنياك
:
كل هذا لا بُدَّ أن يدك.
دي سيريزاي
:
واسمك وارد …
دارمنياك
:
لن نلبث هنا طويلًا.
دي سيريزاي
:
ذكروا عنك المقاومة.
دارمنياك
:
أنت في خطر.
جراندير
:
شكرًا لك.
دارمنياك
:
ماذا تقول؟ لا أستطيع أن أسمعك، هل أنت مجنون؟ هل هو مجنون؟ دعنا
نهبط.
(دارمنياك وسيريزاي ينصرفان، جراندير يركع، والرياح
تعصف والأمطار تنهمر من حوله.)
جراندير
:
أبانا في السماء، لقد استرجعتَ القوة لأعدائي، والأمل لابنك
المذنب. إنني أسلم نفسي إلى أيدي الدنيا مطمئنًا إلى الإيمان
بطرقك الخفية. لقد جعلت الطرق ممكنة، وأنا أدرك ذلك وأقبله،
ولكنك تعمل خلف ستار من الجلالة، وأنا أخشى أن أرفع عيني
وأنظر؛ اكشف لي عن نفسك، اكشف لي عن نفسك.
(يتلاشى صوته.)
(سكون.)
***
(دي لوباردمنت – منيون)
لوباردمنت
:
يجب أن نعمل بسرعة.
منيون
:
نعم، نعم.
لوباردمنت
:
يجب أن أرحل إلى باريس هذا المساء.
منيون
:
بهذه السرعة؟
لوباردمنت
:
هل يمكن أن يتم العمل في هذه الفترة؟
منيون
:
يجب أن نحاول.
لوباردمنت
:
قلب أفكارك في الموضوع.
منيون
:
كنت أطلع على الموضوع وصادفتني قضية جوفريدي، في مرسيليا منذ
عشرين عامًا، هذا القسيس سحر كثيرات من أرسولين وفسق
بهن.
لوباردمنت
:
لسنا بحاجة إلى سوابق، نريد النتائج، هنا وفي هذه اللحظة
استدعيهن.
(منيون يسوق جان أمامه، تتبعهما كلير ولويز وجبرائيل،
والأختَين المجهولتَين ويقف لوباردنت جانبًا.)
منيون
:
أيتها الأخوات المحبوبات في المسيح، لست سوى رجل عجوز غافل لم
يعد أمامي فوق هذه الأرض وقت طويل أنفذ فيه إرادة الله
…
لوباردمنت
:
هيا، ادخل في الموضوع.
منيون
:
بنياتي، هل تثقن بي؟
جان
:
بالطبع يا أبي.
منيون
:
هل تثقن بي معلمًا روحانيًّا؟
جان
:
دائمًا.
منيون
:
حسنًا، إنني في شدة الانزعاج من هذا التوقف المفاجئ للظواهر
الشيطانية فيكم، وهم يروون في المدينة وفي أقاصي الريف قصصًا
مفزعة، يقولون إنكن لم تكن فعلًا متلبسات بالشياطين، بل كنتن
تمثلن وتستهزئن بمكانتكن الرفيعة، كما تستهزئن بمن هم أعلى
منكن مكانة في الكنيسة.
جان
:
هذا ما أنبأنا به طبيب كبير الأساقفة: تحدث عن الهستريا، وعن
صيحة الأرحام.
منيون
:
وكان من واجبك باعتبارك امرأة طيبة أن تبرهني على خطئه. أرجو أن
تؤكدي لي أن الأمر صادق، وأنكن متلبسات.
جان
:
كان الأمر صدقًا، كنا متلبسات بالجحيم.
منيون
:
ومن كان الباعث؟ من كان الساحر المخادع؟
جان
:
جراندير! جراندير!
الأخوات
:
جراندير! جراندير!
منيون
:
ولكني الآن أخشى عليكن بشكل آخر؛ إنَّ الدلائل كلها ضدكن وصمت
الشياطين يدينكن.
(صمت.)
منيون
:
أفلا ترين أنهم١١ لا يتكلمون، ليس هناك ما يثبت فضيلتكن. آه أيتها
الأخوات، هذا السكون ينذر بلعنتكن إلى الأبد. كم أخشى عليكن،
إنني وجل، إذا تخلى عنكن الله وتخلى عنكن الشيطان وقفتن في
الأرض المجهولة حائرات إلى الأبد. أتوسل إليكن أن تتدبرن
الموقف.
جان
:
أبي، إننا خائفات.
منيون
:
وحق عليكن الخوف يا بنيتي.
جان
:
لا تتخلَّ عنا.
