متاعب وآلام
وماذا يتعبه اليوم ويؤلمه وقد أصبح في سبرنجفيلد وفي إلينوى كلها المحاميَ العظيم القدر الذاهب الصيت؟! ماذا عسى أن يتعب أبراهام وقد دفع دَينه وبات في سعة من الرزق؟! لقد كان عسيًّا أن ينعم اليوم بهدوء البال وقد أزيح عن كاهله شقاء أمسه، فما باله يراه الناس مهمومًا كلما وقعت أعينهم عليه في الطريق حتى لتأخذهم به شفقة تشبه أن تكون رثاء لحاله، وإن دعوتهم إياه اليوم لنكولن العجوز كادت تطغى على دعوتهم إياه أيب الأمين، ولم يك يومئذ بالعجوز إذا نظرنا إلى سنه؛ فما تجاوز الأربعين إلا قليلًا، ولكن مسحة الهم في وجهه المسنون ونظرات الحزن في عينيه المتسائلتين ومضي الألم في شفتيه المزمومتين؛ تجعله يبدو أكبر من سنه في أعين ناظريه.
وكثيرًا ما يراه الناس في الطريق وكأنما أخذته عن نفسه حال، فما في وجهه غير دلائل الهم الذي يجيش في نفسه، ويحييه الناس جميعًا إذا مر بهم أو إذا مروا به، فهو حبيب إلى نفوسهم، وقل في المدينة من يجهله، وإنهم ليتبينون شخصه من بعد بقامته المدبدة وخطواته التي يعرفونها وسرواله الذي ما زال قصيرًا يكشف جزءًا من ساقيه، فإذا دنا منهم نظروا إلى وجهه الذي أحبوه، والذي يملؤهم انجذابًا إليه وعطفًا عليه ما يرتسم فوقه من دخائل نفسه، فضلًا عما فيه من معاني البساطة والدماثة وحسن الطوية، وهو يرد تحية ذاك بقوله «سعد صباحك يا عزيزي الأخ»، أو تلك بقوله «طاب يومك يا أختاه»، ثم ينطلق وكأنما يحس كل من لقيه كأنما سرى إليه شيء من همه.
وكثيرًا ما كان يقف وهو في طريقه إلى بيته عند الظهيرة أو في المساء يتحدث إلى هذا، ويسأل ذاك عن حاله، ويتم لصديق أو جار حكاية كان قد بدأها من قبل، أو يعلق على حديث محدثه بنادرة، أو يذكره من أمسه بما يشبه حاله اليوم، أو يستخرج من كلامه عبرة أو عظة، وقد ألف الناس مرآه على هذه الصورة، وألفوا أن يستوقفوه وأن يستوقفهم ولو طال بهم الوقوف.
ويسأل الناس إذ يرونه أحيانًا يضحك ملء نفسه ماذا يكربه ويلقي ذلك الهم على محياه، فإنهم لَيُحسون أن ضحكه إذا ضحك وأن نادراته إذا تندر إنما هي جميعًا متنفس يلجأ إليه ليخفف عن نفسه بعض ما بها، يحسون ذلك إحساسًا صادقًا، فليس يقع مرحه في نفوسهم كما يقع مرح غيره، فما يذوقونه إلا وفيه طعم الهم.
وإن صديقه هرندن — وهو العليم به — ليحار في أمره ويحاول أن يرده إلى ما يعلم من حال معيشته وعلاقته بزوجه، فيجد في هذا ما هو عسيٌّ أن يكربه كما يكرب من كان في مثل موضعه من الناس، ولكنه يرى همه أكبر من تلك الأمور التي يعرفها ويظنها أسبابًا له.
هل عادت السياسة تشغل نفسه؟ أم هل عادت معضلة الرق تقلق خاطره؟ أم أن ما يكربه اليوم هو ما ذكرناه من قبل مما يكرب كل نفس كبيرة؛ إذ يحس صاحبها أنه قد يعيش مجهولًا غير مفهوم؟ أو الإرهاص الذي يسبق كل رسالة كبيرة؟ ولكن هذا الهم بين جنبيه من قديم ولا تزيده الأيام إلا وضوحًا. هو في الواقع ذلك الإحساس الذي يهجس في كل نفس ملهمة، والذي يبدو على ملامح صاحبها في صورة من صور الهم، وما هو إلا التطلع للمستقبل تطلعًا يكاد يخترق حُجُب الغيب.
