بيض وسود
بينما كان يتطلع أبراهام إلى مقعد في الكونجرس، وقد أوشك أن يفرغ ما أجبر عليه من انتظار، كانت البلاد كلها في شغل بما جد من تلك المشكلة التي نجمت من وجود العبيد فيها منذ عهد الاستعمار، ولقد كان لهذه المشكلة خطر أي خطر في سياسة البلاد؛ ولهذا وجب أن نأتي بحديثها على سرده.
جيء بهؤلاء السود من أفريقيا منذ عهد الاستعمار ليكونوا زراعًا وخدمًا لمن نزل بأرض أمريكا من الأوروبيين، وعلى الأخص في الولايات الجنوبية؛ حيث تصلح التربة للزراعة في مساحات واسعة مكشوفة، وحيث يقسو المناخ على المستعمرين فيحد نشاطهم ويقلل عزمهم، وأخذ يزداد عدد هؤلاء السود في الجنوب منذ نشط المستعمرون في زراعة القطن والطباق في بطاح مترامية خصبة، واشتدت الحاجة إلى العبيد بعد ذلك إبان الانقلاب الصناعي؛ إذ ازداد طلب القطن تبعًا لسرعة حلجه وغزله.
أما في الشمال فكان هؤلاء السود خدمًا في المنازل وقل استخدامهم في الزراعة؛ إذ كانت الزراعة هناك محصورة في مساحات ضيقة، ولم يزرع إلا ما يطلب الناس من حب وبقل، وعني الناس بالصناعة في الشمال، وكان الصناع من البيض؛ لأنهم أجدر أن يمهروا فيها.
على هذا الوضع كان اقتناء العبيد في الجنوب أمرًا لا محيص عنه، بينما كان في الشمال أمرًا قليل الأهمية، ولكن الظروف ما لبثت أن جعلت من وجود العبيد مشكلة معقدة بين أهل الجنوب وأهل الشمال.
كان أمرًا طبيعيًّا أن يتألم أبطال الاستقلال الذين أعلنوا حقوق الإنسان من وجود العبيد بينهم؛ فإن من ينفر من استعباد غيره إياه خليق أن يكره أن يستعبد هو غيره، وكان جفرسون من أكثر الزعماء بغضًا لوجود العبيد؛ إذ لا يتفق وجودهم وما كان يدعو إليه من ديمقراطية وحرية.
ولكن المسألة بدت من أول الأمر أعسر من أن تجرى فيها دعوة أساطين الحرية؛ فقد جعل أهل الجنوب أصابعهم في آذانهم عند كل دعوة يدعوها المتأثمون من حال السود وهم إخوانهم في الإنسانية، ولم يكن ذلك لأن الديمقراطية كانت أحب إلى قلوب الشماليين منها إلى قلوب أهل الجنوب؛ فإن هؤلاء الشماليين كانوا رحماء بينهم أشداء على السود، وكانوا إذا رغبوا في التخلص منهم باعوهم لمن يقتني العبيد في الجنوب، وإنما كان الأمر عند الجنوبيين أمر حياة أو موت، فالقضاء على العبيد عندهم معناه ثورة اجتماعية تقضي على مصالحهم الاقتصادية وتصيبهم بنكبة لا يبرءون منها إلا في أجيال.
من أجل ذلك وقف زعماء الاستقلال وأبطال حقوق الإنسان حيارى تلقاء هذا الأمر وإن باتوا له كارهين، على أنه لم تنته حرب الاستقلال حتى قضي على هذا الوضع في جميع الجهات الكائنة وراء حدود ماري لاند الشمالية. وفي سنة ١٨٧٧ نجح جفرسون في حمل المؤتمر العام على إصدار قرار يحرم وجود العبيد في الجهات الواقعة في الشمال الغربي لنهر الأهايو.
وظل أهل الجنوب متمسكين باقتناء السود فما تزحزحهم الدعوات قيد شعرة، وما هم بمنكري دعوة الداعين من ناحيتها الإنسانية، بل إنهم يوافقون على أن الرق أمر بغيض، وأنه لا يتفق ومبادئ الديمقراطية والعدالة والحرية، ولكنهم لا يستطيعون من هذا الشر خلاصًا، وليس في وسعهم إلا أن يأملوا أن يخلصوا في المستقبل منه.