منيون
:
ماذا أستطيع أن أفعل غير ذلك؛ سأصلي من أجلكن.
(منيون يتجه نحو لوباردمنت.)
لفاياتان
(يتحدث عن طريق جان)
:
هل لي أن أقول كلمة؟
منيون
:
حمدًا لله، ما اسمك؟
منيون
:
أين تسكن، أيها الشيء غير المقدس؟
لفاياتان
:
في جبهة السيدة.
بهريت
(يتحدث عن طريق جان)
:
أنا في معدة المرأة، واسمي بهريت.
إيزاكرون
(يتحدث عن طريق جان)
:
أنا إيزاكرون الذي أتحدث، من تحت الضلع الأيسر الأخير.
بلايمي
(يتحدث عن طريق كلير)
:
أنا هنا (صوت آخر)
وأنا.
إيزاز
(يتحدث عن طريق لويز)
:
وأنا (صوت آخر) وأنا
هنا.
(ضجيج من أصوات شيطانية، ضحكات استهزاء، أصوات كأصوات
الخنازير، صراخ، عواء.)
(دي لوباردمنت يتحرك إلى منيون.)
لوباردمنت
:
حسنًا ما فعلت، ولا بد أن يعود باري من شينون، ويجب أن يبدأ في
إخراج الشياطين فورًا، وعلنًا، بحضور ممثل البلاط، وعليك تنفيذ
ذلك.
منيون
:
افتحوا الأبواب، افتحوا الأبواب.
(جمهور كبير من الناس يتدفق في القصر، رجال ونساء من
المدينة، عامل المجاري، آدم ومانوري، ترنسانت، قزم، مخلوق، طبال، نساء
ضاحكات، كلاب، وأطفال يتسلقون إلى مواقع ممتازة يشاهدون منها.)
(من أسفل: الأخوات يقمن بحركات عجيبة، جان على يدَيها
وركبتَيها تشم الأرض، وكلير ترفع طرف ردائها فوق رأسها وتعرض نفسها في
مشية كئيبة. أما لويز وجبرائيل فتلتصقان في عناق، ويكونان شكل حيوان.
وعنهن جميعًا تصدر صيحات شيطانية خشنة كأصوات الذكور أصوات غير واضحة،
مختنقة، ضارعة، خليط من فحش القول. وسرور أهل المدينة بالغ، يلوح بعضهم
لبعض بإشارة تنم عن السرور الشديد، وبعضهم يحث الأخوات على المبالغة،
وتثير الإعجاب أخت مجهولة، خفيفة الحركة كأنها بهلوان. وقد انكبت جماعة
على الطعام والشراب وأخذت تراقب ما يجري. الأجراس تجلجل من فوق قمة برج
كنيسة القديس بطرس.)
(يدخل باري دخول الظافرين، حاملًا صليبًا من الذهب
مرصعًا بالجواهر في أعلام تمثال المسيح وهو مصلوب، الصليب يتلوى ويلمع
بين يديه المرتعشتين. ويقبل رانجير من طريق آخر، وثلاثة رهبان من دير
الكرمل من جانب آخر، ويقترب منيون منهم، ويجتمعون جميعًا.)
باري
:
بعثتم في طلبي.
منيون
:
نعم، نعم.
باري
:
هل انتصر الخير؟
منيون
:
نعم، لقد انتصر.
باري
:
إن دي سيريزاي …
منيون
:
باه!
باري
:
ودارمنياك …
منيون
:
قذارة!
باري
:
هل هما هنا؟
منيون
:
كلا.
رانجير
:
لا يجرءون على إظهار وجوههم.
باري
:
نصرة الخير، كم أحب هذه الكلمات، سأقولها مرة أخرى إنها نصرة
الخير.
(أخت مجهولة تخدش الأرض بيدَيها عند قدمي باري.)
باري
:
اهدئي أيتها الأخت.
(باري يمسها بالصليب، دون جدوى؛ ولذا فهو يركل المرأة
جانبًا في وحشية.)
رانجير
:
مندوب الملك هنا.
باري
:
من الذي أرسله؟
رانجير
:
الأمير هنري دي كندي.
باري
:
رجل يجري فيه الدم الملكي؟
رانجير
:
لا أقل من ذلك.
باري
:
حسنًا جدًّا (يصيح) أيها
الجند!
(يدخل الرماة، ويبعدون الجمهور إلى الوراء. يكاد يسود
الصمت. يقف الرماة صفًّا أمام الجمهور فيعزلون الأخوات.)
