عضو في مجلس إلينوى
في سنة ١٨٣٤ تقدم لنكولن ثانية للناخبين، وكان يومئذ قد ناهز الخامسة والعشرين! وبعد جهود متصلة فاز أبراهام بأغلبية الأصوات، فأصبح عضوًا في المجلس التشريعي لولاية إلينوى، وكان ذلك في رياسة جاكسون الثانية، ولقد منحه بعض الديمقراطيين أصواتهم وهو هِوِجي؛ وذلك لفرط محبتهم إياه.
وكانت قاعدة الولاية مدينة فانداليا، وهي على نحو خمسة وسبعين ميلًا جنوبي نيو سالم، وفيها ينعقد مجلسها التشريعي، فكان على لنكولن أن ينتقل إليها، فاقترض بعض المال ليشتري من الملابس ما يَصلح لمن يمثل الناس في المجلس التشريعي، وبهذا أضاف بعض الجنيهات إلى دينه الأهلي!
وكان هذا المجلس يمثل نحو ربع مليون من السكان، ويبلغ عدد أعضائه نحو ثمانين، يجلس منهم الثلثان في قاعة وهم النواب، والباقون في قاعة أخرى وهم الشيوخ.
وكان مقعد لنكولن بين مقاعد النواب، ونظر عامل البريد ومخطط الأرض حوله يتطلع إلى زملائه ويقارن في صمت بينه وبينهم، ويذكر أنه قرأ كثيرًا من الكتب وعني بينها بكتب القانون، وأنه سافر في تجارة مرتين، وأنه خبير بالطرق ومجاري الأنهار، وأنه عليم بحال الناس في مقاطعته منذ أن عمل في البريد وفي تخطيط الطرف؛ فهل يقل مرتبة عن هؤلاء السادة الذين يجلسون حوله؟! إنه يفسح لهم ويقدمهم على نفسه ويخفض جناحه لهم جميعًا، وينصت إلى مناقشاتهم في صمت، لا يقاطِع، ولا يدفع بنفسه إلى الظهور كما يفعل غيره، ولكن مردَّ ذلك كما يحس بينه وبين نفسه إلى خلقه لا إلى تهيبه أو فقدانه الثقة في نفسه.
وهو مغتبط أن يرى لونًا جديدًا من الحياة وبيئة جديدة من المجتمع، وإنه ليفكر ويتدبر ويدير عينيه إلى كل شيء ويختزن في رأسه كل شيء، وإن طول قامته ليلفت إليه الأبصار أينما ذهب. على أنه أخذ يجتذب القلوب كذلك بشيء يلازمه أبدًا؛ وذلك هو ما يقص من أنباء وما يروي لجلسائه من قصص!
وهو في السياسة وأساليبها معجب بهنري كلِيي وما أوتي من مهارة وكياسة، وعلى الأخص في تقريب مسافة الخلف بين المتخالفين؛ فما ينشأ خلاف إلا كان هنري صاحب اليد الطولى في إزالة أسبابه، وإنه كذلك لخطيب يقل أنداده، ثم إنه رجل برلماني يتمنى الرجال أن يكون لهم مثل ما أوتي من لباقة وفصاحة، وما توافى له من قوة عارضة وبلاغة بيان ومهارة جدل.
أما من حيث المبدأ فهو وإن كان من الهِوِج إلا أنه يحب جفرسون حبًّا عميقًا، ويعجب بإخلاصه في ديمقراطيته، وبشدة وطنيته، وصادق حرصه على بناء الاتحاد، وعميق إيمانه بالشعب ومبدأ سيادة الشعب، وهو يُكبر جاكسون ولكنه يحس بشيء من القلق يشبه الكراهية إزاء بعض تصرفاته؛ فهو وإن كان يستند فيها إلى الشعب إلا أنه يشعر المرء بما هو أقرب إلى الأساليب الديكتاتورية.
ثم اتضح من خلال أبراهام في المجلس ما عطف عليه القلوب؛ رأى منه زملاؤه الإخلاص والحماسة في غير تعصب؛ فهو يدافع عما يعتقد أنه الصواب في قوة وفي إصرار يشبه أن يكون عنادًا، فما إن يتبين الحق في جانب مجادله حتى يسلم له في سرعةٍ تسليم الرضاء والغبطة، وأنِس فيه زملاؤه فوق ذلك قوة في التعبير عما يريد، كان مبعثها لقانة عجيبة تواتيه بالكلمة المطلوبة لا تزيد ولا تنقص عما في خلده من معنى، وتلك خلة ستكون في غد جانبًا من أهم جوانب زعامته.
وكان له على شهود جلسات المجلس أجر يعادل ما كان يناله من عمله في تخطيط الأرض، وهو لم يزل يؤدي ذلك العمل، وكان هذا كفيلًا أن يكفيه عسر الحياة لولا ما أثقل كاهله من الدين.
