قطيعة وصلة
لم تلهه السياسة وشواغلها نوازعَ قلبه وخلجات نفسه، ولا أنْسته المحاماةَ وقضاياها وقد صار له فيها مكان مرموق، ولا الجلساتِ في حانوت سبيد وما كانت تثيره في نفسه من لذة، وأنَّى له أن ينسى وقد كانت ماري أوين — تلك الفتاة التي ارتبط بها بما يشبه العهد — تلقاه أحيانًا بعد أن تزور بعض ذوي قرباها في سبرنجفيلد، كما كان هو يذهب إلى نيو سالم فيغشى بيت أختها! إن أمره في ذلك عجب! لا يستطيع أن ينصرف عنها ولا يستطيع أن يؤمن أن يحبها، تلك حالٌ من حالات الشباب، أو حال من حالات لنكولن، وما أعجب بعض حالاته!
كانت علاقتهما علاقة فتور تجلى لها في أكثر من موقف، ولكنهما أقاما على هذه الحال زمنًا؛ تحسب الفتاة أنه لم يبق إلا أن يتقدم صاحبها بالاقتراح المعروف، ويحسب الفتى أنه لم يبق إلا أن تنأى عنه فتريحه! لقد كان منقبض النفس لهذه الحيرة، يجعل للمسألة من الأهمية أكثر مما لها، تلمس ذلك في مثل قوله: «لم أجدني طيلة حياتي في قيد أرغب في التحرر منه كما أجدني في هذا القيد، حقيقيًّا كان قيدي أو خياليًّا.»
وجمع أمره فكتب إليها كتابًا رقيقًا محكمًا يشير فيه إلى دخيلة نفسه ويتلمس معرفة طويتها، دون أن تفلت منه لفظة قاسية؛ تكلم عن إحساسه بالوحشة في سبرنجفيلد، ثم أشار إلى فاقته وعسره وما عسى أن تجد عنده من متاع الدنيا من تكون زوجًا له، إلى أن قال: «ربما كان ما قُلْتِه لي من قبيل المزاح، وإلا فأظنني لم أفطن إلى مرماه، إن كان الأمر كذلك فدعيه إلى النسيان، وإن لم يكن كذلك فإني أحب أن تفكري تفكيرًا جديًّا قبل أن تقطعي فيه برأيٍ، وستجدينني عند قولي إذا كان ذلك ما تشائين، وإني أرى ألا تشائي ذلك؛ فإنك لم تتعودي البأساء، وربما كان الأمر أقسى مما تخالين.»
وأرسل إليها بعد ذلك كتابًا أكثر من هذا صراحة جاء فيه: «إن في وسعك أن تدعى هذا الأمر، وأن تطردي أي تفكير يتجه إليَّ، إن كان ثمة لديك شيء من هذا، ولن يترتب على ذلك أي لوم عليك مني، وقد أذهب إلى أبعد من هذا؛ فأقول إذا كان ذلك يؤدي إلى راحتك وهدوء بالك، فإني أرغب مخلصًا أن تفعليه، لا تفهمي من ذلك أني أريد لك قطيعة، إني لا أريد شيئًا من هذا القبيل، إنما أريد أن تكون علاقتنا في المستقبل قائمة على إرادتك، وإذا كانت هذه العلاقة بحيث لن تضيف شيئًا إلى هناءتك، فإني على يقين أنها لن تضيف كذلك شيئًا إليَّ، ولئن كنت تشعرين أنك مقيدة نحوي بأي قيد، فإني أميل الآن إلى أن أطلقك منه إذا كانت هذه بغيتك، بينما أراني من ناحية أخرى أميل إلى أن أمسكك على إذا اقتنعت أن ذلك يزيد من سعادتك بقدر خليق بالاعتبار، هذه في الحق هي المسألة بالنسبة إلي، ولن يشقيني شيء أكثر من اعتقادي شقوتك، كما أنه لن يسعدني شيء أكثر من علمي بسعادتك. وإذا حسبت أن عدم ردك على هذا خير لك فوداعًا، وإني أرجو لك حياة طويلة سعيدة، أما إذا شئت أن تردي فاكتبي إلي في وضوح كما أكتب.»
تلك هي تعلَّات المتردد الحائر تصور لنا حالًا من الحالات المستعصية على الفهم، ولقد آلت المسألة آخر الأمر إلى القطيعة، وانصرفت عنه ماري أوين وهو لا يدري أيعدُّ ذلك فوزًا أم يعده خيبة.