لفاياتان
(يتحدث عن طريق جان بصوت مرتفع)
:
أين العدو؟
باري
(في زهو شديد)
:
أنا هنا.
لفاياتان
:
من أنت؟
باري
:
لست سوى رجل متواضع، ولكني أتكلم باسم يسوع المسيح.
(لفاياتان يصيح صيحة عالية، وتصدر أصوات مختلطة من
الشياطين الأخرى، ويظهر السرور على الجمهور.)
باري
:
منيون، آتني بالماء، وكتاب القداس، وقمصان الكهنوت، والوعاء
المقدس، وظفر القديس، وقطعة من الصليب الحق، وأمدني بها
جميعًا.
منيون
:
الأسلحة الربانية، هذه هي.
(رهبان الكرمل يأتون بهذه الآثار ويرتبونها.)
باري
:
لا بد أن أستعد.
(باري يخر على ركبتَيه ويصلي. الجمهور يصمت. يدخل هنري
دي كندي، يستند إلى ولدان مصبوغين بالألوان وكأنه من قوم لوط. رجل فخم
أنيق ينظر إلى باري لحظة، ثم يتكلم.)
دي كندي
:
لست أريد يا أبي العزيز أن أزعجك في صلواتك، ولا أقول قط أن
فردًا من الأسرة المالكة يتقدم على الله … ولكن …
باري
(وقد نهض على قدمَيه)
:
أنا في خدمتك يا سيدي.
دي كندي
:
شكرًا، أعتقد أن هؤلاء هن النساء الهاذيات.
باري
:
كلهن متلبسات بشيطان أو أكثر.
دي كندي
:
والباعث رجل من شعبك.
باري
:
نعم، إنه قسيس.
دي كندي
:
لا يبدو عليك السرور.
باري
:
السرور؟
دي كندي
:
لا عليك من هذا.
باري
:
لو أخذتَ مكانك يا سيدي شرعتَ في العمل.
دي كندي
:
حسنًا.
(يتجه دي كندي إلى مكان معد عن كثب ويجلس شاخصًا إلى
المنظر، والوِلدان يلعبون من حوله كالفراش، وقد بات الأخوات مكدسات في
غير نظام، مكدودات، وكأنهن من سقط المتاع الملقى على الأرض. باري يرتدي
عباءته ويستعد بمعونة منيون ورانجير.)
(يجذب دي كندي أحد الوِلْدان إليه.)
دي كندي
:
هؤلاء نسوة يا عزيزي. حدق ببصرك، وتقيأ إن أردت. منهن وُلد
الإنسان. أشياء مقززة، قذرة، إنهن كالأرض التي تنبث. إن البيض
يفقس الصغار في الروث. لا تلوِ أنفك الصغير يا حبيبي المدلل.
خذ هذا العطر. بعض الرجال يحبونهن؛ القسيس جراندير على سبيل
المثال، لقد التقط اللحم من الحساء، إنه … (دي كندي يهمس في أذن الصبي، تتسع
عينا الصبي، يضحك دي كندي، باري
يتقدم.)
باري
:
ائذن لي يا سيدي أن أبدأ.
دي كندي
:
ابتدئ.
باري
:
عندي أولًا تصريح أريد أن ألقيه، هذا يا سيدي (يرفع القدح) يحتوي على
القربان المقدس.
(يضع باري القدح على رأسه ويركع.)
باري
:
أبانا في السماء، اللهم أصبني بالخزي وأنزل بي لعنة داتان
وإبيرام إن أنا في هذا العمل أذنبت أو ارتكبت أي نوع من أنواع
الخطأ.
دي كندي
:
إشارة حميدة جدًّا، برافو.
(باري ينهض ويتجه نحو جان.)
باري
:
لفاياتان، لفاياتان.
لفاياتان
(يتحدث عن طريق جان، ويغلب عليه النوم)
:
اعزُب عني.
باري
:
تيقظ.
لفاياتان
(يتحدث عن طريق جان)
:
إنك تضايقني.
باري
:
باسم سيدنا يسوع المسيح …
لفاياتان
(يتحدث عن طريق جان)
:
لا تقحم اسم هذا الدجال في المحادثة.
باري
:
إنه يزعجك، إيه؟
لفاياتان
(يتحدث عن طريق جان)
:
إنني لا أحتمل الحمقى مسرورًا، كل ذلك الحديث عن المحبة له أثر
مخدر للنفوس. ولم يكن الرجل فوق ذلك مهذبًا.
دي كندي
:
أيها الأب المقدس …
باري
:
نعم، سيدي.
