ابن الكوخ
في جانب من جوانب ولاية كَنْطكي، هنالك في تلك البطاح المترامية من العالم الجديد، حيث تنمو الغابات والأحراج وألفاف النبات الوحشي، كان يقوم سنة ١٨٠٩ كوخ من تلك الأكواخ المتخذة من الكتل الخشبية الشوهاء، تلك الأكواخ المتواضعة التي تراها العين متناثرة هنا وهناك على مقربة من الغابات، ولا ترى غيرها في تلك الأصقاع البرية مساكن للناس.
وكان لا يختلف ذلك الكوخ عما يقرب منه أو يبعد عنه من الأكواخ إلا في سعته أو ضيقه، فقد كانت تقام كلها على نمط واحد من أنماط البناء، كما كان يعيش ساكنوها في الغالب على صورة واحدة من صور المعيشة.
كان لا يزيد على أربعة أمتار في مثلها، ليس فيه من متاع إلا بعض القدر والآنية لحفظ الطعام والماء، وبعض الوسائد المُتَّخَذَة من جلد الحيوان والمحشوة بورق الشجر أو بريش الطير، وبعض الكراسي والمناضد الخشبية الساذجة التي صنعها بيده توماس لنكولن صاحب هذا الكوخ، وقد اقتطع أخشابها كما اقتطع أخشاب الكوخ من الغابة القريبة بفأسه التي تُرى معلقة أثناء الليل على جدار كوخه إلى جوار بندقية صيده.
في هذا الكوخ فتح أبراهام لنكولن عينيه على نور الحياة في اليوم الثاني عشر من شهر فبراير عام ١٨٠٩؛ وفي هذه البيئة ولد الرئيس السادس عشر للولايات المتحدة الأمريكية.
وُضِعَ الوليد كأنه فرخ من أفراخ الطير على فراش من القش المغطَّى بالجلد إلى جوار أمه، وكانت تَألَّمُ الأم أشد الألم من الرياح تنفذ إليها وإلى وليدها صافرة خلال الثقوب الطويلة بين كتل الخشب كلما هبت العاصفة من ناحية الغابة.
واضطر الوالد أن يبقى بالكوخ أيامًا حتى تستطيع زوجه أن تستأنف عملها بالمنزل؛ إذ لم يكن هناك غيره إلى جوار امرأته سوى ابنتهما التي تكبر الوليد بعام واحد، وأخذ الرجل يحلب الأبقار بنفسه ويوقد النار في الموقد ويعد الطعام، وكان لا يبتعد عن الكوخ إلا ساعة أو بعض ساعة علَّه يرجع بقليل من الصيد يقدمه طعامًا إلى زوجه الواهنة.
وكان يخفف عنه عبء حياته إقباله على مهد ابنه وتطلعه بخياله، وهو ينظر في وجه ذلك الابن إلى اليوم الذي يستطيع فيه أن يحمل الفأس أو البندقية إلى جانبه في الغابة، فيكون له خير عون على مشاق الحياة التي كان يحياها بين الأحراج؛ وما كان له في ابنه أبعد من هذا الأمل أو ألذُّ منه، وماذا عسى أن يرجو النجار الذي يعمل وحيدًا في الغابة من ابنه الأول غير هذا الرجاء الحلو؟!
درج الطفل في هذا الكوخ حتى بلغ الرابعة من عمره، تلك السن التي لا يفتأ فيها الأطفال يسألون عن كل ما يحيط بهم، ولكنه لم يجد حوله كثيرًا مما يجتذبه ليسأل عنه؛ فهذه فأس أبيه التي يقطع بها الأخشاب، وهذه بندقيته التي يراها على كتفه كلما عاد من الغابة وفي يده صيد، على أنه يرى أباه أحيانًا وقد أتم صنع بعض الكراسي وبعض الأسرَّة الخشبية، ويراه يحملها إلى حيث تستقر في أكواخ بعض الجيران، فيعجب لذلك ويتساءل، ولا يكاد يفهم ما يُلقى إليه من إجابة!
وكانت الغابة أو كان الجانب المحيط منها بالكوخ هو نهاية ما يصل إليه خيال الطفل يومئذ من هذا الوجود، وحسبه الآن من الوجود أن يلعب في هذا الجانب من الغابة، وإن لم يكن له فيه من رفقة سوى أخته سارا.