وما له يتورط بعد ذلك في صلة جديدة، ولم يستنشق نسيم الراحة إلا من أمد قريب؟ إنه لم يكد ينصرف عن ماري أوين حتى أخذ يتصل بماري تود.
كانت هذه الفتاة الجديدة تنتمي إلى درجة في المجتمع فوق درجته، وكانت مثقفة مهذبة شديدة الذكاء، تدير الحديثَ إذا جمعها بالنابهين من أهل المدينة مجلسٌ فتسحرهم بتوقد الذهن وقوة المبادهة ولطف الإشارة وأناقة العبارة. وكانت ماري إلى ذلك ذات طموح إلى هدف بعيد، فكانت نظرتها إلى الشباب من جنس نظرتها إلى الحياة، المقدم فيها عندها من تثق أنه إذا نال يدها يخطو بها إلى ما تمد إليه عينيها وخيالها من نفوذ ونعمة وجاه، وكانت فتاة قلقة كأنها من فرط توثبها الطائرُ المرح؛ لا يحط على غصن إلا ليثب منه إلى غصن.
وكان لنكولن ممن يختلفون إلى دار أخت لها في سبرنجفيلد، كما كان دوجلاس ممن يختلفون إلى تلك الدار، كأنما صحت عزيمة ذلك القزم أن يأخذ على المارد كل طريق يسلكه، ولو كان غير طريق السياسة.
وكانت أختها زوجًا لأحد التسعة الطوال، فعرفت ماري من أختها شيئًا غير قليل عن لنكولن، كما كان زوج أختها صديقًا حميمًا لصاحبه سبيد، وقد تحدث إليها وإلى أختها عن لنكولن أحاديث كثيرة كلما تطرق الكلام إليه.
وكانت ماري قد جاءت لتقيم مع أختها زمنًا، وأخذت الرجلين عيناها السريعتان النافذتان، ولكنهما استقرتا على أبراهام، وكان دوجلاس خليقًا أن ينال عندها الحظوة بما كان يبدو من ذكائه ودهائه ولباقته وكياسته، وبما كان يشع من ظرفه وحسن سمته وأناقة هندامه. ولقد كان يبتغي إليها الوسيلة بكل ما في وسعه لا تُفلت منه فرصة ولا تفوته حيلة، ولكنها اتجهت إلى ابن الغابة في هندامه المتهدل القصير على جسمه المرهف الطويل، ولم يخشنَّ في عينيها وجهُه المسنون الذي يحمل في حضرتها من البلاهة بقدر ما يحمل من هموم الأيام، ولم ينب عن ذوقها شعره الأشعث الذي يصور للعين ألفاف الغابة!
وأخذ ابن الأحراج يزداد من حبها بقدر ما يفقد دوجلاس منه، ولكنه يُسرُّ إلى صديقه سبيد ذات يوم أنه لا يشعر قِبَلَها من الحب ما هو عسيٌّ أن يفضي بهما إلى الزواج، ثم يهم أن يكتب إليها بعد ذلك …!
وكان عجبًا أن تتجه ماري إلى أبراهام دون دوجلاس وهي فتاة طامحة، وهو يبدو في كل أمر متحفظًا يؤثر الهوينا، بينما كان دوجلاس مثلها طموحًا يتوثب لا يكاد يفتر له عزم، ولقد عرف أنها كانت تحلم بالبيت الأبيض، وتحلم بالزوج الذي يرجى له أن يتخذ مقعده هناك يومًا ما، وإذا كان الأمر كذلك فأي الرجلين كان عسيًّا أن يصل بها إلى ما تحب؟ وكيف تترقب ذلك على يد ابن الغابة، ولا ترجوه على يد دوجلاس؟
ولم يكن عجبًا أن يتردد أبراهام في صلته بها من أول الأمر؛ فهو كلما ذَكَرَ عسْرَه ومنْبتَه استحى وساوره مع الحياة الهمُّ. وإنه ليراها في بيت أختها الفسيح الأنيق موضع إعجاب كل زائر، حديث النفس في خلوتها لكل شاب، تتكلم الفرنسية وتحسن توجيه الكلام وإدارة الحديث، كما تجيد الحوار وتعرف كيف تَسرُّ كل متكلم وتتخذ أقرب السبل وأيسرها إلى قلبه. وإنها مع ذلك لذَاتُ كِبْر وأنفة، وذات حسن وظرف، وإن لم تصل ملاحتها إلى مستوى ذكائها. وإنها لقوية الشخصية تسحر محدثها بوداعتها وظرفها إذا رضيت، وتقهره بنظرتها العنيفة المخيفة إذا غضبت. وإنها لتدل بمكانة أهلها وجاههم تالده وطريفه! ومنهم من كان ذا شهرة في حرب الاستقلال، ومنهم من كان حاكمًا لإحدى الولايات؛ ومنهم أبوها وكان قائدًا في حرب سنة ١٨١٢ كما كان رئيس مصرف كنطكي، وكان ذا مال وجاه، يملك الخيل المطهمة والعبيد المؤتمرين بأمره، والأرض الواسعة التي تدر عليه الخير … وأين من هذا كله المحامي الفقير الذي ولد في كوخ، والذي لم يجد له مأوًى في المدينة إلا ما كان من معونة صديقة سبيد! والذي استنكف أن يوكله في قضية له إنجليزي في المدينة قائلًا عنه: «إنه يبدو كفلاح يشهد البهلوان لأول مرة.»