وليته يجد في كنف امرأته ما يذهب عنه بعض همه، وأين هو من هذا وهي كثيرًا ما تكون سبب ما به؛ فما تزال تعنف عليه وتغلظ له في القول، وإن ذلك ليؤلمه وإن يكن ألِفه ووطَّن النفس فيه على الصبر، وإنما مرد ألمه إلى أن يطمع أن يسكن إلى زوجه كما يسكن الناس إلى زوجاتهم فلا يجد إلى ذلك سبيلًا.
على أنه يثق اليوم أن مسلكها معه وليد مزاجها الحاد وأعصابها المرهفة، فلم يعد يظن بنفسه الظنون ويخشى أن يكون ذلك منها استخفافًا بأمره، فهي تعيش اليوم في رغد بفضل ما يكسب من مال، بَنت طابقًا ثانيًا لمنزلها وقد أصبح المكان الذي يقع فيه من أحسن جهات المدينة، واشترى لها زوجها عربة جميلة تغدو فيها وتروح في أنحاء سبرنجفيلد، وإن لم يره فيها الناس قط! ولن يمر أسبوع دون أن تدعو الأصدقاء والصديقات إلى حفل بهيج تقيمه في بيتها، وقد جددت أثاثه وزينته أحسن زينة، وبلغ عدد من حضروا حفلًا عندها مرة ثلاثمائة من خمسمائة مدعو حال المطر دون حضور بقيتهم!
وإنه ليضع ماله كله في متناول يدها لتصيب منه ما تشاء بغير حساب، وقد ترك لها أن تفعل ما تحب فيما يتصل بأمر المنزل والحديقة، يثني على كل ما تفعل ويرضى بكل ما تقول. إذا عن لها أن تسأله مرة عن أمر فجوابه الذي لا يملك غيره هو امتداح ما ترى هي من رأي، حتى ملابسه تشتريها هي له كما تشتري ملابس أحد أبنائهما، وهو بهذه الطاعة يطمع أن يسكن هياجها ويخفف حدتها، ولكنه يجد منها التبرم حتى بمسلكه هذا! قالت لأختها مرة: «إنه لا وزن له إذ يكون في البيت، ولن يفعل هنا شيئًا أكثر من أن يدفئ نفسه ويقرأ، وما ذهب إلى السوق مرة في حياته، وإني أنا التي أعنى بكل هذا … إنه لا يعمل شيئًا، وإنه لأقلُّ الناس فائدة وأضيعهم حياة على وجه الأرض.» على أنها على الرغم من ذلك يشيع السرور في وجهها؛ إذ تثني أختها على أبراهام، وتتنبأ له في غده بعظيم القدر. وكثيرًا ما كان يراه صديقه في مكتبه قد بكَّر إليه قبله بساعات، فيدرك لم ترك منزله هكذا مبكرًا، وكثيرًا ما كان يعلم أن صاحبه بقي بالمكتب في الظهيرة فأكل بعض لقيمات وقليلًا من الجبن يشد بها متنه، وكثيرًا ما علم كذلك أن أبراهام لبث في المكتب إلى قبيل منتصف الليل.
وقد تنتظر امرأته مقدمه عند الغداء، فلا يحضر، فترسل ابنيها الكبيرين يبحثان عنه، فإذا هو في دكان يحيط به نفر من الناس بين عامل وحوذي ونجار وتاجر، وهو مسترسل بينهم في قصصه ونوادره، يشاركهم في ضحكهم إذا ضحكوا ويسألهم عن أحوالهم إذا فرغ من حكاية، ويرد على أسئلتهم، ويقرأ لهم خطاباتهم، كما كان يفعل وهو عامل في دكان أو وهو موظف في البريد.
فإذا انطلق إلى داره لم يمنعه تأخره حيث كان من أن يقف مرات يكلم هذا، ويرد على تساؤل ذاك، ثم هو يعابث ابنيه ويمازحهما جاهرًا بصوته، وهما يتواثبان حوله يحاول كل منهما أن يسبق أخاه في تناول ما يمد به إليهما يده من حلوى، ويشرح أبوهما للناس سبب تصايحهما مرة بقوله: «ما الحيلة وليس معي إلا ثلاث قطع وكل منهما يريد لنفسه اثنين؟!» وتعلم أمهما منهما بكل ذلك فتغضب وتصرخ، فيطرق أبوهما برأسه، ويدعها في هياجها لا ينبس ببنت شفة حتى تنفس عن نفسها غيظها كله.