ولم يجد الفتى من أعضاء المجلس ما يهزه هزة إعجاب أو محبة، وقل فيهم من تعجبه فصاحته أو كياسته، بيد أنه يرى في صفه رجلًا يكاد يكون على نقيضه في كل شيء، رجلًا ربعة عريض المنكبين أنيق المظهر، جم النشاط لا يكاد يستقر في موضعه، طموحًا يدس أنفه في كل شيء ويجادل في كل أمر؛ وذلك هو دوجلاس، وإن أبراهام ليحس أن سيكون لهذا الرجل في غد شأن في السياسة عظيم.
وكان أبراهام يزور نيو سالم كلما سمح له وقته وهو اليوم يحب آن كما يكون الحب، فلقد أكبرته وأعجبت برجولته إذ ظل على ولائه لها. بينما هجرها خاطباها واحد بعد الآخر لِما نزل بأبيها من فاقة، وسرعان ما أحبته كأعظم ما يكون الحب، وألفى أبراهام نفسه في ربيع العيش حقًّا؛ لا يرى حوله إلا جمال الربيع ولا يحس إلا نشوة الربيع، يروح ويغدو مع صاحبته وكأنهما من فرط مرحهما طائران من طيور الخمائل، ولكن الربيع — وا أسفاه! — لن يطول بل إنه لينقلب في مثل عمر الزهر إلى جحيم! نزلت الحمى كما نزلت من قبل وهو غلام في كنطكي، وحلت بجسده فتغلبت عليها قوة ذلك الجسد، ولكنها مست صاحبته فلم تقوَ عليها؛ فكان من ضحاياها طائرة الجميل! وبات الفتى والحزن يرمض قلبه ويأكل أحشاءه، ويتلقى الصدمة الثانية بعد فجيعته في أمه، فكأنها الضربة تأتيه في مقتل! لقد وهنت عزيمته وخارت قوته وذوى عوده القوي، وصار يراه الناس أحيانًا هائمًا على وجهه يهذي كأن به جِنَّة، حتى نصح له طبيب أن يرتحل، فنزل ضيفًا عند أسرة صديقة كانت تقيم بعيدًا عن نيو سالم، ولكن همه لازمه إلى هناك، حتى لقد شاطره ذات ليلة نفر من جلسائه حزنه حين سمعوه يصرخ من أعماق قلبه: «لا. لا أطيق أن أذكر أنها ترقد هناك وحدها حيث ينزل المطر فوق قبرها وتصخب العاصفة!»
ولكن اليأس يسلمه ثانية إلى الحياة حيث لا معدى عن الحياة ولا حيلة في البلوى! ويحل موعد الانتخابات للمجلس، وقد ازداد الناس محبة له وإكبارًا، وازداد هو خبرة واكتسب أنصارًا، وأظهرته الانتخابات هذه المرة خطيبًا كأحسن ما يكون الخطيب في مثل هذه السن، وبرزت روح فكاهته وتهكمه اللاذع فكانت من أسباب قوته، قام يحمل عليه أحد خصومه من الحزب الديمقراطي، وكان قد حصل بتغييره مبدأه السياسي على مرتب سنوي كبير، وقد علم الناس أنه كان يقيم في منزل أنيق في مدينة سبرنجفيلد في قمته حديدة لمنع الصواعق، وكانت بدعًا يومئذ وترفًا، وأسرف هذا الخصم في الطعن على أبراهام، وأعلن في خطابه أنه لن يستقر إلا أن يحط من قدره في أعين الناس ونفوسهم، وأشار إلى حداثته وجهله، وسخر من ملبسه وهيئته ونشأته وبالغ في الزراية عليه، ووقف ابن الأحراج يرد عليه فقال: «إني أدع لكم أيها المواطنون أن تقرروا ما إذا كنت أهلًا لأن ترفعوني أو تحطوا من قدري، رأى هذا السيد أن يشير إلى حداثة سني ولقد نسي أني لست صغير السن صغري في ألاعيب الساسة وتجارتهم. إني أحب أن أعيش كما أحب أن أرقى وأصبح ملحوظ المكانة، ولكني أفضل الموت على أن أحيا فأرى اليوم الذي أصنع فيه ما صنع ذلك السيد، فأغير مبدئي من أجل ثلاثة آلاف دولار في العام، ثم لا أستطيع أن أنام في منزلي إلا أن أضع في قمته مانعة للصواعق أحمي بها ضميرًا آثمًا من غضب إله ساخط.» وضج الجمع بالضحك وصاروا بعدها لا يرون هذا الرجل إلا أشاروا إليه قائلين: «هذا هو الذي لا يستطيع أن يرقد في بيته إلا في حماية مانعة تمنع الصواعق يخشى أن يصبها الله عليه.»