على أنه لم يكن يعلم مقدار حرصها على كسبه؛ فإن هذه المرأة الذكية كانت توقن كلما قارنت بينه وبين ذلك القزم — الذي يشبهها أعظم الشبه — أن المستقبل له، فثمة شيء تحسه ولا تستطيع أن تقول ما هو ينبئها أنه عظيم، وإن لم يبدُ عليه اليوم شيء من العظمة.
وهو يتمنى لو أحبها كما يكون الحب، أو لو اطمأن إلى أنه إذا أحبها لا تكون حاله حائلًا بينه وبين قلبها، ولعل شعوره بضعة منبته وبحاجته إلى مثل ما يتمتع به دوجلاس من أناقة ومقدرة على محادثة النساء ونيل إعجابهن؛ هو الذي كان يكربه ويؤلمه ويسبب له هذا التردد، ويلقي به في هذه الحيرة ويجعله دائمًا من النساء في حالة استخذاء.
وإنه ليحس أنه موشك أن يقع في مثل ما وقع فيه من قبل من أسر وخبال إبان علاقته بماري أوين، فما له لا يقطع هذه الصلة بماري تود قبل أن يجد نفسه بحيث يستحيل عليه ذلك؟ لئن كان يعجبه ذكاؤها وظرفها، فإن من خلالها ما هو خليق أن ينفره؛ وذلك مثل حدة طبعها وسرعة غضبها؛ فإنها لَتبكي لأقل شيء وتصرخ مهتاجة، وإن وجهها لَيتلوَّن بحمرة الورد وبصفرة الموتى في ثوان معدودات، وإنها لتطلق لسانها بجارح اللفظ وطائِشِه إذا اهتاجها من الكلام ما لا يحرك غيرها … ولكنه على الرغم من ذلك يشعر كما تشعر هي أن ثمة شيئًا فيها يحسه، ولا يستطيع بيان كُنْهه يريه أنها مكملة له، فإذا ربط الزواج بينها وبينه لم يكن الأمر أمر رباط فحسب، ولكنه يكون لكليهما تكملة لا غنى لهما عنها.
ولكنه يُسرُّ إلى صاحبه بعزمه على أن يقطع صلته بها بكتاب يرسله إليها، فيقول له سبيد: الرأي ألا تكتب فإن الكتاب يبقى، ولكن اذهب إليها وحدثها بما تريد، فما أسرع أن يُنسى الكلام!
ويفعل أبراهام ما أشار به صاحبه، ولكنه يعود إليه وفي وجهه مثل ما يكون في وجه الغلام إذ يحاول أن يخفي حياءه، قال: «قضي الأمر فلا مناص ولا حيلة، إني ما كدت أخبرها بالأمر حتى هبت من مقعدها صارخة تدق يدًا بيد والدموع تنهمر من جفنيها وهي تقول أصبح المخادع هو المخدوع … ووجدت الدموع تنحدر على خديَّ أنا كذلك، فأخذتها بين ذراعيَّ وقبلتها.» ولما لامه صديقه على تخاذله بمثل هذه السرعة قال: «قضي الأمر، وإذا كنت أعود إلى الأسر ثانية، فليكن ما يكون، ولسوف أصمم فلا أتزعزع.»
وظلت ماري بعد ذلك مدة عامين تحرص على أبراهام وتتحايل على كسب قلبه، وتغضي على مضض عن شذوذه وعن هيئته وعن سرواله القصير وعن حديثه الأعرج، وعما يشبه البلاهة من غيرته حينًا وعدم مبالاته أحيانًا …
وكانت تحاول أن توقد نار الغيرة في قلبه، فتمشي في الطرقات وذراعها في ذراع دوجلاس، فما تتوقد في قلب أبراهام نار، وإنما تحس هي بوقدة في حشاها إذا نظر إليهما في غير مبالاة.