ويحذر وهو يلاعب ابنيه في بيته أن تفاجئهم أمهما فتقلب سرورهم نكدًا؛ إذ تعد عملهم عبثًا بالنظام؛ ولذلك يستصحب الابنين الكبيرين أيام الآحاد إلى المكتب، فيلاعبهما كيفما شاء، ثم يدعهما يمرحان ويلعبان، وكأنما ينتهزان بعد رقابة أمهما فيأخذان من المرح والزياط بأكبر نصيب، ويشهد أثر ذلك هرندن في اليوم التالي؛ فيما يرى من أوراق ممزقة ومقاعد ملقاة ومداد سائل على القماطر!
ودخلت عليه ذات ليلة وبين يديه ضيف من رجال القانون، فسألته هل نفذ ما طلبت إليه من أمر، فأجاب أنه نسي، فعنفته قائلة إنه يهمل ما تطلب إهمالًا معيبًا، ثم خرجت معجلة وشدت وراءها مصراع الباب في عنف، فدقت به مصراعه الثاني دقة قوية، وعجب الضيف ونظر إلى أبراهام فضحك يهون المسألة لصاحبه، ثم قال: «لو أنك علمت مبلغ ما في هذا العمل من شفاء لها ومبلغ ما فيه من خير، وكيف تستمتع به حقًّا، ولو أنك عرفتها كما أعرفها؛ لسرك أنها تجد فرصة لتنفجر ولتنفس عن نفسها ما تشعر به.»
وراض أبراهام نفسه على ألا يغضب مما تؤذيه به، فلا فائدة من الغضب ولا نتيجة له إلا ازدياد غضبها وثورتها، ولقد بلغ بها الأمر أن رآها بعض الناس ذات يوم تدفعه إلى خارج البيت بخشبة مكنسة قديمة!
على أن هرندن يجده ذات مرة قد بكر إلى المكتب، ويراه صامتًا كئيبًا يرد تحيته في صوت أجش وفي كلمة مقتضبة، ويرى في وجهه عنفًا وغضبًا، ثم يلاحظ أنه يطيل الإطراق ويسترسل في التفكير، ويلمح حمرة يحس أنها حمرة الخجل تمشي أحيانًا في صفحة وجهه، ولكنه لا يسأله عما به حتى يقبل عليه أبراهام يريد أن ينفس عن صدره فيقص عليه أمره؛ وذلك أن امرأته أخذت تغلظ له في القول وتسيء إليه في الصباح الباكر، وهو لا يرد على ذلك بكلمة فلا تهدأ، بل تزداد عنفًا وتزيده إهانة حتى أحس أنه يفقد صبره شيئًا فشيئًا، فخرج من حجرة الطعام ليبتعد عنها، فلما عاد إليها بعد لحظة لأمر اقتضى عودته عادت إلى صراخها، ولقيته بعاصفة جديدة أفقدته صبره وأطارت صوابه، فأمسك بذراعها في عنف ودفعها في شدة وغلظة أمامه إلى الدهليز فالفناء، وما زال يدفعها حتى قذف بها في الشارع، وفعل ذلك على أعين بعض الناس وكانوا في طريقهم إلى الكنيسة؛ الأمر الذي أخجله أشد الخجل حتى وهو في سَورة غضبه.
وهو إذ يرى زوجه تمد الموائد المَرة بعد المرة في سخاء لصاحباتها، يجد نفسه عاجزًا عن أن يدعو إلى الطعام في منزله أحدًا من أصحابه، حتى أهله وذوي قرباه، فلم يجرؤ أحد منهم أن ينزل ضيفًا عليه، وهم يعلمون من تكبر زوجه وعنفها ما يعلمون.
ولقد قدر على هذا الرجل أن يجد الشقاء في علاقته بالمرأة من أيامه، فطالما تألم لفقد حبيبة قلبه إذ طواها الموت، ولطالما شقي بزوجته قبل زواجه بها من جراء حيرته وتردده، ثم ها هو ذا يشقى بها بعد الزواج، وكان يأمل أن يجد بين يديها ما هو في حاجة إليه من الهدوء والراحة بعد ما لقيه من عنت الأيام وقسوة الحياة.