على أنه بدأ ينظر إلى الغابة نظرة الرهبة والدهشة معًا؛ فقد أخذ يسمع عن السكان الأصليين، أولئك الهنود الحمر، الذين ينقضُّون على السكان البيض فيقتلونهم كلما ظفروا بهم وهو لا يفهم لم يقتلونهم، ثم هو يخشى غوائل الحيوانات المفترسة التي كانت تتحدث أمه عنها أحيانًا، وكلما مد بصره في تلك المساحات الهائلة أخافه الفضاء وحده، ولو لم يكن فيه شيء من بواعث الخوف.
على أن الغلام في هذا السن الباكرة يرى الحياة من قرب رؤية مباشرة، فهو ينمو كما ينمو وحشي النبات في ذلك الأقليم، ويرى بعينيه وخياله الصلة بينه وبين بيئته، يتغذى من ثمار الشجر، ويضطجع في مهد من أوراقها الجافة، ويلتحف بجلود الحيوانات ويشرب ألبانها، وهو يعيش في أحضان الطبيعة حيث يرهف حسه، ويعمق خياله، ويقوى وجدانه، وتنبسط نواحي نفسه الصغيرة، وتستشف ما في هذا الكون العجيب من جمال وسحر، وتستشعر ما فيه من سر ورهبة.
أليس يرى من كثب كيف تطعم الأسرة وكيف تكتسي؟ أليس يرى التعاون بين الوالدين وما ينتج من اطمئنان وراحة؟ أليس يرى الكدح في سبيل العيش كلما أبصر أباه يهوي بفأسه على الأشجار، أو كلما رآه مقبلًا من الغابة وبندقيته على كتفه وفي يده طائر أو حيوان يدفعه إلى أمه، فتتلقاه فرحة، وتذهب لتعد الطعام؟
وفي سن الخامسة يتسع مجال الحياة أمام عينيه بعض الاتساع؛ فقد انتقلت الأسرة قليلًا نحو الشمال، وأقامت كوخها الجديد على مقربة من طريق عام كان يربط بين مدينتين، وهناك كانت تقع عينا الغلام على بعض العربات غادية رائحة، وعلى قوم يتجهون أبدًا صوب الغرب يحملون من الأمتعة ما لم ير مثله من قبل، وإنه ليعجب أن يرى ملابس بعضهم من نوع آخر غير ما يلبس، وتخبره أمه أنها مُتخذة من الصوف، فينظر في دهشة إلى وجهها، ثم يتجه ببصره إلى ملابسه الجلدية المهوشة، ويتمنى بينه وبين نفسه أن لو كانت له ولأبيه ملابس من ذلك الصوف.
وفي السابعة من عمره يصحب أباه إلى الغابة؛ حيث بدأ الصبي يؤدي نصيبه من العمل؛ فيساعد الأب الذي يقطع الأخشاب، ويصنع منها الأثاث ويبيعه، ويكسب من وراء ذلك نقودًا لا بد منها للأسرة. وإنه لفخور الآن بمساعدة أبيه، لا يحفل تعبًا في تلك المساعدة، وإنه ليباهي بها أخته، وإن كانت هي أيضًا لتؤدي نصيبها من العمل في مساعدة أمها، ولكن هل كانت «سارا» تستطيع أن تسوي الخشب وتجره وترتبه؟ وهل كانت تستطيع أن تحمل الصيد إلى الكوخ كما كان يفعل «أيب» الصغير؟
كان لا ينقطع عن العمل إلا في أيام الآحاد؛ إذ يجلس وأمه وأخته وأباه أمام الكوخ، فيستمع في شغف ولذة لما تلقي أمه من أقاصيص وما تتلو من حكايات كان أكثرها مشتقًا من الإنجيل.
كان الغلام ينتقل ببصره وخياله من أمه إلى أبيه، وكانت أمه في أقاصيصها جادة تحس نفسه الصغيرة شيئًا من الحزن يطوف بنفسها، ويتسرب إلى حكاياتها، أما الأب فكان يميل إلى الفرح والفكاهة، ويتدفق إذ يحكي تدفُّق من لا تنطوي نفسه على شيء مما تنطوي عليه نفس الأم، وما كان شيء من ذلك ليخفى على فطنة الغلام.
وأحدثت القصص الدينية أثرها في نفس الصبي، وظلت عالقة بلبِّه وخياله، وجرَت في كيانه مجرى الدم في عروقه، واختزنت حافظتُه ألفاظَها بنصها، حتى لَيتحرك بها لسانه وإن لم يقصد.