دي كندي
:
ألاحظ أنك لا تخاطب هذه المخلوقات باللاتينية، كالعادة،
فلماذا؟
باري
:
إنَّهم لا يتحدثون هذه اللغة، وأرجو أن تعلم يا سيدي أن من
الشياطين المتعلم وغير المتعلم.
دي كندي
:
تمامًا.
لفاياتان
(يتحدث عن طريق جان)
:
إنني لم أسافر كثيرًا.
(ضحك عميق، وتعقبه الشياطين الأخرى.)
باري
:
استمع إليَّ أيها القذر …
لفاياتان
(يتحدث عن طريق جان)
:
أنت دائمًا تنادي الأشخاص بأسمائهم.
باري
:
سأذكر لك اسمًا، جراندير!
لفاياتان
(يتحدث عن طريق جان)
:
هذا صوت حلو أعده على مسمعي.
باري
:
جراندير!
لفاياتان
(يتحدث عن طريق جان)
:
نعم إني أحبه.
باري
:
هل تعرفه؟
لفاياتان
(يتحدث عن طريق جان)
:
نحن نخدمه، أليس كذلك؟
زابولون
(يتحدث عن طريق كلير)
:
نعم.
إيزاكرون
(يتحدث عن طريق جان)
:
نعم نخدمه، نعم نخدمه.
بهريت
(يتحدث عن طريق جان)
:
جراندير! جراندير!
بازاز
(يتحدث عن طريق لويز)
:
آه يا حبيبي، يا عزيزي، امسكني، خذ … خذ … آه.
زابولون
(يتحدث على لسان كلير)
:
جراندير! جراندير!
بهريت
(يتحدث على لسان جان)
:
جراندير! جراندير!
بازاز
(يتحدث على لسان لويز)
:
جراندير! جراندير!
لفاياتان
(يتحدث على لسان جان)
:
جراندير! جراندير!
(الأرواح الشريرة في لغط.)
باري
:
ليتحدث أحدكم نيابةً عنكم جميعًا.
(رانجير ومنيون يسيران وسط الأخوات يرشان الماء المقدس
فتتلاشى تدريجيًّا الصيحات والأصوات المرتفعة.)
دي كندي
:
هل أستطيع، أيها الأب، أن أوجه السؤال إلى هذه الأشياء؟
باري
:
بكل تأكيد يا سيدي.
(رانجير ومنيون ورهبان الكرمل يدفعون الأخوات البائسات
إلى الأمام حتى يقفن في صف تجاه دي كندي، الذي يحدق فيهن
بازدراء.)
دي كندي
(موجهًا الخطاب إلى الأخوات)
:
أيها السادة١٣ لقد أبديتم لنا آراءكم في صفة المخلص المبارك
وقيمته (همس من الشياطين)،
أيكم يجيبني في موضوع ليست له إلا أهمية قومية؟
بهريت
(يتحدث عن لسان جان)
:
سأحاول.
دي كندي
:
ستحاول؟ حسنًا، ما اسمك؟
بهريت
(على لسان جان)
:
بهريت.
دي كندي
:
اسمع يا بهريت، أجبني عن هذا، ما رأيك في جلالة ملك فرنسا
ومستشاره الكاردينال العظيم؟
(صمت.)
دي كندي
:
هيا، لا بُدَّ أن تكون لك بعض الآراء باعتبارك شيطانًا سياسيًّا،
أم هل تجد نفسك في المأزق الذي تجد نفسها فيه أكثر أحزاب
المعارض؟ إذ لا بُدَّ لك أن تتحدث بأكثر من صوت.
بهريت
(يتحدث عن لسان جان متمتمًا)
:
لست أفهم.
دي كندي
:
بل تفهم جيدًا. إذا أنت أثنيت يا بهريت على الملك ووزيره فأنت
تتسامح وتعني أن سياستهما جهنمية، وإذا أنت يا أختي جان
هجوتهما فأنت تخاطرين بالخيانة ضد رجلين قويين، إني أعطف على
موقفك الصعب. أبي باري …
(باري يتقدم بينما يتناول دي كندي صندوقًا صغيرًا من
أحد الوالدان.)
دي كندي
:
عندي هنا أثر له أعظم قيمة مقدسة أعارتني إياه كاتدرائية كبرى في
الشمال، وأنا أشعر أن هذه الأجزاء والقطع التي جمعتها من مصادر
محلية لا تقوى على تشتيت هذه الشياطين الوقحة، لماذا إذن لا
تجرب هذا؟
باري
:
ماذا بالصندوق يا سيدي؟
دي كندي
:
قارورة من دم سيدنا يسوع المسيح.