ولكن قلبه الإنساني الكبير وتمكن العدالة من نفسه يجعلانه على رغم ذلك يعطف على المرأة، فيتحمس لها إن استضعفت ويدافع عنها ما وسعه الدفاع. سئل مرة عن حقيقة إحساسه نحو المرأة فأجاب بما يفهم منه أنه من أكثر الناس حبًّا للمرأة، ولكنه من أقلهم حظًّا في الظفر بما يحب، وهو لا يعدم في أي موقف أن يوضح المعنى الذي يريد بحكاية أو نادرة، قال في هذا الصدد: «أذكر أيام كنا نعيش في إنديانا أن صنعت أمي ذات يوم كعكًا مخلوطًا بالزنجبيل، فلما شممت رائحته أسرعت إليها لآخذ نصيبي منه وهو ساخن، وناولتني أمي ثلاثة صنعتها لي على هيئة رجال، فأخذتها ومضيت إلى ظل شجرة من أشجار الهكري القريبة لآكلها، وكانت تعيش على مقربة منا أسرة أرق حالًا منا، فبينا أنا في ظل الشجرة إذ أقبل صبي من تلك الأسرة وقال: أعطني واحدة من الزنجبيل يا أيب، فمددت إليه يدي بها فالتهمها التهامًا، وابتلع الرجل في نهم، بينما كنت لا أزال أقضم الساقين، وعاد فسألني أن أعطيه رجلًا آخر، وكنت أريده لنفسي، ولكني مددت يدي إليه به فالتهمه كما التهم الأول، فقلت له: يظهر أنك تحب كعك الزنجبيل يا صاحبي؟ فقال ما من شخص في الدنيا كلها يحبه كما أحب، وما من أحد ينال منه أقل مما أنال.»
ورأى الناس لنكولن يختلف إلى مغنية فيستمع إليها في إعجاب وشغف، ويتحدث إليها كذلك إذا فرغت من غنائها، وضايقه بعض أصحابه باستنكارهم ذلك منه، وهز البعض رءوسهم محذرين فأجابهم: «دعوني وشأني … إنها المرأة الوحيدة التي أسمعتني أحاديث جميلة.» على أن أحدًا من خصومه السياسيين لم يستطع — وهو يتصيد له ما يشينه — أن يجد غميزة في خلقه من هذه الناحية.
وكان لأبراهام يومئذ؛ أي عام ١٨٥٠، ثلاثة بنين، كان أكبرهم في السابعة من عمره، وثانيهم يقرب من الخامسة، وثالثهم في سنته الأولى، ولئن أعوزه أن يحس السرور بين يدي زوجته، فلقد كان يجد بعض العزاء عن ذلك في ملاعبة ابنيه وفي رؤية ابنه الثالث في مهده، ولكن الزمن القاسي يأبى إلا أن يسدد إلى قلبه سهمًا من أحد سهامه وأوجعِها، فينتزع الموت ابنه الثاني وهو في الخامسة من عمره، فيذهب كما تموت الريحانة الغضة، ويجدد موته آلام أبيه وأشجانه، حتى كأنها تجتمع كلها في هذا الموت.
وكأنما لم يكفه ما كان يلاقي من عنت زوجه حتى تأتيه المتاعب من جهة أخرى، فإن أقاربه فضلًا عن أبيه ومنهم ابن زوج أبيه جون جونستون لا يفتَئون يطلبون منه مالًا، ويرجعون إليه فيما ينجم من خلاف ليصلح ذات بينهم، وحسبه ما كان فيه من شغل وهم.
وكان أبوه توماس لنكولن يومئذ شيخًا كبيرًا قد تجاوز السبعين، وكان يعيش في إلينوى عيشة البساطة التي شاركه فيها ابنه زمنًا، ولقد امتد به العمر حتى رأى ابنه الذي كان يحمل الفأس معه في الغابة من ذوي المكانة، يعيش عيشة المدنية في سعة من الرزق، وكان يَسرُّ أبراهام أن يرسل إلى أبيه ما يسعه إرساله من المال والهدايا، وكان دائم السؤال عنه بكتبه التي يرسلها إلى من يقرؤها له ممن يعرفهم من المقيمين على مقربة منه.
وكأنما يذكره موت أبيه بموت أمه، وإلا فما بال خيالها يطوف بخاطره أكثر من ذي قبل كأنها هي التي تموت اليوم، وقد مر على موتها زمن طويل.