وبرهن أبراهام على نضجه السياسي المبكر في ردٍّ كتبه إلى صحيفة طلبت إلى المرشحين أن يبينوا مناهجهم، جاء فيه: «سأسعى حتى يفوز جميع من يدفعون الضرائب ويحملون السلاح من البيض بحق الانتخاب، لا أستثني من ذلك النساء بأي حال، فإذا انتخبت فسأعد أهل سنجون جميعًا هم مرسليَّ سواء من اختارني منهم ومن لم يفعل، وفي غير ذلك سأسير وفق ما يمليه علي تقديري مراعيًا مصالحهم أبدًا، وسواء انتخبت أم لم أنتخب فإني أؤيد بيع الأراضي العامة للولايات المختلفة، كما أعين الدولة في مشروعات حفر القنوات ومد طرق الحديد بغير أن تقترض مالًا تدفع عنه أرباحًا.»
وتقدم ذات مرة أثناء المعركة الانتخابية خصم آخر من الديمقراطيين، أنيق الملبس بدين، فعرض بالهِوِج وسماهم أرستقراط الاتحاد، وبينما هو في كلامه إذ فتحت حلته فكشفت عن سلسلة ذهبية على صداريته، وأختام ودوال من الذهب وغيرها من وسائل الزينة، فوثب لنكولن وأشار بيده إلى ملابسه هو التي لا يعلق بها إلا طيف البلى وأمارات القدم، وقال وقد وضع كفه على صدره: «هذا هو رجلكم الأرستقراطي أحد لابسي الجوارب الحريرية المترفين»، ثم بسط كفيه مادًّا ذراعيه إلى جانبيه وقال وهو يومي برأسه إلى كفيه الكبيرتين اللتين تركت فيهما الفاس أثرها: «وها هما هاتان يَدَا بارونِكم البيضاوان الناعمتان … حقًّا إني أعتقد كما قال ذلكم السيد أني أرستقراطي نَفَخَتْهُ العظمة والكبرياء.»
وكتب لنكولن في تلك المعركة إلى أحد الديمقراطيين ردًّا على إشاعة أطلقها عنه فقال: «أنبئت أنك أذعت في الناس أثناء غيابي في الأسبوع الماضي أن لديك حقيقة أو حقائق، لو اطلع عليها الناس لقضت قضاء مبرمًا على أملي وأمل إدوارد في حركة الانتخابات القائمة، ولكن تأبى عليك مجاملتك إيانا أن تعلنها. وأنا أقول لك إنه ما من شخص يطلب الجميل كما أطلب، كذلك قل في الناس من يتقبل الجميل كما أتقبل، ولكن الجميل إلي في مثل هذه الحال معناه الجور في حق الناس؛ ولذلك فإني استميحك أن تنصرف عنه، إن حيازتي ثقة أهل سنجمون ذات مرة أمرٌ مقرر، فإذا كنت أتيت أمرًا يحرمني إذا عُرف تلك الثقةَ، سواء كان إتيانه عن إصرار أو عن خطأ، فإن الذي يعرف هذا الأمر ثم يخفيه إنما يخون صالح بلاده، وليس يقوم بذهني شيء عما عساه أن تكون الحقائق التي تتحدث عنها واقعية كانت تلك الحقائق أو مزعومة، بيد أن ما أعهده فيك من الصدق لا يسمح لي برهة أن أشك في أنك على الأقل تعتقد ما تقول. إني أراني مدينًا لك بهذا الاعتبار الشخصي الذي أبديته نحوي، ولكني آمل أن ترى إذا ما تأملت ثانية أن صالح الناس أهم من ذلك. وعلى هذا فلا تتحرج أن تعلن الحق. وأؤكد لك أن ذكرك ما لديك من الحقائق في صدق وأمانة لن يفصم ما بيني وبينك من عرى الصداقة مهما بلغ ما ينالني منه، هذا وإني أرجو أن يأتيني رد منك على كتابي هذا، ولك الحرية أن تنشر الكتابين إذا أردت.»
اقرأ هذا الكتاب تر كيف يملك أبراهام قلوب الناس بأمانته ودماثته وإخلاصه، ثم انظر إلى قوة حجته وروعة منطقه وحسن دهائه، وتأمل في أدبه وتحشمه، وهو في موقف من يرد الإهانة عن نفسه؛ تلك لا شك مزايا تسلكه في أحرار الشمائل وعظماء النفوس.