(باري يتناول الصندوق بين يدَيه باحترام
ويقبله.)
دي كندي
:
خبرني يا أبي، أي أثر يكون لاقتراب هذا الأثر قربًا شديدًا على
أمثال هؤلاء الشياطين؟
باري
:
إنه يرغمهم على الفرار.
دي كندي
:
في الحال؟
باري
:
فورًا، ولكني لا أضمن — بالطبع — ألا يعودوا إذا أزيل
الأثر.
دي كندي
:
بالطبع لا تضمن، إننا نتطلب الكثير إذا توقعنا منك ذلك، هل تريد
أن تجرب؟
(باري يتقدم نحو جان.)
باري
:
باسم أبينا في السماء، أناشدكم، أيتها الكائنات المفزعة، أن
ترحلوا، بفعل هذه المادة المقدسة.
(باري يضع الصندوق على جبين جان، فترحل الشياطين عن
جسدها في الحال، عن طريق فمها المشوه، وهي تصرخ عدة صرخات. صمت. ثم
تنهض جان منتصبة وتتكلم في هدوء، في صوت فتاة صغيرة، وبشخصها.)
جان
:
لقد تحررت، لقد تحررت.
(تتجه إلى دي كندي، تركع، وتلثم يدَيه.)
دي كندي
:
ما أشد سروري لأني أديت خدمة يا سيدتي.
باري
(منتصرًا)
:
أرأيت؟
(دي كندي يتناول الصندوق من باري، ويفتحه، ويقلبه، فإذا
به فارغ.)
دي كندي
:
أرأيت يا أبي؟
باري
(بعد لحظة)
:
آه سيدي، أية حيلة لعبت عليَّ؟
دي كندي
:
بل أية حيلة تلعب أنت علينا؟
(يسود الرجلين صمت. يبتسم دي كندي. الجمهور صامت.
النساء مفزوعات. منيون يشق السكون في لحظة، يجري في دوائر صغيرة ممسكًا
برأسه الصغير بين راحتَيه.)
لفاياتان
(يتحدث على لسان منيون)
:
أخديعة أخرى؟
بهريت
(على لسان منيون)
:
ابتعد.
(منيون يصيح، بينما بهريت يدخل عنوة، ويبدأ رانجير فجأة
في الصهيل كأنه حصان، ويرقص في رشاقة، ويتقدم ليعرض نفسه. وتبدأ
الأخوات في الصراخ والعويل وقد أحسسن بالعطف، وتهب إحداهن نفسها
لرانجير في فحش، فيمتطيها. ولا تبقى سوى جان وحيدة ساكنة. ويبدأ صبي
إلى جوار دي كندي في الضحك الرنان بصورة هستيرية. ويسود الجمهور
اضطراب. وتحل الشياطين بامرأتَين. يتطلع باري حواليه في فزع، ثم يلوح
بالصليب كأنه عصا، ويغوص بين الشياطين المحيطة به.)
باري
:
إننا محاصرون، أَخْلوا المكانَ فورًا.
(رهبان الكرمل يطردون الأخوات ومنيون ورانجير
وهما يرقصان، على عجل، والحراس يشتتون الجمهور، ويمر باري وسط
الناس، ويمس بصليبه من به مس ومن ليس به مس، ويصيح.)
… per factorem mundi, per
eum
qui habet potestatem mittendi
te in
gehennam, ut ab hoc famuls
Dei,
qui ad sinum Ecclesiae
recurrit,
cum metu et exercitu furoris
tui
(يبتعد رانجير ومنيون والأخوات، ويعقبهم باري،
ويقصد الناس بيوتهم وهم يتثاءبون، ولا يزال الصبي الواقف إلى
جوار دي كندي يضحك حتى تسيل من عينَيه الدموع.)
دي كندي
(باسمًا)
:
اسكت أيها الصبي.
(دي كندي يحدق في جان التي تقف أمامه، وحيدة،
على مبعدة منه.)
كثيرًا ما يتهمونني بالفسق يا أمي، حسنًا، لما كنت من أبناء
الأسر الرفيعة فإنه لا بُدَّ لي من الانحناء أكثر من غيري من
الرجال. إنني أعرف — وأنا ملوث مبتل — ماذا أنا فاعل، وما
ينبغي لي أن أعطي؛ فمن رأيي أن تنالي بغيتك من هذا الرجل
جراندير، حيث إني أعرف كيف يسير العالم. ولكن هل تعرفين ما
ينبغي لك أن تعطي؟ (عرضًا) روحك الخالدة إلى اللعنة في صحراء
لا متناهية من الهمجية الأبدية.
