في سبرنجفيلد
دخل أبراهام مدينة سبرنجفيلد على جواد هزيل استأجره، يحمل كل ما يملك من متاع الدنيا في جوالق صغير ذي ناحيتين وفي جيبه مبلغ لا يزيد عن سبعة دولارات، وكاهله لا يزال مثقلًا بما سماه الدَّين الأهلي!
دخل هذه المدينة وهو اليوم ابن ثمان وعشرين، كما دخل مدينة نيو سالم قبل ذلك بنحو سبعة أعوام، لا يدري أين يتخذ مأواه أو على الأقل أين يلقي رَحله لساعته.
وكانت المدينة يومئذٍ آخذة في الاتساع والنمو، بيد أنها كانت لا تزال تعلق بها مسحة من الغابة؛ إذ كان منبتها كغيرها أول الأمر وسط الأحراج، وكان لا يزال بها عدد كبير من المنازل أو الأكواخ المتخذة من الكتل الخشبية، على أن مباني جديدة من الآجُرِّ كانت آخذة في الظهور يومًا بعد يوم، وبها أخذت المدينة كصاحبنا أيب تخلع عنها ما تخلف فيها من حياة الغابة شيئًا فشيئًا.
ربط أبراهام جواده إلى عامود على جانب أحد الشوارع، وحمل خُرْجه على ذراعه، واتجه إلى حانوت يملكه رجل من أهالي كنطكي يدعى سبيد، فسأله أيب عما يلزم من المال لشراء سرير وفرش، فلما أخبره الرجل أن ذلك يكلفه سبعة عشر دولارًا أخذته حيرة شديدة، وقال له وفي نظرات وجهه أمارات الهم والربكة: «إن هذا ثمن رخيص، ولكني مع ما يبدو من رخصه لا أستطيع أن أدفعه؛ إذ ليس لدي مال، بيد أني سأحترف المحاماة ولي في الربح أمل، فهل تمهلني إلى عيد الميلاد القادم؟» وأطرق أبراهام قليلًا ثم أردف قائلًا: «وإذا أنا عجزت يومئذ عن أن أؤدي لك حقك، فلست أعلم ما إذا كنت أستطيع أن أؤديه لك أبدًا.»
وكان الرجل طيب القلب، فتملكته الشفقة على هذا الغريب الذي لا يجد مأوًى، والذي يبدو له من أمانته بقدر ما يبدو من فاقته، فقال سبيد: «اصعد إلى حجرتي فوق الحانوت، فستجد سريرًا كبيرًا يسع شخصين، وأنا أعرِض أن نقتسمه إذا أحببت.» وصعد أبراهام إلى الحجرة وعاين السرير، ونزل وعلى وجهه أمارات الرضا، وفي قلبه شعور الغبطة بهذه الصداقة الجديدة التي سوف تقوى على الأيام.
كان أبراهام مزمعًا أن يتخذ من المحاماة مرتزقًا، فقد اعتزم أن يترك العمل في البريد وفي تخطيط الأرض منذ أن هم بالرحيل إلى سبرنجفيلد، فأقبل على كتب القانون يستزيد منها علمًا، وكان يعيره بعضَ الكتب محامٍ في المدينة يدعى ستيوارت، وما لبث أن رأى ستيوارت من ذكاء صاحبه وطيب سريرته وحسن طويته ما دعاه إلى أن يشركه معه في العمل، ولم يكن ذلك يستدعي يومئذ امتحانًا أو شهادة خاصة، وقبل أبراهام مغتبطًا، يحس كأن الأيام توشك أن تبسم له بعد تجهُّم طويل، فله اليوم في السياسة مجال وله في المحاماة مجال.
ولكن هناك من الأمور ما لا يزال يكدر خاطره ويكرب نفسه؛ وذلك ما كان من غرامه الثاني، إن جاز لنا أن نسمي علاقته الجديدة بعد موت آن غرامًا. والحق أن هذا الجانب من حياة أيب — جانب علاقته بالمرأة — أمر يدعو إلى العجب، حتى ليحمله المرء على ما كان من شذوذه في بعض أموره أكثر مما يحمله على ما كان من حصافته في معظم الأمور.
عَرف لنكولن — فيمن عَرف من أهل نيو سالم — امرأةً كانت تضيفه أحيانًا فتحسن ضيافته، وظل يغشى منزلها زمنًا حتى أصبح كأنه من أهلها، وحدثته تلك المرأة — فيما حدثته — عن أخت لها غائبة ألقت عليها من الصفات ما تبتكره أخت حين تبحث لأختها عمن يطلب يدها، ورد عليها أبراهام مرة وهو لا يدري أمازح فيما يقول أم جاد، إنه يرحب بالزواج من تلك الأخت إذا قبلت، ولما عادت كانت تجلس إليه ويجلس إليها.