وإنه ليفضي إلى صاحبه هرندن ذات يوم بحديث عن أقاربه وصلته بهم، ويتطرق الكلام أثناء هذا الحديث إلى منشئه، فيكشف لنكولن لصاحبه عن سر يتصل بأمه؛ وذلك أنه لا يعرف أجداده لأمه؛ فقد كانت أمه التي أحبها والذي يجل ذكراها ابنة رجل مجهول، وسيظل هذا الرجل مجهولًا أبدًا، وكل ما يستطيع أن يعرفه عنه أنه من أهل الجنوب، وبيان ذلك أن جدته لأمه كانت تعيش وهي فتاة في ولاية فرجينيا في الجنوب، فأصبحت ذات حمل وإن لم تتزوج، ووجدت نفسها بعد أشهر الحمل تضع أنثى، وكانت هي وحدها التي تعرف والد هذه الأنثى، ولقيت من أهلها أشد الغضب لزلتها، ولكنهم احتضنوا بنتها فنشأت بينهم تنتسب إليهم وليست منهم، ذلك هو السر الذي يفضي به لنكولن إلى صاحبه على ما فيه مما يوجب الكتمان.
ويردف أبراهام قائلًا لصاحبه إنه إن كان ثمة من ميزة فيه لا يوجد مثلها في أحد من ذوي قرباه، فمردها لا ريب إلى أجداده المجهولين من أهل الجنوب.
ويحرص أبراهام على وفائه لزوج أبيه بعد موته، ويدعوها أمه في كتبه التي يرسلها إلى ابنها جون جونستون، وهو لا ينسى ما كان من حدبها عليه ومحبتها إياه بعد موت أمه، حتى لكأنه كان ابنها، وقد كان يسمع عن زوج الأب ما زاده إجلالًا ومحبة لهذه السيدة العطوف الرحيمة القلب، التي أحس أنها تقوم منه مقام أمه التي ولدته.
حفظ لها جميل صنعها وهو الوفي بطبعه، العظيم الإنسانية بقلبه، وراح يدافع عنها ويمد لها يد العون ويحميها حتى من طيش ابنها وسوء تدبيره.
عزيزي جونستون
لست أرى من الخير الآن أن أوافقك على طلبك، فأرسل إليك تلك الريالات الثمانين. لقد كنت تقول في كل مرة من المرات السالفة التي أعنْتُك فيها إعاناتي اليسيرة إنك سوف تسير في الحياة بعدها سيرًا مرضيًا، ثم لا ألبث أن أجدك حيال صعوبة تعترض لك، وليس يحدث ذلك إلا لعيب في مسلكك، وأظنني أعلم ماذا يكون ذلك العيب، ليس الخمول من صفاتك، ولكنك مع ذلك تتقاعد، وإني لأشك في أنك منذ رأيتك قد ملأتَ بالعمل يومًا واحدًا من أيامك، إنك لا تكره العمل كرهًا شديدًا، ومع ذلك فإنك لا تحب أن تقبل كثيرًا على العمل؛ لِمَا يخيل إليك من أن ذلك لا يعود عليك بكثير جدوى. إن هذه العادة، عادةَ إضاعة الوقت في غير ما يجدي، هي سبب ما تلقى من مصاعب، وإنه لأمر عظيم الأهمية بالنسبة لك، وأعظم أهمية بالنسبة لأولادك أن تتخلص من هذه العادة، وهو أعظم أهمية بالنسبة لأولادك؛ لأن أمامهم أن يعيشوا أطول مما تعيش، ولَأَيْسَرُ عليهم أن يتجنبوا عادة سيئة قبل أن تحيط بهم من أن يخرجوا منها بعد إذ دخلوها. إنك الآن محتاج إلى بعض المال، وإني أقترح أن تؤدي عملًا ما بسنك وظفرك لمن يدفع لك أجرًا على هذا العمل، ولكي أضمن لك جزاءً حسنًا على اجتهادك، فإني أعدك أن أدفع لك نظير كل ريال تكسبه أو تنقصه من دَينك ريالًا من عندي، وذلك منذ اليوم حتى أول مايو، وبهذا فإنك إذا استؤجرت بعشرة ريالات كل شهر تحصل مني على عشرة مثلها، فيجتمع لك عشرون ريالًا في الشهر أجرًا لعملك. ولست أعني أن تذهب بعيدًا إلى سنت لويس، أو إلى مناجم الرصاص، أو مناجم الفحم في كليفورنيا، وإنما أعني أن تبحث عن أحسن أجر يمكنك أن تحصل عليه على مقربة من مقرك، إنك إن فعلت هذا تخلصت من دينك وظفرت بما هو خير من ذلك؛ ألا وهو عادة تعصمك من الوقوع في الدين كرة أخرى، ولكني إن خلصتك من دينك الآن، فإنك سوف تغرق منه في عامك القادم إلى مثل ما تغرق كل حين.