(دي كندي والولدان ينصرفون، كلير ولويز تدخلان
منفصلتَين عن جان، أصوات مرحة.)
كلير
:
لم أفلح قط في صلاتي.
لويز
:
ولا أنا.
كلير
:
كان بوسعنا أن نقضي حياتنا رُكَّعًا.
لويز
:
دون أن يسمع بنا أحد.
كلير
:
إنهم يبيعون صورتي في المدينة.
لويز
:
إننا مشهورات في جميع أرجاء فرنسا.
كلير
:
هل لا زلت منزعجة من اللعنة التي أصابتك؟
لويز
:
كلا لم تعد اللعنة تزعجني.
كلير
:
لم يحدث ذلك منذ ما سمعت الإعجاب بساقَيك الجميلتَين.
لويز
:
حبيبة قلبي، فيم تفكرين الآن وأنت في المعبد؟
كلير
:
في هذا وفي ذاك، في وسائل جديدة.
لويز
:
مما يمتع؟
كلير
:
نعم (جرس) هيا.
(تنصرفان وهما تضحكان، تقف جان صامتة برهة، ثم
…)
لفاياتان
(على لسان جان)
:
طهري عقلك من الزندقة، أيتها المرأة ذات
الخلقة الغريبة.
جان
:
أنا خائفة.
لفاياتان
(على لسان جان)
:
كلام فارغ، إننا نؤيدك في أي عمل تقومين به.
جان
:
أريد أن أكون طاهرة.
لفاياتان
(على لسان جان)
:
ليس هناك شيء اسمه الطهارة.
جان
:
رباه، رباه، كلا، بل هناك.
(ترتفع أصوات النسوة من المعبد المجاور.)
لفاياتان
(على لسان جان)
:
كلا ليس هناك، تفكري يا عزيزتي وتذكري رؤى الليل، هو و… (ضحكات فاحشة)، أوه، ذلك
الشيء — وأنت متفتحة — كلا، كلا يا عزيزتي.
ليس هذا طهرًا، بل ولا كرامة، فيم تفكرين؟ ليس فكرك كله دنس، بل
كله سخيف، هل تذكرين؟
(تبدأ جان في الضحك. يشاركها لفاياتان. ظلام.)
***
(مجلس
الولاية في المساء.)
(لويس الثالث عشر – ريشيليو – الأب جوزيف – لافيريير وزير
الدولة)
(دي كندي منعزل.)
(دي لوباردمنت يتقدم ويخاطب المجلس، يقف إلى جانبه كاتب، يسلمه
أوراقًا لها بالموضوع صلة بين الحين والآخر.)
لوباردمنت
:
صاحب الجلالة، صاحب الفخامة، طلبتم إليَّ أن أقدم تقريرًا عن
حالة التلبس في لودان، اسم الرجل أربان جراندير.
دي كندي
:
إنَّه بريء.
(الرجلان يوجِّهان الخطاب إلى المجلس.)
لوباردمنت
:
أشار عليَّ القسيس في تلك الناحية ورجال الطب المشهورون بأن
التلبس حقيقي.
دي كندي
:
وأنا كذلك كنت هناك، الرجل بريء.
لوباردمنت
:
أُجرى البحث في بيت جراندير فوُجدت به مخطوطات متنوعة: وُجدت به
رسالة كُتبت منذ بضع سنوات موجهة إلى فخامتك، وهناك أوراق أخرى
تؤيد تعضيد جراندير لدارمنياك في موقف التحدي الذي يقفه بشأن
حصون المدينة، وهو الموقف الذي أغضبك كثيرًا يا صاحب الجلالة،
ووُجدت أيضًا رسائل ومذكرات ذات صبغة شخصية، وُجدت رسالة عن
«عزوبة رجال الكهنوت»، والظاهر أن الرجل كان في حالة عشق عندما
كتب هذه الرسالة، ويُروى أن زواجًا صوريًّا تم مع إحدى بنات
النائب العام، ووُجدت كذلك رسائل من نسوة أخريات، والظاهر أن
إحدى هذه الرسائل تشير إلى أنه قد ارتكب الحدث الأكبر في
الكنيسة.
دي كندي
:
من أجل محبة المسيح أقول لكم: إنَّ أردتم أن تهدموا الرجل
فلتهدموه، لم آتِ هنا لأشفع له في حياته، بيد أن وسائلكم
مخجلة. إنه يستحق خيرًا من هذا جزاء كل رجل يستحق أكثر من ذلك.