ولما بدأ واضعو دستور الاتحاد عملهم وجدوا أنفسهم أمام عقبة كَئود، سببها وجود هؤلاء السود، وكان عليهم أن يتخطوا هذه العقبة سراعًا وإلا ذهبت جهودهم هباء، وكانت هذه العقبة هي كيفية التمثيل في مجلس النواب، فإنهم اتفقوا على أن يكون لكل ولاية أعضاء بنسبة عدد سكانها، وعلى ذلك فهل يعد البيض وحدهم أم يعد البيض والسود جميعًا؟ وإذا عد البيض والسود عظُم نفوذ أهل الجنوب في الاتحاد، ولن يرضى بذلك أهل الشمال، بينما يذهب نصف هذا النفوذ إذا عد البيض وحدهم؛ فإن السود كانوا يساوونهم عددًا أو يزيدون عنهم في بعض الجهات.
وهداهم تفكيرهم إلى حل رضي الطرفان عنه، فليعد البيض جميعًا وثلاثة أخماس السود؛ وهكذا يصبح اقتناء العبيد أمرًا مشروعًا بما تضمن الدستور!
على أنهم لم يتخطوا هذه العقبة حتى كانوا تلقاء عقبة أخرى؛ فإذا كان الدستور قد أقر وجود العبيد في ولاية وحرمه في أخرى، فماذا يكون حال من يفر من العبيد إلى ولاية حرة؟ أيحرره الفرار أم يجبر على العودة إلى حيث كان؟ فإنه إن كان الرأي الأول ازداد الفرار وسهلت الحرية، وفي ذلك الضررُ كل الضرر على أهل الجنوب؛ ولهذا كان لا مناص من الأخذ على مضض بثاني الرأيين، فنص عنه كما يأتي: «إن من يفر من الأشخاص المكلفين بالخدمة أو العمل إلى ولاية أخرى يجبرون على العودة إلى من كانت تلك الخدمة أو ذلك العمل حقًّا لهم.»
وثمة عقبة ثالثة اعترضت لهم؛ وتلك هي تجارة الرقيق وجلب هؤلاء السود من أفريقيا؛ فقد رأوا أنهم إن قضوا عليها توًّا أغضبوا الجنوبيين فاستحالت الوحدة؛ ولذلك لم يكن بد من أن يجعلوا لذلك أجلًا مقداره عشرون عامًا، في نهايته يقضى على هذه التجارة التي كان يكرهها أكثر المستنيرين، ولما انتهى هذا الأجل سنة ١٨٠٨ ذهبت تلك التجارة إلى غير عودة.
ويدلنا على ما أحس واضعو الدستور في أنفسهم من جرح أنهم لم يسموا السود عبيدًا، بل إنهم لم يستعملوا لفظ العبيد قط وأحلوا محله تلك العبارة وهي «الأشخاص المكلفون بالخدمة والعمل»، وقد أرادوا أن يبرأ دستورهم من هذا اللفظ آملين أن ينقرض الاسترقاق، وليس في دستورهم ذكرى لهذه الوصمة، ولشد ما تحرج جفرسون وتأثم، تجد ذلك واضحًا في قوله: «إني لترتعد فرائصي من أجل وطني كلما ذكرت ما يتصف الله به من عدل.»
ولم يأت عام ١٨٢٠ حتى تجدد النزاع بين الشمال والجنوب، وأحس الناس نذر الشر وبوادر العاصفة التي تزلزل الاتحاد وتجعله أثرًا بعد عين، وقد هال جفرسون ما يتهدد الاتحاد من خوف، فوصف هذا النزاع بأنه الناقوس المنذر بالحريق يجلجل صوته في ظلام الليل. وكان سبب هذا النزاع رغبة أهل الجنوب في قبول مقاطعة مسوري ولايةً في الاتحاد كباقي الولايات، وقد أصبحت بازدياد عدد سكانها أهلًا لذلك، ولكنها من أصقاع الاسترقاق وانضمامها إلى الولايات يزيد ولايات الرق واحدة وهذه بغير انضمامها يساوي عددها عدد الولايات الحرة، ولما كان الدستور يقضي أن يمثل كل ولاية عضوان في مجلس الشيوخ مهما كثر عدد سكانها، فإن الجنوبيين يكسبون عضوين بانضمام مسوري إلى الاتحاد.
ورفض أهل الشمال قبول مسوري ولاية، وعظم الشقاق حتى ظن أنه يستعصي على العلاج، ولكن هنري كلِيي تمكن من اقتراح سكنت به رياح العاصفة؛ وذلك أن تقبل مسوري ولاية وتقبل مين أيضًا، وهي من الجهات الحرة، فتعود الكفتان إلى التعادل، على أن يراعى في المستقبل أنه إذا أراد ضم جهة من الجهات الغربية إلى الاتحاد ابتداء من خط الطول الذي درجته ٣٠، فكل ما يقع منها جنوبي خط العرض الذي درجته ٣٦ فهو من ولايات الرق، وما يقع شمالي ذلك فهو من الولايات الحرة.