وصور له خياله أن كلمته ميثاق لن يسمح له ضميره أن يتحلل منه، ولكنه في حيرة دونها كل ما سلف له من حيرة؛ فإنه لا يحس في قلبه نحوها مثل ما يحسه المرء حين يمر به طائف من الحب، وهو مع ذلك لا يستطيع أن يقطع أنه لا يحبها؛ إنها تعجبه بذكائها وما علمت من علم وما امتلكت من متاع، وإن لم يكن كثيرًا، وهو قد قطع على نفسه عهدًا، أو ما يشبه العهد، ولكنه لا يدري إن كان يحبها حقًّا كما يكون الحب، أم أن فراغ قلبه بعد موت آن قد جعله يركن إليها ظانًّا أنه الحب!
إنه لحائر ضائق بأمره، فلعل ما هو فيه اليوم من أمور السياسة ومن شئون عمله الجديد في المحاماة ما يصرفه حينًا عن هواجسه ووساوسه.
ذهب أيب ليبدأ عمله الجديد، وهو ذلك العمل الذي طالما تاقت نفسه إليه، وإنَّ فرحه بهذا العمل الذي منَّى به نفسه كثيرًا وهو بين الأحراج لخليق أن يُذهب عنه الحزن، ويدرأ عن نفسه الضيق. أوليس يغدو محاميًا يدافع عن المظلومين ويملأ قلوب الناس إعجابًا بفصاحته، كما ملأ قلبه مرة ذلك المحامي المدل الذي ازدراه يوم تقدم ليهنئه وهو بعدُ غلام حائر بين الفأس والكتاب؟!
وكانت الحجرة التي اتخذها ستيوارت لعمله ضيقة، بها رفوف للكتب تزدحم بالكثير منها، وبها منضدتان وبعض الكراسي الخشبية الجافة وأوراق مبعثرة في كل ركن، وكان أبراهام أول الأمر يعمل عمل الكاتب ويقابل أصحاب القضايا وينسخ المحاضر ويرتب المواعيد، وكان ذلك يضايقه بعض الضيق، ولكنه كان يحظى بشهود الجلسات فيذهب عنه ضيقه.
ثم ترك له ستيوارت ما خف من القضايا ليترافع فيها، ففرح المحامي الناشئ بهذا فرحًا شديدًا، وأقبل على عمله في هِمة وسرور بالغَين.
وانبعث دستوره في المحاماة بادئ الأمر من أعماق نفسه، فهو دستور قائم على توخي الحق والدفاع عنه ونصرة المظلومين والأخذ بِيَدِ المستضعفين، كان لا يقبل قضية لا يقتنع بصدقها مهما أُجزل له من أجر، وكان لا يقرب قضية يعلم أن الدفاع فيها يجني على الخلق من قريب أو بعيد، وكان أسلوبه في المحاماة كذلك صورة لنفسه؛ فهو لا يعرف اللجاج ولا المطاولة، ولا يلتوي في أمر أو يخفي في نفسه شيئًا إلا إذا كان ذلك لستر عِرض أو حفظ كرامة، ولن يكون للمجاملة عنده حساب إذا ترتب عليها إساءة إلى فضيلة أو انتقاص من عدل.
وخفت وطأة الأيام عليه بعض الشيء؛ فمكانه في المحاماة — وهو بعدُ لم يتجاوز الثامنة والعشرين — ينبئ عن مستقبل عظيم، ومكانه في السياسة قد جعله رأس حزبه في المجلس، وهو كما مر بك حزب الهِوِج، وقد أخذ المجلس يتسع حتى أصبح عدد أعضائه ثلاثين ومائة بعد أن كانوا ثمانية، وهو — فضلًا عن ذلك — حبيب إلى أهل سبرنجفيلد؛ لما كان له من يد في نقل المجلس إليها وجعلِها قاعدة الولاية، وهم قد أنِسوا من خلاله في السياسة والمحاماة ما اجتذب قلوبهم إليه، وما جعل اسمه الذي عرف به في نيو سالم يجري على ألسنتهم؛ فهو بينهم أيب الأمين، ولقد توثقت المودة بينه وبين الكثيرين، وعلى الأخص سبيد صاحب الحانوت.
كان من أحب الساعات إليه تلك التي يجتمع فيها بنفر من حزبه في حانوت سبيد، فيديرون الحديث بينهم في السياسة وقضاياها والإصلاح العام وما تتطلبه البلاد منه، ومن الجماعة من سيكون لهم شأن كبير في سياسة بلادهم. ولقد كان ممن يختلفون إلى ذلك المنتدى في الحانوت دوجلاس الديمقراطي، ذلك القصير الماكر الطامح الذي اشتهر بحدة ذكائه ولباقته، والذي عرف بالأثرة والغيرة والطمع في عليا المراتب، وكان ذلك القزم يغار من المارد الذي تجتمع عليه القلوب والأهواء، فهل كان يدرك أنه سوف يكون العقبة الكأداء بينه وبين ما تطمح نفسه إليه؟!