اقتلوه بالقوة، ولكن لا تجسسوا في بيته، وتتلمسوا
مثل هذه الأدلة ضده. أي رجل
يستطيع أن يواجه الاتهام على أساس حماقة الشباب ورسائل الحب
القديمة وتلك الأشياء العاطفية التي توجد في الأدراج أو في
أسفل خزائن الملابس يحفظها صاحبها خشية أن يحتاج ذات يوم إلى
الذكرى بأنه أحب ذات مرة؟ كلا، حطموا الرجل لمعارضته، أو
لقوته، أو لعظمته، ولكن لا تحطموه من أجل هذا.
لوباردمنت
(إلى المجلس)
:
الآن يجب أن أقدم أي شهادة في مصلحة الرجل …
(يقاطعه ريشيليو بإشارة منه.)
ريشيليو
:
إنَّ الشيطان لا ينبغي أن يُصَدَّق حتى عندما يقول الحق.
لوباردمنت
:
سأعمل طبقًا لأوامرك فورًا.
(دي لوباردمنت يتقدم، يتجمع حوله الحراس، ثم
ينطلقون.)
***
(صباح رائع.)
(جراندير يتقدم نحو عامل المجاري حاملًا باقة من
الزهور.)
العامل
:
ما هذه؟
جراندير
:
لا بد أني التقطتها في مكان ما، لست أذكر، خذها لك.
العامل
:
شكرًا، رائحتها حلوة، وهي مناسبة جدًّا.
جراندير
:
هل أستطيع أن أجالسك؟
العامل
:
طبعًا، مع أني لم أرتكب ذنبًا هذا الصباح، آسف.
جراندير
:
دعني أنظر إليك.
العامل
:
هل تحب ما ترى؟
جراندير
:
جدًّا.
العامل
:
ماذا حدث؟ إنه مشبع بالغموض.
جراندير
:
كنت خارج المدينة، كان هناك رجل يحتضر، قضيت معه يومًا وليلتَين،
وكانت هذه المرة المائة التي أشاهد فيها الموت، كان النضال
فاحشًا، وهو كذلك دائمًا.
فمرة أخرى أرى رجلًا عجوزًا أحمق آثمًا يترك الدنيا بعد أن فات
أوان الوفاق. شدد قبضته على يدي حتى عجزت عن الحركة، ورفع وجهه
الملوث نحوي في دهشة ليس لها معنى مما كان يحدث له؛ ولذا فقد
بقيت هناك وسط روائح الأطعمة الفاسدة في المطبخ، بينما أخذ
أفراد الأسرة يتجادلون في الظلام هامسين، بين العبرات، عن
مقدار المال الموجود تحت الفراش.
كان رجلًا قذرًا، عجوزًا، لا ينم عن مخايل الذكاء، وقد أحببته
حبًّا جمًّا، وغبطته كثيرًا؛ لأنه كان يقف على عتبة الحياة
الأبدية، أردت له أن يتجه نحو الله، ولا يتطلع وراءه خلال
الضوء المعتم، ويحدق مشغوفًا في هذه الدار الأولى. قلت له: كن
مسرورًا، كن مسرورًا، ولكنه لم يفهم.
وتراخت روحه عند الفجر ولم تستطع أن تجتاز يومًا آخر، وصدرت عن
الأسرة صيحات الذعر. أخرجت الأشياء الضرورية التي أحتفظ بها في
هذه الحقيبة، واعترف لي بخطاياه الدنيئة الصغيرة، ومحوتها عنه،
وأمكن للرجل أن يموت، وفاضت روحه، وقد تشبث بالحياة إلى آخر
رمق.
ووجهت إلى الأسرة حديثي المعتاد، بوجه القسيس، وهكذا أديت
واجبي.
ولكني لم أستطع أن أنسى حبي للرجل.
خرجت من البيت، فكرت في العودة على قدميَّ، وأستنشق النسيم بعد
غرفة الموت الضيقة، وطرقت أذني دقات جرس كنيسة القديس بطرس،
وكان الطريق متربًا. إني أذكر اليوم الذي قدمت فيه إلى هذا
المكان: كنت أرتدي حذاءً جديدًا، كان مبيضًا من التراب، هل
تعلم أني نفضت عنه التراب برداء الكهنوت قبل أن يستقبلني
الأسقف. كنت في ذلك الحين مغرورًا أحمق، وكنت كذلك
طموحًا.
وتابعت المسير، وكانوا يعملون في الحقول، ونادوني، وأني لأذكر
كيف كان يحلو لي العمل بيدي حينما كنت صبيًّا، ولكن أبي قال
لي: إن ذلك لا يُلائم شخصًا في مثل أسرتي.