تقول إنك تكاد تعطي مكانك في الجنة في مقابل سبعين أو ثمانين ريالًا، وإنك بذلك لَتجعل لمكانك هذا قدرًا رخيصًا جدًّا؛ لأني واثق أنك تستطيع مع ما أعدك به من عون أن تحصل على هذا المبلغ، إذا اشتغلت أربعة أشهر أو خمسة. وتقول كذلك إنك مستعد أن تودِع قطعة الأرض رهينة عندي إذا دفعت لك ذلك المال؛ حتى إذا عجزت عن سداده تنازلت عن ملكك إياها، ألا إن هذا للغو! فإذا كنت لا تستطيع العيش ومعك الأرض، فكيف تستطيع أن تعيش بدونها فيما بعد؟! لقد كنت دائمًا رحيمًا بي، ولست أقصد أن أكون بك اليوم غير رحيم، كلا، فإنك إن قبلت نصحي كان أغلى لك ثمانين مرة من الريالات الثمانين!
وظل جونستون في اضطرابه وكسله حتى لم يعد يجد أمامه مخرجًا إلا أن يبيع ما خلف زوج أمه من أرض، ولكن أبراهام عارض في ذلك معارضة شديدة وكتب إليه كتابًا شديد اللهجة يمنعه ويحذره، وحاول أبراهام أن يحول بينه وبين أن يبيع نصيب أمه في هذه الأرض ولكنه لم يفلح، وكان يخشى أبراهام أن تسوء حال زوج أبيه، وإنه ليألم ألا يستطيع أن يدعوها لتقيم معه في بيته، وكذلك كان لا يفتأ يسأل عن حالها ويمدها بما يستطيع من عون، وكتب يعرض على جونستون أن يرسل إليه أحد أبنائه ليربيه عنده.
وانقضى عامان، فبعد أن فرغ ذات ليلة من محاضرة عامة كان يلقيها في مدينة صغيرة، أشار إلى أحد الرجال وانتحى به جانبًا وهمس في أذنه قائلًا: «إن عندك في السجن فتى حدثًا أريد أن أراه على ألا يعلم أحد بذلك.» وكان هذا الحدث هو أحد أبناء جونستون، وكان متهمًا بسرقة ساعة وبعض أشياء أخرى، وقال أبراهام: «إني سأنقذه مما هو فيه هذه المرة، ولئن عاد بعدها إلى السرقة فلن تكون لي به صلة.»
وذهب أبراهام وكلم ذلك الفتى من خلال قضبان السجن، ثم وقف يتحدث مع أصحاب المتاع المسروق، وما زال بهم حتى أقنعهم بالعدول عن الاتهام بعد أن دفع لهم ثمن مسروقاتهم، وتوصل بهذا إلى إطلاق سراح الفتى، ولقد وصفه من شهد موقفه يومئذ فقال: «لقد كان أبراهام شديد الأسف، وما رأيته قط يبدو على وجهه أكثر من هذا الحزن.»
وحق له أن يحزن وهو بفعلته هذه يقف في وجه العدالة، فينقذ من القصاص مجرمًا، ثم إنه لقي عنتًا شديدًا من أصحاب المتاع المسروق، وأحس بين أيديهم بالخجل الشديد، وليس هذا بالأمر الهين على من كان في مثل مركزه ومن كان له مثل خلقه، على أنه يحتمل ذلك من أجل زوج أبيه، من أجل تلك المرأة الطيبة الرحيمة التي أحسنت معاملته وهو حدث، وإن قلبًا مثل قلبه الكبير لا يمكن أن ينسى صنيعًا، وكيف ينسى وهو يسعى بالمعروف أبدًا لكل من يطلب المعروف؟! فكيف به حين يرد الجميل لمن بدأه بإحسانه؟!