وفاز لنكولن ثانية في الانتخاب وحق له أن يفوز، وكان له في المجلس أصدقاء، منهم ثمانية كانوا مثله في طوله القامة، وكانوا يجلسون رفقة فعرفوا باسم التسعة الطوال، وكان أبراهام أطولهم في المعرفة باعًا وأعلاهم في الخلق مقامًا؛ فلقد ظهرت صفات ابن الغابة لهم في وضوح، فأعجبوا بأناته ودماثته وبُعد نظره، وفَتنتهم بلاغته وأسلوبه في الحوار والجدل، وهم يغبطونه على سعة صدره وشجاعته وصراحته، ويحمدون له رقة عاطفته وشفقته وسلامة طويته، وإنهم فوق ذلك يلذهم حديثه وتطربهم أقاصيصه وتأسر قلوبهم مودته، وإنه ليقرأ اليوم قراءة منتظمة، فقد مر العهد الذي كان يتناول فيه أي كتاب يصادفه، هو اليوم يقلب صفحات التاريخ فليس ألزم منه فيما يرى لرجل السياسة، وهو يستزيد من القانون نصوصه وفقهه، وهو يدرس حال أمريكا من جميع نواحيها، ويطيل النظر في تاريخ ساستها وفي مناهجهم في الإصلاح وأساليبهم في توطيد سياستهم، يستوعب ذلك كله لا يفوته منه شيء.
وحدث في هذه الدورة أن أصدر مجلس إلينوى قرارات يؤيد بها قرارات مثلها أصدرتها بعض الولايات المتمسكة بامتلاك العبيد، فغضب أبراهام وعادت إليه ذكرياته القديمة عن العبيد وسوء حالهم، وكان فريق من ذوي الرأي يومئذ ينددون في الصحف بهذا النظام وينعتونه بالقسوة والظلم ومجافاة الإنسانية، ولكن ولاية إلينوى تؤيد النظام وتحبذه، ويعلن كثير من أهلها أنه يمكن الاعتماد على ولايتهم في توطيد هذا النظام ومحاربة من يودون القضاء عليه من أهل الشمال.
بيد أن أبراهام لا يستطيع أن يكتم في نفسه رأيًا يرى الحق في إعلانه؛ لذلك قدم هو وزميل له من التسعة الطوال احتجاجًا شديدًا على قرارات مجلس الولاية بقسميه، ونشرت الصحف هذا الاحتجاج الجريء، وأشفق بعض خلصاء لنكولن من أثر هذا القرار على مستقبله السياسي، ولكنه الرجل الذي ينظر إلى الصالح العام قبل أن ينظر إلى صالح نفسه، وإنه لأهون عنده أن يناله الضر من أن يتنكب طريق الحق، على أن أهل مقاطعة سنجمون التي انتخب عنها يتلقون نبأ احتجاجه لقاء طيبًا، فيثنون على أبراهام؛ لأنهم يعلمون أنه لا يقول إلا ما يؤمن أنه الحق، كما أثنى أهالي الجنوب على اعتداله وتحفظه.
ويضيق ابن الغابة أحيانًا بمكر رجال السياسة وألاعيبهم، فهم يُتقنون المساومة والمخادعة، ويُخفون أطماعهم الشخصية وراء الكلمات البراقة والبيان الخلاب، ولا يعطون إلا بقدر ما يأخذون، إذا وافقوا اشترطوا ما يحقق مآربهم، وإن خالفوا فذلك ليشتروا بخلافهم ما يريدون، تجلت له صفاتهم في أمر لم يظن أن لأحد فيه مصلحة شخصية؛ وذلك أن رغبة كثير من الناس اتجهت إلى نقل قاعدة الولاية إلى مدينة سبرنجفيلد؛ وذلك لقربها من العمران وطرق المواصلات. وأيد فريق من أعضاء المجلس — ومنهم أبراهام — هذه الرغبة، ولكن فريقًا منهم يخالفونها، ويجتهد أبراهام وبعض أصحابه في حمل هؤلاء على الموافقة، ولكنهم يساومون ويشترطون موافقة أبراهام وأصحابه على أمور أخرى ثمنًا لموافقتهم على هذا الرأي، ولا يسع ابنَ الكوخ إلا أن يشير إلى مثل هؤلاء الساسة مرة في عبارة شديدة لاذعة قال: «هذا صنيع الساسة وهم فريق من الناس نرى أبدًا لهم مآرب بعيدة عن الصالح العام، ونرى كثيرًا منهم يبتعدون بهذا خطوة طويلة عن الأمناء من الرجال، إني أقول ذلك بكل صراحة؛ لأني — وأنا سياسي كذلك — لا يمكن أن يُحمل كلامي على أنه يراد به طعن شخصي.»
وتغلب أخيرًا رأي لنكولن وأصحابه، وتقرر نقل القاعدة إلى سبرنجفيلد، وعدَّ هذا انتصارًا له فقد جاهد من أجله جهادًا متصلًا.