ولم يكن نشاط لنكولن قاصرًا على المجلس والمحكمة، بل لقد كان نشاطه خارجهما باعثًا على الإعجاب جديرًا بالثناء؛ فهو حاث على الإصلاح بما يذيع من أحاديث، داع إلى نشر الثقافة والعلم، وهو ذلك النجار الذي كان يشق الأخشاب في الغابة يشتري بالآلاف من شرائحها سروالًا!
وكان أبراهام وزملاؤه يقرءون الصحف في إمعان، ويتتبعون أنباء السياسة في شغف ولذة، فإذا احتدمت المناقشة في الحانوت وتضاربت الآراء، حوَّلَ أيب مجرى الحديث في لباقة إلى الأمور المحلية، ثم انتقل إلى نوادره وقصصه، فراحَ يمتعهم بها متدفقًا في غير توقف، ثم إنه يتلو عليهم أحيانًا بعض أشعاره التي كان يهدهد بنظمها نفسه الحزينة، أو التي كان ينظمها حاثًّا على الفضيلة، كالذي فعل حين نظم قصيدة طويلة حول إغواء النساء.
وكان المحامون في تلك الأيام ينتقلون من محكمة إلى غيرها على ظهور الخيل، يحملون في أكياسٍ أوراقَهم وأضابيرهم ومراجعهم، كما كانوا يستصحبون أصحاب القضايا والشهود، وكان القضاة يرافقونهم أحيانًا إلى مقر المحاكم في غُدُوِّهم إليها.
وفي مثل هذه الرحلات القصيرة كان يرهف أذنيه المحامي الناشئ أيب لنكولن إلى كل ما يدور من الأحاديث، كما كان يسرح الطرف في مجالي الطبيعة، وفي دنيا الناس لا يفوته شيء يفيد منه علمًا أو عبرة، أو يستخرج منه نادرة يتفكَّه بها ويقصها على أصحابه، وهو إنما يتعمق الحياة الإنسانية وإن لم يقصد إلى ذلك أو يشعر به. تخلف عن الركب مرة فسأل عنه زملاؤه، فقال أحدهم: لقد توقف حيث أبصر عصفورين قذفت بهما الريح من عشهما، ولقد تركته وهو يحاول أن يرجع العش إلى نظامه، ويضع العصفورين في مستقرهما. ولما سئل أيب عن ذلك قال: «ما كنت لأستطيع أن أنام لو لم أردَّ العصفورين إلى أمهما.» وتحدث ذات مرة إلى أصحابه ضاحكًا من سذاجة شيخ لقيه في الطريق وهو عائد من المحكمة، وقد أعجب ذلك الشيخ بمهارة لنكولن؛ إذ تعقب بأسئلته المحرجة لصًّا اتُّهم بسرقة فراخ جارِه، قال الشيخ يستنكر ما فعل ذلك اللص: «في الأيام الماضية وهذه البلاد لم تزل في طفولتها، وأنا يومئذ أقوى مني اليوم، لم أبالِ أن أسرق الغنمات أحيانًا، أما أن أسرق فراخًا! …»
وترك له زميله ستيوارت ذات مرة قضية على شيء من الأهمية أكسبته شهرة في عمله؛ إذ دار حديثها على الألسن أيامًا؛ وذلك أن أرملة أرادت أن تضع يدها على قطعة من الأرض تركها لها زوجها، فتصدى لها مدَّعٍ ينازعها الأرض وفاءً لدَين له على ذلك الزوج، وكان المدعي من ذوي القوة والنفوذ، وهال أيب أن يكشف أنه زور هذا الدَّين، وغضب المحامي الأمين وتحمس لقضيته، ثم إنه علم أن ذلك المدعي يدفع عن نفسه تهمة التزوير بدعوى أخرى؛ هي أن الورقة المزورة ليست له وإنما دست عليه نكاية فيه، وأنه صاحب حق، فلا حاجة به إلى التزوير. وكتب أبراهام في إحدى الصحف مقالة غفلاء من التوقيع يفسر المسألة ويقضي على كل ما عسى أن تثيره من شبهات، ولكن ما لبث أن عُرف أنه كاتب المقال، فغضب ذلك المدعي وردَّ عليه يعنفه ويأخذ الطريق عليه، فكتب أيب يقول: «وداعًا أيها السيد إلى اللقاء في ساحة المحكمة هناك، حيث نقلب المسألة على وجوهها وننظر هل تأخذ أنت الأرض أم تأخذها تلك الأرملة.» واهتم الناس بهذه القضية، وازدحمت قاعة المحكمة بنفر يشهدون دفاع المحامي الشاب، وما منهم إلا من يعطف على الأرملة المسكينة، وكسب أيب القضية كما كسب يومئذ إعجاب كل من رأوه.