وقبلت البلاد هذا الاقتراح وكان ذلك في رياسة منرو، وقضى هذا الحل الذي عرف باسم اتفاق مسوري على نذر التفكك، وهيأ للبلاد عهدًا من الوئام والمودة بين الشمال والجنوب.
وظلت البلاد هادئة لا يعكر صفوها موضوع العبيد حتى بدت نذر الشر مرة أخرى على نحو ما حدث عند محاولة ضم مسوري إلى الاتحاد؛ ففي هذه المرة حدث أن رغب أهل الجنوب في ضم تكساس إليهم، وكانت تكساس خاضعة للمكسيك فأغروها بإعلان استقلالها وإعادة اقتناء العبيد، وكان المكسيك قد حرموا ذلك عليها وقضوا على الاسترقاق فيها، وأطاع أهل تكساس ولبثت مستقلة عن المكسيك بضع سنين ثم طلبت حكومتها — وكانت تتألف من مهاجرين من الولايات المتحدة — الانضمام إلى تلك الولايات، وضمتها إليها الولايات المتحدة سنة ١٨٤٥، وبذلك زاد عدد ولايات العبيد عن عدد الولايات الحرة بواحدة.
واحتجت المكسيك وأعلنت تمسكها بحقها، ثم اشتعلت نار الحرب بينها وبين الولايات المتحدة، وقد ندد هنري كلِيي وكثير من أعوانه بهذا العمل وعدوه حروجًا على مبادئ الشرف، وخافوا من سوء عاقبته على نزاهة الولايات وحسن سمعتها، وكان موقف كلِيي سنة ١٨٤٤ وآراؤه التي تقضي بعدم ضم تكساس إلى الولايات المتحدة سببًا في فشله في معركة الرياسة وفوز بولك الديمقراطي عليه، وكان بولك ينادي بوجوب ضم تكساس مهما كانت نتائج هذا العمل.
ولكن أهل الجنوب رحبوا بالحرب حين جرت بها الشائعات، وفرحوا بها حين اشتعلت نارها، وكانوا خليقين أن يفرحوا إذ منوا أنفسهم بالنصر، وكان النصر عندهم سبيلًا إلى الاستيلاء على مساحات واسعة من الأرض الخاضعة للمكسيك، فضلًا عن تكساس؛ فيتاح لهم بذلك أن يملَئوا بمهاجريهم هذه الأرض، فتكون لهم فيها ولايات يزيد بها بأْسهم ويتوطد في الاتحاد نفوذهم؛ فإنهم يخشون من تكاثر الناس في الشمال والأرض مبسوطة أمامهم هناك إذا اتجهوا غربًا، فما أيسر أن تقوم فيها ولايات شمالية جديدة في سنوات ليست بالكثيرة.
وغضب أهل الشمال من ضم تكساس إلى الاتحاد، ولكن كثيرين منهم يكتمون غيظهم، وقد أرضاهم انتصار الولايات المتحدة على المكسيك وامتداد رفعة أراضيها نتيجة لهذا النصر، كما أنهم ما لبثوا أن رأوا الجنوبيين قد منوا بخيبة فيما علقوا عليه آمالهم من نشأة ولايات جنوبية جديدة؛ فإنه لم يزدد السكان في بقعة من الأملاك الجديدة زيادة تؤهلهم للانضمام إلى الاتحاد، اللهم إلا في كليفورنيا؛ وكان ذلك بسبب العثور فجأة على الذهب فيها وهجرة الناس بسبب ذلك إليها أفواجًا، وحتى هذه لم تُجْدِهم شيئًا؛ فقد كان نصفها شمالي خط اتفاق مسوري، ونصفها الآخر جنوبيه، وقد رفضت أن تأخذ بنظام العبيد في نصفيها جميعًا.
ولن يلبث أن يدب الخلاف بين الشماليين والجنوبيين بسبب كليفورنيا؛ لأن الشماليين كانوا يؤيدون أهل كليفورنيا في رفضهم الرق، بينما كان يطمع الجنوبيون في جعلها ولاية من ولايات الرقيق، وسينهض من عزلته هنري كلِيي واضع اتفاق مسوري قبل هذا الخلاف الجديد بنحو ثلاثين عامًا، ليضع اتفاقًا جديدًا حرصًا على الاتحاد أن يفصم عراه هذا الخلاف.