وثمة شيء جذبه إلى أمه وإن كان لَيحب مرح أبيه وطلاقة روحه؛ وذلك هو معرفتها القراءة والكتابة، ثم رغبتها في أن يتعلم الصبي على الرغم من مجادلة زوجها إياها في ذلك؛ إذ كان يرى الصبي أحوج إلى الفأس منه إلى القلم، وحجته أنه لا يعرف من الكتابة إلا أن يرسم اسمه ومع ذلك فهو يكسب بفأسه ما يقيم أود أسرته.
وجاء في تلك الأيام بعض ذوي قرباهم، فأقاموا إلى جوارهم، واستأنس الغلام وأخته بالقادمين، وأقبلا على خالتهما وخالهما يستزيدانهما الأنباء والأقاصيص، وازداد الصبي تعلقًا بخالته؛ إذ علم أنها تقرأ وتكتب كأمه، وتحبذ مثلها أن يتعلم «أيب» القراءة والكتابة على الرغم من معارضة أبيه.
وبدا للصبي يومًا فسأل عن أسرته وأين نشأت وممن انحدرت، ولكنه سمع ردودًا مهمة لم تروِ ظمأ نفسه أو لم يتسع لها خياله، وبدا أبوه في حيرة من أمره؛ فهو إن أجاب ابنه على قدر ما يفهم ظل تساؤله قائمًا، وإن أطال وفصَّل لم يقوَ الصبي على متابعته.
وهل كان يستطيع الصبي أن يدرك أن أجداده الأولين جاءوا من إنجلترة منذ مائة وسبعين عامًا، وأنهم كانوا من أوائل من انتجع الرزق في هذه الأصقاع البرية، وأنهم نزلوا أول ما نزلوا بولاية ماساشوست في الشمال، ثم انتقل بعض ذريتهم إلى ولاية فرجينيا، ومن هؤلاء انحدر جده الذي سكن مقاطعة كَنْطكي حيث لا يزالون يقيمون؟
لم يفهم الصبي شيئًا من هذا، فلا عِلم له بإنجلترة ولا بالجهات الشمالية ولا الغربية، ولكنه يرهف سمعه إلى أبيه إذ يقص عليه حكاية غريبة عن جده القريب، فبينما كان أبوه وأخواه يساعدون أباهم في الغابة كما يساعد «أيب» اليوم أباه، إذ انطلقت رصاصة من بين الأدغال فأصابت ذلك الأب فخر صريعًا لتوِّه، وجرى الأخوان نحو الكوخ وتركاه وحده، وبرز من بين الأشجار أحد الهنود الحمر وحمله يريد أن يأخذه إلى داخل الغابة، وبينما كان يقاوم ويصرخ عاد أحد الأخوين ببندقية من الكوخ وصوبها إلى رأس ذلك الهندي فأرداه.
سمع الطفل ذلك الحديث وقلبه يخفق فرقًا؛ إذ رأى مبلغ ما أحدق بأبيه من خطر وهاله موت جده على تلك الصورة، وماذا عسى أن يمنع أن يصيب أباه اليوم مثل ما أصاب جده بالأمس؟ وبأي قلب يذهب إلى الغابة بعد اليوم؟ ولكن أباه يُفهمه أن هؤلاء الهنود قد أبعدوا صوب الغرب، فلن يوجد في الغابات منهم إلا عدد ضئيل لا خوف منه.
وأخذت الأم تعلم ابنها وابنتها حروف الهجاء رسمًا ونطقًا، والصبي مبتهج بما يتعلم حتى جاء رجل إرلندي الأصل، فأقام في تلك الجهة مدرسة لتعليم الأطفال، بُنيت من كتل الخشب كما تبنى الأكواخ، وأُرسل الصبي إليها فيمن أرسل من أبناء الجيران، وإنه ليطفر فرحًا وغبطة. وهناك كان الصبية يجلسون على الأرض، فيدار عليهم كتاب واحد ويظلون طيلة نهارهم يتمرنون على نطق الحروف وتركيب الكلمات. ويسأل الصبي نفسه في لهفة شديدة متى يستطيع أن يكتب ويقرأ كما تفعل أمه وخالته.