واستطعت أن أرمق كنيستي على بُعد، وكنت مزهوًّا، في صورة
متواضعة، وفكرت في حبي لجمال هذا المكان الذي لم يكن جميلًا
جدًّا، وتذكرت الليل في المبنى، حيث يُرى الذهب في الظلام
مضاءً بالشموع، وفكرت فيك، وتذكرتك صديقًا.
وألقيت عصاي لأستريح، ورأيت الأرض ممتدة أمامي. هل تعرف أين
يلتقي النهران؟
هناك قمت بالغزل ذات مرة.
ومَرْبى الأطفال. نعم، هناك بطبيعة الحال حصلت على هذه الزهور،
إنني لم ألتقطها إنما أُعطيت لي.
وراقبت الأطفال وهم ينصرفون، نعم، لقد كنت مكدودًا.
واستطعت أن أرى أبعد من مرمى النظر، قلاعًا، ومدائن، وجبالًا،
ومحيطات، وسهولًا، وغابات … و…
ثم — آه، يا بني، يا بني — ثم أريد أن أقول لك.
العامل
:
هيا خبرني، وكن هادئ النفس.
جراندير
:
بني، إنني … هل أنا مجنون؟
العامل
:
كلا، بل عاقل جدًّا، خبرني، ماذا فعلت؟
جراندير
:
صورت الله لنفسي.
(صمت.)
جراندير
:
صورته من النور ومن الهواء، من تراب الطريق، من عرق يدي، من
الذهب، ومن القذارة، ومن ذكرى وجوه النساء، من الأنهار
العظيمة، من الأطفال، من عمل الإنسان، من الماضي، من الحاضر،
من المستقبل، ومن المجهول. صورته من الخوف ومن اليأس. وجمعت كل
شيء من هذا العمل العظيم، كل ما عرفت، وما رأيت ومارست، ذنوبي،
ومزاعمي، وغروري، ومحبتي، وكراهيتي، وشهوتي، وأخيرًا وهبت
نفسي. وهكذا صورت الله لنفسي، وكان عظيمًا؛ لأنه كل هذه
الأشياء، وكنت بكليتي في حضرته، وركعت في الطريق وأخرجت الخبز
والنبيذ. Panem vinum in salutis consecramus
hostiam١٥ وبهذا الإدراك وهب الله لي نفسه عن رضًى كما وهبت
له من قبل نفسي.
(صمت.)
العامل
:
وجدت الطمأنينة.
جراندير
:
بل أكثر من ذلك، وجدت المغزى.
العامل
:
إن ذلك يجعلني سعيدًا.
جراندير
:
ثم وجدت العقل يا بني.
العامل
:
وهذه هي الصحة.
جراندير
:
لا بد أن أنصرف الآن، لا بُدَّ أن أذهب لأعبده في بيته، وأقدسه
في معبده.
لا بد أن أذهب إلى الكنيسة.
(جراندير يتقدم ويدخل الكنيسة. الجند يقفون مسترخين حول
المذبح، ويتقدم لوباردمنت.)
لوباردمنت
:
أنت ممنوع من هذا المكان.
جراندير
:
ممنوع؟
لوباردمنت
:
أنت قسيس فاسق، ليس عندك تقوى أو ورع، يجب ألا تدخل.
جراندير
:
إنها كنيستي، كنيستي المحبوبة.
لوباردمنت
:
لم تعد كذلك، أنت مقبوض عليك، وسوف تتلى عليك التهم، اتبعني،
آتوني به.
(جراندير بين الجند، يخرج من الكنيسة إلى ضوء الشمس ودي
لوباردمنت يتقدم الطريق، ويمرون خلال الشارع، ويتطلع آدم ومانوري
وترسانت من نافذة عُليا وهم يضحكون في سخرية.)
(وتشاهد المنظر فيليب ترنسانت وإلى جانبها رجل عجوز
صامت.)
(يتحرك رانجير ومنيون في الكنيسة، ومعهما مبخرة،
يترنمان، ويخرجان الشياطين.)
(وباري جاثٍ على ركبتَيه في الشارع أثناء مرور جراندير.)
(وعامل المجاري يشاهد المنظر ويتجمع حوله زحام من أهل
المدينة، محدثين ضجة، ومتسائلين. وبينما يسير جراندير، تمتلئ الطرقات
والكنيسة بصياح الشياطين وضحكاتهم، التي تصدر من جميع الأفواه.)
(ضحك. ضحك.)
(ستار)