ورأته ماري مرات يسير مع أخت لها عذراء على نحو ما تفعل هي مع دوجلاس، فحسبت أنها أغارته، ولكنها ما لبثت أن أحست هي بالغيرة تأكل قلبها.
ورأته يصحب فتاة في نحو السادسة عشرة من عمرها إلى الملهى ويضاحكها، وكان اسمها سارا، وعلمت أنه أشار مرة إلى اسميهما، وما كان في الإنجيل من علاقة بين سارا وأبراهام، فلم تطق ماري على هذه المداعبة صبرًا، أما هو فكاد يتعلق قلبه بسارا، وأوشك أن يندفع في هذا الطريق لولا أن نفرت الفتاة منه قائلة: «إن حاله الخاصة وجملة أمره لن يحدثا الأثر المطلوب في قلب فتاة على أهبة أن تغشى المجتمعات.»
وصبرت ماري وهي من لا تطيق أن تصبر، فإذا كان بين يديها حاولت أن تروضه على طاعتها بشتى الحيل، واستجمعت ذكاءها ودهاءها لتؤثر فيه دون أن يشعر فتوجهه إلى حيث تريد، ولكن ما كان أسرع نفوره من ذلك؛ أنفة منه ومحافظة على استقلاله وحريته، وإنها لضائقة بذلك، ولكنها تصابره وتسايره؛ علها تظفر آخر الأمر به، وفاتها أن السحر الذي كان كفيلًا أن يجعله أطوع لها من الطفل هو الذي كان ينقصها؛ لأن الحب كان ينقصه.
وكانت تأخذه غاشية من الهم كلما مال الحديث بينه وبين أصحابه إلى الزواج، وإذ ذاك كانت تزداد رغبته في التخلص من ماري تود كما تخلص من قبل من ماري أوين، وكان يومئذ في حال إن لم نحملها على الخبل نحار على أي شيء غيره نحملها!
ودأبت ماري على سعيها وصبرها، وليس من شك أنها لولا ما كانت تشعر به نحوه من أكيد الحب لانصرفت عنه، قالت عنه بعد ذلك بسنين: «لم يكن مستر لنكولن من الوجاهة كما كان مستر دوجلاس، ولكن الناس لم يكونوا يلحظون أنه كان لقلبه من الكبر بقدر ما كان لذراعه من الطول.» وقالت في معرضٍ آخر كلامًا غير هذا ينطق بطموحها وتعليقها الفوز بأحلامها على الظفر به، ومن ذلك قولها: «إن مستر لنكولن سيكون رئيسًا للولايات المتحدة يومًا ما، ولولا أني رأيت ذلك فيه ما قبلت أن أتزوج منه، فإنه لم يكن وجيهًا.»
وحدد اليوم الأول من سنة ١٨٤١ موعدًا للزفاف، وأخذ لنكولن ينظر إلى ذلك اليوم، وكلما اقترب منه أحس في جسمه بما يشبه الحمى من فرط اضطرابه، فلما كان اليوم السابق لهذا الموعد المحدد، رآه الناس في حال من الهم مخيفة، ولكنه على الرغم من ذلك كان مكبًّا على عمله في مكتبه وفي المجلس كأنْ لم يكن به شيء.
وفي الموعد المضروب أخذ أهل العروس أهبتهم لاحتفالٍ يليق بمكانة أسرتهم، واستعدوا للقاء الأصدقاء والصديقات، وأخذت العروس زخرفها وازينت، ولكن وا عجبًا أين الزوج؟! أبلع به الخبل هذا البلغ؟! لقد غاب والجمع في انتظاره! يا له من موقف! ويا لها من صدمة تصيب ماري المدلة المتكبرة!
وظن أبراهام أنه بفعلته هذه يستطيع أن يسترد حريته ويخلص من هذا الرباط الذي أوشك أن يوثقه، فلا تجدي في الفكاك منه حيلة، وأكب على عمله يحاول أن يخدع الناس أو يخدع نفسه بأن ليس في الأمر شيء، ولكنه ما لبث أن أحس أن فعلته هذه ضد الشرف فحاق به اليأس، وزاده غمًّا على غم تفكره في أنه ألحق الضرر بفتاة رقيقة قوية العاطفة بيديه القبيحتين، كتب إلى زميله ستيوارت: «إما أن أموت أو تتحسن حالي، ولكن بقائي فيما أنه فيه ضرب من المستحيل.» وبعد ذلك بأيام انقطع عن شهود جلسات المجلس؛ إذ كان عند الطبيب.