ولقد ظل أثر معلمه الأول ومدرسته الأولى مستقرًّا في أعماق نفسه على مر الأعوام، وثمة شيء آخر علق بنفسه وظل يذكره بعدها بأعوام؛ وذلك هو الوعظ الديني الذي كان يلقيه على الناس في تلك الأصقاع أحدُ المبشرين تحت الأشجار، أو في كنيسة أقيمت كذلك على نمط الأكواخ. ولقد رأى الصبي ذلك الواعظ ذات يوم يلقي حديثًا طويلًا على السامعين من غير أن يستعين بكتاب، فعجب لذلك وأعجب بالرجل، وقد كان ذلك أول حديث عام ينصت إليه خطيبُ الغد الذي لن يجاريه في قومه خطيب.
ومما رآه الصبي كذلك يومئذ، وأثر في خياله، وحير عقله؛ قومٌ من السود كان أبوه يستوقفهم كلما مر أحدهم به في الطريق العامة، ويسألهم أن يبرزوا جواز مرورهم، وكانت السلطات قد اختارت أباه ملاحظًا للطريق! وقد كان منظر هؤلاء السود وذلة نفوسهم مما يألم له الصبي ويدهش، وكانت إجابة أبيه على أسئلته في هذا الصدد مبهمة محيرة، وهو لا يني يتساءل ما ذنب هؤلاء، وما عملهم، وما أصلهم، ولم كانوا كذلك سودًا مضطهدين. ولو تفتحت حجب الغيب لأبيه لرأى ابنه في غد محرر هؤلاء العبيد، ومخرجهم مما هم فيه من هوان. ولقد بدأ عطفه عليهم في تلك السن، وأخذ بعدها يؤذيه منظرهم، وينقبض خاطره كلما ذكر مذلتهم. فهل كان يدري الصبي أن القدر يعده ليكتب في تاريخ الإنسانية صفحة من أجلِّ الصفحات بتحرير هؤلاء المساكين الأرقَّاء؟ لم يكن يدري من ذلك شيئًا، وحسْبه أن يرثي اليوم لحالهم، ففي هذا الرثاء خير بداية، وإن لم يفكر بعدُ في غاية.
ما لبثت الأسرة أن رأت في عميدها توماس لنكولن ميلًا شديدًا إلى الرحيل من كنطكي إلى حيث يسهل عليه كسب قُوتِه وقُوتِها مع اليسير من الجهد، وكان توماس من النفر الذين يضيقون بالجهد والذين يطلبون أكلاف العيش من أيسر سبلها، وما فتئ يذكر لهم اسم ولاية إنديانا مقرونًا بالخير والبركة ويزيِّن لزَوجه الرحيل إليها.
وذهب فخبرها بنفسه، وعاد يتحدث إلى الأسرة عما رأى؛ فالغابات مليئة بالصيد، والجو جميل، والناس أهل بر ومروءة. وسرعان ما باع توماس لنكولن كوخه والأرض المحيطة به، وأخذ يعد العدة للرحيل.
ولما حزموا متاعهم توجهوا قبل الرحيل إلى بقعة من الأرض قريبة، وهنالك وقفوا جميعًا مطرقين، أما الأب فكان يتجلد من أجل امرأته، وأما الأم فقد كانت تتساتل الدموع على وجنتيها، وهي تجهش بين آونة وآونة إجهاشة ينخلع لها قلب الصبي، وترتعد لها أخته فتصرخ فيزيده صراخها ألمًا وحزنًا؛ ففي تلك البقعة دَفن الوالدان ابنًا ثانيًا لهما كان أصغر من «أيب» بعامين، دفناه وقد فارق الحياة ولما يزل في مهده، وما أشد ما ترك ذلك الموقف من أثر في نفس الصبي! وما كان أعظم ألمه كلما ذكر بعد ذلك أنهم تركوا الطفل الدفين في بقعة من الأرض لا يقوم عليها حجر ولا تميزها أية علامة! ومن ذلك اليوم عرف الصبي لأول مرة معنى الحزن وذاق مرارته، وانطوت عليه نفسه التي سوف تنطوي على كثير منه كلما مرت الأيام.
وتوجه المسافرون صوب إنديانا، وقد حملوا متاعهم على جوادين أُعدا لذلك، وكان أيب يركب مع أبيه على ظهر أحد الحملين، وتركب أمه وأخته سارا على الآخَر، وقضوا في الطريق زهاء أسبوع يشقون في سيرهم الأحراج، ويجتازون بعض مجاري المياه، فإذا جنَّهم الليل قام عميد الأسرة على حراستهم من دواب الغابة حتى ألقوا رحالهم آخر الأمر في إنديانا بعد أن قطعوا زهاء تسعين ميلًا.